القصيدة هي روح التنمية الاجتماعية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ،13/11/2017
.....................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ،13/11/2017
.....................
إن تكثيف الدلالات الصاعقة
في طبقات القصيدة ، يَقودنا إلى إنتاج اقتصاديات جديدة في الوعي الشعري. وهذه الاقتصاديات
لا تمتُّ لمبدأ الربح والخسارة بِصِلة، لكنها تعني وضعَ المعنى في أقصى مداه ، ووضعَ
اللفظ في البنية الفكرية الملائمة. فالشِّعر ليس بورصة أو سِلعة في مَوْضع البيع والشراء
، وإنما هو مجتمع مُكثَّف له جانب اقتصادي تُشَكِّله الانفعالاتُ المعنوية .
وإذا تكرَّسَ الفِكرُ القصائدي كمجتمع إنساني وسياسي واقتصادي، فإن المنظور
السيكولوجي للوُجهة الكلامية المترابطة ، سيصل إلى حالة من الوعي المعرفي الماورائي،
الذي يَستشرف مُستقبلَ البشرية ضمن منظومة من التوقعات الشِّعرية ذات الطبيعة
الفلسفية .
وهذا يشير إلى عمل القصيدة الدؤوب من أجل توليد نقد متواصل للصيغ الفكرية والقوالب
الاجتماعية. والقيمةُ اللغوية في النَّص الشِّعري لا تؤمن بوجود قالب نهائي وحاسم في
الرؤية الأدبية أو المجتمع الإنساني . والأدب يُغَيِّر جِلْدَه باستمرار عن طريق تنويع
الولادات الوجدانية . وماهيةُ تغيير الجِلد لا تعني الانسلاخ من قيم الهوية ، أو تبديل
المواقف بشكل انتهازي ، أو نقل البندقية من كتف إلى كتف ، بل تعني القدرة على التجدد
والانبعاث والخروج من حصار القيم المجتمعية الضاغطة على الفرد والجماعة .
والكلمةُ هي تكثيفٌ للجهاتِ التي تتدفق في أحلام الناس كالأعاصير. ومن خلال
هذا التعريف نُدرِك أبعادَ التاريخ الأدبي،وتحولاتِ
جغرافيا النص الشعري ، حيث تتولد أبجديات مخيالية جديدة صاعدة من الأبجدية الأم . وهذه
الأبجديات المخيالية تستمد قوتها من قدرتها على التكاثر والتوالد ، من أجل
ترسيخ الرموز الشعرية كأشكال عابرةٍ للتجنيس ، وكاسرةٍ للقوالب الأدبية الجاهزة التي
تُعيق تدفقَ الكلام ، وتُحيل القصيدةَ إلى روتين وظيفي مُفرغ من قيمة التفجر . وهذا
الاتجاه المعرفي يَتَّكِئُ على قوة المفاهيم ، وتفجُّرها ، ودَوْرها في إعادة رسم خارطة
اللغة ، لتسهيل ولادة الجنين الشِّعري.
وفي هذا السياق ، تظهر أهميةُ اللغة بوَصْفها كائنًا حيًّا في قلب الفلسفة الاجتماعية
، يَرفض الأشكالَ الاجتماعية التي تتمُّ أدلجتُها بصورة قامعة لحرية الإبداع . وهكذا
تجد القصيدةُ نفْسَها في مواجهة العقل الخرافي للأشكال الاجتماعية السُّلطوية القمعية . وهذه المواجَهةُ الشَّاملة نتيجةٌ للعقلانيةِ
الراشدة التي تتصدى لأيديولوجيات الشَّهْوة المجنونة ، مِمَّا يؤدي إلى تصحيح القيمة
المعنوية للبناء الكلامي ، وفَضِّ الاشتباك بين المستويات اللغوية للعوالم الأدبية
. ولا يمكن بلوغ المستوى المخيالي الواقعي للفكر الإنساني ، إلا عن طريق رسم سياسات
انتخاب المعنى وتثويرِ اللفظ، حيث تتحول العواطفُ
إلى قصائد، وتتحول القصائدُ إلى أنظمة اجتماعية تَكبح التوحشَ البشري .
وتبنِّي القصيدة كمنظومة حياتية ليس ترفًا اجتماعيًّا ، أو هوايةً لملء وقت
الفراغ . فالقصيدةُ هي الضمانة الأكيدة لأنسنة التيارات الاجتماعية ، والاستثمارِ الفعال
في الذات البشرية ، وتنميةِ الأفكار المجتمعية ، وإتاحةِ الفرصة للإنسان كي يلتقيَ
بإنسانيته في مجتمع إنساني يَسُوده العدل لا قانون الغاب . والتنميةُ الشاملة يَقودها
البشر لا الوحوش المختبئون خلف أقنعة البشر . وهذه هي فلسفة القصيدة روحيًّا وماديًّا
.