سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

22‏/06‏/2018

خواطر عن الثورة


خواطر عن الثورة

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 22/6/2018

.................

1- لَوْ أُتِيحَ لِي اختصار وُجودي في كلمة وَاحدة لاخترتُ «الثَّورة»:

«الثَّورةُ» كلمةٌ مَظلومةٌ لأنَّها مرتبطة بالفَوضى، وحَركة الجماهير الهائجة. الثورةُ إنَّما تَكُونُ في العَقْلِ حيث يَثُورُ العقلُ على الخرافة، ويَخوض الإنسانُ حَربًا ضِدَّ نَفْسِه لِيُطَهِّرَها مِنَ الوَهْمِ. هذه هِيَ الثورة. ثَورةُ الإنسانِ على ذَاته مِـن أجـْلِ إعـادة اكتشاف ذَاته. إذا تَحقَّقتْ هذه المعاني، فإِنَّ التَّغيير على أرض الواقع سَيَتِمُّ بِسُهولة وسَلاسة. فالإنسانُ هُوَ الصانع، والواقعُ هُوَ المصنوع. وإذا تَغَيَّرَ الصانعُ سَيَتَغَيَّرُ المصنوع، ولَيْسَ العَكْسِ. وتَغييرُ الذات هُو الْخُطوة الأُولَى لتغيير العالَم.

2 – أصعبُ شَيْءٍ على الشَّاعرِ أن يُطْلَبَ مِنهُ تَفسير شِعْره:

الشاعرُ يَصنع قَصيدته، لكنَّ هُناكَ أماكن في القَصيدة خاضعة لمنطقة اللاوَعْيِ في عَقْلِ الشاعر. وهذه الأماكنُ المجهولةُ لا يَستطيع أحَدٌ أن يُفَسِّرَها بِدِقَّة، حتى الشاعر نَفْسه. سَيَتِمُّ الاقترابُ مِن هذه الأماكن الغامضة دون الوصول إلَيها، كالثُّقوبِ السَّوداء عِندَ حافَّة الكَون، يَقترِبُ الضَّوءُ مِنها فَتَمْتَصُّه لِتَظَلَّ غامضةً وعَصِيَّةً على التَّفسيرِ. هَل يَستطيع الشاعرُ أن يُفَسِّرَ مَعْنَى زَقزقة العصافير؟. هَل يَستطيع النَّهرُ أن يُتَرْجِمَ صَوت جَرَيان الماء؟ . إنَّ اللغةَ الشِّعريةَ تَشتمل على أماكن غامضة ومَجهولة، لأنَّها لُغة رمزية مُحمَّلة بِطَاقَةِ الشُّعور، ولَيْسَتْ وَسيلةً للتَّخاطُب. سَتَظَلُّ القصيدةُ مَفتوحةً على كُلِّ الاحتمالاتِ، ولا يُمْكِنُ إغلاقُها. وإذا حَاوَلَ الشاعرُ تَفسيرَ قَصيدته، ففي أحسنِ الأحوالِ، سَوْفَ يَغُوصُ في أعماقها دُون الوصول إلى القاعِ. ومَهْمَا كانَ السَّباحُ بَارِعًا، فَلَن يَصِلَ إلى قاع الْمُحيطِ. ومُتعةُ الشِّعر في الغُموضِ اللذيذ. وهُنا، لا بُدَّ أن نَشكر القصيدةَ لأنَّها كَشَفَتْ للناسِ رُموزَ اللغة، وأظْهَرَت الطاقةَ الشُّعورية للأبجدية التي تَختلِط بالألفاظ والمعاني، كما يَختلِطُ الذهبُ بالتــراب. وفَصْلُ الذهبِ عَن التُّرابِ يَحتاجُ إلى خَبير. وفَصْلُ الرَّمْزِ عَن المعنَى يَحتاج إلى شاعر. واللغةُ هِيَ الإيقاعُ الرمزيُّ المتدفِّقُ في أبجديةِ الأنا وذاكرةِ المعنَى. وفَلسفةُ اللغةِ مَبْنِيَّةٌ على التوازن بين المِخيال الوظيفيِّ والبُنى الاجتماعية. والمجتمعُ البشريُّ عِبارة عن جنين شَرعيٍّ وحتميٍّ للرُّموزِ اللغوية. وهذا الجنينُ يتمُّ تَوليده رَغْمًا عنه، لأنَّ الجنين لا يَمْلِكُ حُرِّيةَ الاختيار. والشاعرُ شَاعرٌ سَواءٌ كَتَبَ القصائدَ أَمْ لَم يَكْتُبْها. واللغة كائنٌ حَيٌّ يتحرَّك بين أشباح العناصر الميتة. نحن نكتب كَي نُعْطِيَ ذواتنا الميتة فُرصةً للحياة من جديد.  وفي بعض الأحيان، لا يستطيع الفردُ أن يُعبِّر عن الأحداث التي يَعيشها رَغْمَ أنَّهُ يَفهمها شُعوريًّا ويَحُسُّ بِها. حيث تَدخل الأفكارُ في دائرة الإحساس الكامن في اختفاء الكلام، ويُصْبِح الصمتُ هُوَ الصَّرخةَ، والسُّكوتُ هُوَ لُغةَ الحِوار. سَوْفَ تَصيرُ الكلمةُ مُسَدَّسًا والْحُلْمُ رَصاصًا. الإنسان ثَوريٌّ بِطَبْعِه، وُلِدَ حُرًّا، لَكِنَّ الضغوطاتِ المادية تُدَجِّنُه، والقمعَ السياسيَّ يَنتزع مِنهُ صِفةَ الثَّورية لِيُحِيلَه نَمَطًا استهلاكيًّا ذا تَفكير محصور في الشَّهوات والشُّبهات. ومع استمرار عملية التَّدجين اليوميِّ يَتِمُّ قَتْلُ الإنسانِ رُوحِيًّا، مِمَّا يَجعله شكلاً للوَهْم، لا أكثر ولا أقل. والفردُ لَن يَجِدَ نَفْسَه إلا إذا انقلبَ على نَفْسِه.

3 – لَوْ يَعْلَمُ الإنسانُ خُطورةَ نَفْسِه التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَجَهَّزَ جَيْشًا لِقِتَالِهَا:

الإنسانُ يَذهبُ إلى المعركة لقتالِ العَدُوِّ، ونَفْسُهُ هي العَدُوُّ الأوَّلُ الذي يَأكلُ ويَشربُ مَعَهُ. يُهاجِمُ الإنسانُ الاستعمارَ، ويَتجهَّزُ لِقِتالِ العَدُوِّ الخارجيِّ، ويَنْسَى العَدُوَّ الدَّاخليَّ (الحاكم الطاغية) الذي يُدَمِّرُ البلادَ ويَسْرِقُ العِباد. يُخَطِّطُ الإنسانُ لِمُوَاجَهَةِ العَدُوِّ الثالث بكل شَجاعةٍ ورُجولةٍ، وَهُوَ عَبْدٌ ذَليلٌ للعَدُوِّ الأوَّلِ (نَفْسه التي بين جنبيه)، وخَادمٌ مُسْتَسْلِمٌ للعَدُوِّ الثاني (الحاكم الطاغية). ثُمَّ يَتَعَجَّبُ مِن غياب النَّصر.

4 – في أيِّ وَضْعٍ فَاسِدٍ، سَيَكُونُ الْمُتَفَائِلُونَ هُمُ الفاسدين:

التفاؤُلُ سِلاحُ الأقوياءِ الذينَ يَقُولون ويَعملون. إنَّهم يُحَوِّلُون كلامَهم إلى عَمَلٍ دَؤوبٍ لِتَغيير الواقع إلى الأفضل. أمَّا الأشخاصُ الغارقون في الفساد، والذينَ يَبيعون الكلامَ البَرَّاق والشِّعاراتِ الرَّنانة، فهؤلاء يَتَّخذون التفاؤُل سِلاحًا لِخَداعِ الناسِ وتَخديرهم لأطْوَل وقت مُمْكِن، مِن أجل استغلالهم حتى آخر قَطــرة. وهُناكَ صِنفان يَلعبان هذه اللعبة القاتلة: الأُمَراء والعُلَماء. فالحاكمُ يَسْرِقُ الشعبَ ويَقُود البلاد إلى الهاويةِ السَّحيقة، ثُمَّ يُقَدِّمُ وَجبةً مِنَ التَّفاؤُل لِشَعبه، تَشتمل على الأمل بِغَدٍ مُشرِق، وضَرورة تَطهير المجتمع من العناصر الْمُنْدَسَّة التي تَدعو إلى التَّشاؤم، وتُشكِّك بالْمُنجَزات الوَطنية. ثُمَّ يَأمُرُ الحاكمُ عُلَماءَ البَلاطِ وَوُعَّاظَ السَّلاطين أن يُخَاطِبُوا الشَّعبَ بِنَبـْرةٍ مُتــفائِلةٍ. وهذا التَّفاؤُل الْمُخَادِع يَتِمُّ تَغليفه بالنصوص الدِّينية لإيجادٍ شَرعية له، فَيَبدأ الحديثُ عن التفاؤُلِ في الإسلام، وضَرورةِ طاعة وَلِيِّ الأمر الذي يَسهر على راحة الرَّعِيَّة، وأهميةِ التَّقَشُّف وتَرشيد النَّفقات، ودَفع الضرائب الحكومية في مَوْعِدها لأنَّها تُحقِّق مصالِحَ المسلمين، وتُقَوِّي دَولةَ الإسلام في مُوَاجَهَة الأعداء. والْمُضْحِكُ الْمُبكي أنَّ عِلْيةَ القَوم يَعيشون في قُصورٍ أُسطوريةٍ، ويَركبون سَيَّاراتٍ فارهة، ومَعَ هذا يُطْلَب من الشّـَعب الفقيـر أن يُضَـحِّيَ مِن أجـل حُكَّـامِه الْمُتـْرَفِين.

18‏/06‏/2018

خواطر في زمن السراب


خواطر في زمن السراب

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 18/6/2018

.......................

[1] إِنَّ الكَاتِبَ الذي عَاشَ مَغمورًا ومَاتَ مَغمورًا مَا زَالَ يَمْلِكُ فُرْصَة أن يُكْتَشَفَ بَعْدَ مَوْتِه.
     الأملُ نِظامٌ مُتكامِل ، ولَيْسَ مُخَدِّرًا . وبِدُون الأمل ، سَتَصيرُ حياةُ الإنسانِ جَحيمًا لا يُطاق . والْمُؤسِف في عالَم الكتابةِ أنَّ عَوَامِلَ الشُّهرةِ في كَثيرٍ مِنَ الأحيان لا تَتعلق بِجَودة النَّص . وإنَّما تتعلق بالفَضائح ، أو التَّسليط الإعلاميِّ ، أو حُدوث ضَجَّة مَا . وهذه العناصرُ مُتماهِية مَعَ نِظام الشِّلَلِ والعلاقاتِ الشخصية . والكاتبُ المغمورُ لَيْسَ بالضَّرورة أنَّهُ كاتبٌ ضَعيف ، أوْ أنَّ نُصوصَه لا تَستحق النَّشْر والظهور . فهناك تَفاهات على شَكل كُتُب تُسيطِر على قائمة الأكثر مَبيعًا ، التي يَحكمها الفسادُ والعلاقاتُ الشَّخصية المصلحية . إنَّ الكاتبَ المغمورَ فَشِلَ في تَسويق كتاباته ونَشرها بين الناس . ولَم يَفْشَلْ كَكَاتِبٍ . وفي واقع الأمرِ ، لا يُوجَد كاتبٌ فاشلٌ ، لأنَّ كُلَّ مَن كَتَبَ نُصوصًا أو أَلَّفَ كُتُبًا هُوَ مُبْدِعٌ . بِمَعنى أنَّه قَدَّمَ فِكْرًا للناسِ . لكنَّ المستوى الفَنِّيَّ هُوَ الذي يُمَيِّزُ الكاتبَ القويَّ عَن الكاتب الضعيف.وفي السِّياق اللغويِّ، تُسْتَخْدَمُ عبارة " كاتب ضعيف" للإشارة إلى السطحية ، أو ضَعف الأسلوب ، أو تَفَكُّك الروابط بين الكلام ، أو غياب الفِكر الرَّاقي . وكُلُّ كاتبٍ مَهْما بَلَغَتْ درجةُ ضَعفه وانهيار كتاباته ، لا يُمْكِن أن يَصِلَ إلى دَرجة الصِّفر. سَوْفَ نَعْثُرُ _ حَتْمًا _ عَلى فِكرة جميلة هُنا أو هُناك ، أو كلمة رائعة ، أو فائدة لغوية ، أو مَعْنى راقٍ . إنَّ النُّصوصَ اللغويةَ _ مَهْما كان مُستواها الفَنِّي _ هِيَ مُسْتَوْدَع للخبرات والعواطف والأفكار والأحلام. كما أن الْحُكْمَ على مُسْتَوى الكتابة أمرٌ نِسْبِيٌّ يَختلِفُ باختلاف طَبيعة النُّقاد، وأذواق لِجَان تَحكيم الجوائز ، والظروف السياسية والاجتماعية ، والعادات والتقاليد ، ودَرجة وَعْيِ المجتمع . فلا دَاعي أن يَقْلَق الكاتبُ على مَصير كتاباته ، حتَّى لَوْ انتقلَ مِن فَشَلٍ إلى فَشَلٍ   _ إِنْ جازَ التَّعبير _ . ولكنَّ المسؤوليةَ الْمُلقاة على عاتقه تُحَتِّمُ عَلَيه أن يَعمل جاهدًا لِتَطوير مستوى كتاباته لَفْظًا ومَعْنًى . وَلْيَكُنْ بَعْدَ ذلك ما يَكُون . والشُّهرةُ هِيَ أمرٌ خارجٌ عَن إرادةِ الإنسانِ ، تَمَامًا مِثْل الرِّزْق . هُناك عباقرة فُقَراء ، وأغبياء أصحاب مَلايين . وعلى الإنسانِ أن يَعْمَلَ بِجِدٍّ بلا كَسَلٍ أو مَلَلٍ . وسَوْفَ يَأخذ نصيبَه كاملاً غَير مَنقوص ، سَواءٌ في حياته أَمْ بَعْد مَماته . والزمنُ هُوَ الغِرْبالُ الحقيقيُّ . وسَيَأتي القُرَّاءُ والنُّقادُ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً ، بِغَضِّ النَّظَر عَن المستوى الفَنِّيِّ للكتابة. إِنَّ الكِتابةَ الإبداعيةَ هِيَ مُتوالِياتٌ فِكرية ، تَسْكُبُ الماءَ الْمُقَطَّرَ في بِئْرِ العَدَمِ ، مِمَّا يَجعل العَدَمَ كيانًا إنتاجيًّا يَحتوي على الأجزاء اللغوية الحيوية. والصَّحراءُ القاحلةُ رَغْمَ جَفافها إلا أنَّنا بحاجة إليها ، وكثير من الكائنات بحاجة إليها . وَلَوْ كان كوكبُ الأرض جَنَّةً خضراء لكانت هذه كارثة بيئية ، لأنَّ كُلَّ عُنصر في الطبيعة له دَور يُؤدِّيه بِدِقَّة، والمسألةُ الهامَّة هي كيفية صناعة تَوليفة إنسانية قادرة على ضَمِّ العناصر ضِمْن منظومة تُراعي التفاوتَ المعرفِيَّ في هذا الوجود . ولا مَعنَى لإلغاء الوجود الإنسانِيِّ تَحْتَ ذَريعة وُجود عناصر ضَعيفة. ينبغي تطوير الكيانات الإنسانية والبيئية لتخدم منظومة المجتمع الكُلِّي مَعَ مُراعَاة الفُروق ، لا أن نسعى لتطهير المجتمع مِنَ الكَينونة الإنسانية والعوالم البيئية . نحن نُقاتِل المرضَ لا المريضَ ، ونُقاتِل الغباءَ لا الغَبِيَّ . وفلسفةُ الكتابةِ تَقوم بهذا الدور لإعادةِ بناء الإنسان ، واكتشافِ إنسانيته مِن جَديد ، وأيضًا أنسنة عناصر الطبيعة ، ضِمْن خُطة التَّلاحُم المعرفِيِّ لا الانفصام . الكِتابةُ كالطائرةِ :  إقلاع وهُبوط . ذَهاب وإياب . الرِّحلةُ جُزآن . الذهابُ نِصْفُ الرِّحلةِ ، والرُّجوعُ هُوَ النِّصْفُ الآخَر . يُولَدُ قانونُ الكتابةِ بَعْدَ شَرارة الكتابةِ . قانونُ الجاذبية جَاءَ بَعْدَ التُّفاحة. وقانونُ القَصيدةِ يُولَدُ بَعْدَ التَّجربةِ الشِّعرية . أرفضُ الكِتابةَ حِينَ تَكُون حُلْمًا يَنهار في مجتمع قائم على النِّفاق والخِداع. مُجتمعُ الذِّئبِ الذي يَرْتدي ثَوْبَ الْحَمَلِ الوَديعِ . أرفضُ المجتمعَ حِينَ يُصبِح خَديعةً بَصريةً وظاهرةً صَوتيةً .
[2] القصيدةُ تَقُومُ على رُكْنَيْنِ : تأسيسُ المشروعِ ، وانتزاعُ المشروعيةِ .
     إنَّني أكتبُ القصيدةَ ، وتَكْتُبُني القصيدةُ . والجماهيرُ تَكتبُ قَصيدتي مَعي . إنَّها حياةٌ جماعيةٌ . نَحْنُ نَذهب إلى الترابِ، وتظلُّ كلماتُنا وذِكرياتُنا. نَحْنُ نَختفي في الظِّل السَّحيق ، وتَبْقَى القصيدةُ في بُؤرة الضَّوء . والقصيدةُ تستمدُّ شرعيةَ وُجودها مِن وُجوه الناسِ وأحلامِهم . وجَناحا القصيدة هُما : تأسيس المشروع الفكريِّ للخَلاصِ الوجوديِّ ، وانتزاع مَشروعية المعنَى في عَالَمٍ يَنتحِرُ .
[3] العَمَلُ الأدبِيُّ يَصْنَعُ عَالَمَهُ الخاصَّ بِه ، ويَفْرِضُ شُرُوطَهُ عَلى عَناصرِ الواقعِ .
     العملُ الأدبِيُّ لا يَخضع لِشُروطِ الواقع وقانونِ الحياة المادية ، لأنَّ العملَ الأدبِيَّ فَوْقَ القانون الماديِّ ، وهو الذي يَفْرِضُ الشُّروط على العناصر المادية ، لإخراجها مِن دَوَّامة الاستهلاكيةِ . والعملُ الأدبِيُّ هو الحاكم على مَشاعر الناس ، لأنَّهُ بِمَثابة الأب الذي يَعرِف مَصلحةَ أطفاله أكثر مِنهم . ومِن هُنا تَنبُع قُوَّةُ العمل الأدبِيِّ الذي يَمتاز بالقُدرة على الرُّؤية ، وجَعْل الإنسان رَائِيًا .
[4] الْمُعَلَّقاتُ العَشْرُ هِيَ الشِّعْرُ الأكثرُ حَدَاثةً في تاريخ الأدبِ العَرَبِيِّ .
     العربُ صَنَعوا التاريخَ ثُمَّ خَرَجوا مِنَ التاريخِ. والمسلمون بَنَوا الحضارةَ في الأندلسِ ثُمَّ طُرِدُوا مِنَ الأندلسِ. والحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ قَادَت العالَمَ ألف سنة، وَلَم يَعُدْ لها وُجود في هذا العالَم. وفي زَحمة الانهيارات المتتابِعة ، تَكَرَّسَتْ عُقدة الشُّعور بالنَّقْصِ في الشخصية العربية ، وأُصيبَ العرب بِعُقدة الخواجة . ولا يَخْفَى أنَّ المغلوب مُولَع بِتَقليد الغالبِ . وَوَفْقَ هذه المعطيات المؤلمة ، رَاحَ الأُدَباءُ العربُ يَبحثون عَن الحداثة في الغرب ، باعتباره القُوَّة المهيمِنة على العالَم . وأخذوا يُقَلِّدون شُعراءَ الحضارةِ الغربية، ويَقتبسون أفكار الفلاسفة الغربيين بشكل أعمى . وقد أساؤوا إلى أنفسهم وأُمَّتهم بشكل واضح . فالعالَمُ صارَ يُصَنِّفُ الأدبَ العربِيَّ كأدبٍ هامشيٍّ لا وَزْنَ لَهُ . وُجودهُ كَعَدَمِه ، وبالتالي ، لا فائدة من تَرجمته ، فلا أحدَ يَحْرِصُ على قراءته . وهذا يُفَسِّرُ غياب مشاريع ترجمة الأدب العربِيِّ . إنَّ العربَ يَتفرَّجون على الحضارة ، ولا يُشارِكُون في صُنعها . يَنْسَخُون النظرياتِ الغربية كالوجوديةَ والتَّفكيكية والبُنيوية . وَلَوْ كانوا يَمْلِكُون نظريةً خاصَّةً بِهم لاستطاعوا أن يُقَدِّموا للعالَم شَيئًا جَديدًا وإبداعًا مُتَفَرِّدًا ، ويَقُودوا حركةَ الفِكْر العالميِّ الذي يَعتمد على الإبداع لا التقليد . والحلُّ الوَحيدُ لِخُروج العرب من مَأزقهم أن يُعِيدوا قراءةَ تُراثِهم بِعُيون الْمُنتصِر لا عُيون المهزوم، ويَستنبطوا مِنهُ أفكارًا جَديدةً ، وفَلسفاتٍ عِلْميةً وأدبيةً ، ويُقَدِّموها للعالَم . فَمَثَلاً ، لَوْ عادَ العربُ إلى الْمُعَلَّقاتِ العَشْرِ لأدْرَكُوا أنَّهم يَمْلِكُون حَداثةً شِعريةً عالميةً ، وهذه الحداثة تستحق أن تُنْقَل إلى العالَم ، وَيُسَلَّطُ عَلَيها الضَّوء . فَفِيها الكثير من النظريات الفلسفية والأدبية . ولكنَّ المشكلة أنَّ الأُمَّة العربية مَهزومة ، ودائمًا يُنظَر للمهزوم باعتباره شَخصاً غَبِيًّا وفاشلاً وَوَصْمة عار في التاريخ . وفي حقيقة الأمر ، إنَّ المهزومَ قادرٌ على تَحسين أوضاعه، لَيْسَ بالضَّرورة أن يَحتلَّ العالَمَ حتى يُقْنِع الناسَ بِقُوَّته وذكائه واستحقاقه للحياة الكريمة. ولَكِنْ بإمكانه أن يَتقدَّم إلى الأمام ، ويُحاوِل إنقاذ ما يُمْكِن إنقاذُه ، والنَّصْرُ لَيْسَ حِكْرًا على شخصٍ دُون آخَر . والمجدُ لَيْسَ حِكْرًا على أُمَّة دُون أُخرى .

06‏/06‏/2018

الشعراء والنساء

الشعراء والنساء

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 6/6/2018 

...............

[1] النِّساءُ يَنْجَذِبْنَ إلى الشاعرِ ، لَكِنَّ الشاعرَ الحقيقِيَّ يَهْرُبُ مِنْهُنَّ .
     لا فائدة من حِرْص الشاعر على الْمُعْجَبَات . ولا مَعْنَى لانتظار السَّجاد الأحمر في أيِّ مكان . والشاعرُ الذي يَعيشُ في عالَم النِّساء ، هو شاعرٌ وَهميٌّ يَتلاعبُ بالكلماتِ ، ولا يَحْمِلُ قضيةً . الشاعرُ لَيْسَ نَجْمًا سينمائيًّا يَنتقِلُ مِن امرأةٍ إلى أُخرى. الشاعرُ هو المتحدِّثُ بِاسْمِ عناصر الطبيعة، يُدافِعُ عَن الإنسان ضِدَّ الوَحْش الساكن في الإنسان . يُحارِبُ النظامَ الاستهلاكيَّ المتوحِّش الذي حوَّل الإنسانَ إلى كيان مُوحِش . الكلماتُ لَيْسَتْ وسيلةً للتلاعبِ بِعَواطفِ النساء ، أو السيطرةِ على مَشاعرهنَّ ، أو الاستحواذ على قُلوبهنَّ بالقُوَّة الناعمة. الكلماتُ هِيَ العالَمُ المثالي ، والشرعيةُ المعرفية للإنسان والحضارةِ . والشاعرُ الذي يُحوِّل المرأةَ مِن سُلطةٍ مَعرفيةٍ إلى سِلْعةٍ غَريزِيَّة ، سَوْفَ تَموت كلماتُه معَ الأيام ، لأنَّها لَم تَنْبُعْ مِنَ القلبِ . وإنَّما نَبَعَتْ مِنَ الشهواتِ التُّرابية ، والشَّيْءُ إذا كان من الترابِ ، سَيَعُود إلى التراب . 
[2] كَثرةُ الصَّدَماتِ العاطفيةِ التي أَخْتَرِعُها سَاهَمَتْ في تَطويرِ أدواتي الشِّعرية والفلسفية .
     لَم تُفْرَض عَلَيَّ الصدماتُ العاطفيةُ . أنا فَرَضْتُها على نَفْسي ، لأنَّني أخافُ مِن الْحُبِّ ، وأهْرُبُ مِنهُ . أخافُ مِنَ الأشخاص الذينَ يُسَيْطِرُونَ عَلَيَّ بالابتسامة والأحاسيس والذكرياتِ . الذكرياتُ اختراقٌ أمنيٌّ . أخافُ مِنَ الأشخاصِ الذين يَحْتَلُّون قَلبي بلا بَنادق ولا دَبَّابات . هؤلاء هُم الغُزاةُ الْمُحْتَرِفُون . أَمْشي إلى الهاويةِ بكامل قُوَايَ العقلية ، ودُونَ ضَغطٍ مِن أحَدٍ ، لأنَّ قلبي يَسْكُنُ في قاع الوادي . أخترعُ الصَّدماتِ العاطفيةَ هَرَبًا مِن الْحُبِّ ، مِثل القائد المهزوم الذي هرب من المعركة ، ورَاحَ يَخترِعُ الأعذارَ لهزيمته . لَكِنَّ الفَرْقَ بَيْني وبَيْنَ القائد المهزوم، هُوَ أنَّني أتعلمُ مِن هَزيمتي لِكَيلا أُكَرِّرها، وأدْرُس أسبابَ السُّقوط كَي أتجاوزها . إنَّني أُحَوِّلُ الصَّدَماتِ إلى نِقَاطٍ قُوَّة . والضَّربةُ التي لا تَقتلكَ تُحْيِيكَ ، وتَزيدكَ قُوَّةً .
[3] القَصيدةُ العاطفيةُ الفَاشِلةُ دُمْيَةٌ صُنِعَتْ مِن أجْلِ امرأةٍ لا تَسْتَحِقُّها .
     الشاعرُ الذي يَتصرَّفُ كَمُرَاهِقٍ ، هُوَ صَدًى للكلماتِ ولَيْسَ صَوْتًا . الشاعرُ مَلِكٌ على القلوب. ولَيْسَ صَيَّادًا يَصطاد قُلوب النساءِ كالفَرَائسِ ، ولَيْسَ فَريسةً تُسَلِّمُ مِفتاحَ حَياتها للصَّياد. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَترك مَصيرَه للآخرين كَي يَتلاعَبُوا بِهِ ، ولا يَكشِف أوراقَه للناس، لأنَّهُ عِندئذٍ سَيُصْبِحُ واقعًا تحت احتلالهم . والإلهامُ الذي تُقَدِّمُه المرأةُ للشاعرِ وَهْمٌ وخَديعةٌ . والشاعرُ الذي يَجعل المرأةَ هي حَجر الزاوية في مشروع الشِّعريِّ ، لا يَعرِف شَيئًا عن فلسفة الحياة ، ولا يُدْرِك ماهية الإنسان وهُوِيَّة الحضارة . إنَّ المشروعَ الشِّعريَّ قائمٌ على فَلسفة الوجود لا فَلسفة المِكياج.