حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
.................
إن الهدف الأساسي من
السياسة هو تحقيق مصالح الناس ، وبناء منظومة إنسانية اجتماعية توازن بين الحقوق
والواجبات. ووفق هذا المعنى، تكون السياسة وسيلة لا غاية .
والمشكلة الجذرية في المجتمعات المتخلفة أن السياسة فيها غاية بحد ذاتها،لذلك
يتكرَّس معنى العنف والصدام والصراع على الكرسي ، ومحاولة المحافظة عليه بأي ثمن .
وفي هذا المناخ الموبوء يظهر الطاغية ( الحاكم ) ، ويتكرَّس وجوده باعتباره
المركز الذي تدور حوله كل تفاصيل المجتمع ، وتختفي الدولة شيئًا فشيئًا حتى تصل
إلى مرحلة " شِبه دولة " ، وتنهار الطبيعة الإنسانية ، فيتحوَّل
المواطنون إلى أشباح مُدجَّنة لاهثة وراء رغيف الخبز ، ورُبَّما لا تحصل عليه .
ففي أشباه الدول لا شيء مضمونًا ، بسبب غياب الحرية ، وانهيار القيم الأخلاقية ،
وتحوُّل السياسة إلى لعبة للأغنياء المتحالفين مع رموز السُّلطة القمعية .
والطاغية _ في كل زمان ومكان _ في عداوة متبادلة مع الشعب . وسبب هذه
العداوة أن الطاغية يعتبر الشعب متخلفًا وبدائيًّا وهمجيًّا وسفيهًا وجاهلاً ،
وبالتالي يجب الحجر عليه ، لأن الشعب لا يستحق الحرية ، ولا يفهم الديمقراطية . أي
إن الشعب عاجز عن قيادة نفسه بنفسه ، ولا يستطيع اختيار مَن يَحكمه، وهنا يبرز
مفهوم الوصاية . فالطاغيةُ " العبقري " هو الوصيُّ على الشعب " الجاهل
" والمسؤول عنه ، كما أن الأب "العاقل " هو الوصي والمسؤول عن
أطفاله الصغار " غير العاقلين " .
والشعبُ يعتبر الطاغية مجرمًا وسفَّاحًا ولصًّا ، نهب ثروات البلاد ،
ودمَّر حياة الشعب ، وفتح السجون للشرفاء والأحرار ، وترك الفاسدين يعيثون في
الأرض فسادًا ، دون حساب ولا عقاب .
وهذه العلاقة الجدلية بين الطاغية والشعب شديدة الخطورة ، لأنها تُحطِّم
منظومة الولاء والانتماء ، فيصبح الفرد باحثًا عن حاجاته اليومية ضمن دائرة
الاستهلاك الخانقة، دون النظر إلى ماهية الوطن وأهمية الدفاع عنه ، لأن الغريق
يتعلق بحبال الهواء ، ويبحث عن قشة لإنقاذه ، وهذا يَمنعه من مُشاهدة بَر الأمان ،
أو التخطيط للحاضر والمستقبل . إذ إن البقاء على الحياة يصبح هو الهم الوحيد،
والهدف الأسمى بحد ذاته . وانحصار التفكير في البقاء حيًّا هو حاجز يمنع من
التفكير في صناعة الإنجازات في الحياة. وهكذا، يتم تدمير الفرد معنويًّا وماديًّا
،
فيتحوَّل إلى عنصر منبوذ بلا قيمة في المجتمع
، وإذا شعر الفرد أن وجوده كعدمه ، سيفقد إحساسه بالعناصر من حوله ، ويخسر يقينه
بالمستقبل المشرق . وعندئذٍ ، يتكرَّس مبدأ " اللهم نفْسي " أو "
أنا وليكن الطوفان مِن بَعْدي " .
ومعَ اضمحلال الولاء في نفوس الأفراد، يتلاشى معنى الانتماء، وتحتفي حقيقته
. وتظهر معاني النفاق والمديح الزائف . فالفردُ يُدرِك أنه لَن يحصل على أي شيء في
وطنه إلا بمديح الحاكم ، والتسبيح بحمده ، والإشادة بإنجازات النظام السياسي
الوهمية . ولا يخفى أن العنصر الفاعل في المجتمعات البدائية المتخلفة هو الولاء
للحاكم ، وليس الكفاءة . فلا يَهُم إذا كان الفرد عَالِمًا أو جاهلاً ، المهم أن"
يبصم بالعشرة " للحاكم وحاشيته ، ويكيل لهم المديح ليلاً ونهارًا ، على أمل
الحصول على جزء يسير من الغنائم التي يجمعها الحاكم وعصابته .
إن الطاغية يعتبر السُّلطة مغنمًا ، وينظر إلى " الدولة "
باعتبارها شركة تجارية استثمارية ، ومِلْكًا له ولعائلته وأتباعه. وهذه النظرة
المنحرفة، تجعل الحاكم بالضرورة تاجرًا وسمسارًا ، وعليه أن يجمع أكبر قَدْر من
الأرباح ، ويحصد أكبر كمية من الغنائم .
وهذا التفكير القاصر والقاتل ، يُشكِّل خطرًا على الحاكم نفْسه ، لأنه يلعب
بالنار ، ويُكثِّر عدد أعدائه والمتربِّصين بِه ، ويُقلِّل عدد أصدقائه المخلصين.
فالكثيرون يلتفون حوله لمنافع مادية ، ومصالح شخصية، وليس حُبًّا له ، أو عِشْقًا
لسياسته الحكيمة وإنجازاته العظيمة . وهؤلاء هُم فئران السفينة ، ومُستعدون للهرب
منها في أيَّة لحظة ، لأنهم يعتبرون السفينة مصدرًا لجني الأرباح والمكاسب ، وليس
وطنًا لهم . فهُم لا يشعرون بالولاء والانتماء إلى المكان الذي يعيشون فيه .
تمامًا كالشخص الذي يستأجر شقة مفروشة ، أو يحجز غرفة في فندق . إنه يعلم في قرارة
نفْسه أن وجوده مُؤقَّت ، لأنه لا ينتمي إلى المكان ، ولا يشعر بالولاء له ، بسبب
غياب الروابط النفسية والأخلاقية والفكرية بينه وبين مكان وجوده .
والسياسة القمعية للسُّلطة الحاكمة هي بداية نهاية " الدولة " ،
إذ إن المواطنين الذين يُعانون من الفقر والجهل والحرمان والظلم ، سيتحوَّلون إلى
أعداء مُستترين للنظام الحاكم ، ينتظرون لحظة الانقضاض ، ويفكرون في كيفية
الانتقام والثأر من هذا النظام الذي حرمهم من الحياة الكريمة . وهذا يعني أن النار
مختفية تحت الرماد ، ولا أحد يعرف متى تحين لحظة الانفجار ، وكثرة الضغط تُولِّد
الانفجار . وقد قِيل : لا تَدخل في مواجهة مع شخص ليس لديه ما يَخسره .
إن الخطيئة العُظمى التي سقط فيها الطاغية هي عدم تفريقه بين السيطرة
والقيادة . فهو يعتقد _ بكل جهل وغرور واستكبار _ أن القبضة الحديدية وفتح السجون
وتكميم الأفواه والاحتكام إلى الحديد والنار هو الحل الأمثل للسيطرة . وهذه نظرة
قاصرة ، لأن الاستبداد قد يضمن السيطرة لبعض الوقت،ولكنْ لا يَستطيع توفير الحماية
على المدى الطويل بسبب كثرة الأعداء،وزيادة الأعباء الحياتية،وتفاقم المشكلات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كما أن الاستبداد عائق أمام التقدم وصناعة
الإنجازات . وأيُّ مليونير يستطيع أن يشتريَ طائرة بأمواله ، ويحميَها بنفوذه
وسُلطته ، ولكنْ ليس أي شخص يقدر على قيادتها والطيران بها .