تحقيق الحلم الإنساني في المجتمع الاستهلاكي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
.............
إن الحُلم الحقيقي في حياة الإنسان ليس الذي
يراه في المَنام ، وإنما الذي يراه في الواقع . والحُلم منظومة اجتماعية تُفسِّر
القيمَ المعرفية ، وتستمد شرعيتها وجَدْواها مِن تكريس العلاقة بين قُدرة الفرد
على الإبداع ، وقُدرةِ المجتمع على احتضان إبداع الفرد . وإذا تكرَّسَ الحُلم في
المجتمع كبُنية مركزية، فإن التفاعل بين الأنا والكُل سيغدو ظاهرةً فلسفية عامَّة
، تمنع انقلابَ المعنى الإنساني على التطبيقات الاجتماعية ، وتَحْمي المعنى
الإنساني مِن إفرازات النظام الاستهلاكي المادي المُغلَق ، الذي يَقتل رُوحَ الإنسان
، ويُحوِّله إلى كَوْمة شظايا مُتناثرة في صخب الحياة اليومية ، وتائهة في ضجيجِ
الأحلام الضائعة والآمال المقتولة .
2
كُل حُلم إنساني هو بالضرورة سُلطة معرفية ،
تَقتل الوهمَ ، وتُحيي الأملَ . وهذا الدَّور المِحْوَري للحُلم الإنساني ينبغي أن
يُوظَّف للكشف عن الآمال المقتولة في داخل النَّفْس البشرية، لأن الإنسان _ في
أثناء سَيْره في تفاصيل الحياة _ يَخسر كثيرًا مِن أحلامه وذِكرياته ، وتَموت فيه
كثيرٌ مِن القِيَم والمبادئ . ومِن أجل إعادة إنسانية الإنسان إلى قيمة المعنى ،
والإحساسِ بالوَعْي البَنَّاء ، ينبغي عَقْد مُصالحة بين الإنسان وذاته ، والوصول
إلى حالة من السلام الداخلي ، قبل البحث عن السلام مع عناصر الطبيعة ، ومُكوِّنات
البُنى الاجتماعية ، والتصالح معها .
3
أسوأ كابوس يُمكن أن يحصل في المجتمع
الإنساني ، هو تحوُّل الإنسان إلى مقبرة مُتَنَقِّلة ، ومدفن للآمال والطموحات
والأحلام ، وهذا هو الموت في الحياة ، الذي يجعل الإنسان ظِلًّا باهتًا للذكريات
المُتَوَحِّشَة والماضي المُوحِش والحاضر القاسي والمستقبل المجهول. وللإبقاء على
شُعلة الحياة في قلب الإنسان بدون انطفاء ، ينبغي تسخير القيم الاجتماعية المعرفية
من أجل تأسيس الذات الإنسانية كحالة مِن الوَعْي المنهجي ، الذي يربط بين السلام
الروحي الداخلي والتوازن الاجتماعي الخارجي. وهذا يُمثِّل ضمانة أكيدة لمنع انحراف
القطار الإنساني عن السِّكة الاجتماعية . ويجب على الإنسان _ أثناء رحلته في هذه
الحياة _ أن يَستوعب العناصرَ الفكرية في مُحيطه الداخلي وبيئته الخارجية ، تمامًا
كالرُّبَّان الذي يجب عليه _ لضمان إبحار
السفينة بشكل آمِن _ أن يَستوعب حركةَ المياه في البحر ، واحتمالية دُخول المياه
إلى داخل السفينة ، لأن هذا يعني الغرق الأكيد والهلاك الحتمي . وإذا عُرِفَ
الشَّر مُسْبَقًا ، يُمكن الوقاية مِنه بسهولة .
4
إذا أُجْبِر الإنسان على السَّير في حقل
ألغام ، فينبغي أن يُحافظ على هُدوئه واتِّزانه وتركيزه ، ويبتعد عن نَدْب حَظِّه
، أو لَوْم الظروف ، أو شتم الألغام ، لأن هذه أفعال طائشة لا فائدة مِنها ، وهي
تستنزف جُهدَ الإنسان ، وتسرق إمكانياته الذهنية ، وتَسلِب قُدرته على التَّحَرُّك
والمُرَاوَغَة . ولا يَقْدِر الإنسانُ على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح ،
إلا إذا امتلكَ مشاعره ، وسيطرَ على عواطفه . وإذا انتشرَ الهدوءُ كحالة وجدانية
واعية في داخل الإنسان ، استطاعَ السيطرةَ على العناصر الخارجية . وإن السَّباح في
عُرض البحر ، ليس أمامه إلا مُواصلة السِّباحة كخيار وحيد ، وإذا خاف أو ارتبكَ
غَرِقَ ، والتَّقَدُّمُ إلى الأمام أسهل مِن العَودة إلى الوراء ، لأن الشاطئ الذي
انطلقَ مِنه السَّباح صار بعيدًا جِدًّا عنه ، ولا يُمكن العَودة إلى الخَلْف ،
وعقاربُ الساعة لا ترجع إلى الوراء. والحَلُّ الوحيد هو مُقَاوَمَة الأمواج حتى
الوصول إلى بَر الأمان. والدربُ الموصل إلى الغاية النبيلة شاق ، والطريق إلى
قِمَّة الجبل لا بُد أن يكون صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، ولكنَّ لَذَّة الوُصول
تُنسِي الإنسانَ عذابَ الطريق ، والانتصار الحقيقي هو انتصار الإنسان على نفْسه ،
والتَّفَوُّق عليها ، وتجاوزها .