مقدمة لفهم شعر المعلقات
للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد
................
إن الشِّعر هو دِيوان
العرب _ شَاءَ مَن شاء وأبى مَن أبى _. وهو لم يصل إلى هذه المكانة السامية بالصُّدفة
، بل وصل إليها بسبب كَوْنه _ أي الشِّعر _ هو المتحدث الرسمي باسم تاريخ العرب
وبطولاتهم وأمجادهم ، وهو السِّجلُ الشريف الذي يَحْوي تفاصيلَ حياتهم الروحية
والمادية . لذلك نظرَ العربُ إلى الشِّعر باعتباره نظامًا للتخليص والخلاص،
تخليصهم من ضغط العناصر الحياتية، وخلاصهم الإنساني الذي يَمنحهم المجدَ أثناء
الحياة، والخلودَ بعد الموت . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريبًا أن يَضع العربُ كلَّ
بَيْضهم في سَلة الشِّعر .
ولا يَخفى أن العرب قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية ، كانوا أُمَّةً وثنية
ليس لها كتابٌ سماوي مُقدَّس ، وهذا جعلها في مرتبة أدنى من أهل الكتاب ( اليهود
والنصارى ) الذين كان في أيديهم التوراة والإنجيل. ومن الطبيعي أن يَشعر العربُ
بُعقدة النقص لأنهم منقطعون عن السماء . فكان الحلُّ _ من وجهة نظرهم _ هو اتخاذ
الشِّعر كتابًا مقدَّسًا، وذلك لكي يُعوِّضهم عن عدم وجود كتاب سماوي في أيديهم ،
ولكي يَجبر كَسْرَهم ، ويُحطِّم عُقدةَ الشعور بالنقص ، فيتعاملوا مع الأمم الأخرى
_ خصوصًا اليهود والنصارى _ بكل ثقة ، غير شاعرين بالنقص أو الانكسار أو تدنِّي
المرتبة .
ومن هذا المنطلق لم يكن الشِّعرُ نظامًا لغويًّا اجتماعيًّا فَحَسْب، بل
كان_ أيضًا_ منظومةً دِينية، وَوَحْيًا خاصًّا. وهذا منحَ الشِّعرَ منزلته الرفيعة،
وجعله أيديولوجية قائمة بذاتها تشتمل على أبعادٍ أسطورية ، وتقاطعاتٍ اجتماعية ،
وأحلامٍ إنسانية ، وثقافاتٍ محلية وإقليمية .
ويمكن اعتبار المعلَّقات هي دُرة تاج الشِّعر الجاهلي ، فقد اشتملت على صور
صادقة للحياة الاجتماعية ، والعواطفِ الإنسانية ، والفلسفةِ العربية المصهورة في
الواقع والخيال معًا . كما أنها امتازت بلغة قوية آسرة تستمد مفرداتها من البيئة
المحيطة، فالشاعرُ _ أولاً وأخيرًا _ هو ابنُ بيئته ، وحاملُ تاريخها .
والجديرُ بالذِّكر أن المعلَّقات سُمِّيت بهذا الاسم لأنها عُلِّقت على
الكعبة المشرَّفة تنويهًا بقيمتها الشعرية ، وعَظَمة شأنها ، ومكانة أصحابها .
وقد قال ابن خلدون في تاريخه ( 1/ 803) : (( اعلم
أن الشِّعر كان ديوانًا للعرب ، فيه علومهم ، وأخبارهم ، وحِكَمهم . وكان رؤساء العرب
منافسين فيه ، وكانوا يقفون بسوق عُكاظ لإنشاده ، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول
الشأن ، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام ، مَوْضع حَجِّهم
، وبيت أبيهم إبراهيم )) .
وما كان لهذه الأشعار أن تُعلَّق على الكعبة لولا اعتبارها نصوصًا شِعرية
مُقدَّسة تُجسِّد التاريخَ العربي ، والأحاسيسَ الإنسانية في بيئة الجزيرة العربية
، والصورَ الحياتية المنتشرة في عوالم الإنسان العربي . كما أن تعليقها على الكعبة
جرى بكل سلاسة دون اعتراض من أَحد ، وهذا مؤشر واضح على اتفاق الناس على قيمة
المعلَّقات المعنوية والمادية ، وأهميةِ الشِّعر في صناعة الحضارة العربية ،
وإخراج أُمَّة العرب المحصورة في الجزيرة العربية إلى آفاق جديدة ، وعوالم أكثر
رحابة . إذن ، فالعقلُ الجمعي العربي كان يُقدِّس الشِّعرَ ، ويَجعله في قمة الهرم
الحضاري، ويَنظر إلى الشاعر على أنه نبيٌّ يُدافع عن القبيلة ، ويَرفع اسمَها ،
ويَحفظ التراث الإنساني الحضاري . وبالتالي ، ليس غريباً أن تَحتفل القبيلةُ إذا
نبغ فيها شاعر ، فهي تَعلم _ عِلْمَ
اليقين _ أنه لسانُها الناطق ، وسيفُها القاطع .
إن الشِّعرَ يَكشف نَفْسَه بنفْسه ، فهو نسقٌ قائم بذاته ، تَنبع مرجعياته
ونظرياته من داخله ، لذلك لا ينبغي استيراد النظريات الأدبية من هنا وهناك، فالمعلَّقات
ذات نسق فريد ليس على مستوى الشِّعرية العربية فَحَسْب، بل أيضًا على مستوى
الشِّعرية العالمية . وفي هذا السياق ، تتَّضح ضرورة الإصغاء لما يقوله شعراءُ المعلَّقات،
وتفسير رموزهم ، وتحليل تطبيقاتها ، وجعلَ الشِّعر يُفَسِّر الشِّعرَ دون حَقْنه
بعناصر دخيلة ، أو آراء شاذة عن مسار الحضارة الشِّعرية العربية التي صَنعتها
المعلَّقات .
ينبغي الاستماع إلى آراء شعراء المعلَّقات التي أدلوا بها في شتى المواضيع .
إذ إن آراءهم مستمدة من خبراتهم
الحياتية، ومكنوناتهم النَّفسية، وتأثيرات البيئة الفكرية والاجتماعية في تكوينهم
الشخصي . إنهم قد عاشوا الحياةَ بكل تفاصيلها ، لمعرفتهم أن الحياة تشكِّل قيمةً أساسية في الفكر الإنساني ، فهي الفرصة الوحيدة المتاحة أمام
الإنسان لتحقيق الغاية من وجوده ، وتحويل أشواقه الروحية إلى واقع ملموس ، وإشباع
حاجاته المادية والمعنوية .
إن ولادة الكلمات الثورية في شِعر المعلَّقات ، إنما تتم بواسطة زرع ثورة
اللفظة والمعنى في أرجاء النَّص عن طريق بناء تكوينات فلسفية مُبْتَكَرَة ومُدهِشة
وصادمة للمألوف ، وهذا يتحقق في نفسية الشاعر الثوري أولاً ثم يهبط على النتاج
الأدبي الشِّعري . وهذه الولادة المتفجرة لها تشكيلان :
الأول _ تشكيلٌ بصري فاقع لامتلاكه عناصر الرؤية الفنية التي تُختصَر في
صدمة الصورة المتخيَّلة التي تهز الواقع هزًّا ، وتُفرغه من محتواه السلبي لصالح
الصورة الفنية الساطعة التي تملأ نفسية الصانع ( الشاعر)والمتلقي ( الجمهور )
على السواء .
والثاني _ تكوين سمعي يهز أركانَ المتلقي من أجل حشده بالقيم المطْلقة .
فالعنصر السمعي موسيقى داخلية تنبع بالأساس من الصورة المتفردة، ولا ضَيْرَ أن
تنبع من الأوزان الشِّعرية، لكن الأولوية للصورة المتدفقة التي تأخذ مسارها الماحي
الهادر دون حواجز لغوية ، أو أوزان قد تعيق التصويرَ الصادم ذا المعاني المبتكَرة
والمدهِشة.
فالموسيقى تهز الإنسان حتى لو لم يفهمها .
وعلى سبيل المثال ، إن زقزقة العصافير تُثير الخيال، وتهز الأحلام، وتحرِّك ثوريةَ
العاطفة، دون أن يفهمها المتلقي ، وقد يصل الشِّعرُ إلى هذا الطَوْر _ أحيانًا _ .
إن الشِّعر لا يُعطيك بعضَه إلا إذا أعطيته كُلَّك . وهنا ، تبرز أهمية التنقيب
عن القيم المركزية في المعلَّقات ، واكتشافِ المستويات الشعرية بكل تطبيقاتها
الدينية والإنسانية والاجتماعية والفلسفية . والمعلَّقاتُ مَنجم كبير بحاجة إلى
عمليات تنقيب كثيرة ومكثَّفة . والفلسفةُ الشِّعرية الكامنة في المعلَّقات هي بحرٌ
متلاطم الأمواج . ولا مفر مِن الغَوص في أعماق هذا البحر لوضع اليد على الجواهر
والدُّرر .