سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

05‏/12‏/2015

الأنبياء والرسل

الأنبياء والرسل

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

..............................

1_ الإيمان بهم :
     إن الإيمان بالأنبياء كلهم يُعتبر من أركان الإيمان . ومن أسقطَ أيَّ نبي أو طعن فيه فهو كافر . وهؤلاء الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _ هم سادة البشرية الذين اختارهم اللهُ تعالى لحمل كلمته وإيصالها إلى الخلق . واللهُ تعالى لن يختار إلا من كان مؤهَّلاً لحمل هذه الأمانة الجسيمة .
     قال الله تعالى: } ولكنَّ البِرَّ مَن آمن بالله واليومِ الآخر والملائكةِ والكتابِ والنَّبِيِّين { [ البقرة: 177] .
     والجدير بالذكر أن هناك فرقاً بين النبي والرسول. فالرسولُ أعظم من النبي. و (( مَن نبَّأه اللهُ بخبر السماء ، إن أمره أن يبلِّغ غيرَه فهو نبي رسول ، وإن لم يأمره أن يبلِّغ غيرَه فهو نبي وليس برسول . فالرسول أخص من النبي . فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً )){(1)}.
2_ تفضيل بعضهم على بعض :
     قال الله تعالى : } تِلْكَ الرُّسل فَضَّلْنا بَعْضَهم على بعض { [ البقرة : 253] .
     وهذه الآية تدل على أن مراتب الرُّسل متفاوتة ، فبعضُهم أفضل من بعض . فكل رسول له منزلته الخاصة به ، والتي تعكس إمكانياته وإنجازاته وأداءه في تبليغ الرسالة . فسادةُ الأنبياء هم أُولو العَزم ( محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ) ، وبعدهم يأتي باقي الأنبياء . وهذا الأمرُ لا يقدح في شرف النبوة ومكانةِ الأنبياء، لأن ذوات الأنبياء الشريفة تختلف في الفضائل والدرجات ، وبينها تنافس طيِّب في عمل الخيرات ، ونيلِ رضا الله ، وتنفيذِ أوامره بحذافيرها ، وهذا جعل مراتبهم مختلفة حسب أعمالهم. (( كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنبياءَ في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله _ عز وجل _)){(2)}.
     أما ما رواه أبو سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تخيِّروا بين الأنبياء)){(3)}.
     فيعني الابتعاد عن تفضيل الأنبياء بهدف الانتقاص من قَدْرهم ، أو الطعن فيهم ، أو الخضوع للعصبية والعناد ، أو التمسك بالرأي بدافع الهوى دون حُجَّة . ولكن يجب اعتقاد التفاوت بين الأنبياء لأنه مذكور في القرآن الكريم . ومنكرُ التفاضل بين الأنبياء والرُّسل كافرٌ لتكذيبه كلام الله تعالى .
3_ أخذ الميثاق منهم :
     قال الله تعالى : } وإذْ أَخَذْنا من النَّبيين ميثاقَهم ومِنكَ ومِن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأَخَذْنا منهم ميثاقاً غليظاً { [ الأحزاب : 7] .
     إن الله تعالى قد أخذ على الأنبياء العهدَ بأن يكونوا يداً واحدة في نشر الإسلام ، متناصرين خاضعين للشريعة الإلهية . فالأنبياءُ كيان واحد لا يمكن تفتيته ، دينهم واحد وهو الإسلام ، وشرائعهم متعددة . وكلهم جاء بالتوحيد .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 619 ) : (( يقول الله تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهدَ والميثاق في إقامة دين الله تعالى ، وإبلاغِ رسالته ، والتعاون والتناصر والاتفاق )) اهـ .
     وعن أُبي بن كعب _ رضي الله عنه _ : أن آدم صلى الله عليه وسلم نظر إلى بنيه (( فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة وغير ذلك فقال : ربِّ لو سَوَّيْتَ بين عبادك ، فقال : إني أحب أن أُشكَر . ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرج، وخُصُّوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله _ عز وجل _ : } وإذْ أَخَذْنا من النَّبيين ميثاقَهم ومِنكَ ومِن نوح { الآية )){(4)}.
     وهذا الميثاق الغليظ هو العهد الإلهي الذي لا يقبل التلاعب أو التجاوز . والأنبياءُ الكرام _ باعتبارهم سادة البشرية _ هم الأقدر على حمل هذا العهد وتنفيذه على أرض الواقع دون إفراط أو تفريط . فالإيمانُ ليست مسألةً سهلة أو تحصيل حاصل ، إنها قضية مصيرية يتوقف عليها خلود البشرية في الجنة أو النار .
4_ نفي الغُلول عنهم :
     قال الله تعالى : } وما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّ { [ آل عمران : 161] {(5)}.
     أي : ما كان لنبي أن يخون في الغنيمة .
     فالغُلول والنبوة ضدان لا يجتمعان . والخيانةُ فعل مضاد لقيمة النبوة الطاهرة الصافية النقية ، وتتعارض    _ كلياً _ مع مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الْمُنَزَّهة عن الغدر والخيانة وكافة الصفات الذميمة التي ينفر منها الإنسانُ العادي ، فما بالك بالنبي المعصوم المؤيَّد بالله تعالى ، والذي يَنزل عليه الوحي ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( نَزلت هذه الآية } وما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّ { في قطيفة حمراء فُقدت يوم بَدْر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . فأنزل الله _ عز وجل _ : } وما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّ { _ إلى آخر الآية _ )){(6)}.
     فقد نزَّه اللهُ تعالى نبيَّه عن الغلول ( الخيانة في الغنيمة ) لأنها تطعن في أخلاق النبوة المعصومة ، فهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم عالية لا تَنزل إلى مستوى أخذ قطيفة ( ثوب مخمل ) وإخفائها عن أصحابه . فهو الصادق الأمين الذي رفض متاعَ الدنيا الزائل في سبيل الدعوة الإسلامية ، وتحدى كلَّ الإغراءات التي تم تقديمها له متمسكاً بحمل أمانة تبليغ الرسالة الإلهية دون تخاذل أو تكاسل ، وبلا زيادة أو نقصان .
     وقد عرض مشركو قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أعظمَ العروض الدنيوية التي تجذب ضعاف النفوس وأصحابَ القلوب المريضة لكنه رفض دون تردد أو ضعف ، فقالوا : (( فَإِنْ كُنْتَ إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالاً ، وإن كنتَ إنما تطلب الشَّرف فينا سَوَّدْنَاكَ علينا ، وإن كنتَ تريد به مُلْكاً مَلَّكْنَاكَ علينا )){(7)}.
     ومَن كان هذا حاله ودرجة صموده فهل سيغتر بثوب مخمل أحمر يخفيه عن أعين أصحابه ؟! .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( بعث نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فَرُدَّتْ رايته ، ثم بَعث فرُدَّت بغلول رأس غزال من ذهب . فنزلت } وما كان لنبيٍّ أن يَغُلَّ { )){(8)}.
     إن تأثير الغلول مدمِّر في صفوف المؤمنين ، فهو يُضعف الروحَ المعنوية ، ويؤثر سلباً على مجريات الأمور ، ويعكس صورةً سلبية عن الجيش الذي تنتشر فيه هذه الآفة . لذلك فقد حاربها الإسلامُ بكل قوة للحفاظ على صورةِ الجهاد نقيةً من كل شائبة ، وحفظِ نقاء المجاهِدين الذين يقاتِلون في سبيل الله تعالى ، وليس من أجل متاع دنيوي زائل .
     وفي الحديث المتفق عليه. البخاري ( 3/ 1118)ومسلم ( 3/ 1461 ): أن أبا هريرة _ رضي الله عنه _ قال : (( قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلولَ ، فعظَّمه ، وعظَّم أمرَه )) .
      فالغلول ( الخيانة في المغنم ) من الكبائر . فإثمها عظيم لاشتمالها على الخيانة والغدر والسرقة والأنانية . حيث يقوم فاعلُها بتقديم شهوة نفسه الشريرة في حب التملك بغير وجه حق ، فهو لا يقدِّر جهود إخوانه ، حيث يقوم بخداعهم مستخدماً وسائل التحايل الخفي ، وإيثار نفسه الأمَّارة بالسوء على المؤمنين الذين يمارسون فعلَ التضحية راجين الثواب من عند الله تعالى .
     كما أن الغلول يشير إلى نفسية بالغة السوء وقلبٍ أعمى مريض غارق في لعاعة الدنيا دون النظر إلى وحدة الصف الإسلامي ، والتماسكِ الاجتماعي الإيماني . كما أن أثره قاتل في زراعة الحواجز بين المؤمنين وفقدان الثقة ، وإقامة السدود المانعة من التواصل بين الجماعة المؤمنة ، وهذا يجعل المجتمعَ الإسلامي جُزراً متباعدة متباغضة ، فتؤول قوتهم وتماسكهم إلى شظايا مبعثرة بائسة .
5_ مهمتهم في البلاغ :
     قال الله تعالى : } يا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسولُنا يُبيِّن لكم كثيراً مِمَّا كنتم تُخفون من الكتاب ويعفو عن كثير { [ المائدة : 15] .
     والخطابُ الإلهي مُوَجَّه لأهل الكتاب ( اليهود والنصارى ). فقد جاءهم النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم ليوضِّح كثيراً من الأمور التي أخفاها أهل الكتاب وحرَّفوها وتلاعبوا بها ( مثل : آية الرَّجم وقصة أصحاب السبت الذين مُسِخوا قردةً ) ، ويتجاوز النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كثير من باطلهم وتحريفهم للكتاب لعدم وجود فائدة في بيانه . وإظهارُ ما أخفاه أهلُ الكتاب دليلٌ باهر على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه أُمِّي لم يقرأ التوراة والإنجيل . إذن ، هذه المعلومات التي أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أي مصدر إلا الوحي الموجِّه لسلوك النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملاته .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال : (( مَن كَفَر بالرَّجم فقد كفر بالرحمن ، وذلك قول الله :  } يا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسولُنا يُبيِّن لكم كثيراً مِمَّا كنتم تُخفون من الكتاب ويعفو عن كثير { ، فكان مما أَخفوا الرَّجمُ )){(9)}.
     وعن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رَجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما تجدون في التَّوراة في شأن الرَّجم ؟ )) ، فقالوا : نفضحهم ويُجْلَدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إِنَّ فيها الرَّجْمَ ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفعْ يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرَّجم ، فقالوا : صدقَ يا محمد ، فيها آيةُ الرجم . فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما {(10)} .
     وهكذا نرى ضعاف النفوس يحاولون إخفاءَ النصوص الدينية والتحايلَ عليها من أجل تحقيق مصالح شخصية ، وبسطِ السيطرة والنفوذ على الأتباع الجهال الذين لا يملكون حصيلةً علمية . وتظهرُ مسألةُ الرجم في هذا السياق لتعكس طبيعةَ تفكير أهل الكتاب العائشين في الأوهام والعقائد المتضاربة ، والخاضعين لسُلطة رجال الدين وعِلْيةِ القوم في تفسير النصوص والتلاعب بها حسب الأهواء والمنافعِ الذاتية . حيث يتم تمييعُ النصوص الدينية وإعادةُ تأويلها أو إخفاؤها لتتناسب مع الظروف ، فتصبحُ البيئةُ المحيطةُ هي الحاكمة على النص الديني وليس العكس . فنجدُ أن أهل الكتاب أَخْضَعُوا كلامَ اللهِ المقدَّسَ لأهواء البشر ، وآراءِ النخبة الدينية المحصورة في الضغوطات السياسية والاجتماعية . فتكرَّس التحريفُ في التوراة والإنجيل ، وصار كلامُ الإنسان _ عند أهل الكتاب _ هو الحاكم على كلام الله تعالى . وهذا منتهى الضلال والكفر .
     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1327 ) : عن البراء بن عازب _ رضي الله عنه _ قال : مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي مُحمَّماً _ أي مُسْوَد الوجه _ مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال : (( هكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم ؟ )) ، قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال : (( أنشدكَ بالله الذي أَنزل التوراةَ على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ )) ، قال : لا، ولولا أنكَ نَشدتني بهذا لم أخبركَ . نجده الرجم ولكنه كَثُرَ في أشرافنا، فَكُنَّا إذا أخذنا الشريفَ تركناه وإذا أخذنا الضعيفَ أَقمنا عليه الحدَّ. قُلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميمَ والْجَلْدَ مكان الرَّجم .
     وهذا الحديثُ يشير إلى الأيدي العابثة بالنصوص الشرعية خضوعاً لاعتبارات دينية أو سياسية أو اجتماعية. فتصبح فلسفةُ تغيير الأحكام الإلهية شريعةً جديدة عند أهل الكتاب نزولاً عن ضغط الأهواء والمنفعةِ الدنيوية القاصرة . وهكذا ندرك الأساس الفكري لتحريف التوراة والإنجيل ، والذي يتمحور حول التلاعب بالعامة عبر خداعهم ، وتثبيت خضوعهم للسُّلطة الدينية المشوَّشة والسُّلطةِ السياسية المتحالفة مع طبقة رجال الدِّين ، لضمان استمرارية حاكمية الطغاة دون تغيير ، وبالطبع فإن الشعب هو من يدفع الثمن .
     وقال الله تعالى : } يا أهلَ الكتاب قد جاءكم رسولُنا يُبيِّن لكم على فترة من الرُّسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير { [ المائدة : 19] .
     واللهُ تعالى يخاطب أهلَ الكتاب ( اليهود والنصارى ) ويمنُّ عليهم أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم لبيان الشريعة الإلهية الصحيحة بعد انتشار عبادة الأوثان ، وتحريفِ التوراة والإنجيل ، وتفشي العقائد الزائغة التي ما أَنزل اللهُ بها من سلطان . والبعثةُ المحمَّدية الإسلامية جاءت بعد مدة زمنية طويلة منذ عيسى صلى الله عليه وسلم ( أقرب الأنبياء زمنياً إلى النبي الخاتَم محمد صلى الله عليه وسلم ) .
     وهذا فضلٌ إلهي جليل . فالخالقُ الرحيم بعباده لم يتركهم للشياطين تتلاعب بهم ، ولم يكلهم إلى أنفسهم وأهوائهم . بل أرسل إليهم خيرَ رُسله محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من سنوات الجهل والظلام والكفر إلى الحضارة النورانية الإيمانية .
     وبعد رفع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى السماء انقطع وجود الأنبياء لمدة ستمائة سنة {(11)} حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم . وفي فترة الانقطاع انتشرت الأديانُ الباطلة ، واتسعت رقعةُ عبادة الأصنام حيث انتشرت الوثنية والعقائد المنحرفة . وأضحى وجهُ الأرض كئيباً جراء العقائد الكُفرية ، وغيابِ الهداية الإلهية ، واتباع الناس لأهوائهم وشياطينهم . فجاءَ محمد صلى الله عليه وسلم ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى وتوفيقه ، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2197 ) : عن عياض بن حمار _ رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب )) .
     وهذا الحديثُ يتعلق بالفترة الزمنية التي سبقت البعثة المحمَّدية الإسلامية . فقد أبغضَ اللهُ أهلَ الأرض بسبب انحرافهم واتباعهم للشيطان وعدم التزامهم بشرائع الأنبياء السماوية ، إلا بقايا من أهل الكتاب المتمسكين بالدِّين الحق من غير تحريف .
     وتتكرس العلاقة بين محمد وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ باعتبارهما رسولَيْن كريمَيْن ، وباعتبار الفترة الزمنية بينهما. فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة )){(12)}.
     فالأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ إخوةٌ ، دينهم واحدٌ . يَحْملون كلمةَ الله تعالى إلى الناس لإنقاذهم ، وإخراجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . وكلُّ نبي يُصدِّق مَن قَبْله . وكُلُّهم يصنعون البنيانَ الإيماني على سطح الأرض دون تعارض أو تنافر .
6_ أمرهم بالتذكير :
     قال الله تعالى : } وَذَكِّرْ فإن الذِّكرى تنفع المؤمنين { [ الذاريات : 55] .
     وهذا أمرٌ إلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يَعِظَ ويُذَكِّر بفضل الله تعالى ونعيمه وعقابه ، وتوضيح العلاقة بين الخالق والمخلوق ، والرابطة بين الدنيا والآخرة، لأن الموعظة تنفع أهلَ الطاعة الملتزِمين بالإيمان قولاً وفعلاً. فقلوبهم بيئة صالحة لاستقبال نور الدعوة ، واحتضان الحق في صدورهم . وهذا يعينهم على الثبات والمضي قدماً لحمل الرسالة الإلهية ونشرها في العالَم .
     وقال الطبري في تفسيره ( 11/ 475 ) : (( وَعِظ يا محمد من أُرسلتَ إليه ، فإن العِظة تنفع أهلَ الإيمان بالله )) اهـ .
7_ لا أجر لهم على التبليغ :
     قال الله تعالى : } قُل لا أسألكم عَلَيْه أَجراً إلا المودَّةَ في القُرْبى { [ الشُّورى : 23] .
     فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أُجرةً على الدعوة إطلاقاً ، ولا يطمح لنيل أَجر بسبب قيامه بأعباء الرسالة. فهو يمتثل أمرَ الله تعالى في الدعوة والتبليغ ، وينتظر المكافأةَ الكبرى من خالقه وحده . مع ضرورة الانتباه إلى أن الاستثناء منقطع، فالمودةُ في القُربى ليست أجراً على الرسالة ، لذا فإن المعنى هو : لا أسألكم أجراً قط ، ولكني أسألكم المودة .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 142 ) : (( أي : قُل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أُبلِّغ رسالات ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة )) اهـ.
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1289 ) أن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة ، فنزلت عليه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم )) .
     فالنبي صلى الله عليه وسلم ذو نسب رفيع في قومه ، وهذا النَّسب متشعب ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بعائلات قُريش ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية الجو الأُسري والترابط الاجتماعي بين العائلات والقبائل ، فهو لم يجئ ليُفتِّت المجتمع ، أو يمزِّق الوشائج العائلية ، بل ليحميَ علاقات القرابة ويجعلها تنطلق من منظور شرعي . وهذا ما سعى إليه .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا أسألكم على ما آتيتُكم من البيِّنات والهدى أَجراً إلا أن تُوادُّوا اللهَ ، وأن تَقرَّبوا إليه بطاعته )){(13)}.
     فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يطلب أجراً أو منزلةً دنيوية على الدعوة ونشرِ الهدى . فهو يسعى إلى نشر محبة الله تعالى وحضِّ المؤمنين على اعتناقها قولاً وفعلاً، وأن يتقرَّبوا إلى خالقهم بامتثال أوامره،واجتنابِ نواهيه.
8_ حكمتهم في الدعوة :
     قال الله تعالى : } ادْعُ إلى سبيل ربِّكَ بالحِكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسن { [ النحل : 125] .
     إن الدعوة الإسلامية منهجيةٌ متكاملة . لم تجيء لتُضيِّق على الناس وتحرجهم . بل جاءت لرفع الحرج، وفتحِ الأبواب المغلقة أمام الأشواق الروحية ، والتطلعاتِ الجسدية ، والإبداعاتِ البشرية. فالدعوةُ الإيمانية متوافقة مع الفِطرة الإنسانية السليمة دون تعارض أو ضغط أو كبت .
     كما أن المنهج الدعوي قائم على الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالأسلوب الأحسن ، واحتضان الناس ، ومد يد العون لهم ، لا التنغيص عليهم ، أو حشرهم في الزاوية . فالدعوةُ مشروعُ إنقاذ عالمي لكي يستعيد المرءُ إنسانيته المفقودة والمبعثرة بين شظايا الحياة المادية الضاغطة ، وكي يجد نفسَه الضائعة في متاهات الدنيا ، ويدرك دورَه المركزي في صناعة حاضر هذه الأرض ومستقبلها من منظور إيماني يُفجِّر الطاقاتِ المبدعة ولا يقمعها .
     وفي هذا السياق تظهر أهمية الأسلوب الدعوي في جذب الأتباع، وتعميقِ الإيمان في صدورهم عن طريق أخلاق الداعية السمحة وأسلوبه الوعظي الجذاب الذي يخاطب القلبَ والعقلَ معاً فيستقطب الناسَ ولا يُنفِّرهم. فوضعُ الكلام السليم في سياقه الصحيح بأسلوب حكيم ، من شأنه وضع الدعوة الإسلامية في أقصى مداها، وبيان مزاياها.وهذا يجعل الناس يلتفون حولها، ويتخذونها مشروعَ حياتهم وغاية وجودهم على الأرض .
     والأنبياءُ عموماً ، والنبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً . كلهم التزموا بمنهج الحِكمة في الدعوة ، قولاً وفعلاً . فهم حريصون على إنقاذ الناس من النار الأبدية ، وإرشادهم إلى النعيم السرمدي ، وذلك بامتثال الأوامر الإلهية في كل صغيرة وكبيرة . فهذا المنهجُ النوراني كفيلٌ بمنح السعادة للناس في الدارَيْن .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 4/ 506 ): (( فأما السبيل فقال مقاتل : هو دين الإسلام.
وفي المراد بالحكمة ثلاثة أقوال : أحدها أنها القرآن.. والثاني الفقه .. والثالث النبوة .. وفي الموعظة الحسنة قولان  : أحدهما مواعظ القرآن  .. والثاني الأدب الجميل الذي يعرفونه  ..  قوله تعالى : } وجادِلْهم { في المشار إليه قولان أحدهما أنهم أهل مكة..والثاني أهل الكتاب.. وفي قوله: } بالتي هي أحسن { ثلاثة أقوال أحدها جادلهم بالقرآن،والثاني بـِ لا إله إلا الله ..والثالث جادلهم غير فظ ولا غليظ وألن لهم جانبك )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } فقولا له قَوْلاً ليِّناً لعلَّه يتذكر أو يخشى { [ طه : 44] .
     وهذا أمرٌ إلهي لموسى وهارون _ عليهما الصلاة والسلام _ أن يقولا لفرعون الطاغية قولاً لَيِّناً بأسلوب جَذَّاب لا يُنفِّره ، لعله يعود إلى الصواب ، فيؤمن بالله الخالق العظيم . فالأسلوبُ الخشن يعمل باتجاه مضاد للدعوة ، ويقود إلى مشكلات جمة تؤثر سلباً على مسار التبليغ .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 207 ) : (( هذه الآية فيها عِبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك،ومع هذا أُمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين )) اهـ.
     وصدق القائل :
يا مَن يتحبَّب إلى من  يُعاديه           فكيف بمن يتولاه ويناديـه ؟
     وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى حين بعثهما إلى اليمن قائلاً : (( يَسِّرا ولا تُعَسِّرا ، وَبَشِّرا ولا تنَفِّرا ، وتطاوعا ولا تختلفا )){(14)}.
     فبثُّ المعاني الطيبة الهادئة في النفوس بأسلوب ناعم وسلس من شأنه أن يُلين قلوبَ الناس ، ويعمل على استقطابهم إلى الإيمان بالله تعالى ، لأن النفوس مجبولة على حب من أَحسن إليها ، وقدَّم لها المساعدة بأسلوب طيب . وكما قال الشاعر :
أَحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ                 فطالما  استعبدَ  الإنسانَ  إِحسانُ
     فالإحسانُ إلى الناس يجعل المرءَ يسيطر على قلوبهم ، فتنقاد جوارحُهم إليه وتخضع له ، وتسمع لكلامه ، وكأنها تحت تأثير السِّحر . فالكلمةُ الطيبة لها وقعٌ عميق في النفوس .
     وقال الله تعالى : } وإذا سمعوا اللغوَ أعرَضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عَلَيْكم لا نبتغي الجاهلين { [ القَصَص : 55] .
     وفي هذه الآية مدحٌ لقوم من أهل الكتاب كانوا إذا سمعوا الباطلَ أعرَضوا عنه ، فلا يخوضون فيه ، ولا يشتركون مع أهل الباطل في جهلهم وضلالهم. بل يبتعدون عنهم ، ويُلقون سلامَ المتاركة لا سلامَ التحية ، في إشارة واضحة إلى الفراق والمخالفة في النهج .
     وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 6/ 230 ) : (( قوله تعالى: } وإذا سمعوا اللغوَ { فيه ثلاثة أقوال : أحدها الأذى والسب .. والثاني الشِّرك .. والثالث أنهم قوم من اليهود آمنوا ، فكانوا يسمعون ما غَيَّر اليهودُ من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكرهون ذلك ، ويُعرضون عنه .. وفي قوله : } وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم { قولان : أحدهما لنا ديننا ولكم دينكم ، والثاني لنا حِلمنا ولكم سفهكم . } سلامٌ عَلَيْكم { قال الزجاج : لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتارَكة وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .. وفي قوله :} لا نبتغي الجاهلين { ثلاثة أقوال : أحدها لا نبتغي دِين الجاهلين ، والثاني لا نطلب مجاورتهم ، والثالث لا نريد أن نكون جهالاً )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } ولا تجادِلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هِيَ أحسن إلا الذين ظلموا مِنهم {  [ العنكبوت : 46] .
     أي : لا تُجادِلوا أيها المؤمنون أهلَ الكتاب ( اليهود والنصارى ) إلا بالأسلوب الحسن ، والحجَّةِ الدامغة، وبيانِ وجوه القصور في عقائدهم الباطلة بالنقاش الطيب ، وإظهارِ تماسك العقيدة الإسلامية دون إكراه أو غلظة . أما المحارِبون من أهل الكتاب الذين يناصبونكم العداء فهؤلاء لا يُحاوَرون إلا بالسيف والشدة .
     وفي الدر المنثور للسيوطي ( 6/ 468 ) : (( عن مجاهد في قوله : } ولا تجادِلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هِيَ أحسن { قال : إن قالوا شراً فقولوا خيراً ، إلا الذين ظلموا منهم فانتصِروا منهم )) .
9_ حُكمهم بين الناس :
     قال الله تعالى : } كان الناسُ أُمَّةً واحدةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبيِّين مُبشِّرين ومُنذِرين وأنزل معهم الكتابَ بالحق لِيَحْكُمَ بَيْن الناس فيما اختلفوا فيه { [ البقرة : 213] .
     إن اللهَ تعالى لم يترك الناسَ فريسةً لأهوائهم وشياطينهم ، وإنما أرسل أنبياءه لينقذوا الخلقَ . لكنَّ الحقب الزمنية اشتملت على فترات مد وجَزْر بالنسبة للإيمان . فهناك أزمنة انتشر فيها الإيمانُ وعمَّ في الأرجاء . وفي أزمنة أخرى انتشر الكفرُ واختلط الحابل بالنابل . وهنا تبرز حتميةُ الحرص على الإيمان ، والدوران معه حيث دار . فإن اختفى الإيمانُ من مكان ، فعلى المرء أن يجتهد لإعادته ، وإصلاح الفساد ، لا أن يتخذ القضاء والقَدَر ذريعةً لتقاعسه ويأسه . إذ إن طبيعة المؤمن متميزة تجعله غير قابل للاستسلام ورفع الراية البيضاء ، فهو صامدٌ على جميع الجبهات ولا يُصاب بالعجز مهما تلقى من مصائب ، لأن معدنه النبيل يجعله شعلةَ نشاط لا تنطفأ ، وجوهره الأصيل يدفعه إلى التحدي حتى الرمق الأخير . 
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما_: في قوله: } كان الناسُ أُمَّةً واحدةً { ، قال: على الإسلام {(15)}.
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث اللهُ النبيِّين مُبشِّرين ومُنذِرين )) {(16)}.
     ويأتي الأنبياءُ _ عليهم الصلاة والسلام _ لعلاج أمراض الفرد والمجتمع . فحيثما يكون المرضُ يظهر الطبيبُ المنقِذ . فانحراف الناس عن طريق الإيمان أدى إلى تفشي الأمراض الروحية والجسدية في المجتمع ، فعمَّ البلاءُ ، وابتعد الناسُ عن المنهج السماوي . فأرسل اللهُ تعالى أنبياءه لانتشال الخلق من مستنقع الكفر والجهل مُؤيَّدين بالكلام الإلهي الذي يَحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . فالكتابُ السماوي الذي أَنزله اللهُ تعالى هو الْحَكَم الحاكِم . فأنزل اللهُ تعالى الكتابَ مع الأنبياء بالحق (( ليحكمَ الكتابُ _ وهو التوراة _ بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه.فأضاف جَلَّ ثناؤه الْحُكْمَ إلى الكتاب، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسَلين، إذ كان مَن حَكَمَ من النبيين والمرسلين بِحُكْم إنما يحكم بما دَلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل اللهُ _ عز وجل _ ، فكان الكتابُ..حاكماً بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره )) {(17)}.
     والكتبُ السماوية لم تجيء لِتُوضَع على الرفوف . بل جاءت ليتم تطبيقها واقعاً ملموساً في حياة الناس لأنها مشتملة على التعاليم الإلهية الكاملة المعصومة . والقرآنُ الكريم آخر الكتب السماوية وقد نَسَخَها . فهو الدستور الإلهي الخالد حتى يوم القيامة يجب تطبيقه والالتزام به ، والابتعاد عن الدساتير الوضعية التي وضعها بشرٌ ناقصون لا يتمتعون بالكمال أو العصمة. فالكلامُ الإلهي هو المنقِذ للبشرية من كل أزماتها . أما البشرُ العاجزون عن معرفة ذواتهم والوقوف على أسرار أجسامهم التي يحملونها ، فلا يَقدرون على التشريع الكامل المطلق .
     وقال الله تعالى : } لقد أَرْسَلْنا رُسُلَنا بالبيِّنات وأَنزَلْنا معهم الكتابَ والميزانَ لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْط {[ الحديد : 25] .
     فاللهُ تعالى أرسل الرُّسلَ بالحجج الدامغة والدلائلِ الهادية ، وأنزل الكتبَ السماوية والعدل لكي يقوم الناس بتطبيق الشريعة الإلهية في حياتهم، فتستقيم أمورُهم وفق مراد الله تعالى ، فيعمرون الأرضَ بالإيمان والخير ، ويحصلون على السعادة الأخروية . وهكذا يفوزون في الدنيا والآخرة .
     فقد ضمن اللهُ تعالى السعادةَ للناس إذا اعتصموا بشريعته الكاملة المعصومة التي لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها . فإذا ساروا وفق المنهج الإلهي فإنهم سيجدون أنفسَهم ، ويكتشفون طاقاتِهم الإبداعية ، ويصبحون عناصر فاعلة في زراعة الأرض بالخير لكي يحصدوا الفوزَ والنجاة في الآخرة ، لأن الحياة الدنيا هي مزرعة الآخرة . وفي الدار الآخرة يكون الحصادُ ، وكما تَزرع تَحصد .
     قال ابن الجوزي في زاد المسير ( 8/ 174 ) : (( وفي الميزان قولان : أحدهما أنه العدل .. والثاني أنه الذي يُوزَن به .. فعلى القول الأول يكون المعنى: وأمرنا بالعدل، وعلى الثاني : ووضعنا الميزان ، أي أمرنا به ليقوم الناسُ بالقسط ، أي لكي يقوموا بالعدل )) اهـ .
10_ لكل أُمَّة نذير :
     قال الله تعالى : } وإن مِن أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذير { [ فاطر : 24] .
     فكلُّ أُمَّةٍ سابقة جاءها نبيٌّ ينذرهم مسترشِداً بالوحي الإلهي المعصوم . فالأممُ السابقة جاءها من ينذرها بأسَ الله تعالى ، ويقيم عليها الحجَّة . وقال الشوكاني في فتح القدير ( 4/ 491) : (( واقْتُصِر على ذكر النذير دون البشير لأنه ألصق بالمقام )) اهـ .
     وقال الثعالبي في تفسيره ( 3/ 256 ) : (( معناه أن دعوة الله تعالى قد عمَّت جميعَ الخلق . وإن كان فيهم مَن لم تباشره النذارة فهو ممن بَلَغَتْه ، لأن آدم بُعث إلى بنيه ، ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم )) اهـ .
11_ بلسان قومهم :
     قال الله تعالى : } وما أَرْسَلْنا مِن رسول إلا بلسان قَوْمه لِيُبَيِّنَ لهم { [ إبراهيم : 4] .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 9/ 290 ) : (( أي بلغتهم ليُبيِّنوا لهم أمر دينهم ، ووحَّد اللسان وإن أضافه إلى القوم ، لأن المراد اللغة فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير ، ولا حُجَّة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأن كل من تُرجِم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمةً يفهمها لزمته الحجَّة )) اهـ.
     إن اللهَ تعالى يُرسِل الرسولَ بنفس لغة قومه لكي يقدر على دعوتهم وتعليمهم وإرشادهم وإقامة الْحُجَّة عليهم ، وفي نفس الوقت لكي يقدر الناسُ على فهم كلام الرسول والتخاطب معه . فتتجذر لغةُ التواصل دون حواجز أو عقبات لغوية. وهذا يساهم في تحقيق مُرادِ الله تعالى في إنقاذ الناس ، ونشرِ الدعوة على أكمل وجه حتى تصل إلى كل الشرائح الاجتماعية دون حدود لغوية أو مشكلاتٍ في طريقة التخاطب والدعوة .
     وقال الحافظ في الفتح ( 9/ 10 ) : (( لا يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أُرسِل بلسان قريش فقط لكونهم قومه ، بل أُرسِل بلسان جميع العرب لأنه أُرسِل إليهم كلهم ، بدليل أنه خاطب الأعرابي الذي سأله بما يَفْهمه بعد أن نزل الوحي عليه بجواب مسألته ، فدلَّ على أن الوحي كان يَنزل عليه بما يفهمه السائل من العرب قرشياً كان أو غير قرشي )) اهـ .
     والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أُرسِل إلى الإنس والجن . وهذا لا يستلزم أن يتقن كلَّ اللغات ، لأن لغته صلى الله عليه وسلم هي لغة قومه ( العربية ) ، وبعد ذلك تنطلق حركةُ الترجمة . ويجب على المسلمين أن يَحْملوا أمانةَ الدعوة الإسلامية إلى أرجاء العالَم ، كلاً حسب طاقته . فالدعوةُ النبوية الإسلامية لا تنقطع .
........الحاشية.............
{(1)} شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ، ص 149 .
{(2)} تفسير ابن كثير ( 1/ 407 ) .
{(3)} متفق عليه.البخاري ( 6/ 2534 )برقم ( 6518 )،ومسلم ( 4/ 1845 ) برقم ( 2374).
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 15/ 37 و38 ) : (( فجوابه من خمسة أوجه: أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سَيِّد ولد آدم ، فلما علم أخبر به . والثاني : قاله أدباً وتواضعاً ، والثالث : أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي  إلى تنقيص  المفضول . والرابع :  إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة ... والخامس : أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى . ولا بد من اعتقاد التفضيل )) .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 353 ) برقم ( 3255) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(5)} قال الحافظ في الفتح ( 6/ 185 ) عن الغلول : (( أي الخيانة في المغنم . قال ابن قتيبة : سُمِّيَ بذلك لأن آخذه يَغُلُّه في متاعه أي يخفيه فيه . ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر )) .
{(6)} رواه أبو داود ( 2/ 426 ) برقم ( 3971 )،والترمذي ( 5/ 230 ) برقم ( 3009 ) وحسَّنه.
{(7)} تفسير الطبري( 15/ 164 )، وانظر تفسير ابن كثير ( 3/ 63 )،والسيرة الحلبية ( 1/ 487 ).
{(8)} رواه الطبراني ( 12/ 134 ) برقم ( 12684 ).وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 52 ):(( ورجاله ثقات )) . وقال السيوطي في الدر المنثور ( 2/ 361 ) : وسنده جيِّد .
{(9)} صحَّحه ابن حبان ( 10/ 276 ) برقم ( 4430 ) . ورواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 400 ) برقم       ( 8069 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي ./ ملاحظة : الكفرُ لا يكون إلا بإنكار نص قطعي الورود ( القرآن الكريم والحديث المتواتر ) وقطعي الدلالة . 
{(10)} رواه البخاري( 3/1330 ) برقم ( 3436) واللفظ له،ومسلم ( 3/ 1326 ) برقم( 1699). وقال الحافظ في الفتح ( 12/ 168 ) : (( قال الباجي: يُحتمل أن يكون عَلِم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شُرع لم يلحقه تبديل . ويُحتمل أن يكون علم ذلك بإخبار عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم منهم على وجه حصل له به العلم بصحة نقلهم. ويُحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يتعلم صحة ذلك من قِبَل الله تعالى )) اهـ .
{(11)} روى البخاري في صحيحه( 3/ 1435) عن سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ قال : (( فترة بين عيسى ومحمد _ صلى الله عليهما وسلم _ ستمائة سنة )) . وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 277 ) : (( والمراد بالفترة المدة التي لا يُبعَث فيها رسولٌ من الله، ولا يُمْتَنَع أن يُنَبَّأ فيها مَن يدعو إلى شريعة الرسول الأخير . ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا )) اهـ .
{(12)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1270 ) برقم ( 3259 )،ومسلم ( 4/ 1837 ) برقم ( 3259).
{(13)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 481 ) برقم ( 3659 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(14)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1104 ) برقم ( 2873 )،ومسلم ( 3/ 1359 ) برقم ( 1733).
{(15)} رواه الطبراني( 11/ 309 ) برقم ( 11830 ).وصحَّحه السيوطي في الدر المنثور ( 1/ 582).
{(16)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 596 ) برقم ( 4009 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .

{(17)} تفسير الطبري ( 2/ 347 ) .