لَيْسَ
النَّقْدُ الأدبيُّ مُجرَّد أدواتٍ إجرائية تُسْقِطُها القِراءةُ على النُّصُوصِ ،
بَلْ هُوَ رُؤيةٌ للعَالَمِ ، وَمَوْقِفٌ مِنَ اللغةِ ، وطَريقةٌ في مُساءلةِ
التاريخِ والإنسانِ معًا . وَمِنْ هُنا تَتجلَّى أهميةُ المُقارَنةِ بَيْنَ
نَاقِدَيْن يَنْتميان إلى فَضَاءَيْن ثقافِيَّيْن مُخْتَلِفَيْن ، لكنَّهما
يَلتقيان عِندَ جَوْهَرٍ واحدٍ ، وَهُوَ البَحْثُ عَنْ مَعنى الأدبِ في سِياقِه
الإنسانيِّ الواسعِ .
إحسان عَبَّاس ( 1920_ 2003 ) الناقدُ
الفِلَسْطِينيُّ المَوْسُوعيُّ، وإريك أُورباخ ( 1892_ 1957 ) العَالِم اللغوي
الألماني الكبير ، يُمثِّلان نَمُوذَجَيْن مُتَكَامِلَيْن لِفَهْمِ النَّصِّ
الأدبيِّ عَبْرَ التاريخِ، بَيْنَ خُصوصيةِ التُّراثِ وكَوْنِيَّةِ التَّجْرِبَةِ
الإنسانية .
انبثقتْ تَجْرِبَةُ عَبَّاس مِنْ قلبِ
الثفافةِ العربية ، مُتَّكِئَةً على تُراثٍ مُمْتَدٍّ ، ومَشحونةً بأسئلةِ
النَّهْضَةِ ، والهُوِيِّةِ، وإشكالاتِ القِراءةِ الحَديثةِ للقَديمِ ، وَقَدْ
كانَ ابْنَ المَدرسةِ التُّراثيةِ الصارمةِ في أدواتِها ، الحَديثةِ في أسئلتها .
وَجَمَعَ بَيْنَ التَّحقيقِ العِلْمِيِّ للنُّصُوصِ ، والوَعْيِ النَّقْدِيِّ
المُتَجَدِّد . أمَّا أورباخ ، فَقَدْ تَشَكَّلَتْ رُؤيته في رَحِمِ الفيلولوجيا (
فِقْه اللغة ) الأوروبية ، حَيْثُ النُّصُوص تُقْرَأ بِوَصْفِها وثائق ثقافية ،
تَكشِف عَنْ تَحَوُّلاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ عَبْرَ العُصورِ .
يَخْتلفُ المُنْطَلَقُ الحَضاريُّ ، لكنَّ
القلقَ المَعرفيَّ واحدٌ : كَيْفَ نَفْهَمُ الأدبَ ؟ ، وكَيْفَ نَقرأ النَّصَّ في
ضَوْءِ التاريخِ دُون أنْ نَخْتزله في التاريخِ ؟ . يَرى عَبَّاس أنَّ النَّصَّ
الأدبيَّ كِيَانٌ لُغَوِيٌّ مُستقِل ، لا يُفْهَمُ إلا عَبْرَ لُغَتِه وبيئته ، لكنَّه
في الوَقْتِ نَفْسِه نِتَاجُ سِياقٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ ، لذلكَ كانَ حريصًا على
التَّوَازُنِ بَيْنَ التَّحليلِ الداخليِّ للنَّصِّ والوَعْيِ الخارجيِّ بِظُرُوفِ
إنتاجِه . وَلَمْ يَكُن التاريخُ عِندَه سُلطةً قاهرةً على النَّصِّ ، بَلْ
أُفُقًا يُضِيءَ دَلالاتِه .
مَنَحَ أورباخ التاريخَ مَكانةً مَركزيةً في
فَهْمِ الأدبِ ، لكنَّه لَمْ يَتعاملْ مَعَهُ كَخَلْفيةٍ جامدةٍ ، بَلْ كَقُوَّةٍ
دِيناميَّةٍ تَتجسَّد في الأُسلوبِ ، وَطَرائقِ تَمثيلِ الواقعِ . واللغةُ عِندَه
لَيْسَتْ أداةً مُحَايِدة ، بَلْ هِيَ سِجِلٌّ لِتَحَوُّلاتِ الرُّؤيةِ الإنسانيةِ
. وَمِنْ هُنا جاءتْ تَحليلاتُه العميقةُ للفُروقِ بَيْنَ النُّصُوصِ .
تَمَيَّزَ مَنْهَجُ عَبَّاس بِصَرامةٍ
عِلْميةٍ واضحة، خاصَّةً في مَجالِ التَّحقيقِ والنَّقْدِ التاريخيِّ ، لكنَّه
لَمْ يَقَعْ في جُمودِ المَدرسةِ التَّقليدية . كانَ مُنْفَتِحًا على المَناهجِ
الحَديثةِ ، دُون أنْ يَستسلمَ لَهَا بشكلٍ أعمى . تَعَامَلَ مَعَهَا بِوَصْفِها
أدواتٍ قابلة للتَّطْويع ، لا قَوالِب جاهزة تُفْرَضُ عَلى النَّصِّ فَرْضًا .
اتَّسَمَ مَنْهَجُ أورباخ بِشُموليةٍ
إنسانيةٍ لافتةٍ . لَمْ يَلتزمْ بِمَنهجٍ واحدٍ صارمٍ ، بَلْ بِنَظْرةٍ تَركيبيَّة
تَجْمَعُ بَيْنَ التَّحليلِ اللغويِّ والرُّؤيةِ التاريخيةِ والحِسِّ الجَمَاليِّ
. كانَ يَقْرَأ النُّصوصَ بِوَصْفِها تَمْثيلات للواقعِ لا مَرايا تَعكِسه
حَرْفِيًّا ، وهَذا يَعْني أنَّ النُّصُوصَ أشكالٌ فَنِّية تُعِيدُ تَشكيلَ
الواقعِ .
وَقَفَ عَبَّاس عِندَ مُفْتَرَقِ طُرُقٍ
بَيْنَ التُّراثِ والحَداثةِ. لَمْ يَعْتَبِر التُّراثَ مادةً للتَّقديسِ ، ولا
عِبْئًا للتَّجَاوُزِ، بَلْ مَجالًا للفَهْمِ النَّقْدِيِّ ، لذلكَ دَعا إلى
قِراءةِ التُّراثِ قِراءةً تاريخية واعية ، تُميِّز بَيْنَ مَا هُوَ حَيٌّ وَمَا
هُوَ مُنْقَضٍ . ورَأى أنَّ الحداثةَ الحقيقية لا تُبْنَى على القَطيعةِ ، بَلْ
على الفَهْمِ العميق .
أمَّا أورباخ، فكانَ التُّراثُ الغَرْبيُّ
أمامَه سِلْسِلَةً مُتَّصِلة مِنَ التَّحَوُّلات، لا انقطاعات حَادَّة فيها.
الحَداثةُ عِندَه نَتيجةُ تَرَاكُمٍ تاريخيٍّ ، يَظْهَر في تَطَوُّرِ الأساليبِ
والمَوضوعاتِ، لا في إعلانِ القَطيعةِ معَ الماضي.وَمِنْ هُنا جاءتْ نَظْرَتُه
المُتصالِحة معَ التاريخِ التي تَرى في الأدبِ مَسارًا إنسانيًّا طَويلًا.
يَلْتقي الناقدان عِندَ نُقْطَةٍ جَوهرية :
مَركزية الإنسانِ . عَبَّاس ، رَغْمَ اشتغالِه الدَّقيقِ بالنُّصُوصِ ، لَمْ
يُغْفِل البُعْدَ الإنسانيَّ للأدبِ ، وَرَأى أنَّ القيمة الحقيقية للنَّصِّ
تَكْمُنُ في قُدرته على التَّعبيرِ عَنْ تَجْرِبَةٍ إنسانية صادقة. وأورباخ جَعَلَ
مِنَ الإنسانِ مِحْوَرِ مَشروعِه النَّقْدِيِّ كُلِّه ، فالأدبُ عِندَه سِجِلٌّ
لِتَحَوُّلاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ ، وَتَمثيلٌ لِمُعاناةِ البَشَرِ وأحلامِهِم
عَبْرَ الزَّمَنِ .
قَدْ يَبْدو المَنهجُ النَّقْدِيُّ بَيْنَ
عَبَّاس وأورباخ مُختلِفًا في أدواتِه وَمَساراتِه ، لكنَّه يَلْتقي في غايته
الكُبْرى ، فَهْم الأدبِ بِوَصْفِهِ فِعْلًا إنسانيًّا مُرَكَّبًا يَتجاوزُ حُدودَ
اللغةِ والزَّمَنِ . وكِلاهُما قَدَّمَ دَرْسًا بَالِغَ الأهميةِ، لا نَقْدَ بِلا
مَعرفةٍ عَميقةٍ بالنَّصِّ، ولا قِراءة حقيقية دُون وَعْيٍ بالتاريخِ، ولا قِيمة للأدبِ
إذا انفصلَ عَن الإنسانِ .
والمُقَارَنَةُ بَيْنَهما لَيْسَتْ تَرَفًا
فِكْريًّا ، بَلْ ضَرورة لِفَهْمِ كَيْفَ يُمكِن للنَّقْدِ أنْ يَكُونَ جِسْرًا
بَيْنَ الثقافاتِ ، وَحِوَارًا بَيْنَ التُّراثِ والحَداثةِ ، وَصَوْتًا للعَقْلِ
وَهُوَ يُفَتِّشُ بِلا كَلَلٍ عَنْ مَعْنى الجَمالِ والحقيقةِ في الكَلِمَات .
يُمثِّل عَبَّاس وأورباخ نَمُوذَجَيْن مُتَمَايِزَيْن في النَّقْدِ الأدبيِّ ، يَجْمعهما العُمْقُ المَنهجيُّ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهما السِّياقُ الثقافيُّ وأدواتُ التَّحليلِ . اعتمدَ عَبَّاس مَنهجًا تاريخيًّا تَحْقيقيًّا يَقُومُ على ضَبْطِ النَّصِّ وَتَوْثيقِه ، وَرَبْطِه بِسِيَاقِهِ الثقافيِّ والحَضَاريِّ العَرَبيِّ ، معَ عِنايةٍ صارمةٍ بالمَخطوطاتِ ، وَتَطَوُّرِ الأجناسِ الأدبيةِ ، وَهُوَ مَا يَتجلَّى في أعمالِهِ حَوْلَ الشِّعْرِ العَرَبيِّ والنَّقْدِ التُّراثيِّ . أمَّا أورباخ فَأسَّسَ مَنهجًا أُسلوبيًّا تَمْثيليًّا مُقَارَنًا ، يَدْرُسُ طَرائقَ تَمثيلِ الواقعِ في الأدبِ الغَرْبيِّ عَبْرَ تَحليلٍ دَقيقٍ للأُسلوبِ واللغةِ داخلَ نُصُوصٍ مِفْصَلِيَّةٍ ، معَ مَيْلٍ أقَل إلى التَّحقيقِ النَّصِّي ، وأكثر إلى القِراءةِ التأويلية العابرةِ للعُصور .
