مقدمة كتاب/ مشكلات الحضارة الأمريكية
تأليف : إبراهيم أبو عواد
تأليف : إبراهيم أبو عواد
إن هذا الكتاب محاولة سريعة لإلقاء الضوء
على خارطة المشهد السياسي العالمي، وتثبيت الوجود العالمي عبر دراسة الأزمات
المصيرية التي تهدد مستقبلَ أمريكا باعتبارها حضارةً مبنية على هوس الاستهلاك ،
والغلو في تبديد الطاقة .
فالاقتصاد
مبني على أسس غير سليمة تكرِّس الشططَ الطبقي ، وثنائيةَ السادة والعبيد ، وإجهاضَ
الروح والجسد ، والتمييز العنصري بين البيض والسود . وهذا الاضمحلال الحضاري
الشامل ناتج عن انحرافات جذرية في الفكر الإمبراطوري الذي يبتعد عن التوجه
الإنساني المستقيم . وكل هذه العوامل لا بد أن تؤثر سلباً على مسار الحضارة
الأمريكية ومصيرها .
ونحن إذ
ندرس بنية الفكر الإمبراطوري ، فإننا لا ندغدغ عواطفَ الناس ، أو نعمل على زراعتهم
في عوالم الخيال والوهم والهلوسة من أجل تخديرهم لكي يشربوا الأوهامَ ، ويرددوها
إلى درجة التصديق . بالطبع نحن لا نفعل هذا .
فالأزمة
الأمريكية في بنية اللفظ والمعنى متداولة _ بشكل أو بآخر _ في الأوساط الحكومية
الأمريكية ، والجامعات العريقة ، ومراكز الأبحاث. بل إن كثيراً من المفكرن
الغربيين _ الذين ليس لهم علاقة بالإسلام والعروبة وعلى رأسهم نعوم تشومسكي_
يتحدثون بصراحة عن غطرسة " العم سام " الخادعة، والسرابِ الجاثم على
عقول الأمريكيين الذين يعتقدون أن دولتهم مستمرة حتى نهاية التاريخ ، وانتهاءِ
الإمبراطورية الأمريكية ، والمؤشراتِ حول انكسار الحلم المستبد المؤدلَج عسكرياً ،
وغرورِ القوة ، والتموضعِ في بؤرة القوة الظاهرية . وهذا كلام الكثيرين من علماء
الغرب الذين يعرفون بنية الحضارة الغربية من الألف إلى الياء ، وليس كلامَ ابن
لادن أو أعداء أمريكا .
ويأتي هذا
الكتاب كتدقيق فلسفي تأصيلي ينحو منحىً سياسياً استشرافياً لمستقبل الوضع الأمريكي
داخلياً وخارجياً ، بعيداً عن الإيقاعات الصاخبة المفرغة من المعنى الفكري العميق
.
فلا بد لكل
دراسة جادة أن تشتمل على تطبيقات أنسنة المشاعر ، وتأصيلِ التيارات الإنسانية في
قدرة المعنى على التكريس والانطلاق . فالصورةُ الدموية لوأد الإنسانية المنتشرة في
كل أنحاء العالم تنبع من غبش الصورة الذهنية حول الأنا والآخر .
وبما أن
الحضارة الأمريكية تنظر إلى نفسها على أنها المركز الفكري العالمي ، ومن حولها
أطراف هامشيون ، فإن ردود فعل كثيرة نشأت باتجاهات مضادة للمشاريع الغربية مثل
العولمة ( الأمركة ) ، لأن كل ثقافة صارت ترمي إلى حماية نفسها .
وللأسف فإن
الغرب لا يرى وجوداً حقيقياً خارج أنطقة وجوده . وهذا أدى إلى تهميش الحضارة
العربية الإسلامية، والصينية ، والإفريقية ، واللاتينية في أمريكا الجنوبية .
فظهرت عمليات تقسيم منهجية للبشر كدرجة أولى وثانية وثالثة . وهذا غير منطقي في
مجتمع الخير المنشود .
والإشكاليةُ
الكبرى في هذا السياق أن أدبيات الأنظمة السياسية الإمبراطورية صاحبة المكانة
الدولية على مدار التاريخ ، تنتهج سياسة تثبيت الذوات كسادة . حيث يتم إقصاء
الآخرين ، وتجريدهم من قيم الحضارة والمعاني الإنسانية الراقية، وهذا يتنافى مع
مجتمع الأخوة البشرية.
فالانكسار
الحضاري العالمي المتقوقع على شكل فقاعة صابون أو بالون منتفخ ، سوف يزداد تشظياً
إذا لم يتم حل المشكلات جذرياً ضمن عالم متعدد الأقطاب والثقافات . فكل حضارة على
مدار التاريخ تظن نفسَها سيدة الأرض المطْلقة ، ما هي إلا تشكيل خيالي وهمي يشتمل
على بذور انهياره في أنويته الداخلية .
وواجب
البشرية جمعاء أن تعمل بكل نشاط لتفعيل العقل الجمعي الكَوْني لإعمار الأرض ،
وإسقاطِ العناصر الشاذة عن المسار الحضاري. وذلك عبر الانتقال من طور الدفاع
الاختزالي التراجعي أمام العناصر السلبية إلى طور الهجوم الفاعل ضد الأساطير التي
تتقمص شكلَ الحضارات . إذ إن انتهاج الأسلوب الضاغط في التعامل مع محورية التوازي
السياسي الوهمي هو الذي يُنَمِّي بذور الانهيار في داخل أنوية العناصر الوهمية ،
وبالتالي فإن السقوط الحتمي لمجتمعات الكراهية سوف يتكرس بكل دينامية ، وعلى الصعيدين الداخلي
والخارجي .
والسقوط
المعرفي الذي تعاني منه حضارات انكسار الحلم، واضمحلال المعنى لصالح عقيدة الأخذ
المتكرر ، هو السقوط الشامل للاستهلاك الجنوني لمتع الجسد على حساب متع الروح .
وهذه نقطة مهمة سوف نقوم باستعراضها من خلال التأسيس الذهني السياسي لحالة الحراك
الاجتماعي داخل بنية المجتمع الأمريكي. فهذا المجتمع الأمي من ناحية الثقافة
السياسية لا يهتم بالسياسة الخارجية ، وإنما كل تفكيره منصب حول نظامه الاستهلاكي
الصارم ، ومدى قدرته على تطويع الأداء الكلي لخدمة الفردية الأنانية السائرة
باتجاه مضاد للروح الإنسانية والبيئة بكل تجلياتها المعنوية والمادية .
وإن أية
دراسة تتناول المستوى المعرفي للتشريح الدلالي في بنية التراكيب الاجتماعية للأداء
السياسي الأمريكي ينبغي أن تعتمد منهجيةَ الوصول إلى بنية فكرية حاسمة ودقيقة من
أجل إعادة قطار كوكب الأرض إلى السكة الصحيحة .
ووفق هذه
القاعدة الثابتة المطردة تظهر أنساق دراستنا هذه كأداء فكري محوري يصب في خانة
الفعل الاستباقي الحازم ، وليس ردة الفعل العاطفية الخالية من المستوى العقلاني
للتحليل .
وكما أن
انحسار صيغة التفكير المنطقي في عالم مجنون وجامح سائر نحو الهاوية ، صار منطقاً
رسمياً للكثيرين، فإن قدرة الفرد على مواجهة مشاريع استئصال إنسانيته صارت تياراً
مقاوِماً رامياً إلى بعث الإنسان من قبره العالمي من جديد، وإحياء المعاني الميتة
في النفوس بشكل متفجر .
ولا يخفى أن
الانتكاسات المتكررة في أداء اجتماعيات السياسة على الصعيد العالمي ساهم_ إلى حد
بعيد_ في تجذير أنطقة التخلف الاجتماعي وفق صور إنسانية أكثر أنانية ، وأكثر
توغلاً في هوس الأخذ المتواصل . وللأسف فقد تحول الفردُ الذي يُفترَض به أن يعمر
الأرض إلى معول هدم في هذه الأرض، وهذا نابع من الاختلاط المريع في مفهوم الإنسان
كوحدة وجودية راقية . كما أنه نتاج طبيعي لحالة الاحتقان الفكري المأزقي العمومي
التي كرَّسها النظامُ الاستهلاكي المتوحش الذي أحال الفرد من صيغته الطبيعية إلى
كومة شهوات متضاربة موغلة في الشهوانية الفجة .
وهذا التحول
في المنهجية الإنسانية متزامن مع التحول الجدلي في الفكر السياسي العالمي الذي صار
يضع المدفع أمام الكلمة وليس العكس. وكل هذه العوامل قادت إلى الانهيار المرعب في
تقاطعات المنحى الإنساني التجريدي ، فصار الإنسان سائراً باتجاه مضاد لإنسانيته ،
حتى إنه أضحى مستعداً لسحق ذاته في سبيل نيل مكتسبات وقتية .
وبعد انهيار
الاتحاد السوفييتي صار للعالَم قطب واحد وهو أمريكا، وهذه المعلومة الواضحة صارت
مفروغاً منها من فرط تكرارها. وعلى الرغم من صحة المعلومة السابقة جزئياً إلا أن
مفهوم القطب يحمل عدة طبقات من صياغات المفاهيم.
فأمريكا هي
حجر الرَّحى الذي يدور حوله النظام السياسي العالمي ضمن واحدية الاستقطاب المنهجي
النَّفعي . ومع هذا فإن التصدعات العميقة في وجه أمريكا ككيان داخلي متواصل مع
الظواهر الخارجية تمتاز بالانسحابية اللامنطقية . أي تحول انكسار المعنى من
التموضع حول نقطة بؤرية مركزية محدَّدة إلى تيار انسحابي شامل يغطي كافةَ تضاريس
المعرفة الفكرية على صعيد تطبيقات عسكرة السياسة التي تقودها الرصاصة بدلاً من
الكلمة .
ومهما يكن
من أمر فإن التوغل في بنائية الرمز التكويني لحالة القطب الواحد لا بد أن يصل إلى
لحظة زمنية فارقة تمنعه من مواصلة التقدم، أي إن استمرارية الحفر في متوازيات
العمق ستتوقف لا محالة، ولن تستمر إلى ما لانهاية ، لأن الطاقة المرافقة للعَرَض (
الحالة الظاهرية الناتجة عن النواة الأصلية ) سوف تنتهي لا محالة بسبب استنفاد الطاقة
في قيمة الجوهر الأصلي( البيئة الأساسية لمنبع النواة البدائية الأولى ).
فالشمس _على
سبيل المثال _ لن تستمر في بعث الطاقة إلى ما لانهاية ، لأن حجم الانفجارات
والطاقة الموجودة على سطحها سيصل إلى نقطة التلاشي بسبب انعدام الإمداد ، وحينها
تسقط الشمس كشمس ، وتصبح لا قيمة لها .
وأمريكا هي
مركزية البؤر الأيديولوجية السياسية . لكن الإشكالية الصارمة تكمن في انقطاع
التواصل بين الجوهر الأصلي الأولي( وحدة النواة المركزية المنبع )، والظواهر
العَرَضية للأشكال المرئية . كما أن البنية الاجتماعية عبارة عن تيار مغلق على
الروح ، مفتوح على الاستهلاك المادي . وهذا يؤثر سلباً في مسار القوة ومصيرها .
وكلما تكونت
الأفكار في سياق المواجهة مع قيم النَّفي السالبية التي تتكرس وكأنها قيم إثبات
عالمية الدلالة والتثبيت ، نشأت قيم المقاومة للمشروع الانتكاسي الذي من شأنه إحالة
المعنى إلى لفظ مشوَّش ، وزراعة الكائن الحي في طور الشهوانية ، واللهاثِ وراء
نزواته الآنية ، وحصرِ تفكيره في دوائر الاستهلاكية المفعمة بسحق ذاتية الفرد
والمجتمعِ، لصالح إنشاء تيارات سياسية ناتجة عن زواج الثروة بالسلطة .
وتأتي هذه
الصور الفكرية في سياق دراستنا كتشريح رمزي واقعي واضح يستشرف المستقبلَ، ويضعه في
إطار المعنى الرسمي لأزمة الإمبراطورية الأمريكية الجوهرية .
وقد برزت
بنية الأزمات الحضارية العالمية على مسرح الأحداث الدولي بشكل صاعق . لأن التآكل
في الفكر المعرفي أدى إلى تآكل في المعنى الوجودي للكائنات الحية .
وعلى الرغم
من اعتقاد كثير من الباحثين أن الحضارة الأمريكية بدأت العد التنازلي ، فإننا نؤكد
أن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض . فالأنظمة التداخلية في الولايات
المتحدة شكلياً أنظمة مفتوحة تمتاز بحرية الاختيار . وهذا يعني أنها قادرة على
إجراء تصحيح ذاتي لمسارها في كل أزمة . إلا أن التأخر في العلاج سيؤدي إلى عدم
فاعلية الدواء . وهذا هو الحاصل على أرض الواقع .
والمشكلةُ
الأمريكية في علاج الأزمات تتمحور حول البطء الكارثي في إنتاج الفعل ورد الفعل ،
وهذا مرجعه إلى مراعاة نفوذ الطبقات الغنية المسيطرة على مفاصل البلاد دون النظر
إلى غالبية الشعب الذين هم مُهمَّشون ، وبعيدون كل البعد عن كواليس صناعة القرار
الأمريكي. وهذا أمر متوقع في الأنظمة الرأسمالية المغلقة المحصورة في أيدي طبقة
محدودة دون امتدادها إلى باقي طبقات المجتمع . وإذا استمر تكديس السلطة المالية _
وما يتفرع عنها _ في قبضة المتنفِّذين ، وحصر الأداء الاجتماعي بشتى أصوله وفروعه
في فئة ضيقة ، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى عواقب اجتماعية وخيمة تعمل على تفكيك
المجتمع ، وغياب البوصلة القائدة ، وفقدان روح الانتماء والولاء .