مَدرسةُ فرانكفورت ( 1923 _ 1970 ) هِيَ
مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية ، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ
الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية ، ضَمَّتْ المُفكِّرين
والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية
الاجتماعية المُعَاصِرَة ( الرأسماليَّة ، الفاشيَّة ، الشُّيوعيَّة ) في
ثلاثينيات القرن العِشرين .
تُفْهَمُ أعمالُ مَدرسةِ فرانكفورت في
سِيَاقِ الأهدافِ الفِكرية للنَّظريةِ النَّقْدِيَّة ، التي تَقُومُ على النَّقْدِ
الاجتماعيِّ الرَّامي إلى إحداثِ تغيير اجتماعيٍّ ، وتَحقيقِ التَّحَرُّرِ
الفِكْرِيِّ مِن خِلالِ التَّنويرِ غَيْرِ الجَامِدِ في افتراضاته، وكَشْفِ
تَناقضاتِ المُجتمع الغربيِّ الحَديثِ ، وتَحديدِ مَظاهرِ الاستغلالِ والاستلابِ
والاغترابِ التي أفْرَزَتْهَا الحَدَاثةُ المَادِيَّةُ نَتيجة هَيمنةِ
العَقْلانيَّةِ الأداتيَّةِ .
وَقَدْ هَاجَمَتْ مَدرسةُ فرانكفورت ابتعادَ
الفَلسفةِ عَنْ دَوْرِها الاجتماعيِّ ، وانتقدتْ تهافتَ النَّزعةِ الوَضْعِيَّة
التي تَجْعَلُ مِنَ العُلومِ الطبيعيةِ نموذجًا لِلْعِلْمِيَّةِ ، وتَجْعَل
العِلْمَ والتِّقنيةَ الأدَاتَيْن القَادِرَتَيْن بِمُفردهما عَلى إحداثِ
التَّغييرِ الاجتماعيِّ،وتَحقيقِ سَعادةِ الإنسانِ ، كما انتقدتْ تَحَوُّلَ
أدواتِ التَّثقيفِ وَوَسَائِلِ الإعلامِ إلى أدوات تُمارسها سُلطة الأنظمة
السِّيَاسِيَّة الغربية للسَّيطرةِ على الناسِ، والهَيمنةِ عَلى مَسارِ حياتهم ،
وتَوجيهِ الرَّأي العام.
يُعْتَبَر الفَيلسوف الألماني يورغن
هَابِرْمَاس ( وُلِدَ عام 1929 ) مِنْ أهَمِّ عُلماءِ الاجتماعِ والسِّيَاسَةِ في
العَالَمِ ، وَهُوَ المُمَثِّلُ الأكثرُ شُهرةً للجيلِ الثاني لِمَدرسةِ فرانكفورت
، وَالوَرِيثُ الرئيسيُّ المُعَاصِر لأفكارِهَا ونظرياتها وإسهاماتِ أساتذته :
ماكس هوركهايمر( 1895_ 1973)، وتيودور أدورنو ( 1903_1969)، وهِربرت ماركوز (
1898_ 1979)، وفالتر بنيامين ( 1892_ 1940) ، وإريك فروم (1900_ 1980) .
ومَهْمَا كانَ التلميذُ ذكيًّا ومُبْدِعًا
لا يَستطيع التَّخَلُّصَ مِنْ تأثيراتِ أساتذته بشكل كامل ، ولا يَقْدِر على
التَّحَرُّرِ مِنْ أفكارِ العُلماءِ الذينَ دَرَّسُوه بِصُورةٍ تَامَّة . لذلك
تُعَدُّ فَلسفةُ يورغن هابرماس استمرارًا وتَطَوُّرًا للفِكْرِ النَّقْدِيِّ الذي
أسَّسَتْهُ مَدرسةُ فرانكفورت،مَعَ تَبَنِّي المَنهجِ التواصلي الذي يُرَكِّز على
العَقلانيةِ التواصليَّة، ونَقْدِ العقلانيَّة الأداتيَّةِ .
وَقَد اعْتَبَرَ هابرماس أنَّ إنجازه
الرئيسيَّ هُوَ تطوير مَفهوم ونظرية العقلانيَّة التواصليَّة ، وذلك بِتَحديدِ
العقلانية في بُنى الاتصالِ اللغويِّ الشَّخْصِيِّ . وَتُقَدِّمُ هذه النَّظريةُ
الاجتماعيةُ أهدافَ الانعتاقِ أو التَّحَرُّرِ الإنسانيِّ ، ضِمْن الإطارِ
الأخلاقيِّ الشامل ، والفَهْمِ المُتَبَادَلِ بين البَشَر .
وتأثيرُ مَدرسةِ فرانكفورت في فَلسفةِ
هابرماس يَتَجَلَّى في النَّظريةِ النَّقْدِيَّةِ ، التي تَنْتقِد المُجتمعَ
الرَّأسماليَّ الحديثَ وعَقْلانيته الأداتيَّة ، مِمَّا أدَّى إلى تَهميشِ
وتَشَيُّؤ الأفرادِ . والتَّشَيُّؤُ : تَحَوُّلُ العَلاقاتِ بَين البَشَرِ إلى مَا
يُشْبِهُ العَلاقاتِ بَين الأشياء ، ومُعاملةُ الناسِ باعتبارهم مَوْضِعًا
للتبادُل . وعِندما يَتَشَيَّأ الإنسانُ ، فإنَّهُ سَينظر إلى مُجتمعِه وتاريخِه
باعتبارهما قُوى غريبة عَنْه ، وهَذا يَقُودُ إلى سُقوطِ الإنسانِ في فَخِّ
الاستلابِ ومِصْيَدَةِ الاغترابِ .
وَقَدْ تَبَنَّى هابرماس جُزْءًا مِنْ
نَقْدِ مَدرسةِ فرانكفورت للحَداثةِ ، لكنَّه اختلفَ معها في رُؤيتها المُتشائمة
للحَداثةِ،حَيْثُ رَأى أنَّ الحَداثة مشروع غَيْر مُكتمِل،يَجِبُ
استكمالُه،ولَيْسَ التَّخَلِّي عَنْه . كما أنَّه انتقدَ العقلانيَّة الأداتيَّة
التي رَكَّزَتْ على تَحقيقِ الأهدافِ والغَاياتِ مِنْ خِلالِ الوَسائلِ الأكثر
فَعَالِيَّة ، ورَأى أنَّها أدَّتْ إلى تهميش القِيَم الإنسانيَّة والمُجتمعية .
وعَلى الرَّغْمِ مِنَ الاختلافاتِ بَيْنَ
أجيالِ مَدرسةِ فرانكفورت ، بسبب الاعتباراتِ التاريخية والظُّروفِ المَعيشيةِ
وتَبَايُنِ طَبيعةِ الناسِ وَعَادَاتِهم ، إلا أنَّ فلاسفة المَدرسةِ لَمْ
يَعتمدوا على التَّقليدِ الأعمى والنَّسْخِ والاتِّبَاعِ والتَّكْرَارِ ، وهَذا
سَاهَمَ في تَكوينِ نظريات مُتَجَدِّدَة باستمرار . وهَذه النَّظرياتُ ذَات
هُوِيَّة مَركزية تَرتبط بالتُّراثِ الفلسفيِّ الغَرْبيِّ بِكُلِّ تَشَابُكَاتِهِ
وتقاطعاتِه ، بَعْدَ إخضاعِه للنَّقْدِ والغَرْبَلَةِ والتَّصْفِيَة .
لَقَدْ وَرِثَ هابرماس عَن مَدرسةِ
فرانكفورت تقاليدَها في نَقْدِ الحَداثةِ التي كَشَفَتْ عَن الجَوانبِ
المُدَمِّرَة للعَقْلانيَّةِ وآلِيَّاتِ السَّيطرةِ والضَّبْطِ التي قَدَّمَتْهَا
المَعرفةُ التِّقنية للسُّلطةِ ، وأسَّسَ فَلْسَفَتَهُ عَلى التُّراثِ
النَّقْدِيِّ لِفلاسفةِ مَدرسةِ فرانكفورت ، حَيْثُ فَتَحَ الفَلسفةَ
المُعَاصِرَةَ عَلى فِكْرَةِ التَّوَاصُلِ والسُّلوكِ الاتِّصَاليِّ بَيْنَ أبناءِ
الحَضاراتِ المُختلفة ، مُحَاوِلًا تَحليل أسباب ونتائج العَواملِ التي تُهَدِّد
الحَيَاةَ الإنسانيَّة فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا . كما أنَّهُ اعتمدَ على اللغةِ
بِوَصْفِهَا فِكْرًا وسُلوكًا اتِّصَالِيًّا لِتَحقيقِ الحِوَارِ والتَّفَاهُمِ
بَيْنَ البَشَرِ، وُصُولًا إلى تَحقيقِ حَالةِ السِّلْمِ الاجتماعيِّ في ظِلِّ
الاختلافاتِ العَقَائِدِيَّةِ والثقافيةِ ، والتَّبَايُنَاتِ الطَّبَقِيَّةِ ،
وتَرسيخِ قِيَمِ الحُرِّيةِ الفِكْرية والعَدالةِ الاجتماعيَّة .