يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي ( 303 ه _ 354 ه / 915 م _ 965 م ) أعظمَ شُعَراءِ
اللغةِ العربيةِ على الإطلاق . تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ
المُلوكِ،وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ
والحُروبِ . لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب ، بَلْ جَعَلَها
مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى
في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ . وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ ، لَمْ
يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها ، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها ، لكنَّه يَرى فِيها
قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا ، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا
بالتَّضحية ، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ .
والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا
بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ
أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ،
وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ ، فالشَّريفُ
يَزداد شَرَفًا ، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته ، وَهِيَ الطريقُ إلى
المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي ، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ
الإنسانيَّة . لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ
الناسِ .
حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ
حَيَّة ، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ
كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في
الرِّمالِ ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ
المَشْهَدَ وَيُجسِّده ، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ ، وَيَرى
لَمَعَانَ الدُّرُوع .
والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ
الإنسانِ والأُسطورةِ ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر ، وَيُقيم عَدْلًا ، وَيَصْنع
اسْمًا ، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ . والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ
بابتسامةِ الكِبْرياءِ ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ
والعَقْلِ والدَّهَاء .
وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ ،
تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة ، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا ، بَلْ وسيلة لإثباتِ
الذات ، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ ، وَمَنْ لَمْ
يُغَامِرْ ، ماتَ صغيرًا ، حتى لَوْ عاشَ طويلًا . وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ
الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ
، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ
بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ . والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ
الرَّمزيِّ ، لا مُجرَّد نَصْر مادي .
نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة
مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ،
الطُّمُوح واليأس ، المَجْد والدُّونِيَّة . وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ ،
سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال ، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة .
وَيُعْتَبَرُ هوميروس ( القرن التاسع قبل
المِيلاد ) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم ، وَهُوَ الشاعر المَنسوب
إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة ، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ
أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته
الأدبية ، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة .
قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ،
بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة،
تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم ،
فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة ، وَهِيَ لَيْسَتْ
صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ
قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام ( كما في شخصية أَخِيل )، والوَلاء للوطنِ
والرِّفَاقِ ( كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة ) ، والسَّعْي نَحْو المجدِ
الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ .
وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ ، يُظْهِرُ
فَظاعةَ الحَرْبِ ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل
حَيَّة وَمُؤلِمة ، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ ، وَبُكَاءَ
الأحِبَّةِ على القَتْلَى . فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ ،
وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين . وهَكذا ، تَبدو الحربُ
عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة ، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا
تَلْتهم الأبطالَ .
والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا ،
بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا
الطرفِ أوْ ذلك ، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ
نَتيجة لاختياراتِ البشر . ومعَ ذلك ، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ
ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا
وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.
وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع،
حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة ، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ
، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ
كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ
دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ
الأبطالِ ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم ، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ
والحُضُور .
والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا
ولا مَجْدًا خَالِصًا ، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ
والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء ، المَجْد والحُزْن . وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ
الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن
الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ، مِثْل احترامِ
الجُثَثِ ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها ، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ
والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ .
