رمزية الغراب الشعرية
للمفكر والشاعر/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 5/10/2018
.............
إن الشِّعر كيان محمول على الرموز . والرموز
هي قاعدة البناء الشعري ، والطاقة اللغوية القادرة على زراعة الصور الفنية
المدهِشة في ذهن المتلقِّي . وكُل شاعر له رموزه الخاصة به، التي تنبع من طبيعة
شخصيته وماهية رؤيته للأشياء . وفي الفضاء الشِّعري يُصبح الرمز كالبصمة ، ولا
يَقْدِر الشاعر أن يُحلِّق في فضائه إلا بوجود بصمة مميزة له، تكون بمثابة بطاقة
تعريف لإبداعه . والبصمةُ الشعرية تعمل عمل الجناحين للطائر . وكما أن الطائر لا
يَقْدِر على الطيران إلا بوجود جناحين ، كذلك الشاعر لا يَقْدِر على الطيران في
عوالمه الشعرية إلا بوجود بصمة شخصية ( رمز شِعري ) .
ومِن الرموز
المنتشرة بكثافة في أشعار الأمم وثقافات الشعوب : الغراب . ومع أن هذا الرمز
يتكرَّر بصورة واضحة في الكتابات ، إلا أن معناه يختلف باختلاف الطبيعة الفكرية
للكاتب . وهذا يدل على أن الرمز ليس مقصودًا لذاته ، ولا يُعتبَر غايةً قائمة
بذاتها ، وإنما هو وسيلة وأداة توصيل للمعنى .
وقد ارتبطَ
الغراب بالتشاؤم والسَّوداوية ، بسبب صَوته المميَّز المهيب ، ولونه الأسود القاتم
. وكان العرب في الجاهلية يتشاءمون بِه، فكانوا إذا نَعَبَ مرتين قالوا : آذنَ
بِشَر . وإذا نعب ثلاثًا ، قالوا: آذنَ بخير. كما ارتبطَ الغراب بالفِراق (
البَيْن ) . وقِيل : سُمِّيَ غراب البَيْن ، لأنه بانَ عن نُوح عليه الصلاة
والسلام لَمَّا أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فَلَقِيَ جِيفة ، فوقعَ عليها ،
ولَم يَرجع إلى نُوح .
وفي عالَم الشِّعر ، هناك شاعران حصلا على المجد الشعري والشهرة الأدبية ،
عبر توظيف الغراب كرمز شِعري مُحمَّل بالدلالات اللغوية والمعاني الفلسفية . الأول
هو الشاعر الأمريكي إدغار ألان بو(1809 _1849).والثاني هو الشاعر الإنجليزي تيد
هيوز(1930_ 1998) .
لقد أصبحَ"بو" مشهورًا في جميع
أنحاء الولايات المتحدة حين نشر قصيدة" الغراب" ( 1845). وتحكي القصيدة
عن زيارة غُراب مُتكلِّم وغامض إلى عاشق مُضطرب . وهذا المناخ الشِّعري يُقدِّم
الغراب ككائن غامض ظَهر فجأةً ، لِيُعيد ترتيب حياة هذا العاشق المحطَّم نفسيًّا ،
والمجروح عاطفيًّا.
صارَ الغراب هو المنقِذ والمخلِّص والناصح
الأمين . وكأن هذا العاشق فقد ثقته بالناس ، ولَم يعد يثق إلا بهذا الغراب . وهذه
المفارَقة تُشير إلى انهيار العالَم الكامن في ذات الشاعر ، واختلال الموازين ،
وفقدان البصيرة ، وغياب الرؤية . وكما يُقال : إن الغريق يتعلق بحبال الهواء .
وحياةُ هذا العاشق المنهار في القصيدة ، إنما هي انعكاس لحياة الشاعر" بو"
المنهارة بسبب إدمانه الشديد على الخمر ، وكثرة أزماته الروحية ، ومشكلاته المادية. وقد
صارت سُمعته سيئة للغاية في مجتمع القرن التاسع عشر المحافظ . وهاجمه النُّقاد
بشدة بسبب مُعاقَرته للخمر ، واتَّهموه بأنه مدمن على المخدِّرات. وقال البعضُ إنه
يجب أن لا يُترَك الجمهور معَ رَجل مِثله ، غير مستقر نفسيًّا وعقليًّا، يجلس في
غرفة مُعتمة، مع غُراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون .
إن " غُراب بو " هو الذي أبرزَ
نقاط توتر الشاعر ، وانهيار عالمه الشخصي ، ووضَّح قلقه وكآبته وأحلامه الضائعة
وآلامه المتفاقمة وأوضاعه المالية السَّيئة. لذلك ، ليس غريبًا أن تتمحور موضوعات
" بو " حول الموت وعلاماته الجسدية وآثار التحلل ، والمخاوف من الدفن ،
والحِداد.
إن قصيدة "الغراب" هي حجر الزاوية
في مشروع " بو " الشعري ، الذي يمكن تسميته بالرومانسية السوداء ، وهي
ردة فِعل أدبية للفلسفة المتعالية التي كرهها " بو " بشدة .
أمَّا الشاعر تيد هيوز فقد نشر ديوانه
" الغراب " عام 1970 بعد مُعاناة كبيرة ، وانقطاع عن الكتابة لسنوات
بسبب انتحار زوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث في عام 1963 ، وقد تَمَّ تحميله مسؤولية انتحارها ، بسبب خيانته
لها .
يُعتبَر ديوان الغراب أشهر أعمال هيوز على
الإطلاق . وهذا الطير يتكرَّر مِرارًا
في شِعره رَمْزًا للظلام والقسوة والسخرية السوداء والعنف الذي يتفجَّر في الطبيعة
. لقد درس هيوز في جامعة كامبردج عِلم الآثار والحفريات ، وهذا
جعله على وَعْي تام بعناصر الطبيعة ، فاستخدمَ الحيوانات والطيور ( وعلى رأسها
الغراب ) كنماذج في شِعره الذي يمتاز بالغموض والتَّنبؤية .
إن " غُراب هيوز" جَعل عالمه
الشِّعري مليئًا بالعنف البدائي والقسوة المندمجة مَعَ انهيار الإنسان في عالم
استهلاكي دموي تَحكمه الشهوات والغرائز. و"الغراب " في شِعر هيوز ليس
مفردةً عابرة، أو صورة بلاغية مُجرَّدة ، بل هو رَمز مركزي شديد الاستقطاب ،
تَحُوم حَوْله القيم الإنسانية المنهارة ، وملامح القسوة في الوجود . وكأن هيوز _
من خلال توظيفه لرمزية الغراب _ يُريد إعادة الإنسان المتوحش إلى إنسانيته النقية
، وأنسنة العالَم القاسي الذي نعيش فيه. وفي هذا السياق تندمج رمزية الغراب
المركزية مع قيمة التمرد على الأنماط الاستهلاكية التي قَتلت رُوح الإنسان ،
وحوَّلته إلى وحش ضِد أخيه الإنسان . والتمردُ الشِّعري هو تحوُّل الطاقة الجسدية
إلى بُنية لغوية . وهذه البُنية اللغوية لا بُد لها مِن رمز يَحملها . وهذا الرمز
هو الغراب ، الذي يُشكِّل بلونه الأسود القاتم الحقيقة الواضحة الصادمة ، بلا
ألوان ولا زخارف . وعلى الإنسان أن يُواجه مصيره بنفْسه ، ويَقتلع شَوكه بيديه ،
ولا أحد سيأتي لمساعدة أحد . وهذه هي اللحظة المصيرية الفاصلة بين الوجود ( البقاء
) والعدم ( الفناء ) .