هل تتكرر ثورة يوليو 52 في مصر ؟
إبراهيم أبو عواد
نشرت في جريدة القدس العربي
لندن ، 4/3/2010م .
إن الناظر في أحوال مصر هذه الأيام يرى حراكاً سياسياً شديد الزخم ، فيبدو أن الشعب الغريق صار يستشعر عمق المستنقع الذي يحيا فيه حياة البؤس والفساد الضارب جذوره من رأس هرم السلطة حتى القاعدة .لذلك فإن الناس راحوا يتعلقون بأي طوق نجاة سواءٌ كان صالحاً أو غير صالح ، لأن الغريق لا يقدر أن يفرض شروطه على الآخرين ، فهو في موقف ضعيف لا يؤهله لأن يحدد نوعية طوق النجاة . وفي ظل هذه الأجواء المشحونة تم تصوير مجيء البرادعي إلى مصر كمجيء مالك الحلول السحرية ، وصاحب الخلاص السياسي القادر على نقل مصر إلى العالم الأول، وإيجاد الوصفة الخارقة التي تنقل المجتمع من الانهيار الشامل إلى التقدم الحتمي . وهذه الصورة السينمائية طبيعية في مجتمع عربي عاطفي اعتاد على تحكيم الأحاسيس المرهفة في العمل السياسي ، والتصفيق للحق والباطل ، والهتاف للزعيم الفاتح بسبب ودون سبب . فالبنية الاجتماعية العربية المتخلفة غير مستعدة لتداول سلمي للسلطة ، وتطبيق مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب ، وتعزيز مبدأ المشاركة السياسية ، وإنشاء دولة القانون والمؤسسات ، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع عبر انتخابات حرة ونزيهة . ونحن هنا لا نقلل من قيمة البرادعي كعالم ومفكر وسياسي دولي وصاحب كفاءة وخبرة في الإدارة. ولكن من قال إن الوطن العربي مستعد لاستقبال الكفاءات وأصحاب العقول اللامعة ؟. فمن يطالع نسب تهجير الأدمغة العربية إلى أمريكا وأوروبا سيصاب بالذهول المرعب ، وسيتأكد أن هناك خطة منهجية من قبل الأنظمة العربية الحاكمة لطرد أصحاب الكفاءات لكي يظل الشعب غارقاً في جهله كقطيع الغنم يُساق إلى الذبح دون أن يعترض . فالنظرية الفلسفية التي يعتنقها الحاكم العربي ولا يحيد عنها هي : إن العقل المفكر يشكل خطراً على نظام الحكم، وبالتالي ينبغي التخلص منه . ونظرة سريعة إلى وزن العلماء العرب والمسلمين في الغرب تؤكد هذه الحقيقة . فعلى سبيل المثال لا الحصر : إن الدكتور أحمد زويل ( مصري يحمل الجنسية الأمريكية ) من أهم العلماء في العالم ويحمل جائزة نوبل في الكيمياء ( 1999م ) . وأشهر جراح قلب في العالم هو الدكتور مجدي يعقوب ( مصري يحمل الجنسية البريطانية ).وأشهر مهندسة معمارية في العالم هي زها حديد ( عراقية تحمل الجنسية البريطانية ) . ومن أبرز علماء الجيولوجيا في العالم الدكتور فاروق الباز الذي ساهم في وصول الإنسان إلى القمر ، وهو أيضاً مدير معهد الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن ( وهو مصري يحمل الجنسية الأمريكية ) .وما أود أن أصل إليه من خلال الأمثلة السابقة هو عدم قدرة الوطن العربي على احتضان أصحاب الكفاءات القادرين على الإدارة وإحداث التغيير، لأن النظام السياسي العربي تم تصميمه وفق العقلية البدوية العشائرية والعصبية القبلية والارتماء في أحضان أمريكا التي تمنح القمح ، وتفرض شروطها ، وتدير شؤون الأمة العربية بأجهزة التحكم عن بعد . فالهتاف للبرادعي يأتي في إطار صرخة الغريق ولا يأتي في إطار العمل السياسي الواعي ، لأن البرادعي لا مكان له في النظام السياسي المصري . فالدستور المصري تم تفصيله لتكريس الحكم الفرعوني حتى يوم القيامة، وتعزيز سلطة الزعيم الأوحد الحاكم بأمر الله المدعوم خارجياً . خصوصاً أن هذه التوجهات البوليسية تنال القبول في أمريكا وإسرائيل اللتين توفران الغطاء الشرعي للنظام المصري في المحافل الدولية مقابل خدماته الجليلة مثل : القيام بعمليات التطهير العِرقي بحق أهل غزة ومحاصرتهم لكي يموتوا في صمت دون إزعاج ضمير الشرعية الدولية والعالم الحر ، وإهداء الغاز المصري لإسرائيل مجاناً أو بسعر رمزي كعربون محبة وسلام ، وتجويع الشعب المصري الذي يموت على طوابير الخبز ، وفتح المنتجعات السياحية للسياح الإسرائيليين وإغلاقها في وجه المصريين ، وتحويل الدولة المصرية إلى بلدية تابعة لتل أبيب . لكن السؤال الحاسم الذي يفرض نفسه : لماذا يقوم الرئيس المصري بكل هذه الخدمات المجانية مع أنه على حافة قبره ( 82 سنة )، ومستقبله السياسي أضحى وراءه، وفقد كل أوراقه ، ولا يعرف ماذا يحدث حوله ، فهو يعيش على الإبر المقوية لكي يقدر على المشي ، ويصبغ شَعره لكي يبدوَ في عنفوان الشباب . والجواب يتمحور حول سعي الرئيس المصري لنيل رضا أمريكا وإسرائيل لكي تسمحا بتولي جمال مبارك الحكم بعد وفاة أبيه . لكن المفاجأة غير السعيدة بالنسبة لأصحاب مشروع التوريث هي أن جمال مبارك _ رغم تلميعه وتقديمه للأمريكان كرجل المرحلة _ لا يقدر أن يحكم مصر لانعدام خبرته، وعدم وجود غطاء شعبي مستمد من الجماهير، وعدم امتلاكه خلفية عسكرية كرؤساء مصر بعد ثورة يوليو 52 . وهذه النقطة الأخيرة تقلق أمريكا وإسرائيل بشكل بالغ ، لأن مصر هي الدولة العربية المركزية . فهي إذا تحركت تحرك العرب ، وإذا ماتت مات العرب . ووجود قيادة ضعيفة مهزوزة مثل السيد جمال مبارك في سدة الحكم قد يعرض المصالح الصهيوأمريكية للخطر . والوضع في المنطقة العربية لا يحتمل مغامرات غير محسوبة ، أو عمليات تجريب . وفي ظل هذا الأفق المسدود يظهر الحل الأكثر رومانسية في دول العالم الثالث البدائية وهو قلب نظام الحكم عسكرياً. وهذا ليس غريباً على مصر وباقي الأقطار العربية ، فتاريخها حافل في الانقلابات العسكرية . لكن البعض قد يستبعد حدوث انقلاب عسكري في مصر بسبب هدوء الجيش وابتعاده عن التجاذبات السياسية ومشاريع تأييد التوريث ومعارضته . وهذه هي مركز الخطورة لأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة ، والنار التي تحت الرماد ، فالصمت هو المخيف لا الجعجعة . وكل انقلاب عسكري إنما يتأسس على عنصر المفاجأة والمباغتة، خصوصاً أن الوضع المصري قد يمهد الطريق لحدوث عمل ضخم على غرار ثورة يوليو 1952م لعدة أسباب من أهمها : ضعف قبضة الرئيس المصري بحكم الشيخوخة والانهيار الصحي ، وانفتاح شهية الطامعين في الحكم المقتنعين بقرب نهاية حقبة مبارك، وفق مبدأ " إذا وقع الجمل كثرت السكاكين " ، ووفق نظرية تمرد التلميذ على الأستاذ . فقد رأينا الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي كيف انقلب على أستاذه العجوز المريض بورقيبة في عام 1987م عندما سنحت له الفرصة لتنحيته واستلام زمام المبادرة . وهذا الدور قد يلعبه في مصر مدير المخابرات عمر سليمان أو قائد القوات المسلحة أو حتى رئيس مباحث أمن الدولة بحكم كثرة الأوراق في أيديهم ، وخبرتهم الأمنية في تجذير الدولة البوليسية ، وقمع الحركات الإسلامية التي تشكل خطراً على الاحتلال الصهيوني ومشاريع الهيمنة الغربية ، واتساع دائرة نفوذهم وأتباعهم ، وارتباطهم بعلاقات وثيقة مع الغرب وإسرائيل . بل إن أتباع هذه المؤسسات الأمنية من الصف الثاني والثالث قادرون _ بحكم خبرتهم _ على قلب نظام الحكم رغم رتبهم العسكرية المتدنية نسبياً . وأمامنا ثورة يوليو التي قادها ضباط شباب من رتب عسكرية منخفضة . فجمال عبد الناصر كان آنذاك في الأربعين تقريباً ، وأنور السادات في بداية الثلاثينات من العمر . لذلك فمن المؤكد أن حقبة الرئيس مبارك قد انتهت ، وأن الانقلاب العسكري _ على الأرجح _ قادم على غرار ثورة يوليو 1952م ، لكن الأمر قد يستغرق بعض الوقت لتحديد لحظة الانقضاض ، والانتهاء من حبك خيوط اللعبة . وهذا سيدشن عودة الوطن العربي إلى عصر الانقلابات في الدول المركزية ذات الثقل . والذي يدعم هذه الرؤية الإستراتيجية فشل الدولة العربية في تحقيق أي نجاح، وسير المجتمع بأسره إلى الدرب المغلق ، وغياب أي أفق لعلاج مشاكل الناس الذين سيتحركون حين يتساوى عندهم الحياة والموت. وهذا ما نشاهده في جنوب اليمن ، وشاهدناه في دارفور سابقاً ، وما خُفي أعظم .