خواطر في زمن السراب
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 18/6/2018
.......................
[1] إِنَّ الكَاتِبَ الذي عَاشَ مَغمورًا ومَاتَ
مَغمورًا مَا زَالَ يَمْلِكُ فُرْصَة أن يُكْتَشَفَ بَعْدَ مَوْتِه.
الأملُ نِظامٌ مُتكامِل ، ولَيْسَ مُخَدِّرًا .
وبِدُون الأمل ، سَتَصيرُ حياةُ الإنسانِ جَحيمًا لا يُطاق . والْمُؤسِف في عالَم
الكتابةِ أنَّ عَوَامِلَ الشُّهرةِ في كَثيرٍ مِنَ الأحيان لا تَتعلق بِجَودة
النَّص . وإنَّما تتعلق بالفَضائح ، أو التَّسليط الإعلاميِّ ، أو حُدوث ضَجَّة
مَا . وهذه العناصرُ مُتماهِية مَعَ نِظام الشِّلَلِ والعلاقاتِ الشخصية .
والكاتبُ المغمورُ لَيْسَ بالضَّرورة أنَّهُ كاتبٌ ضَعيف ، أوْ أنَّ نُصوصَه لا
تَستحق النَّشْر والظهور . فهناك تَفاهات على شَكل كُتُب تُسيطِر على قائمة الأكثر
مَبيعًا ، التي يَحكمها الفسادُ والعلاقاتُ الشَّخصية المصلحية . إنَّ الكاتبَ المغمورَ
فَشِلَ في تَسويق كتاباته ونَشرها بين الناس . ولَم يَفْشَلْ كَكَاتِبٍ . وفي واقع
الأمرِ ، لا يُوجَد كاتبٌ فاشلٌ ، لأنَّ كُلَّ مَن كَتَبَ نُصوصًا أو أَلَّفَ
كُتُبًا هُوَ مُبْدِعٌ . بِمَعنى أنَّه قَدَّمَ فِكْرًا للناسِ . لكنَّ المستوى
الفَنِّيَّ هُوَ الذي يُمَيِّزُ الكاتبَ القويَّ عَن الكاتب الضعيف.وفي السِّياق
اللغويِّ، تُسْتَخْدَمُ عبارة " كاتب ضعيف" للإشارة إلى السطحية ، أو
ضَعف الأسلوب ، أو تَفَكُّك الروابط بين الكلام ، أو غياب الفِكر الرَّاقي .
وكُلُّ كاتبٍ مَهْما بَلَغَتْ درجةُ ضَعفه وانهيار كتاباته ، لا يُمْكِن أن يَصِلَ
إلى دَرجة الصِّفر. سَوْفَ نَعْثُرُ _ حَتْمًا _ عَلى فِكرة جميلة هُنا أو هُناك ،
أو كلمة رائعة ، أو فائدة لغوية ، أو مَعْنى راقٍ . إنَّ النُّصوصَ اللغويةَ _
مَهْما كان مُستواها الفَنِّي _ هِيَ مُسْتَوْدَع للخبرات والعواطف والأفكار
والأحلام. كما أن الْحُكْمَ على مُسْتَوى الكتابة أمرٌ
نِسْبِيٌّ يَختلِفُ باختلاف طَبيعة النُّقاد، وأذواق لِجَان تَحكيم الجوائز ،
والظروف السياسية والاجتماعية ، والعادات والتقاليد ، ودَرجة وَعْيِ المجتمع . فلا
دَاعي أن يَقْلَق الكاتبُ على مَصير كتاباته ، حتَّى لَوْ انتقلَ مِن فَشَلٍ إلى
فَشَلٍ _ إِنْ جازَ التَّعبير _ . ولكنَّ
المسؤوليةَ الْمُلقاة على عاتقه تُحَتِّمُ عَلَيه أن يَعمل جاهدًا لِتَطوير مستوى
كتاباته لَفْظًا ومَعْنًى . وَلْيَكُنْ بَعْدَ ذلك ما يَكُون . والشُّهرةُ هِيَ
أمرٌ خارجٌ عَن إرادةِ الإنسانِ ، تَمَامًا مِثْل الرِّزْق . هُناك عباقرة فُقَراء
، وأغبياء أصحاب مَلايين . وعلى الإنسانِ أن يَعْمَلَ بِجِدٍّ بلا كَسَلٍ أو
مَلَلٍ . وسَوْفَ يَأخذ نصيبَه كاملاً غَير مَنقوص ، سَواءٌ في حياته أَمْ بَعْد
مَماته . والزمنُ هُوَ الغِرْبالُ الحقيقيُّ . وسَيَأتي القُرَّاءُ والنُّقادُ
عَاجِلاً أَوْ آجِلاً ، بِغَضِّ النَّظَر عَن المستوى الفَنِّيِّ للكتابة. إِنَّ
الكِتابةَ الإبداعيةَ هِيَ مُتوالِياتٌ فِكرية ، تَسْكُبُ الماءَ الْمُقَطَّرَ في
بِئْرِ العَدَمِ ، مِمَّا يَجعل العَدَمَ كيانًا إنتاجيًّا يَحتوي على الأجزاء
اللغوية الحيوية. والصَّحراءُ القاحلةُ رَغْمَ جَفافها إلا أنَّنا بحاجة إليها ،
وكثير من الكائنات بحاجة إليها . وَلَوْ كان كوكبُ الأرض جَنَّةً خضراء لكانت هذه
كارثة بيئية ، لأنَّ كُلَّ عُنصر في الطبيعة له دَور يُؤدِّيه بِدِقَّة، والمسألةُ
الهامَّة هي كيفية صناعة تَوليفة إنسانية قادرة على ضَمِّ العناصر ضِمْن منظومة
تُراعي التفاوتَ المعرفِيَّ في هذا الوجود . ولا مَعنَى لإلغاء الوجود الإنسانِيِّ
تَحْتَ ذَريعة وُجود عناصر ضَعيفة. ينبغي تطوير الكيانات الإنسانية والبيئية لتخدم
منظومة المجتمع الكُلِّي مَعَ مُراعَاة الفُروق ، لا أن نسعى لتطهير المجتمع مِنَ
الكَينونة الإنسانية والعوالم البيئية . نحن نُقاتِل المرضَ لا المريضَ ، ونُقاتِل
الغباءَ لا الغَبِيَّ . وفلسفةُ الكتابةِ تَقوم بهذا الدور لإعادةِ بناء الإنسان ،
واكتشافِ إنسانيته مِن جَديد ، وأيضًا أنسنة عناصر الطبيعة ، ضِمْن خُطة
التَّلاحُم المعرفِيِّ لا الانفصام . الكِتابةُ كالطائرةِ : إقلاع وهُبوط . ذَهاب وإياب . الرِّحلةُ جُزآن
. الذهابُ نِصْفُ الرِّحلةِ ، والرُّجوعُ هُوَ النِّصْفُ الآخَر . يُولَدُ قانونُ
الكتابةِ بَعْدَ شَرارة الكتابةِ . قانونُ الجاذبية جَاءَ بَعْدَ التُّفاحة.
وقانونُ القَصيدةِ يُولَدُ بَعْدَ التَّجربةِ الشِّعرية . أرفضُ الكِتابةَ حِينَ
تَكُون حُلْمًا يَنهار في مجتمع قائم على النِّفاق والخِداع. مُجتمعُ الذِّئبِ
الذي يَرْتدي ثَوْبَ الْحَمَلِ الوَديعِ . أرفضُ المجتمعَ حِينَ يُصبِح خَديعةً بَصريةً
وظاهرةً صَوتيةً .
[2] القصيدةُ
تَقُومُ على رُكْنَيْنِ : تأسيسُ المشروعِ ، وانتزاعُ المشروعيةِ .
إنَّني أكتبُ القصيدةَ ، وتَكْتُبُني
القصيدةُ . والجماهيرُ تَكتبُ قَصيدتي مَعي . إنَّها حياةٌ جماعيةٌ . نَحْنُ نَذهب
إلى الترابِ، وتظلُّ كلماتُنا وذِكرياتُنا. نَحْنُ نَختفي في الظِّل السَّحيق ،
وتَبْقَى القصيدةُ في بُؤرة الضَّوء . والقصيدةُ تستمدُّ شرعيةَ وُجودها مِن وُجوه
الناسِ وأحلامِهم . وجَناحا القصيدة هُما : تأسيس المشروع الفكريِّ للخَلاصِ
الوجوديِّ ، وانتزاع مَشروعية المعنَى في عَالَمٍ يَنتحِرُ .
[3] العَمَلُ الأدبِيُّ يَصْنَعُ عَالَمَهُ الخاصَّ بِه ، ويَفْرِضُ
شُرُوطَهُ عَلى عَناصرِ الواقعِ .
العملُ الأدبِيُّ لا يَخضع لِشُروطِ الواقع
وقانونِ الحياة المادية ، لأنَّ العملَ الأدبِيَّ فَوْقَ القانون الماديِّ ، وهو
الذي يَفْرِضُ الشُّروط على العناصر المادية ، لإخراجها مِن دَوَّامة الاستهلاكيةِ
. والعملُ الأدبِيُّ هو الحاكم على مَشاعر الناس ، لأنَّهُ بِمَثابة الأب الذي
يَعرِف مَصلحةَ أطفاله أكثر مِنهم . ومِن هُنا تَنبُع قُوَّةُ العمل الأدبِيِّ
الذي يَمتاز بالقُدرة على الرُّؤية ، وجَعْل الإنسان رَائِيًا .
[4] الْمُعَلَّقاتُ العَشْرُ هِيَ الشِّعْرُ
الأكثرُ حَدَاثةً في تاريخ الأدبِ العَرَبِيِّ .
العربُ صَنَعوا التاريخَ ثُمَّ خَرَجوا مِنَ
التاريخِ. والمسلمون بَنَوا الحضارةَ في الأندلسِ ثُمَّ طُرِدُوا مِنَ الأندلسِ.
والحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ قَادَت العالَمَ ألف سنة، وَلَم يَعُدْ لها وُجود
في هذا العالَم. وفي زَحمة الانهيارات المتتابِعة ، تَكَرَّسَتْ عُقدة الشُّعور
بالنَّقْصِ في الشخصية العربية ، وأُصيبَ العرب بِعُقدة الخواجة . ولا يَخْفَى
أنَّ المغلوب مُولَع بِتَقليد الغالبِ . وَوَفْقَ هذه المعطيات المؤلمة ، رَاحَ
الأُدَباءُ العربُ يَبحثون عَن الحداثة في الغرب ، باعتباره القُوَّة المهيمِنة
على العالَم . وأخذوا يُقَلِّدون شُعراءَ الحضارةِ الغربية، ويَقتبسون أفكار
الفلاسفة الغربيين بشكل أعمى . وقد أساؤوا إلى أنفسهم وأُمَّتهم بشكل واضح . فالعالَمُ
صارَ يُصَنِّفُ الأدبَ العربِيَّ كأدبٍ هامشيٍّ لا وَزْنَ لَهُ . وُجودهُ
كَعَدَمِه ، وبالتالي ، لا فائدة من تَرجمته ، فلا أحدَ يَحْرِصُ على قراءته .
وهذا يُفَسِّرُ غياب مشاريع ترجمة الأدب العربِيِّ . إنَّ العربَ يَتفرَّجون على
الحضارة ، ولا يُشارِكُون في صُنعها . يَنْسَخُون النظرياتِ الغربية كالوجوديةَ
والتَّفكيكية والبُنيوية . وَلَوْ كانوا يَمْلِكُون نظريةً خاصَّةً بِهم لاستطاعوا
أن يُقَدِّموا للعالَم شَيئًا جَديدًا وإبداعًا مُتَفَرِّدًا ، ويَقُودوا حركةَ
الفِكْر العالميِّ الذي يَعتمد على الإبداع لا التقليد . والحلُّ الوَحيدُ لِخُروج
العرب من مَأزقهم أن يُعِيدوا قراءةَ تُراثِهم بِعُيون الْمُنتصِر لا عُيون المهزوم،
ويَستنبطوا مِنهُ أفكارًا جَديدةً ، وفَلسفاتٍ عِلْميةً وأدبيةً ، ويُقَدِّموها
للعالَم . فَمَثَلاً ، لَوْ عادَ العربُ إلى الْمُعَلَّقاتِ العَشْرِ لأدْرَكُوا
أنَّهم يَمْلِكُون حَداثةً شِعريةً عالميةً ، وهذه الحداثة تستحق أن تُنْقَل إلى
العالَم ، وَيُسَلَّطُ عَلَيها الضَّوء . فَفِيها الكثير من النظريات الفلسفية
والأدبية . ولكنَّ المشكلة أنَّ الأُمَّة العربية مَهزومة ، ودائمًا يُنظَر
للمهزوم باعتباره شَخصاً غَبِيًّا وفاشلاً وَوَصْمة عار في التاريخ . وفي حقيقة
الأمر ، إنَّ المهزومَ قادرٌ على تَحسين أوضاعه، لَيْسَ بالضَّرورة أن يَحتلَّ
العالَمَ حتى يُقْنِع الناسَ بِقُوَّته وذكائه واستحقاقه للحياة الكريمة. ولَكِنْ
بإمكانه أن يَتقدَّم إلى الأمام ، ويُحاوِل إنقاذ ما يُمْكِن إنقاذُه ، والنَّصْرُ
لَيْسَ حِكْرًا على شخصٍ دُون آخَر . والمجدُ لَيْسَ حِكْرًا على أُمَّة دُون
أُخرى .