سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

04‏/01‏/2014

آيات القتل والقتال في القرآن الكريم / الجزء الأول

آيات القتل والقتال في القرآن الكريم / الجزء الأول

من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم

تأليف : إبراهيم أبو عواد .

.............................

     يجيءُ هذا البحثُ ليلقيَ الضوء على موضوع غاية في الأهمية ، وهو القتل ومشتقاته من وجهة نظرٍ قرآنية . وكما هو معلوم فإن أعداء الحق في شتى العصور اتخذوا هذا الموضوع ذريعةً للطعن في القرآن الكريم ، وتصويره على أنه كتاب إرهابي يأمر أتباعَه بقتل الناس بالطول والعَرض دون احترام لحقوق الإنسان أو مشاعر البشر . وهذه التهمة المفتقدة إلى أدنى نصيب من المنهج العلمي صارت موضة قديمة من كثرة ما تم ترديدها من قبل المستشرقين ، وصبيانهم من أبناء جِلدتنا. وبالتأكيد فهي لم تعد تنطلي إلا على بعض العوام الذين لا يملكون ثقافةً تؤهلهم لفهم الضوابط العامة للأحداث .
     ونحن لا ننكر وجود آيات قرآنية كثيرة تدعو إلى القتل ، لكن السؤال هو : ما نوعية القتل الذي تدعو إليه الآيات ؟ ، وما هو المسار التاريخي لها ؟ ، وما هي الضوابط العامة التي تحدد هذه العملية ؟. فالقتل نوعان: قتلٌ محمود، وهو الذي يستهدف المستحقين للقتل ، وهذا الهدف مسيطر عليه من قبل الكتاب والسنة الصحيحة ، وقتلٌ مذموم ، وهو الذي يستهدف معصومي الدم .
     والفرق بين القرآن الكريم من جهة ، والإنجيل والتوراة من جهة أخرى ، هو أن آيات القرآن الكريم لها أسباب نزول واضحة ، ووقائع تاريخية دقيقة . ويجب أن تُفهَم الآيات من خلالها، أمّا الإنجيل والتوراة فلا يوجد فيهما أسباب نزول تحدِّد سبب وجود هذه الآيات ، كما أن الوقائع التاريخية فيهما غير واضحة إلى أبعد حَد ومتضاربة. لذا فالآيات التي تدعو إلى القتل في الإنجيل والتوراة متضاربة وغير منضبطة، مما يجعل القتل بحد ذاته هدفاً إقصائياً للآخر قائماً على الاستكبار والاستعلاء في الأرض بغير الحق اعتماداً على غطرسة القوة المادية الواهمة ، وإبادةً جماعية تتجلى في صور العنف وترويع الأبرياء والنساء والأطفال، وتطهيراً عِرقياً مؤلماً. أما القتل في القرآن الكريم فمنضبِط تماماً بالنصوص الشرعية الثابتة، ولا مجال للخطأ في النص أبداً ، ولكن الخطأ قد يظهر في التطبيق البشري لهذه الآيات القرآنية ، وهذه ليست مشكلة القرآن الكريم ، وإنما مشكلة الأفراد الذين  أساؤوا فهم بعض الآيات، وأوّلوها لخدمة مصالحهم ، وانتزاعِ الشرعية الوهمية لأفعالهم الطائشة.
     وليكن معلوماً أن الإسلام حُجّة على الناس، والناس ليسوا حُجّةً على الإسلام. فلو رأيتَ إمام مسجد ذا سلوك سيء، فهذه مشكلته الشخصية، وليست مشكلة الإسلام . إذ إن النّص معصوم، والذين يُطبِّقونه غير معصومين ، ولا يمكن لغير المعصوم أن يتفوق على المعصوم . لذلك إن رأيتَ من يقومون بتفجيرات عبثية هنا أو هناك ، ويقومون بقتل معصومي الدم ، فاعلم أنهم مخالِفون للقرآن الكريم ، حتى لو رأيتهم يتلون بعض الآيات التي توهّموا أنها تدعو إلى ما يدعون إليه . فليس كل مَن هَبّ ودَبّ صار قادراً على تفسير القرآن الكريم ، وليس كل من يرتدي ثوباً أو يطلق لحيته أو يُصلِّي في الصف الأول صار مجتهداً قادراً على الاستنباط من كتاب الله تعالى . فالتفسير بحاجة إلى عالِم متمكن في كثير من العلوم ، ومن أهمها اللغة العربية، حتى يقدر على وضع الآيات القرآنية في موضعها اللائق . وقد قال الله تعالى:} وَلَوْ رَدوهُ إِلَى الرسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ { [ النساء : 83] .
     إذن ، الاستنباط ليس أمراً عابراً متاحاً للجميع ، بل يختص به العلماء ، فيقومون به وفق قواعد منهجية معتمدة ، وضوابط فكرية واضحة المعالم . أمّا أن يظن كل واحد أنه صار الإمام الشافعي لأنه يحفظ بعض النصوص ، فهذا غير مقبول البتة . فالإنسان الطاهر الذي يخشى الله تعالى لا يتجرأ على الخوض في تفسير كلام الله تعالى دون علم راسخ ، فالمسألة لا تحتمل أن يدليَ كل واحد برأيه دون تأصيل شرعي معتمَد ، فالدين لا يؤخذ بالرأي والخيالات والأهواء ، وإنما يؤخذ من النصوص الثابتة وفق فهم العلماء الأثبات المشهود لهم بالعِلم والورع . فهذا الدين منقول بشكل متواتر من طبقة لا طبقة ، لا يمكن أن يطرأ عليها الكذب. ومن هنا تظل المسألة مسألة تأويل الآيات القرآنية وتفسيرها ، إذ إن النص القرآني معصوم ، أمّا فهمنا للنص فغير معصوم .
     وقد قامت جهاتٌ مغرِضة بمحاولات حثيثة لتشكيك المسلمين بكتابهم المحفوظ عبر ترويج خرافة أن القرآن يدعو إلى القتل والإرهاب بعد أن فَصَلوا الآياتِ عن سياقها التاريخي ، وضوابطِها الشرعية ، وهذه الأفكار المنحرفة غير مقامة على منهجية علمية معتمَدة، فالغالبية الساحقة من المستشرقين ضعاف في اللغة العربية، ولا يملكون أهلية الاستنباط والاجتهاد والتحليل. فهم لا يقرأون القرآنَ بلغته العربية، بل يقرأون ترجماته باللغات الأخرى ، ويبنون على أوهامهم الذهنية المسبقة الصورةَ التي يريدون إسقاطها على العقيدة الإسلامية وواقع الإسلام . كما أنهم يَعتمدون آراءَ الطوائف الضالة ، ويُضخِّمون الأقوالَ الشاذة ، لمهاجمة الإسلام ومحاولة هدمه من الداخل .
     وقد استغلوا بعض التصرفات المتطرفة التي تورط بها مسلمون ليصبغوا الإسلامَ بالإرهاب ، ومن ثم انتقلوا إلى الطعن في القرآن الكريم لعلمهم أنه الكتاب الوحيد المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذه الميزة لا تتوفر لأي كتاب آخر في العالَم .
     والذين يسعون لترويج أن القرآن يدعو إلى القتل العبثي والإرهاب ينقسمون إلى قسمين : علماء ظهرت لهم حقيقة القرآن الناصعة لكنهم أعرضوا، واتخذوا آياتِ الله وراءهم ظِهرياً، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم أنه الحق ، وجهالٌ ليس لديهم عِلْمٌ بالموضوع ، لكنهم يرددون ما يسمعونه من الآخرين دون التثبت بأنفسهم ، وهم أصلاً غير قادرين على التثبت بأنفسهم لأنهم يفتقدون إلى أدوات الباحث المتمكن المنصف . وفي كلا الحالتين علينا أن نعرض الإسلامَ عرضاً يفنِّد كل شبهات الخصوم ، ويزيل ما علق في أذهان البعض من وساوس وخيالات ، فالقلوب ضعيفة ، والشُبه خطّافة. فمسألة الطعن في القرآن الكريم قديمة جديدة ، وكل واحد ينسخ أفكارَ من سبقه ظناً منه أن يحقق فتوحات عظيمة في مجال العلم والإبداع والتحليل ! . لكن العالِم العامل بعِلمه لا يرى بواسطة أعين الناس ، بل عليه أن يرى بواسطة عينيه ليكون الحُكْمُ منصفاً وعادلاً ، فالحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوره ، كما أن الناس أعداء ما يجهلون . فبعض الغربيين الذين يقرأون التوراة والإنجيل( العهد القديم والعهد الجديد)، ويعتنقون كل ما فيهما طوال هذه المدة الزمنية الطويلة قد تشرّبوا العقائدَ الباطلة مثل عقائد التثليث والصليب والإبادة الجماعية وزنا الأنبياء وزنا المحارم ... إلخ . فهؤلاء يستيقظون على هذه العقائد وينامون عليها طوال هذه المدة الزمنية الطويلة ، وحولهم الكثيرون ممن يغذونها . وهؤلاء عندما يقول لهم القرآن إن الله واحد أحد والمسيح عبدُ الله ورسوله وليس إلهاً ولم يُصْلَبْ ، فسوف يستغربون هذا الكلام ، ويعرضون عنه ظناً منهم أنه أوهام ، وكما قال الشاعر :
قد تُنْكِرُ العَينُ ضوءَ الشمس مِن رَمَدٍ     ويُنْكِرُ الفمُ طَعْمَ الماء مِن سَقَـــمِ
     ولتجاوز هذه الإشكالية ينبغي تأصيل منهجية عمل واضحة المعالم لشرح عقائد الإسلام بالأسلوب الطيب الواضح ، وتفنيد شبهاتِ الخصوم ، ضمن منهجية علمية شرعية تعتمد على النقل والعقل . وهذه مهمة ليست سهلة البتة لأنها تهدف إلى انتشال غريق ظَلّ يغرق طوال حياته ، ويعشق غرقَه ، ويعتقد أن غرقه هو النجاة التي لا محيص عنها . وبالتالي فلا بد من منهجية شاملة ومتكاملة ودقيقة لتوضيح عقائد الإسلام في ظل هذه الهجمة الشعواء عليه ، لأنه الوحيد القادر على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وهذه النقطة الجوهرية تُشكِّل خطراً على الطواغيت الذين ألّهوا أنفسهم ، وحقّقوا مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية على حساب استغلال الإنسان وحقنه بالخرافات . وعِلْيةُ القوم هؤلاء سيخافون من فقدان مناصبهم وامتيازاتهم الدنيوية لذلك سيحاربون الشمسَ بكل ما فيه عروقهم من خفافيش ، ولكن الله غالبٌ على أمره ، شاء من شاء ، وأبى من أبى . وصدق الله إذ يقول : } إِن الذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدوا عَنْ سَبيِلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُم تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُم يُغْلَبُونَ وَالذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنمَ يُحْشَرُونَ { [ الأنقال : 36 ] .
     إن احترام النفس الإنسانية واضح في الشريعة الإسلامية ، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ، فقد قال الله تعالى : } إِني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً { [ البقرة : 30] . وعليه فقد تكفّل الإسلام بالدفاع عن الإنسان ، وحمى هذا الكيان من كل ما قد يمس به من سوء ، لذا فمن مقاصد الشريعة الرئيسية حفظ النّفْس ، لأن الإنسان إذا انتهى فلن يقوم أحدٌ بتحقيق مفهوم الخلافة الإلهية في الأرض .
     وهذا يعكس أهمية الإنسان بوصفه الكائن الكريم عند الله تعالى ، وبالتالي فأي مساس به يُعتبَر عملاً مرفوضاً ومذموماً في الشريعة . قال الله تعالى : } مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنما قَتَلَ الناسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنما أَحْيَا الناسَ جَمِيعَاً { [ المائدة : 32] . وهذه الآية توضح مكانة النّفْسِ البشرية واحترامِها بشكل عام دون تخصيصها بمسلم أو بكافر ، والعِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . كما أن النّفْس الإنسانية داخلة في ذِمة الله وحِفظه ، إذ إنه سبحانه حرّم قتلَها دون وجه حق ، وهذا التحريم يهدف إلى منح هذه اللطيفة الرحمانية وهي النّفْس حرية الانطلاق والإبداع وعمارة الأرض دون ضغوطات خارجية، أو تهديدات من أي طرف تعيق النمو الوجداني والواقعي لهذا الكيان الإنساني النبيل ، فقال اللهُ تعالى : } وَلا تَقْتُلُوا النفْسَ التِي حَرم اللهُ إِلا بِالْحَق {[الأنعام: 151] .
     إذن ، فإن الحياة الشمولية للفرد إنما تسير في ظل حمايةٍ إلهية واضحة في النصوص ، وهذا يؤدي إلى أن يسير الإنسانُ في طريقه بكل أمان عالِماً بأنه محمي ، فالخوف إذا سيطر على الفرد أدى إلى سقوطه في فخ الشلل المعنوي فلا يعود قادراً على الإبداع والتفكير وعمارة الأرض. ومن الأهمية بمكان أن يحصل الإنسان على شرعية وجوده معتمداً على احترام الآخرين له ولحياته وكل ما يتعلق به . لذلك جاء الإرشاد الإلهي للإنسان بأن يكف عن ممارسة حماقاته ، خصوصاً عمليات القتل غير المشروع التي كانت تُمارَس مِن قِبَل أهل الجاهلية ، والمتمثلة في وأد البنات . وقد وضع اللهُ تعالى الأمورَ في نصابها الصحيح لكي يتم تعديل مسار الإنسان الذي استمرأ القتلَ العبثي المنهجي، فقال تعالى: } قَدْ خَسِرَ الذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ { [الأنعام : 140]. وقد نعى الله تعالى على أولئك الذين يمارسون هذا القتل السفيه العبثي ، فهل يُعْقَل أن يأمر القرآن الكريم _ الذي هو كلامُ اللهِ _ بالقتل العبثي الذي ذمّه في أكثر من موضع ؟! .
     ويقودنا الحديث إلى مسألة رحمة الله بعباده . وكل ما سِوى الله هو عبدٌ لله ، فالله أرحم بالطفل من أُمِّه، وأرحم بالإنسان مِن نَفْسه . والإنسان قد استمرأ القتلَ الفوضوي حتى بحق نفسه، وكأن هذا المخلوق يسير ضد مصلحته الشخصية ، وضد مسار شرعية وجوده . فقال الله تعالى : } وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِن اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً { [ النساء : 29] . فالذي اتخذ القتلَ وسيلةً للابتزاز والترويع هو الإنسان بسبب سلوكه الطائش ، وعدوانيةِ أنظمة تواجده في هذا العالَم ، لكن الأنانيةَ المعرفية تظل حجر عثرة في طريقه ، لا سيما أن طمعه وعشقه للسيطرة على كل شيء أدّى به إلى الاستمتاع بالقتل لكي يزيل كل الذين يهدِّدون شرعيةَ وجوده _ حسب ظنه_ من طريقه. فالإنسان هو الذي يتحمل مسؤوليةَ أفعاله، وتبعاتِ القتل العبثي الذي يقوم به هنا وهناك ، وهذه المشكلة ليست مشكلةَ القرآن، لأنه حدّد الضوابطَ الشرعية للتعامل مع الذات الإنسانية ، وحمى الوجودَ الإنساني ، وأمر بعدم الإساءة إلى هذا الكيان ، ورتّب على كل إساءة خطيئةً كبرى لكي يرتدع من يرتدع ، أمّا مَن أعرض عن هذا المنهج فهو الحامل لوِزْر هذه الخطيئة أمام الله ، وأمام الناس. وعلى الناس أن تفصل بين السلوك البشري غير المعصوم المنعكس عن شخصية صاحبه ، وبين النص القرآني المعصوم الذي لا يتحمل مسؤوليةَ سوء تطبيقه مِن قِبَل بعض الأفراد .
     والإشكاليةُ الحقيقية التي يُكرِّسها البعضُ بصورة مغرضة هي تعمد اتخاذ السلوك السيئ لبعض الأفراد حُجّةً على القرآن الكريم. ومن شأن هذا الخلط غير المنطقي تطبيقُ تصرفات غير المعصوم على المعصوم ، فتختلط الفهومُ القاصرة في الأذهان ، مما يؤدي إلى فوضى في منهجية التعامل مع الدين الإسلامي، ووصفه بأوصاف بعض الذين يعتنقونه ، ولا يُحسِنون فهمه أو عَرْضه. وللأسف فهذه الحفنة المحصورة تقوم بنقله إلى منحى آخر بفضل سوء فهمهم، وفوضى تأويلاتهم، وتداخل مصالحهم الذاتية وأهوائهم المتضاربة التي يحاولون فرضها على مسار النص ، ووضعية سياقه المعرفي التاريخي.وقد يكونون مُخلِصين لكنّ الوُجهة التي اختاروها خاطئة. وكَم مِن مُريد للخير لن يُصيبه. وهؤلاء الفئةُ لا يسعون إلى طلب العلم والنصيحة ظناً منهم أنهم على الحق المطْلَق، وغيرهم على الباطل المطْلَق . أو أنهم العلماء الذين لم يأتِ مثلهم ، أما الآخرون فمجموعة من الجهال وعلماء السلاطين . وهم بذلك يشذون عن الأمة، ويتحملون كامل المسؤولية أمام الله تعالى ، ولن تنفعهم نيتهم الصالحة على فرض التسليم بصلاحها، لأن النية الصالحة لا تُصلِح العملَ الفاسد .
     وعدم امتلاكهم لأدوات منهجية الاجتهاد والاستنباط جعل منهم خوارج أو قريبين من الفكر الخوارجي . وقد ورد التحذير من هؤلاء ، فقد روى البخاري في صحيحه ( 3/ 1321 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يأتي في آخر الزمان قومٌ حُدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرمية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرَهم )).
     وقد يظن البعض أن القرآن الكريم وضّح أهميةَ المسلم فَحَسْب، وحمى وجودَه الشرعي من كل سوء ، أمّا الكافر فهو حلال الدم في كل الأحوال . وهذه النظرة قاصرة تماماً ، وتخلو من المنطق الفكري ، والبحثِ الدقيق المنصِف . فالقرآنُ كتابُ اللهِ الناسخُ لما قَبْله ، والشاملُ لكل شيء . لم يأت لفئة دون أخرى، بل جاء للإنس والجن ، مسلمهم وكافرهم. فقد أوجد حلولاً للبشرية جمعاء ، ولم ينصف المسلمين على حساب الكافرين أو العكس ، بل أنصف الإنسان كإنسان ، فمدح المسلمَ ، وذمّ الكافرَ ، مع منح حرية الاختيار للإنسان كي يمشيَ في الطريق الذي يناسبه ، طريقِ الإيمان الذي يقود إلى رضا الله والجنة، أو طريق الكفر الذي يقود إلى غضب الله والنارِ، دون إكراه أو قَمع أو إجبار. والدليلُ العملي الملموس وجود أهل الكتاب الذين يعيشون في العالم العربي والإسلامي حتى اليوم الحالي . ولو كان الإسلامُ يَدعو إلى قتل المخالِف في العقيدة فلماذا لم نقم بقتلهم وجعل العالَم الإسلامي من فئة واحدة فقط وهي المسلمون ؟ ، مع أنه كان بمقدرونا قتلهم في زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وسيادتها على العالَم روحياً ومادياً ، وما كان أحد يستطيع أن يردعنا في تلك المرحلة التي كنّا فيها الأمة الأولى عالمياً في كل المجالات ، ولا يقدر أحد أن يناقشنا فيما نفعل في تلك المرحلة . ومع هذا فالإسلام لم يستغل ضعفَ الآخرين ليبتزهم ويُجهِز عليهم ويبنيَ مجده على جماجمهم . وقد قال اللهُ تعالى : } لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَروهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِن اللهَ يُحِب الْمُقْسِطِينَ. إِنما يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدينِ وَأَخْرَجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلوْهُمْ وَمَن يَتَوَلهم فَأُولَئِكَ هُمُ الظالِمُونَ { [ الممتحَنة : 8و9]. فهاتان الآيتان الشريفتان دستورٌ متكامل قبل أن يخترعوا ما يسمى بالأمم المتحدة. فينبغي التمييز بين صنفين: الكافر المحارِب ، وهذا مهدور الدم أينما وُجِد في هذا العالَم ، والكافر غير المحارِب ، وهذ الصنف نَبَرّه ونحسن إليه ونقيم معه علاقات طبيعية جداً بحُكم الأخوة البشرية . وهذه هي العدالة المطْلَقة في القرآن .
     وهذه المقالة العلمية تلقي الضوءَ على واحدة من المسائل الهامة التي يتخذها البعض مطعناً في القرآن الكريم ، وقد حاولتُ قَدْر المستطاع وضع الآياتِ القرآنية الشريفة في سياقها التاريخي الدقيق ، وتوضيح معناها وضوابطها وشروط تطبيقها لإزالة أي لبس قد يعلق في الأذهان ، ومحو أي فكرة سيئة علقت في البال جراء هذه الحملة الشعواء من كل الجهات .
     وقد حدّدتُ الآيات التي تتحدث عن موضوع القتل ومشتقاته،  وقمتُ بالإسهام بتفسيرها اعتماداً على أمهات الكتب المعتمدة في التفسير وغيره ، مع إسهاماتي الشخصية البسيطة في الموضوع ، وما توصلتُ إليه واخترتُه .
***
} فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ {
[ البقرة : 54 ]
     هذه الآية الشريفة وَردت على لسان النبي موسى صلى الله عليه وسلم مخاطِباً بني إسرائيل صلى الله عليه وسلم ، إذ إنهم ارتدوا فعبدوا العجلَ ، فكان الأمر الإلهي بأن يقوموا بقتل بعضهم البعض . وقد تنشأ إشكالية في أذهان البعض كيف يأمر اللهُ بأن يقتلوا بعضهم بعضاً ؟ ، وهل الله تعالى يدعو إلى قتل الناس والإبادة الجماعية ؟ ، حاشى وكلا . إن المرتد خائن خيانة عظمى ، وبالتالي يجب تطهير المجتمع الصالح منه حتى تستقيم حالُ البقية. فلو كان أحد أعضاء الإنسان مصاباً بمرض سوف يسري إلى باقي الجسم، فإنه يتم قطعه لكي تستمر حياة الإنسان ، فهل الطبيب الذي قام بقطعه مجرماً لأنه تخلّص من عضو إنسان ؟ ، بالطبع لا . وفي بعض الحالات ومنها حالة الرِّدة يجب أن يُقتَل المرتد لئلا تتسرب ردته إلى جسد المجتمع فيضيع المجتمع بأسره، لذلك أمر الله تعالى بأن يقتلوا بعضهم البعض، وبالتالي فقد كانت توبةً للجميع للمقتول والقاتل ، لأن هذا أمرٌ إلهي تطهيري للمجتمع من العناصر الفاسدة كي يحافظ مجتمع بني إسرائيل على تماسكه في تلك المرحلة، ويترسخ الإيمان أكثر فأكثر بعد زوال الشكوك المتمثلة في الانحرافات العَقدية البشرية .  كما أن هذا الفعل اختبار إلهي عظيم لأناس ارتكبوا أسوأ خطيئة على الإطلاق وهي الكفر ، لذا جاءت عملية التطهير شديدة ، مثل الذّهب الذي لا نحصل عليه إلا بالنار واللهب .
     قال الطبري في تفسيره ( 1/ 325) : (( ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابةِ إلى الله من ردتهم بالتوبة إليه والتسليم لطاعته فيما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنْب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم )) .
     نلاحظ حرصَ النبي موسى صلى الله عليه وسلم على إنقاذ قومه من كُفرهم، وانتشالهم من مستنقع الخطيئة . وقد أبلغهم أن طريقَ التوبة هو قتل أنفسهم لتحصل عمليةُ التطهر والتطهير . وهذه العمليةُ طَوْقُ نجاةٍ للقاتل والمقتول على حَد سَواء .
     وروى الطبري في تفسيره ( 1/ 325 ) عن الزهري وقتادة : (( قاموا صفين فقتل بعضُهم بعضاً حتى قِيل لهم كُفوا . وقال قتادة : كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي )) اهـ .
} وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا {
[ البقرة : 190]
     أمّا عن سبب نزول هذه الآية فقد روى السيوطي بإسناده في لباب النقول ( 1/ 137 ) عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_قال: (( نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَما صُد عن البيت ، ثم صالحه المشركون على أن يَرجع عامه القابل، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعُمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفيَ قريش بذلك ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكرهَ أصحابُه قتالَهم في الشهر الحرام ، فأنزل اللهُ ذلك )) اهـ .
     إن المشركين لا عهد لهم ولا أمان . ولطالما نَكثوا عهودَهم ، وبدّلوا كلامَهم . وقد خاف الصحابةُ ألا تفيَ قُرَيْش ( رأس التشريع الوثني ) بعهدها ، كما خافوا أن يقوم المشركون بصد المسلمين عن المسجد الحرام وقتالهم . وهذا كله سَبّب ضِيقاً في نفوس الصحابة الذين كرهوا القتالَ في تلك اللحظة ، ليس بسبب الضعف أو العجز أو الخوف. وإنما بسبب الشهر الحرام الذي يَحرم فيه القتالُ . فقد كرهوا قتالَ المشركين تعظيماً لِحُرمة الشهر الحرام .
     وقال الطبري في تفسيره ( 2/ 195 ) : (( اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا : أُمر فيها المسلمون بقتال مَن قاتلهم من المشركين ، والكف عَمن كَف عنهم ، ثم نُسخت ببراءة )) اهـ .
     تتضمن الآيةُ أمراً إلهياً بقتال المشركين ، ولكنْ ليس كل المشركين . وإنما قتالُ المشركين الذين يُقاتِلون المسلمين . أمّا المشركون المسالِمون فقد تم إخراجهم من دائرة القتال . ولا يجوز الاعتداءُ على الأبرياء الذين ليس لهم ناقة ولا جَمل في أمر القتال . إذن ، فالقتالُ في هذه الآية عبارة عن رد فعل ، وليس فِعلاً . إنه قتالٌ دفاعي لا قتال هجومي .
     وروى الطبري بإسناده في تفسيره ( 2/ 195 ) : (( قال ابن زيد في قوله : } وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا { . قال: قد نُسخ هذا، وقرأ قولَ الله: } وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافةً { [ التوبة: 36] ، وهذه الناسخة . وقرأ : } بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ {  [ التوبة: 1] ، حتى بلغَ } فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتموهُمْ ... {  [ التوبة: 5] . وقال آخرون : بل ذلك أمرٌ مِن الله _ تعالى ذِكره _ للمسلمين بقتال الكفار لم يُنسَخ ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري . قالوا : والنهي عن قتلهم ثابت حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ مِن حُكم هذه الآية )) اهـ .     
     وفي كتاب الأم للإمام الشافعي ( 4/ 220 ) : (( فقال عز وجل : } وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِن اللهَ لا يُحِب الْمُعْتَدِينَ {[ البقرة :190] ثم } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ { [ البقرة : 191] ... قال الشافعي رحمه الله تعالى : يُقال : نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين، وفُرض عليهم في قتالهم ما ذَكَرَ اللهُ _ عز وجل _، ثم يقال : نُسخ هذا كله والنهي عن القتال حتى يقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل : } وَقَاتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ { الآية [ البقرة: 193] ، ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد ، وهي موضوعة في موضعها )) اهـ .
     من الواضح من سياق الآية الشريفة } وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا {     [ البقرة : 190] أن القتال في هذه الآية ضمن ثلاث نقاط مركزية ومحورية . الأولى : إن القتال يجب أن يكون في سبيل الله تعالى، وليس في سبيل مصالح الناس وأهدافهم الذاتية الآنية ، وليس من أجل استعباد الآخرين وسحقهم وابتزازهم وسرقتهم ، والثانية : إن القتال ضد المشركين الذين يقاتلون المسلمين فقط، ولا يجوز البدءُ بقتالهم . وفي هذه الحالة يكونُ القتالُ رَدّ فعلٍ لا فِعلاً ابتدائياً. والثالثة: عدم الاعتداء والتمادي والتجاوز، فالهدف هو رد العدوان فقط.

     ونحن لا نعتقد بأن الآية منسوخة ، لأنها آية مُحكَمة وقاعدة عامة تأصيلية شاملة لا يُمكِن أن تُنسَخ مُطْلقاً. أمّا الذين يَعتقدون بنسخها معتمدين على آيات أخرى في القتال ، فكل حالة لها وضعها الخاص بها ، وكل الآيات تُجمَع معاً دون تعارض يقتضي اعتقادَ النسخ . إذ إن كل آية تتحدث عن حالة خاصة بعينها لا تتعدى إلى حالة أخرى . ومن غير المنطقي أن نخلط بين أحكام الآيات ، لأن كل حُكْم قادم لعلاج وضعية معينة ، واستئصالِ كل القيم السلبية فيها عبر الوسيلة الأكثر نجاعة في هذه النقطة المسيطَر عليها مِن قِبَل الْحُكم الرباني الشرعي. ولا يخفى أن القاعدة الشرعية التأصيلية هي تقديم الجمع والتوفيق بين النصوص الشرعية قبل الذهاب إلى النّسخ أو الترجيح .