رحلة البحث عن الخلاص الجماعي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
..............
إن الأفكار الاجتماعية مِلكية عامة ، وليست
مشروعًا شخصيًّا احتكاريًّا . وهذه الأفكار تُمثِّل حصيلةً معرفية نابعة من العقل
الجمعي وتجاربِ الأمم والشعوب على مدار التاريخ . والأفكارُ تيارات ذهنية وإفرازات
وجدانية عابرة للأزمنة والأمكنة ، ولا يُمكن تجنيسها والسيطرة على عملية تفجُّرها
وانطلاقها ، لأن الأفكار تسبح في داخل الإنسان، وتتناثر في الذهن البشري كالشظايا
، وتنطلق في كل الاتجاهات، لذلك كان من المُستحيل حصر إبداعات العقل البشري في
أنساق التاريخ وطبيعة الجُغرافيا . والسؤالُ الذي يَطرح نَفْسَه في هذا السياق :
ما فائدةُ الأفكار إذا كُنَّا عاجزين عَن السيطرة عَلَيها ؟ . إن الأفكار تطير في
الذهن كما تطير العصافيرُ في الفضاء . والحلُّ الوحيد للسيطرة على العصافير هو
الإمساك بها ، وإدخالها إلى القفص. وهذا المبدأ يجب تطبيقه في عَالَم الأفكار
القائم على الخيالاتِ الهُلامية ، والتَّصَوُّراتِ الذهنية ، والشظايا العقلية
المُتناثرة . ينبغي إدخال الأفكار إلى حُدود الحياة العملية ، وإخراج البُنى
العقلية مِن الذهنية غير المحسوسة إلى الواقع المحسوس، مِمَّا يؤدِّي بالضرورة إلى
صناعة تطبيقات حقيقية فعَّالة ذات تماس مباشر مع حياة الفرد وطبيعة المجتمع .
وصُورةُ الإنسان مهما كانت جميلةً في المِرْآة، تظل مُجرَّد صورة محصورة في إطار
ضيِّق ، والعِبرةُ كامنة في الأصل، والتَّعويل إنما يكون على الشكل الحقيقي للإنسان
على أرض الواقع ، خارج نفوذ المرايا والإضاءة والمُؤثِّرات البصرية وزوايا الرؤية
. والأمرُ ينطبق على عوالم الإنسان الذهنية، والأفكار مهما كانت جميلة ، تظل
مُجرَّد إفرازات ذهنية هُلامية سابحة في فضاء العقل، والعِبرة كامنة في تجسيدها
على هيئة كيانات واقعية ومشاريع محسوسة.
2
يُمثِّل مبدأ نقل الأفكار الخيالية إلى أرض
الواقع مشروعًا لخلاص الفرد من مأزقه الحياتي ، ونجاةِ المجتمع من أزمته الوجودية
. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة ، لأن هناك عوائق معنوية ومادية في طريق تحويل
الأفكار إلى واقع مُعاش.ومن أبرز هذه العوائق أن يَشعر الفردُ بالغُربة عن نَفْسه
، والاغترابِ عن مُجتمعه ، معَ أنه عائش في قلب مُحيطه وبيئته ، وهذه الثنائية
الصادمة ( الغُربة / الاغتراب ) تَجعل الإنسانَ يَنكمش على ذاته ، وينسحب من
الحياة العامة ، ويَتَقَوْقَع على أحلامه الشخصية ، بحثًا عن مصلحة شخصية وخَلاص
فردي ، مِمَّا يُشكِّل تهديدًا على وَحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه ، لأن فلسفة
الخلاص الفردي تعني أن الفرد يُريد القفزَ مِن السفينة ، للبحث عن النجاة الشخصية
، وترك السفينة ومَن فِيها لمُواجَهة مصيرهم . وهذه الفلسفةُ خطرة وغير مضمونة
النتائج ، لأن الفرد إذا قفز من السفينة في عُرض البحر ، لن يتمكَّن من السباحة
إلى شاطئ الأمان ، بسبب بُعد المسافة ، وتلاطم الأمواج ، وطاقته المحدودة على
السباحة . والشاطئُ إذا كان بعيدًا ، فليس مِن الذكاء أن يثق الإنسانُ بقدرته على
السباحة، ولا يوجد عاقل يُعرِّض نَفْسَه لامتحان صعب ، مهما كان واثقًا مِن قُدرته
العقلية وقُوَّته البدنية، لأنه _ ببساطة _ قد يَسقط في الامتحان . وكما يُقال في
المثل الشعبي : (( المَيَّة تُكذِّب الغطَّاس )) . وأفضل علاج لأزمة الإنسان
الوجودية، هو أن يبقى مع مُجتمعه في السفينة ، ويُحاول الجميعُ إصلاحَها بشتَّى
الوسائل ، وتحصين الجبهة الداخلية عن طريق منع وصول الماء إلى داخل السفينة .
والسفينةُ لا تَغرِق مِن مياه البحر العظيمة ، ولكنها تَغرِق إذا تَسَلَّلَت
المياهُ إلى داخلها . والتعاونُ الجماعي لتحصين السفينة يُحقِّق مَصالح الكُل،
ويَضمن النَّجَاةَ للجميع، فيختفي الصراع بين الفائز والخاسر، لأن الجميع سيكونون
فائزين. ومهما كانت السفينةُ قديمة ومُهترئة ، فإن قضاء العُمر في إصلاحها أفضل
مِن أن يُصبح الإنسانُ طعامًا للأسماك ، ويذهب إلى النسيان في أعماق البحر . وإن
الوقت الذي يأخذه الإنسانُ لتبرير أخطائه ، أو نَدْب حَظِّه ، أو التباكي على
حياته ، أو جَلْد ذاته ومجتمعه ، أو شَرْعنة تعاسته ، يَكفي لإصلاح أخطائه ،
والمُساهمة في علاج أزمات المجتمع ، والتَّقَدُّم إلى الأمام ، وَفْق الإمكانيات
المُتَوَفِّرة والظروف المُتاحة . وإذا وَجد الإنسانُ الطريقَ مَسدودًا ، فعليه أن
يَبحث عن طريق آخَر ، ولا يُضيِّع وقته في البكاء على الأطلال . والحياةُ رحلة بحث
طويلة حتى اكتشاف الطريق الصحيح . والمُحاولة بحد ذاتها إنجاز.
3
على الإنسان أن يبدأ مسيرةَ الإصلاح
والتطوير بما يَملك مِن إمكانيات وقُدرات، حتى لو كانت ضئيلة وبسيطة . وكما أن
رَجل الأعمال الناجح يبدأ مشروعه التجاري بما يَملِك مِن مال ، ولا يَنتظر حتى
يُصبح مليونيرًا ليتحرَّك ، كذلك المُصلِح الاجتماعي يبدأ مشروعه الاجتماعي بما
لَدَيه من أفكار وتصوُّرات ، ولا يَنتظر أن يُصبح فَيلسوفًا ، أو يُصبح المجتمعُ
مثاليًا وخاليًا مِن العُيوب . ووظيفةُ الطبيب علاج المرضى لا علاج الأصِحَّاء ، ومُحاربة
المرض ، وليس مُحاربة المريض . وهذا المبدأ الإنساني هو أساس العلوم الاجتماعية .