إن الإشكالية الكبرى في الفكر الشِّعري المعاصر هي ابتعاد القصيدة عن النبض اليومي للإنسان ، والهروب من مواجهة الحاضر الصادِم عن طريق استخدام رموز فلسفية موغلة في التجريد والرمزية بلا ضوابط، فأضحت القصيدةُ شيفرةً غير منطقية بحاجة إلى إيجاد حلول منطقية. فالكثيرون هَربوا إلى أنماط قصائدية موازية للعَدَم ، وهذا يتجلى في اختيار مواضيع هُلامية وفوضوية تحت ذريعة الحداثة وما بعد الحداثة . وهذه الأنماط العابثة هي ردةُ فعل فظيعة لمتاهة الإنسان المعاصر في عالَمه ذي الأنساق المعقَّدة والقيمِ المضادة للمعنى . فانعكس غيابُ المعنى في الواقع المادي الشرس على كثير من القصائد ، والتي أضحت نسقاً لفظياً بلا معنى . وهذا أدى إلى انكماش جمهور الشِّعر ، وانحسار دَوْره التاريخي في صناعة الأحداث وتخليدها . وهكذا نجد أن العبارة الشهيرة " الشِّعر ديوان العرب " أضحت محل تساؤل وتشكيك في وقتنا المعاصر ، وهي التي ظلت طيلة قرون مُسلَّمة لا تَقبل النقاش ، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق المأزق الذي تعيشه القصيدة العربية الراهنة ، والتي صارت رَجعَ صدى للشِّعر الإنجليزي أو الفرنسي دون هوية مستقلة ومميَّزة . لذا فإن الشِّعر العربي عليه _ قبل البحث عن جمهور _ أن يبحث عن هويته الشخصية النابعة من حضارته الذاتية . وهذه المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الشعراء الحقيقيين الذي لم يَقعوا في فخ " عُقدة الخواجة " ، ولم يسقطوا ضحية فلسفة " المغلوب مُولَع بتقليد الغالب " .
والقصائد الهلامية التجريدية الملتصقة بالعبث هي محاولة مكشوفة للهروب من الاصطدام مع الواقع الضاغط ، وعدم التطرق للاستحقاقات الحياتية الفاعلة في معيشة الفرد . ومن هنا تنبع أهمية نقل القصيدة من موازاة العَدَم الفلسفي إلى أنوية فكرية تَرجُّ المجتمعَ رَجَّاً ، ليس بهدف قتله بل إحيائه . وبالتالي فإن تجذير الوعي الاجتماعي الشامل داخل أنسجة القصيدة هو طوق النجاة للشِّعر الذي يُمثِّل آخرَ معاقل الحلم المؤمن بالقضايا الكبرى . وكلما التصقنا بالدلالة المنطقية للفضاء الشِّعري ، سيطرنا على اشتعالات الذات القصائدية المساهمة في صياغة كائن حي جديد ، وجدير بأن يُنسَب إلى الحياة .
لذلك ينبغي صعق الفرد والجماعة بكهرباء الشِّعر من أجل إخراج المجتمع البشري من غرفة العناية المركزة إلى شمس الحياة وليس تراب المقابر . ولا يخفى أن الأداء اللغوي يستمد طاقته الإبداعية من المجتمع الحي لا الميت. وإن إحياء الأموات الذين يتحركون في المجتمع بلا بوصلة، من شأنه أن ينعكس على طبيعة القصيدة التي ستعود إلى الحياة من أجل استكمال دورها المحوري . فالقطارُ الشعري لا يتحرك إلا بالوقود المستمد من ثورة الناس _ المجازية والواقعية _ . وبالطبع ، فإن الأحياء _ وَحْدَهم _ هم القادرون على الثورة والتغيير . وهكذا سيعود للشِّعر بريقه داخل الأنساق الاجتماعية والنظمِ الحضارية .