سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

14‏/01‏/2014

آيات القتل والقتال في القرآن الكريم / الجزء الثاني

آيات القتل والقتال في القرآن الكريم / الجزء الثاني

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم 

تأليف : إبراهيم أبو عواد .

.........................

} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَد مِنَ الْقَتْلِ {
 [ البقرة : 191]
     هذا أمرٌ إلهي للمسلمين بقتل المشركين حيث وَجدوهم في حِل أو حَرَم ، وتمكنّوا منهم، وأبصروا مقاتلهم . وأيضاً يجب إخراجهم من مكة . فلا بد من إخراج المشركين من ديارهم كما أخرَجوا المسلمين من ديارهم . والبادئُ أظلم . والفتنةُ التي صنعها المشركون ، والرامية إلى إرجاع المسلمين إلى الكفر أشد من القتل، فارتدادُ المؤمن أشد عليه من القتل. فالكفرُ قتلٌ متواصلٌ للروح والجسد ، أمّا القتلُ فهو نهاية الجسد لمرة واحدة فقط . ويمكن حملُ المعنى على أن شِرك الكافرين أعظم من قَتلهم في الْحَرَم ، أو أن شِركهم بالله وكُفرهم به أعظم من القتل .
     قال الطبري في تفسيره ( 2/ 197 ) : (( يعني تعالى ذِكره واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مقاتلهم، وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله : } حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ {. ومعنى الثقفة بالأمر الحذق به والبصر، يقال إنه لثقف إذا كان جيد الحذر في القتال ، بصيراً بمواقع القتل. وأما التثقيف هذا وهو التقويم فمعنى } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ { اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم. وأما قوله : } وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ { فإنه يعني بذلك المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذِكره : أَخْرِجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم _وقد أخرجوكم من دياركم _ من مساكنكم وديارهم كما أخرجوكم منها...يعني تعالى ذِكره بقوله : } وَالْفِتْنَةُ أَشَد مِنَ الْقَتْلِ { ، والشرك بالله أشد من القتل . وقد بَيّنتُ فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار فتأويل الكلام وابتلاء المؤمن في دِينه حتى يَرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يُقتَل مقيماً على دِينه متمسكاً عليه محقاً فيه )) اهـ .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 307 ) : (( ولهذا قال في هذه الآية : } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ { ، أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً. وقوله: } وَلا تَعْتَدُوا إِن اللهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ {، أي قاتِلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم )) اهـ .
     من الواضح أن الآية الشريفة } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِن حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَد مِنَ الْقَتْلِ { تتحدث عن المشركين الذين عذّبوا المسلمين ، وقد أمر اللهُ تعالى بقتلهم لأنهم كفار محارِبون لم يتخلصوا من حرب الإسلام والمسلمين ، لذلك فهؤلاء فقدوا عِصمةَ الدم لأنهم لم يلتزموا بالقواعد التي تحفظ لهم دماءهم ، فجاء الأمر صريحاً بقتلهم ، وأيضاً القيام بإخراجهم من منازل المسلمين في مكة التي وَقعت تحت احتلال المشركين ، لذلك فقتل المشركين هو ضمن سياسة المقاومة المشروعة للاحتلال ، والمكفولة في كل الدساتير السماوية والوضعية . وهذه الحالة موجودة في زماننا المعاصر ، وهي احتلال فلسطين وبعض بلاد المسلمين ، والواجب وفق هذه الآية قتل الأعداء ، وإخراج المحتلين من الأماكن التي طردونا منها ، وهذا حق شرعي مكفول لا يملك أحد الاعتراض عليه .
     وهؤلاء المشركون أهدر اللهُ تعالى دماءهم لأنهم أعداء محارِبون وليسوا مدنيين أبرياء . وقد تسببوا بإحداث فتنة كبرى وهي الابتلاء الشديد ( ما وقع للمسلمين بمكة من تعذيب الكفار لهم وإخراجهم ) ، وهذه الفتنة التي تستهدف إخراج المسلمين مِن دِينهم أشد من القتل ، لأن المرتد عن الإسلام هو ميت روحياً وجسدياً ، لذلك فالذي يُقتَل وهو ثابتٌ على دِينه أفضل من الذي يعيش مرتداً. وبما أن المشركين يقومون بفتنة الناس عن دِينهم، ومحاربةِ الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل، كان لزاماً على المسلمين أن يتخذوا موقفاً للحفاظ على كيانهم المعنوي والمادي ، لذلك جاء أمر قتل المشركين وهم الأعداء المحارِبون الذين لم يلتزموا بالقواعد المرعية في طرق تعامل الكفار مع المسلمين حتى يستحق الكفارُ الحياةَ الكريمة في ظل دولة الإسلام دون مساس بهم ، وهكذا أُلغيت عصمة دمائهم جزاءً بما كانوا يعملون من أعمال حربية معادية للإسلام والمسلمين ترفض قيمةَ التسامح الإسلامي، وترفض العيش في كنف الدول الإسلامية، وبالتالي فهؤلاء يُعتبَرون خارجين على الحاكم الشرعي العادل ، وهم بذلك يتلبسون بذنب الخيانة العظمى التي جزاؤها القتل. وهذا ما تفعله دول كثيرة حيث تَحكم على بعض أفرادها بالخيانة العظمى التي جزاؤها الموت. فلماذا عندما يقوم الإسلامُ بحماية نظامه المتكامل من الأخطار يُعتبَر فعله إرهاباً وضد حقوق الإنسان أم عندما يقوم العالَم الذي يزعم أنه متحضر بحماية أنظمته يُعتبَر ذلك مدنيةً وديمقراطية وحريةً ؟! .
     وانظرْ إلى هذا الدستور النبوي الشريف في فقه التعامل الحربي المنضبط بالأصول الشرعية بلا إفراط أو تفريط . فقد روى مسلم في صحيحه ( 3/ 1356 ) عن بُرَيْدة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سَرِيّة أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال : (( اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتِلوا مَن كَفرَ بالله ، اغزوا ، ولا تَغُلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تُمَثّلوا ، ولا تَقتلوا وليداً ، وإذا لقيتَ عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خِلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول مِن دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حُكمُ الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أَبَوا فَسَلْهم الجِزيةَ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم، فإن هم أَبَوا فاستعن بالله وقاتِلهم . وإذا حاصرتَ أهلَ حِصن فأرادوك أن تجعل لهم ذِمةَ الله وذمة نبيّه ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيّه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ، وإذا حاصرتَ أهلَ حصن فأرادوك أن تُنْزِلهم على حُكم الله فلا تنزلهم على حُكم الله ، ولكن أَنزلهم على حُكمك فإنك لا تدري أتصيب حُكم الله فيهم أم لا )) .
     إن الغَزو في الإسلام ليس قتالاً همجياً أو قتلاً عبثياً ، إنما هو فِعلٌ إنساني ذو تأثيرات إيجابية قريبة المدى وبعيدة المدى في آنٍ معاً . فالغزو يجيء لإخراج العباد من الظلمات إلى النور ، ومنع الطغاةَ من التحكم بمصائر شعوبهم واستعبادهم، وحَجبِ النور عنهم. فالغزو نظامٌ متكامل يكونُ باسم الله في سبيل الله ، وليس في سبيل استعباد الشعوب وسرقتها . وهذه القوةُ الضاربة إنما تُسْتَخْدَم لصالح الإنسان ، لأنها تجعله ذا سيادة على كيانه الآدمي ، يَملك كلمته ، ويُقرّر مصيره بنفْسه ، ويتحدث باسمه ، فلا يُقرّر الآخرون مصيرَه ، ولا يتحدثون نيابةً عنه .
     ومع أن القتال مُوَجّه ضد الكافرين ، إلا أنه قِتال منضبط لا فوضوي . ووفق هذه الرؤية ، ليس غريباً أن يتم تحريم الغلول ( وهو الخيانة في الغنيمة )، والغدرِ ( وهو نقض العهد ) ، والتمثيل بالجثث ( وهو تشويهها أو قطع أجزاء منها أو ما شابه ). كما تم تحريم قتل الوليد( وهو الطفل الصغير ) لأنه ليس له علاقة بأمور القتال  .
     وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 12/ 38 ) : (( معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة ، فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك، وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو، فتُجرَى عليهم أحكام الإسلام، ولا حق لهم في الغنيمة والفيء ، وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها )) اهـ.
     كما يُوضّح الحديثُ النبوي أحكامَ الحصار . فإذا حاصرَ المسلمون أهلَ حِصنٍ ، فلا ينبغي إعطاؤهم ذِمة الله ولا ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم. والذّمةُ هي العهد. وإنما يُعْطَوْن ذِمة القائد المسلم وأصحابه . والمعنى : لا تجعلْ لهم ذِمة الله ، فإنه قد يَنقضها مَن لا يَعرف حُرمتها وحقّها ومكانتها العالية . ولا يَخفَى أن نقض عهد المسلمين أهون من نقض العهد الإلهي والعهد النبوي . وأيضاً لا ينبغي إنزال أهل الحِصن المحاصَرِين على حُكم الله تعالى ، وإنما يتم إنزالهم على حُكم القائد المسلم ، لأنه لا يَدري هل يُصيب حُكمَ الله فيهم أم لا. وهذا كله من أجل تعظيم الله تعالى ، وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : أن امرأةً وُجِدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولةً فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان [(1)].
     ولو كان الإسلام دينَ إبادةٍ لما منع قتل النساء والصبيان ، بل قام بالتطهير العِرقي كما في التوراة والإنجيل، ومثلما فعل الكاثوليك بحق مسلمي الأندلس، وكما فعل الأرثوذكس بحق مسلمي البوسنة والشيشان ، وكما فعل البروتستنت بحق مسلمي العراق ، وكما فعل اليهود بحق مسلمي فلسطين . لكن المنهج الإسلامي واضحٌ في عدم استهداف النساء والصبيان لأنهم ليسوا أهلَ حرب وقتال ، أما إن دخلوا في مصطلح " المحارِب " فإنهم يُقتَلون فوراً .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشَه قال :       (( اخرجوا بسم الله ، تُقاتِلون في سبيل الله مَن كَفر بالله ، لا تَغدروا ، ولا تَغُلّوا ، ولا تُمَثّلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع )) [(2)].
     وهكذا تتضح الأخلاق الإسلامية في موضوع الحرب . فالمسلمون يُقاتِلون باسم الله لا باسمهم، وقد ابتعثهم _ سبحانه _ ليُطَبِّقوا تعاليمَه، وهذا يعكس مسألة سيادة الإسلام على الأرض ، فالكل يجب أن يخضع للإسلام لأنه الحاضن الفاعل لمشاعر الإنسان ، والمتكفِّل بحمايته والدفاع عنه. وهذا عائد إلى كون المسلم يؤمن بمحمد وموسى وعيسى _ عليهم الصلاة والسلام_، وبالقرآن الكريم والإنجيل الأصلي والتوراة الأصلية . وقد أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج كتابية ( نصرانية أو يهودية) ، مع منع زواج الكافر من المسلمة ، وهذه ليست عنصرية أو استعلاء بالباطل، فذلك عائد إلى أنه سيحترمها لأن يؤمن بموسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام_ ، وبالتالي لن يتجرأ على الاعتداء عليهما أو المساس بهما ، ويؤمن بالإنجيل والتوراة الأصلِيّيْن ، فلن يقوم مثلاً بشتمهما أو الطعن فيهما . أما الكافر لو تزوج مسلمة فهو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمن بالقرآن الكريم ، وبالتالي سيرفضهما ويتعدى عليهما، وهذه يجعل الحياة مستحيلة وقائمة على الاعتداء على العقيدة، وجرح الطرف الآخر في أعز ما عنده .
     ولنتذكر ما قام به الصرب في البوسنة الذين يمثلون الإرهابَ الأرثوذكسي في أبشع صوره ، حيث قاموا بقتل المسلمين، وتهجير من بقي على قيد الحياة، واغتصاب المسلمات، وحرق المساجد، وما فعله الروس في الشيشان، وما فعلته قوى الاستخراب العالمي ( أمريكا ، بريطانيا ، فرنسا ، إيطاليا ، إسبانيا ، البرتغال ، إلخ ) عبر انتهاج نفس الأساليب القذرة ، في حين أن دُور عبادة اليهود والنصارى كانت تحت حماية المسلمين ، ولم يمسوها بسوء . وحينما فتح المسلمون بيت المقدس والأندلسَ والقسطنطينية وباقي البلاد ، لم يَلمسوا امرأةً واحدة، ولم يقوموا بالاغتصاب ، أو القتل، أو الإبادة الجماعية، أو حرق دور العبادة، مع أن هذا كان بمتناول أيديهم، وهُم  قادرون على فعله بكل سهولة ، ولا يملك أحد إيقافهم في تلك الفترة الزمنية التي كان فيها المسلمون الأُمّة الأولى على الأرض في كل المجالات . ومع هذا لم يقوموا بفعله لأن الفرق الجوهري بين الفتوحات الإسلامية ، والاستخراب العالمي الذي يُسمى زوراً بالاستعمار، هو أن الفتوحات الإسلامية قادمة لنقل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد . فالمسلمون لم يُجبِروا الآخرين على تقديسهم أو عبادتهم ، بل دَعوا أنفسهم والآخرين إلى عبادة الله تعالى وَحْدَه ، ولو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم نبياً مُزَيّفاً لدعا الناس إلى عبادته وتقديسه من أجل استغلالهم ، والسيطرةِ عليهم ، وبسط نفوذه ونفوذ عائلته ونفوذ حاشيته على الناس من أجل تدعيم سُلطته وسُلطانه مثلما يفعل القادة الذين اتخذوا أنفسهم آلهة على جثث شعوبهم ، ولكنه لم يفعل ذلك لأنه رسول من عند الله تعالى ينفّذ الأوامرَ لا أكثر ولا أقل .
     كما أن الإبادة والإرهاب والفوضى الجنسية التي تُنتِج الاغتصابَ موجودة في نصوص دينية يقدّسها اليهود والنصارى على السواء، وهي نصوص الكتاب المقدّس[ التوراة ( العهد القديم ) والإنجيل ( العهد الجديد ) ] ، وهذه هي فلسفة اليهود والصليبيين في كل العصور . كما أن الاستخراب جاء لاستعباد الآخرين ، واستغلال ثرواتهم، وترسيخ عبادة العباد للعباد . وانظر ماذا ترك المسلمون في الأندلس من حضارة ومعالم ، وانظر إلى الاستخراب ماذا ترك في بلاد المسلمين من تخلف وتبعية . وهذا يعكس الفرق بين الفتوحات الإسلامية الهادفة لتحرير الإنسان ، وإعادته إلى جادة الصواب ، وبين الاستخراب الكافر القادم لإعادة عصور العبودية ، واستغلالِ الإنسان لأخيه الإنسان عبر استخدام الإرهاب بشتى أشكاله، وتسميةِ الجرائم بأسماء عصرية مخادِعة . 
} وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {
[ البقرة : 191]
     لا يجوز البدءُ في القتال عند المسجد الحرام تعظيماً لِحُرمته ، وإبرازاً لمكانته العظيمة . والحالةُ الوحيدة التي يُقاتَل فيها عند المسجد الحرام هي القتال الدفاعي الذي يكون ردةَ فعلٍ وليس فِعلاً . أمّا الابتداءُ في القتال في هذا الموضع الشريف فهو غير جائز البتّة . 
     قال القرطبي في تفسيره ( 2/ 348) : (( للعلماء في هذه الآية قولان : أحدهما أنها منسوخة والثاني أنها مُحْكَمَة . قال مجاهد : الآية مُحْكَمَة ، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يُقاتِل، وبه قال طاوس. وهو الذي يقتضيه نص الآية وهو الصحيح مِن القَوْلين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه )) اهـ .
     ويؤيد كَوْنها مُحْكَمَة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (( إن هذا البلد حَرّمه اللهُ يومَ خَلق السماوات والأرض ، فهو حرامٌ بِحُرْمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يَحِل القتالُ فيه لأحد قَبْلي ، ولم يَحِل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرامٌ بِحُرمة الله إلى يوم القيامة )) [(3)].
     وفي تفسير القرطبي ( 2/ 348 ) : (( وقال قتادة الآية منسوخة بقوله تعالى : } فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتموهُمْ { [ التوبة : 5]. وقال مقاتل: نسخها قولُه تعالى: } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ { [ النساء : 91] ، ثم نَسخ هذا قولُه : } فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتموهُمْ {[ التوبة : 5]، فيجوز الابتداء بالقتال في الْحَرَم )) اهـ .
     ومن الواضح أن الآية مُحْكَمة وليست منسوخةً . والمذهبُ الأقوى في تفسيرها هو الاعتماد على أنها ثابتة غير منسوخة . وهي مقيّدة بشرط أن يبدأ الأعداءُ القتالَ في الحَرم ، فيكون دور المسلمين في هذه الحالة رد فعلٍ لا أكثر ولا أقل . وهذا واضح تماماً من سياق الآية الشريفة ، ولا يحتاج إلى كثير بحث ، فقوله تعالى : } فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ { أبرز القاعدةَ الأساسية في التعامل مع هكذا حالة . فإن بدأ الكفارُ بالقتال ، فعندئذ يقوم المسلمون برد العدوان وقتلهم . 
     وقال الكاساني في بدائع الصنائع ( 6/ 83 ) : (( أما إذا دَخَلَ مُكابِراً أو مُقاتِلاً يُقتَل لقوله تعالى : } وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ { ، ولأنه لَمّا دخلَ مُقاتِلاً فقد هتكَ حُرمةَ الحَرم فيُقتَل تلافياً للهتك زجراً لغيره عن الهتك. وكذلك لو دخلَ قوم من أهل الحرب للقتال فإنهم يُقتَلون ، ولو انهزموا من المسلمين فلا شيء على المسلمين في قتلهم وأسرهم )) اهـ .
     وهدفُ القتل هو الحماية والردع ، والحفاظ على حُرمة الحَرم لئلا يصبح ملعباً لكل من تُسَوِّل له نَفْسه أن يتعدى على هذه البقعة المقدّسة ، فالذي دخل مُقاتِلاً هتكَ حُرمةَ الحَرم ولم يحترمها ، فالواجب قتله لمنع هذا الهتك، وردع كل من يُفكّر أن يصنع صنيعه . فلو تُرِك الحبل على الغارب، ولم يتم قتلُ هاتك حُرمةِ الحَرم، لصار الحَرمُ حلبةَ مصارعة ، ولعبةً من الألعاب ، وهذا يُضاد قُدسيةَ هذا المكان الشريف . وإذا تُرك الجاني في الحَرم دون عقاب لانتشر الفسادُ بصورة كارثية .
     قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7/ 118 ): (( الجاني في الحَرم هاتك لِحُرمته بخلاف الملتجىء إليه ، وأيضاً لو تُرك الحد والقِصاص على مَن فعل ما يوجبه في الحَرم لَعَظُمَ الفسادُ في الحَرم )) .
} وَقَاتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدينُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظالِمِينَ {
[ البقرة : 193]
     إن الأمر بالقتال في هذه الآية الشريفة له هدفٌ واضح، وهو حتى لا تكون فِتنة، وهي الشرك، ويكون الدّين لله تعالى خالصاً دون شركاء وانحرافات عَقَدية. وهذا منتهى التسامح ، والحزم تجاه الذين يحاولون فتنة الناس عن دِينهم ، وإعادتهم إلى الكفر والغواية . وإذا قاموا بالامتناع عن شِركهم، وأفعالهم الحربية، فيتم الكف عن قتالهم ، ولا يُقاتَل إلا المعتدون الذين رفضوا إنهاء أفعالهم الحربية ، وجرائمهم بحق المسلمين بكافة أشكالها . وإذا انتهى المشركون عن شِركهم ، وكفوا عن قتال المسلمين ، فينبغي الكفّ عن قتالهم ، وعدم الاعتداء عليهم .
     قال الطبري في تفسيره ( 2/ 200 ) : (( حتى لا تكون فِتنة ، يعني حتى لا يكون شِرك بالله، وحتى لا يُعبَد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان الآلهة والأنداد ، وتكون العبادة والطاعة لله وَحْدَه دون غيره من الأصنام والأوثان )) اهـ .
.............الحاشية.......................
[(1)] متفق عليه. البخاري ( 3/ 1098 ) برقم ( 2851 )، ومسلم ( 3/ 1364 )برقم ( 1744).
[(2)] رواه أحمد في مسنده ( 1/ 300 ) برقم ( 2728 ) وهو حسنٌ لغيره . وقال الهيثمي في المجمع ( 5/ 571) : (( رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال فيه : (( ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً )) وفي رجال البزار إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، وثّقه أحمد ، وضعّفه الجمهور ، وبقية رجال البزار رجال الصحيح )) اهـ . قلتُ : إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة . وثّقه أحمد ، وقال عنه يحيى بن معين : (( صالح )) [ انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 83)] ، وقال ابن عدي : (( هو صالح في باب الرواية ))[ انظر تهذيب الكمال ( 2/ 43)]، وصحّح حديثَه الحاكم في المستدرك ( 2/ 116 ) برقم ( 2510)، وصحّح حديثه ابنُ خزيمة في صحيحه ( 1/ 336) برقم ( 676)  )) اهـ. قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 4/ 103 ) : (( رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتلوا النساء ولا أصحاب الصوامع. أحمد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله، الحديث. وفيه: ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف. وروى البيهقي من حديث علي نحوه وفيه : ولا تقتلوا وليداً ولا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً، وفي إسناده ضعف وإرسال . ورواه من وجه آخر منقطعاً وفيه : ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً )) اهـ . قلتُ : وفي أقل تقدير فهو حسنٌ لغيره .

[(3)] متفق عليه. البخاري ( 3/ 1164 ) برقم ( 3017 ) ، ومسلم ( 2/ 986 ) برقم ( 1353).