الفراغ العاطفي والفراغ السياسي
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن
التخبط الحاصل في العالم العربي خصوصاً في دول الربيع العربي لا يمكن اعتباره
مفاجأة أو صدمة مباغتة، فهذا أمرٌ متوقع نتيجة التركة الثقيلة المتراكمة عبر حقب
زمنية طويلة . فمثلاً ، إن الرئيس المصري
محمد مرسي هو أول رئيس منتخب في تاريخ مصر الممتد لأكثر من سبعة آلاف سنة ، وفي
هذا دلالة واضحة على حجم العقبات التي تواجه مصر في طريقها نحو التقدم والازدهار .
فالنظامُ السياسي المصري ما زال في مرحلة الطفولة وكذلك المعارضة، وهما بحاجة إلى
وقت كي يستوعبا شروط " اللعبة الديمقراطية" وأصولها وتفاصيلها الممتلئة
بالتحديات الجسيمة . والحال ينطبق على باقي دول الربيع العربي مع اختلاف الأشكال .
فالثوراتُ العربية المعاصرة كانت ولادةً قيصرية قاسية ، فهي عمل جماهيري عفوي
يفتقد إلى التنظيم الهرمي والتسلسل الوظيفي . فغيابُ رأس القيادة وعدم وجود هيكل
تنظيمي للثورات جعلا الأمور أكثر خطورةً ، ومرحلةَ البناء أكثر صعوبة ، مما أدى
إلى حدوث فوضى في الأنساق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . وهذا ليس أمراً
غريباً أو مقتصراً على الحالة العربية . فعلى سبيل المثال ، بعد الثورة الفرنسية
بقيت فرنسا في حالة فوضى وعدم استقرار لأكثر من عشر سنوات . وبالطبع ، فهذا ليس
تبريراً للفوضى في البيئة العربية أو شرعنة للتخبط الشامل في أشكال الحياة العامة
، فلا وقت للتقاعس ، أو البكاء على الأطلال ، أو التقصير في بناء الإنسانِ وتشييد
دولة الحق والعدالة والمساواة . فعلى الذين غُيِّبوا في كهوف الظلم والاستبداد ثم
خرجوا إلى النور أن يتأقلموا سريعاً مع نور الشمس لئلا يحترقوا به، ويقودوا مسيرة
التقدم عن طريق البناء على إيجابيات الماضي ، وتطهير المجتمع من تراكمات الخوف
والكراهية والشطط الطبقي ، فلا يمكن أن تتحقق النهضة في مجتمع متناحر مبني على
الحقد ، وذلك لأن الانقسام يعمل على تفتيت الجهود الإنسانية وتقطيع أوصال المجتمع
، فيصبح الكلُّ ضد الكل ، وتغدو مفاهيم التربص والانقضاض والابتزاز السياسي أصولاً
للحياة الإنسانية ، وهذا يمنع بناء قاعدة اجتماعية تحضن النظام السياسي ، وتمنحه
الشرعية والدافعية . وهكذا تخسر السُّلطة والمعارَضة معاً .
إن تاريخ الأنظمة السياسية في الحضارة العربية الإسلامية شديد الالتباس ،
وينبغي إعادة دراسته بأسلوب علمي يوضِّح نقاطَ القوة ونقاطَ الضعف ، وذلك من أجل
الاستفادة من عناصر النهضة وتجاوز عوامل الانهيار، وعدم الوقوع في فخ " تجريب
المجرَّب " . فلا ينبغي للعاقل أن يُلدَغ من جُحرٍ مرَّتين ، خصوصاً إذا كان
سياسياً تسير خلفه الجماهير . وعندما يظهر في تاريخنا مصطلح " المستبد العادل
" ، فهذا مؤشر على وجود أزمة حقيقية في تاريخ الفكر السياسي تستلزم إعادة
تقييم دور الأنظمة الحاكمة المتعاقبة بما لها وما عليها . وجميعُ أسباب الانهيار
السياسي مرجعها إلى غياب فكرة " التداول السلمي للسُّلطة " .
ويمكن تلخيص أهم عوامل سقوط الأنظمة الحاكمة وانكسار الحضارات على الشكل
التالي :
1_ غياب سياسة الحوار وعدم تعميمها بين طبقات الشعب ، وأيضاً غياب التواصل
بين قاعدة الهرم الاجتماعي ورأسه . فحينما تتشبث السُّلطة برأيها وتفرضه على الشعب
، فإنها بذلك تخسر الشعبَ ، وتحشره في زاوية الحقد . وهذا الاستبدادُ بالرأي يؤدي
_ بالضرورة _ إلى إقصاء الشعب من المشاركة السياسية ، وتحويل الدولة إلى شركة تجارية
تدر أرباحاً على منافقيها دون النظر إلى الغالبية المسحوقة .
2_ ظهور مفاهيم طائشة تتعلق بضرورة سيطرة الأغلبية على الأقليات وقمعها
وإقصائها من المشهد العام بكل حيثياته . وهذا يقابله سعي الأقليات إلى التوحد
لإسقاط الأغلبية بالتعاون مع جهات خارجية داعمة .
3_ اعتماد النظام السياسي على القهر والبطش والغلبة . وهذا جعل الفكر
السياسي يتمحور حول ثنائية ( الغالب / المغلوب ) . وهذه نتيجة منطقية لشرعية السيف
بدلاً من شرعية صناديق الاقتراع . وبما أن الحياة يومٌ لك ويومٌ عليك ، إذن فلا بد
للغالب أن يصبح مغلوباً والعكس صحيح ، وعندئذ يحدث الانتقام وتصفية الحسابات ،
ويدخل المجتمع في دوامة الثأر بلا نهاية .
إن الأمة العربية لن تنجح إلا إذا درست تاريخها واستفادت منه ، واستوعبت
تجارب الأمم الأخرى. ومهما حصل من أزمات وفوضى وحروب في الجسد العربي فلن تتوقف
عقارب الساعة ، وستشرق الشمسُ مرةً أخرى. فكثير من دول العالم عانت أكثر بكثير من
الأمة العربية ، ومع هذا قامت من الحضيض . فمثلاً ، قد خسرت إسبانيا نصف مليون
قتيل في الحرب الأهلية ( 1936م _ 1939 م ) ، وخسرت أمريكا ستمائة ألف
من أبنائها في الحرب الأهلية (1861م _ 1865م) عدا عن الجروح النفسية العميقة بين
الشمال والجنوب . ولا يمكن نسيان الحربين العالميتين اللتين مسحتا أوروبا، ومع هذا
قامت أوروبا لتصبح قوةً عظمى ، وعلى رأسها ألمانيا ! .
لقد ولى الزمن الذي كان فيه الحاكم العربي يسوق شعبَه بالصولجان . وقد ثبت
فشل هذه السياسة ، ولم تنفع في تثبيت العروش . فبإمكانك أن تجبر الحصانَ على
الذهاب إلى النبع ، ولكن لا يمكنك أن تجبره على الشرب . وهذا يشير إلى أهمية
الإرادة الداخلية . فالحاكمُ العربي المستبد قد يشتري ولاء الناس بأموالهم فيتحكم
بألسنتهم وأجسامهم ، لكنه لا يقدر على امتلاك قلوبهم إلا بالحب الحقيقي والتضحية
من أجلهم . وهذا الكلام ليس قصيدةً رومانسية لملء الفراغ العاطفي الذي صار خندقاً
بين الحاكم والمحكوم ، وإنما كلام واقعي في بُنية الفكر السياسي . فما الذي يجعل نظاماً
سياسياً كالنظام الملكي البريطاني مستمراً منذ ألف عام حتى اليوم ؟! . وما هي
السُّلطة التي تملكها الملكة إليزابيث الثانية لكي تنضوي دولٌ عديدة مثل كندا
وأستراليا تحت التاج البريطاني وهما دولتان في آخر العالم ؟! . هل تملك إليزابيث
الثانية ميليشيات خاصة بها وأساطيل بحرية وأسلحة كيماوية لكي تجبر شعبها وشعوب
الدول الأخرى على المحافظة على عرشها وتاجها ؟! . إنها عاطفة الحب والمصلحة
والتاريخ .
إذن ، على الأنظمة السياسية العربية أن تعلِّم نفسها وشعوبها الحبَّ ،
وتردم الفجوة الوجدانية بين مكونات الشعب ، وتملأ الفراغَ العاطفي بالإنجازات
الحقيقية ، ليس بمعنى أن يحب الشاب ابنة الجيران ، أو نشر ثقافة الفيديو كليب بين
أوساط الجماهير، ولكن بمعنى أن يسيطر النظام السياسي على قلوب الناس ، وذلك
بخدمتهم وإنقاذهم من مشكلاتهم المتفاقمة ، وبناء دول حقيقية لا يهرب منها أبناؤها
ليصبحوا طعاماً لأسماك القرش في عُرض البحر . وهنا تكمن منفعة الحاكم والمحكوم ، فلا يمكن لأي نظام حاكم
أن يسقط إذا كان الشعب يحبه .
وإذا اختفى الحبُّ بين مكونات الهرم السياسي فإن المنطقة العربية ستغرق في
حروب طاحنة على أساس ديني ومذهبي وعِرقي ، ليس لها آخر . فموضوع السُّلطة شديد
الحساسية . ولنتذكر ما قاله الشهرستاني ( _ 548 هـ ) في كتابه الملل والنحل ( 1/
20 ) : (( ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على
الإمامة في كل زمان )) . ولتكن
هذه المقولة جرس إنذار للشعوب العربية على اختلاف عقائدها الدينية والسياسية .
https://www.facebook.com/abuawwad1982