العقائد الدينية في شعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
...............................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
...............................
تمهيد
إن العقيدة الدينية حاضرة في شِعر المعلَّقات على الرغم مِن كَوْن أصحابها
وثنيين . وقد وَصلتهم الكثير من العقائد الدينية ، لكنهم خَلطوها بالشِّرك ، ولم
يتمكنوا من جعلها صافيةً . وينبغي ألا ننسى أن العرب مِن ذُرية إسماعيل بن إبراهيم
_ عليهما الصلاة والسلام _ ، وهما نَبِيّان كريمان قاما بأداء دورهما في إيصال
الرسالة الإلهية إلى الناس . كما أن العرب عاشوا في بيئة يتواجد فيها اليهود
والنصارى . وهذا يعني أن بَعْضاً من تعاليم موسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _
قد وَصلتهم . ومن الطبيعي أن يتأثر الجو العربي بعقائد أهل الكتاب .
ومن المؤسف أن طول المدة الزمنية بين الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام _
وبين عرب الجاهلية قد أدى إلى حدوث تلاعب كبير بالعقائد الدينية في البيئة العربية
ومزجها بالأصنام والأفكار الشِّركية دون وجود بصيص أملٍ ، أو ظهور ضوء في آخر
النفق . ولا يَخفى أننا نتحدث عن الفترة الزمنية السابقة لظهور النبي محمد_عليه
الصلاة والسلام_،حيث كانت الجزيرة العربية غارقة في الظلام العَقَدي.
وعلى الرغم من كَوْن
عقائد شعراء المعلَّقات_بشكل عام_ مضطربة ومشوشة، ويَختلط فيها الحق بالباطل ،
إلا أنها متفقة على الإيمان بوجود الله تعالى وتعظيمه ، وتعظيم الكعبة التي
تُعتبَر القِبلة المقدسة ، ومركز الوجود الديني في الجزيرة العربية . وقد كان عربُ الجاهلية
لا يبنون بنياناً مُربَّعاً ، ويَعتبرون ذلك خطاً أحمر ، وذلك تعظيماً للكعبة ،
لكي تظل متفردة ومميَّزة عن باقي الطُّرز المعمارية .
وهذا الفصلُ سيتناول عقيدةَ شعراء
المعلَّقات الظاهرة في أشعارهم . ولا يَخفى أن أساس كل عقيدة دِينية هي وجود الله
تعالى . كما أن هذا الفصل سيتطرق إلى كشف الظروف الاجتماعية والأبعاد النفسية ذات
الارتباط الوثيق بالعقيدة والقيم الدينية .
1_ العقيدة في الله :
لم يكن شعراءُ المعلَّقات مجموعةً من البدو العائشين في الصحراء بلا تاريخ.
ولم يكونوا أشخاصاً عاديين محصورين في نظام استهلاكي شهواني . بل كانوا فلاسفة
تَشغلهم الأسئلةُ الكبرى حَوْل الإنسان والجماعة والحياة والموت والوجود والمصنوع
والصانع . وكانوا أصحابَ تأملاتٍ حقيقية في هذه الحياة الدنيا ، وهذا لا يتعارض مع
كَوْنهم أبناء بيئتهم الصحراوية البدائية ، وإفرازاتها المادية الفجة .
والشاعرُ الجاهليُّ متعلِّقٌ بالأسباب
الدنيوية ، وغارقٌ في العلائق المعيشية في واقعه اليومي المحسوس. وعندما تُغلَق
الأبوابُ في وجهه، فإنه يتذكر خالقَ الأسباب، ويتعلق بالقوة الإلهية المحرِّكة
للعلاقات الدنيوية. وهذا دَيْدن غالبية الناس في كل العصور .
وإننا لنجد الشاعر طَرَفة بن العبد يعيش
حياته بالطُّول والعَرْض دون حساب . وعندما يغرق إلى شحمة أذنيه في مشكلاته
الشخصية ، وأزماته الاجتماعية والاقتصادية ، فإنه يتذكر قدرةَ رَبِّه اللامحدودة ،
فيقول :
فلوْ شاءَ رَبِّي كُنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن
مَرْثَدِ
فحينما اشتد عليه الخِناقُ
، وضاقت عليه الأرضُ بما رَحُبت ، ووَجد نَفْسه عاجزاً أمام ضغوطات الحياة اليومية
، أخذَ يفكِّر في قُدرة الله تعالى ، ويَبني عقيدته وفق المشيئة الإلهية . فهو
يقول إن الله لو شاءَ لجعله قيس بن خالد أو عمرو بن مرثد . وهذان رَجلان من سادات
العرب في الجاهلية، مشهوران بكثرة الأموال ، وذكاءِ الأولاد ، وشرفِ النسب ، وعِظَم الحسَب .
لقد أدركَ طَرَفة حجمَ
المأزق الذي يَغرق فيه، فلم يَعترف بتقصيره، أو بأخطائه، أو سوءِ تصرفه الذي أورده
المهالك . بل هربَ إلى الأمام ، وذلك بالتعلق بالمشيئة الإلهية . وكأنه يقول إنه
لا ذَنْب لي في وصولي إلى هذه الحالة المزرية . فلو شاءَ اللهُ لجعلني سيداً من
سادات العرب ، ولكنه لم يشأ ذلك . إذن ، فالمشيئةُ الإلهية لا يمكن مقاومتها،وأنا
لا ذَنْب لي بالموضوع. وهكذا يتملص_وفق منظوره الشخصي_ من كل مسؤولية ولَوْم .
وهنا يَظهر قصورُ الفهم
في موضوع المشيئة الإلهية ، ويبرز الخلطُ بين مشيئة الله تعالى بمعنى تعلُّق
إرادته بوقوع شيء ما ، وبين مشيئة الله التي رَبطت الأسباب والمسبِّبات . فلا بد
من الأخذ بالأسباب لتحصيل المال ، والحصول على الأولاد . فالسماءُ لا تُمطِر ذهباً
ولا فضة . كما أن الأولاد لا يأتون من الهواء ، وإنما يأتون من العلاقة بين
الرجل والمرأة .. إلخ. وهذا المعنى المتكوِّن من السبب والمسبِّب غائبٌ بالكلية
عن ذهن الشاعر الذي كان حريصاً على إيجاد " صَك غُفران " يُريحه من عذاب
الضمير ، ويَحميه من نظرات الناس . فوجدَ في فهمه المغلوط للمشيئة الإلهية خلاصاً
له ، ونهايةً لآلامه ، وتبريراً لأخطائه . كما أن فهمه المغلوط يَعكس المرارةَ
العميقة التي تتأجج في ذاته ، واعترافاً ضمنياً بانهياره وسوءِ حاله ، وفقدان
الثقة بمن حَوْله . ومن الملاحَظ أيضاً أن نظرة طرفة _ في هذا السياق _ كانت
ماديةً بحتة، فقد اعتبر هذين الرجلَيْن ( قيس بن خالد وعمرو بن مرثد ) مثلاً
أعلى، وقُدوةً سامية تَرنو إليها الأنظار ، وتنتهي إليها الآمال . وهما رَجلان
مشهوران بالمال والأولاد، ولَيْسا مشهورَيْن بالعِلم أو الثقافة أو الشِّعر_على
سبيل المثال_. وهذا يشير إلى أن المال والأولاد كانا الرُّكنين الأساسِيَّيْن في
بناء المنظومة الاجتماعية الجاهلية ذات الصبغة المادية المنبثقة من البيئة
الصحراوية القاسية .
إن الفهم المغلوط
للمشيئة الإلهية يتماهى مع الفهم المغلوط للقضاء والقَدَر، حيث إن الكثيرين يَضعون
فشلَهم ، وفقرَهم ، وعجزَهم ، وخطاياهم ، تحت مظلة القضاء والقَدَر لكي يَرتاحوا
من تأنيب الضمير ، ووخزِ الواقع المؤلم ، ولَوْمِ الناس الذي لا يَنتهي . وهذا يدل
على وجود ثقافة تبريرية منتشرة على نطاق واسع ، لا تعترف بالخطأ والخطيئة ، وإنما
تظل تَدور حَوْلهما للإفلات من تأثيرهما . وهذا إن دَلَّ على شيء ، فإنما يدل على
وجود ضغط هائل _ مِن قِبَل عناصر البيئة الاجتماعية_ على الفرد والجماعة . وفي
كثير من الأحيان يكون الوقتُ الذي يستغرقه تبريرُ الأخطاء كافياً لإصلاحها .
والعربُ في الجاهلية _
بشكل عام _ كانوا يَرفضون الاعتراف بالخطأ ، ويَعتبرونه خطاً أحمر . فهُم يَنظرون
إلى " الاعتراف بالخطأ " على أنه إهانة للفرد ، وتدنيس لرمزية القبيلة
ومكانتها، وتدمير للمنزلة الاجتماعية ، وخضوع للآخرين ، وتسليم بشروطهم . لذلك كان
العربُ يترفعون عن الاعتراف بالخطأ، ويتكبرون على الحق، بدافع العصبية القَبَلية
وعوامل أخرى ذات صبغة شخصية ومجتمعية . وهكذا تتجلى حَمِيَّةُ الجاهلية في أعنف
صورها، وتبرز في المرجعية الذهنية ، وتَظهر في التطبيقات الواقعية .
ونجد الشاعر زُهير بن
أبي سُلمى قد وصلَ إلى حقيقة أن اللهَ محيطٌ بكل شيء ، وأن عِلْمه شامل لكل
الأشياء ، ولا يمكن أن يحدَّه حَد . فاللهُ مُطَّلع على خبايا النفوس. والإنسانُ
هو كتابٌ مفتوح أمام خالقه ، ولا يمكن إخفاء شيء عنه .
يقولُ الشاعرُ زُهَيْر
بن أبي سُلمى :
فلا تَكْتُمُن اللهَ ما في نفوسكم لِيَخفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
وهذا البيتُ يشتمل على موعظة دينية وأخلاقية
في آن معاً . والشاعرُ يُطالِب بعدم إضمار الغدر ونقض العهد، وتبييتِ نية الخيانة
. وهذا الإضمارُ _ إن حَصَلَ_ فإن الله يَعْلمه ، لأنه عالِم بالسرائر ، وكاشفٌ
لضمائر العباد . والشاعرُ يُثبِت صفة العِلم لله . ولا شك أنه وصل إلى هذه العقيدة
عن طريق اختلاطه بأهل الكتاب . ففي الجاهلية ذات الصبغة الوثنية لم يكن الناسُ
معنيين بمعرفة الصفات الإلهية، ولم يهتموا
_ بالأساس _ بهذه المباحث. وهي بالتأكيد كانت ضمن عقائد أهل الكتاب التي
اطَّلع عليها الشاعرُ ، واعتنقها ، وبثَّها في شِعره .
ولم يكتفِ زهير بإثبات
صفة العِلم لله ، بل أيضاً نراه يتحدث عن عقائد مرتبطة باليوم الآخر الذي يُعتبَر
الإيمانُ به ناسفاً للعقائد الوثنية في البيئة العربية . فالعربُ يَعتبرون الموتَ
هو النهاية التي لا شيء بعدها ، لذلك لا يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور
والحساب. وشعارُهم في هذه القضية" أرحامٌ تَدفع وأرضٌ تَبلع " ، وانتهى
الموضوعُ . أمَّا زُهير بن أبي سُلمى _ وهو ابن البيئة الجاهلية الوثنية _ فقد
خالفَ إفرازاتِ العقلية العربية ، وخرجَ عن المسار الوثني بشكل كامل ، مخالِفاً
تقاليد الآباء المتوارثة . يقول زُهير :
يُؤَخَّر فيُوضع في كتابٍ فَيُدّخَر ليَوْمِ الحسابِ أو يُعَجَّل فيُنقَمِ
فهو يؤمن بأن الله يُؤخِّر العِقابَ
ويُؤجِّله ، فهو يُمهِل ولا يُهمِل . والأعمالُ تُوضَع في كتاب ، وتُسجَّل فيه بكل
دقة. ويُدَّخر ليوم الحساب ، أو يتم تعجيل العقوبة في الدنيا ، فَيُنْتَقَم من
المسيء. وهذا معناه أن العقوبة قادمة لا محالة _ آجلاً أو عاجلاً _ ، ولا مهرب
منها . وهذا اعترافٌ واضح من الشاعر بوجود الله ، وعِلْمه بالجزئيات والكليات .
وأيضاً ، الإيمان باليوم الآخر ، والبعث ، والحساب ، وكتابة أعمال العِباد في
الصحف .
إن زهيراً يَكشف عقيدته
المضادة لتاريخ قَوْمه ، والمخالِفة للتراث الوثني المنتشر في البيئة العربية التي
نشأ فيها، وعاشَ فيها . ولا يَخفى أنه شاعرٌ جاهلي ماتَ قبل البعثة المحمَّدية
الإسلامية. فمن أينَ استقى هذه العقائد الغَيْبية التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن
الذهن العربي ؟. لقد استقاها_حتماً_ من أهل الكتاب المؤمنين بالله واليوم الآخِر
والبعث والحساب. وهذا يشير إلى مخالطته لأهل الكتاب ، والاستماع إليهم، والاطلاع
على عقائدهم . كما يدل على حُب زهير للمعرفة والاطلاع ، وبحثه عن الحقيقة ، وعدم
أخذ عقائد قَوْمه الوثنيين كمسلَّمات . فهو دائمُ البحث للوصول إلى الحق لكي يَحصل
على الطمأنينة ، ويَتخلص من القلق الرهيب الذي كان يتلاعب به ضمن النسق الجاهلي .
فعدمُ الاطمئنان إلى عقائد آبائه وقَوْمه العائشين في بيئته جعله قَلِقاً ، كثيرَ
التفكير . وهذا أدى إلى بحثه عن عقيدة جديدة تشعره بالأمان الروحي ، والسَّكينة
العاطفية ، والراحة الجسدية .
وبالطبع ، لم يَجد أفضلَ
من أهل الكتاب الذين يُقدِّمون أنفسهم كوارثين للإرث النبوي ، إرث موسى وعيسى _
عليهما الصلاة والسلام _ ، وكأصحاب رسالة سماوية تتجلى في التوراة والإنجيل ، وليس
رسالة أرضية وضعية . وبالتأكيد ، لقد نَظر زهير إلى أهل الكتاب باعتبارهم المثل
الأعلى ، والقُدوة السامية ، وحاملي الوحي الإلهي . وهذا جعله ينضم إليهم روحياً
وعَقدياً على الرغم من بقاء جسمه مع أبناء جِلْدته في بيئته العربية الجاهلية .
وها هُوَ الشاعر لَبيد
بن أبي ربيعة يُبرِز أهميةَ الإيمان بما قَسَمه اللهُ تعالى ، وضرورة الرضا
بالقِسمة والنصيب . فاللهُ الخالق هو أعلمُ بالناس من أنفسهم ، وأرحم بهم من
أمهاتهم ، وقد قَسَمَ المعايشَ والخلائق بالعدل ، وما على الإنسان إلا الرضا
والتسليم والتزام القناعة .
يقول لَبيد :
فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها
وهنا تَظهر أهميةُ القناعة بالقِسْمة
الإلهية . فاللهُ تعالى قَسَمَ لكل شخص ما يستحقه من غنى أو فقر ، كمال أو نقص ،
رِفعة أو ضَعة . وهذه الأمورُ لم تجيء عبثاً أو بمحض الصُّدفة ، لأن قَسَّامَ
المعايش هو عَلَّامها الذي يَعلم كلَّ شيء . وبما أن عِلم الله كاملٌ وشاملٌ، إذن
.. فالقِسمة الإلهية ستأتي معصومةً لا تَقبل التشكيك أو الطعن، ولا خيار للإنسان
إلا الاقتناع بها ، وقبولها بكل صدر رحب .
إن عِلْمَ الله شاملٌ
لكل شيء ، ومحيطٌ بالجزئيات والكليات . وهذه الحقيقةُ تَظهر في قول الشاعر الحارث بن حِلِّزة :
وَفَعَلْنا بِهِم كما عَلِمَ اللهُ ومَا إنْ للحائنين دِمـاءُ
إنه يَفتخر بقومه الذين سَحقوا أعداءهم ،
وفَعلوا بهم فعلاً بليغاً لا يُحيط به عِلماً إلا الله تعالى. فالبشرُ لا يمكنهم
تصوُّر هذا الفِعل العظيم، والإحاطة به . وَحْدَه الله هو القادر على الإحاطة به ،
لأن عِلمه شاملٌ وغير محدود . والشاعرُ في هذا السياق يُبيِّن أمرَيْن أساسيَّيْن
: الأول _ تعظيم فِعل قَوْمه ، وإعلاء شأنهم ، وبسط نفوذهم ، وصناعة هالة إعلامية
حول أمجاد القبيلة . والثاني _ إظهار سَعة عِلم الله ، فهذا العِلمُ لا بداية له
ولا نهاية. وعِلمُ البشر المحدود عاجزٌ عن الإحاطة بفعل قَوْمه بسبب عَظَمته.
واللهُ هو الذي يُحيط به عِلماً لأنه الخالق الكامل الذي لا يَطرأ عليه نقصٌ ، ولا
يُصيبه نسيان أو ضعف .
ويواصل الشاعرُ تعظيمَ
قَوْمه ، والحط من شأن أعدائهم . حيث يقول إنه لا دماء للمتعرِّضين للهلاك أو
الهالكين . وبعبارة أخرى ، لم يُطالب أحدٌ بثأرهم ودمائهم . لقد ذَهبت دماؤهم
هدراً ، ولم يأخذ أحدٌ بثأرهم ، بل لم يُطالِب أحدٌ _ أصلاً _ بثأرهم . وهو
يُصوِّرهم في هذا النسق كبشر تافهين لا تاريخ لهم ، ولا قبيلة تَسندهم ، ولا أحد
يسأل عنهم ، أو تهمُّه أخبارهم . إنهم مجرد جِيَف وضيعة . دماؤهم ذَهبت أدراجَ
الرياح . وقد قُتلوا مجاناً ، فَهُم مخذولون لم يَنصرهم أحدٌ في حياتهم، ولم
يُطلَب بثأرهم بعد قَتلهم. عاشوا وماتوا وكأنهم أرقام ، مجرد أرقام ذَهبت إلى
النسيان.
والشاعرُ يَهدف إلى
تصويرهم كأصحاب منزلة اجتماعية وضيعة، لا اسم لهم، ولا تاريخ لهم. ولو كانوا من
أصلٍ كريم شريف ، ويَنتمون إلى قبيلة قوية، لتمَّت المطالبة بدمائهم والأخذ بثأرهم
_ على أقل تقدير _. وبما أن هذا الأمر لم يَحدث ، إذن .. فهُم أشخاص بلا أي وزن ،
عاشوا وماتوا دون أن يَسأل عنهم أحدٌ ، وهذا منتهى الذل والخزي والعار .
وفي هذا السياق تَظهر
فلسفةُ الشِّعر الجاهلي في زمن الحروب والنزاعات . حيث يتم إعلاءُ شأن القبيلة
وتلميع اسمها ، ورسم هالة مقدَّسة حَوْلها ، ووصفها بكل الصفات الحسنة ذات التأثير
الإيجابي في النفوس. وفي المقابل يتم تدمير صورة القبيلة المعادِية، والحط من
شأنها ، وتلطيخ اسمها ، والتفتيش عن عيوبها ، أو اختراع عيوب لها ، ولصق كل الصفات
القبيحة بها ، والتي تَجعل الناسَ يَنفرون منها ، ويُصابون بالقرف عندما يَسْمعون
باسمها . إنها حربٌ إعلامية شَعواء تَجري على قَدَم وساق يقودها الشعراءُ.
فالشاعرُ هو وزيرُ إعلام القبيلة المنافِح عن أمجادها، والهادم لأمجاد أعدائها.
إن الصراع بين القبائل
يَحمل صبغةً هستيرية قاسية ، فلا توجد ضوابط لهذا الصراع الدموي، ولا توجد حدود
للحروب القَبَلية . فكلُّ شيء مسموح في هذه الحروب الطاحنة ، والغايةُ تبرِّر
الوسيلةَ. والمهمُّ أن تَعلوَ كلمةُ القبيلة ، ولا تَسقط مهما حَصَلَ . فالقبيلةُ
هي حَجَرُ الزاوية ، وهي رأس الأمر في الجاهلية . وكلُّ القدرات مُسخَّرة لحفظ
مكانتها ، وإعلاء شأنها بين القبائل .
يقول الحارثُ بن حِلِّزة :
فَهَداهم بالأسْوَدَينِ وأمرُ اللهِ بِلْغٌ تَشْقَى بهِ الأشقيــاءُ
يُعطي الشاعرُ وصفاً سريعاً للعسكر . فقادَ
هذا العسكر ، وزادهم التمر والماء ( الأَسْودان )، أي إنهم جهَّزوا أنفسهم بالتمر
والماء ، وذلك لكي يَحصلوا على القوة، ويَستطيعوا الوقوفَ في وجه الأعداء . وكلُّ
قوةٍ عسكرية بحاجة إلى تموين وتغذية جيدة كي تَقْدر على أداء دورها بشكل فعَّال .
والتمرُ والماءُ هما مَصدرا الطاقة للعسكر والجيوش .
ويُبرِز الشاعرُ عقيدته
في الله تعالى ، فهو يَعتقد أن أمرَ الله بالغٌ مَبالغهِ يَشقى به الأشقياء في
حُكمه وقضائه . ولا شيء يَقف في طريق الأمر الإلهي . فأمرُ اللهِ نافذٌ لا محالة ،
لا يُوقفه شيء . ومَن كُتب عليه الشقاءُ فسوفَ يَكون من الأشقياء ، ولا فرصة أمامه
للهرب .
والشاعرُ يُصوِّر
الأعداءَ كأشقياء خاضعين لأمر الله تعالى ، ولا مجال أمامهم للخروج من دائرة
الشقاء . وهكذا نرى الشاعرُ قَد وَضعهم في القائمة السوداء معتمداً على فهمه للأمر
الإلهي . وهو بذلك يُحاول جعلَ أمر الله في صَفِّه وصَفِّ قَوْمه _ إن جاز التعبير
_ ، وضد الأعداء . وهنا تبرز قضية غاية في الخطورة ، وهي توظيفُ العقيدة الدينية
لصالح العَصَبية القَبَلية . وكأن الشاعرَ يَهدف إلى " احتكار أمر الله
" لصالحه وصالحِ قَوْمه. فَمَن عادى قَوْمه فقد أدخل نَفْسَه في دائرة الشقاء
الأبدي ، لأن اللهَ غالبٌ على أمره ، وأمرَه سَيَبْلغ مَبالغه ، ولا توجد قوة
قادرة على مواجهته . وهكذا يَظهر لنا قضية توظيف الدِّين لخدمة الدنيا ، واستخدام
العقيدة لتحقيق أغراض شخصية ، ومصالح قَوْمية .
ومن الجدير بالذِّكر أن
الشاعر لم يُعْطِ تعليلاً لسبب شقاء الأعداء . ولكنْ من الواضح ، أن سبب شقائهم _
حَسْبَ منظور الشاعر _ هو وقوفهم ضد قَوْمه . ومَن وَقفَ ضد قَوْمه فكأنما وَقف ضد
الله تعالى الذي لا يمكن مواجهته ، ولا يمكن إيقاف أمره النافذ .
وإذا انتقلنا إلى الشاعر النابغة الذبياني نجده معنياً بكلام الله لأنبيائه
. وكلامُ الله هو صفةُ اللهِ القديمةُ، فالكلامُ صِفةُ المتكلِّم . كما أن
النُّبوة مَظهرٌ لتجليات الرحمة الإلهية على البشر .
واللهُ تعالى كان قادراً على تَرك البشرية تَهوي في الضلال ، لكنه _ سبحانه
_ اختارَ أن يُرشدَ الخلائقَ إليه ، ويُنقذهم من الضلال ، ويَمنحهم السعادة في
الدنيا والآخرة ، لذلك أرسلَ إليهم الأنبياء الذين كانوا أفضلَ المعلِّمين
والمصلِحين . والشاعرُ مُهتم بالتوجيه الإلهي لأنبيائه ، وإبراز التعاليم السماوية
وعلاقتها بمقام النُّبوة ،_ وكل ذلك طبعاً حَسْبَ اعتقاده وتصوُّره _ .
يقول النابغة الذبياني :
إلا سُليمان إذ قال الإلهُ لـهُ قُم في البَرِيَّة فاحددها عن الفنَدِ
وهنا تتَّضح عقيدةُ الشاعر ، فهو مؤمنٌ بالله تعالى ، والوحي الإلهي ،
والنُّبوة . وقد أوردَ اسمَ النبي سليمان_عليه الصلاة والسلام_. ويقول الشاعرُ إن
الإلهَ قال لسليمان الحكيم: قُم في البَرِيَّة، فاحبسها عن الخطأ في الرأي والقول
، وامنعها من الظلم .
وهذا يُشير إلى إيمان الشاعر بالكلام الإلهي ، والوحي السماوي ، وكَوْن
تعاليم السماء تَحمل رسالةَ الخير والحق والفضيلة ، ونشر العدل بين الخلائق ،
ومنعها من الظلم أو الخطأ . وهنا تَظهر قناعةُ الشاعر بأهمية اتصال الأرض بالسماء
، وأهمية التوجيهات السماوية العُليا لصلاح العالَم السُّفلي ( الأرض ) .
وينتقل النابغة الذبياني إلى تمجيد الله تعالى ، وإظهار قوته ، وقدرته على
حماية مخلوقاته ، وإحاطتهم بالأمن والأمان ، فيقول :
والمؤمنِ
العائذاتِ الطيرَ تمسحها رُكبانُ
مكة بين الغِيْل والسَّعدِ
والمؤمِن هو الله تعالى
الذي آمَنَ عائذاتِ الطير وأجارها وحماها . وهي التي عاذت بالْحَرَم ، أي التجأت
إليه فوَجدت الأمانَ والحمايةَ ، تلَمسها أو تزورها رُكبانُ مكة بين الغيل والسعد
، وهما أجمتان بين مكة ومِنى .
إن اللهَ يُجِيرُ ولا
يُجار عليه. وهذه الحقيقة آمن بها النابغة الذبياني، وسطَّرها في شِعره، ووضعها في
صورة فنية. فالطيرُ في الْحَرَم آمنٌ على نَفْسه ، لا أحد يتعرض له بسوء ، وما كان
هذا لِيَحْدث لولا أن الله آمنَ الطيرَ من الخوف ، وحماه من كل مكروه .
فاللهُ هو المؤمِن الذي
يَرْجع إليه الأمنُ والأمانُ، ولا أحد يَقْدر على منحهما سواه. فهو واهبُ الأمن .
والأمنُ عكس الخوف. ولا يَخفى أن المؤمِن هُوَ اسم من أسماء الله الحسنى. وهذه
المعاني أشارَ إليها الشاعرُ ، فلا بد أنها كانت راسخةً في قلبه وعقله .
والشاعر عُبَيْد بن
الأبرَص يُمجِّد اللهَ تعالى في شِعره، ويُورِد بعض المعاني الهامة . فهو يشير إلى
أن سائلَ الله لا يَخيب ، فمن يُقبِل على الله تعالى سوفَ يُقبَل ، ولن يُرَدَّ
خائباً . وهنا تبرز أهميةُ الاستعفاف، وقطعِ علائق الخضوع للناس. وتتضحُ ضرورة التوجه
إلى الله بالكُلِّية، لأنه_سبحانه_ لا يُخيِّب مَن دعاه ، ولا يَحْرم سائلَه .
يقول عُبيد بن الأبرص :
مَن يَسأل الناسَ يَحْرِموه وسَائلُ اللهِ لا يَخيــبُ
فالذي يَسأل الناسَ ويتوجه إليهم سيحرمونه ،
ويردونه خائباً. فالناسُ غارقون في نظام مادي ، وبعيدون كل البعد عن المشاعر
الإنسانية ، كما أن حرصهم على الدنيا ، وتكالبهم عليها ، والإمساك بالشهوات
بالأظافر والأسنان ، كل هذه العوامل تجعل الناس يُديرون ظهورهم لمن يسألهم،
ويَحرمونه من كل خير. أمَّا الذي يَسأل اللهَ تعالى ، فإنه سيفوز بمراده ولن
يَخيب. فاللهُ لا يَطرد من يأتيه،فهو الكريم الذي لا تنفد خزائنه، ولا يخاف من
الفقر ، ولا يخشى تقلباتِ الزمان . والشاعرُ قد عَرَفَ الناسَ وعجنهم وخبزهم ،
فوجدهم أصحاب صفات سيئة ، حريصين على مصالحهم الذاتية ، ولا يُفكِّرون في مساعدة
الآخرين . لقد غسل يده من الناس، وتوجَّه إلى الله تعالى، فهو المتَّصف بالكمال
والكَرَم ، ولا يَرُد من يسأله . والمخلوقُ لا يستحي أن يرد أخاه خائباً مكسوراً ،
أمَّا اللهُ العظيمُ فيستحي من عبده الضعيف إذا بَسط إليه يديه أن يرده خائباً .
وهنا يتضح الفرق بين صفات الخالق الكاملة وصفات المخلوقين الناقصة .
ويقول عُبَيْد بن
الأبرَص :
باللهِ يُدْرَكُ كل خَيْــرٍ والقَوْلُ في بَعْضِه تَلْغيبُ
لا سبيل للوصول إلى الخير بدون التوفيق
الإلهي. وإذا استعانَ الشخصُ بالله تعالى، فإنه سَيُدْرِك كلَّ خير. أمَّا إذا
اعتمد على نَفْسه ومواهبه الذاتية فسوفَ يضل الطريقَ ، لأن الإنسان عاجزٌ ، وخاضعٌ
لقوة أعلى منه ، إنها قوة الله تعالى . كما أن الإنسان _ بِحُكْم ضَعفه _ لا يَقْدر على جلب الخير
أو دفع الشر اعتماداً على ذاته . فالعاجزُ لا يمكن أن يَصدر عنه الكمالُ . لذلك
يقرِّر الشاعرُ أن كلَّ خير إنما يُدرَك بالله . فاللهُ هُوَ الكاملُ ، ولا يَصْدر
عن الكامل إلا الخير والكمال .
ويشيرُ الشاعرُ إلى
أهمية الكلام ، وضرورة اختياره بعناية فائقة . فالإنسانُ قد يَقول قَوْلاً بلا
تدبر ولا تفكير، فيكونُ منه ما لا خير فيه. ففي بَعض القول تلغيبٌ ، أي : ضعف أو
إتعاب لقائله. وهذا الكلامُ غير المحسوب قد يجرُّ شراً على صاحبه ، ويكون سبباً في
هلاكه . وكَم مِن شخص سَقط ضحيةَ لسانه ، وكَم مِن إنسان قتله لسانُه . لذلك قيل :
لسانُ العاقلِ مِن وراء قلبه ، وقلبُ الجاهل
مِن وراء لسانه . يعني أن العاقلَ يفكِّر
بالكلام قبل أن يَنطق به ، فإن كان خيراً نطقَ به ، وإن كان شراً لم يَنطق به.
أمَّا الجاهلُ فيُلقي الكلامَ دون تفكير، وبعد ذلك تبدأ رحلةُ الندم _ حين لا يَنفع الندم _. والكلمةُ كالرصاصة إذا انطلقتْ فلا يمكن
إرجاعها ، ولا بد أن تُصيب شيئاً ما . كما أن الإنسان هو مالِكُ كلامِه ما دامَ
كلامُه في صدره ، فإذا خرجَ الكلامُ صار الإنسانُ أسيراً لكلامه .
ويقول عُبَيْد بن الأبرَص :
واللهُ لَيْسَ لهُ شَـريكٌ
عَلَّامُ ما أَخْفت القلوبُ
إنه إقرارٌ بوحدانية
الله تعالى . وهذا الإقرارُ يجيء من قلب البيئة العربية الوثنية التي تعتمد
الشِّركَ بالله رأساً للعقائد، ومَصْدراً للتشريع الدِّيني والاجتماعي بكل
إفرازاته . لقد استمع الشاعرُ لنداء الفِطرة التي تقرِّر وحدانيةَ الله تعالى ،
وخالفَ عقائدَ الآباء ، وعارضَ الموروثَ الديني في بيئته الغارقة في تقديس الأصنام
وعبادتها تقرُّباً لله تعالى .
فها هو يقرِّر أن الله
واحدٌ في ذاته ، وواحدٌ في صفاته ، ليس له شريكٌ أرضي ولا سماوي . ومِن صفاته
تعالى أنه عَلَّام ما أَخفت القلوبُ ، مُطَّلع على السرائر ، لا تخفى عليه خافية .
والذي يَعرف خبايا القلوب الباطنة ، يَعرف أعمالَ الإنسان الظاهرة . والمنطقُ يقول
إن معرفةَ الظاهر أَهْونُ من معرفة الباطن . وعند اللهِ ، كلُّ شيء هَيِّن ، لا
يُعجزه شيء ، ولا يَصعب عليه شيء .
2_ الحلفُ بالله :
الحلفُ باللهِ تعظيمٌ
لله تعالى، وتعظيمٌ لمقام الأُلوهية . فالإنسانُ حين يمرُّ في موقفٍ صعب ، وتُحيط
به الأزمات، فإنه يلجأ إلى خالقه تعالى، وتختفي أمامه قوة الكائنات الحية، وقوة
الجمادات ، فلا يعود يرى إلا القوة العُليا السَّامية ، قوة الله تعالى ، فيلجأ
إليها . والحلفُ بالله يَشتمل على هذه المعاني .
يقول امرؤ القَيْس :
فقالتْ يَمينَ اللهِ ما لكَ حِيـلةٌ وَما إنْ أرى عنكَ الغَوايةَ تَنْجلي
يَخبرنا الشاعرُ عن
حبيبته ، فقد حاصرها من كل الجهات ، ولم يترك لها منفذاً للتهرب أو الهرب ، ويَرفض
أن يَتركها وشأنها . وعندما أحسَّت الحبيبةُ أن دائرةَ الحِصار قَد أُطبقت عليها ،
زالت القوى البشرية المحدودة من قلبها وعقلها ، ورأتْ قوةَ خالق البشر، فاعتمدتْ
على الحلف بالله في هذا المأزق الخطير الذي وَقعت فيه. فهي في حالة اضطرار لا
اختيار . والإنسانُ _ عادةً _ لا يَلجأ إلى الحلف إلا في المواقف الصعبة. وكأن
الحلفَ في هذا الموضع يَحمل نداء استغاثة ضمنياً، أو طلب مساعدة خفياً . والإنسانُ
_ عندما تُغلَق في وجهه كل الأبواب وتتساقط أمام عينيه الأسباب والمسبِّبات _ ،
فإنه يفرُّ إلى خالق الأسباب، ويُهرَع إلى بابه .
وها هِيَ تقول: أحلف
بالله، ما لي حِيلة لإبعادكَ عني ، ولا سبيل إلى دَفعكَ ، وليسَ لكَ حَل . وهنا
يبرز ضعفُ الأنثى وعَجْزها أمام شهوة الذَّكر الجامحة ، وإلحاحه الشديد . فالعاشقُ
قد أَحكم قَبضته على المرأة التي يُحبُّها، ولا يَسمح لها بالفرار أو الهروب من
هذا المأزق . فقد وَصلا إلى نقطة اللاعودة ، وهو يُريد استغلال هذا الموقف حتى آخر
لحظة ، فقد لا يتكرر ثانيةً . وإذا سَيطرت الشهوةُ على الأعضاء ، فإن صوتَ العقل
يتلاشى ، وتصبح الغريزةُ هي القوةَ الضاربة ، وصاحبةَ اليد الطولى .
إنها لم تجد حِيلةً ولا
حَلاً لإصرار الشاعر ، ولا ترى في الأفق بارقةَ أمل . فهي مقتنعة أن الضلالة
مسيطرة على الشاعر ، ولن يُفلِت منها . وقد أَعْمته هذه الضلالة فلم يَعد يرى غيرَ
لذة القرب من الحبيبة، مهما كانت الأخطار المحدِقة مثل : انكشاف أمره أمام الناس،
أو التسبب بفضيحة لا أول لها ولا آخر، أو معرفة الأهل بالموضوع ، خصوصاً أهل
الحبيبة .
وينبغي تذكُّر أن
المجتمع الجاهلي هو مجتمع قَبَلي مُغلَق لا مجتمع مُنفَتح متحرر . وهذا المجتمعُ
المغلَق المحافِظ يَحرص على قيم الشرف ، وصَوْن الأعراض . والجميعُ على استعداد
لبذل دمائهم رخيصةً من أجل حماية سُمعة القبيلة ، وحماية أعراض نسائها . وهذه
القضيةُ لا مُساوَمة فيها ، ولا مُساوَمة عليها . لذلك ما قامَ به الشاعرُ يُمثِّل
مغامرةً خطيرةً. إنه يَلعب بالنار،ومع هذا لم يكترث بهذه النار لأنه في جنَّة
الحبيبة.
وقد قال الرواة : (( هذا
أغنج بيت في الشِّعر )) . وكأنهم يَستشعرون انكسارَ الحبيبة أمام حبيبها،
ويَعتبرون أن كلامَها لا يَنبع من قلبها، وإنما يَنطلق من وراء قلبها ، وأنها
تتمنَّع وهي راغبة . وبعبارة أخرى ، إنها تريد بقاءَ حبيبها معها ، ولكنها لا
تَقدر على التصريح بهذا ، لِمَا في الأمر من خطورة أكيدة. وكأنها تقول له بلسان
المقال : ابتعدْ عني ، أمَّا لسانُ حالها : اقتربْ مني . أي إنَّ قلبَها وعقلَها
يَسيران في مسارَيْن متوازيَيْن ولا يَلتقيان .
وبشكلٍ عام ، سيظل
حَلْفُها بالله تعالى مؤشراً واضحاً على صعوبة الموقف ، والمعاناةِ الشديدة التي
تكابدها روحياً ( عاطفياً ) ، ومادياً ( جسمانياً ) .
ونَنتقل من الحلف في
المجال العاطفي الذي يتعلق بمشاعر فردية ، إلى الحلف في المجال السياسي العسكري
الذي يتعلق بحياة الجماعة ، ومصائر الكثيرين .
يقول زهير بن أبي سُلمى :
ألا أَبْلِغِ الأحلافَ عني رسـالةً وَذُبيانَ هل أَقسَمتُم كل مُقسَمِ
إنها رسالةٌ سياسية إصلاحية تمس حياةَ الفرد
والجماعة . فالشاعرُ هنا يَلعب دوراً هاماً في الفكر السياسي القَبَلي ، ويقدِّم
نَفْسَه كزعيم عشائري وداعية سلام ، يَجْمع ولا يُفرِّق ، أو وسيط دبلوماسي هَمُّه
تقريب وجهات النظر ، وجمع الأطراف على كلمة سَواء . وهذا جانبٌ مهم من جوانب شخصية
الشاعر ، فهو لا يَكتفي بترتيب الكلام ، وصناعة الصور الفنية الجَمالية . إنه
يُحوِّل شِعْرَه إلى نظرية في عِلم الاجتماع السياسي ، ويَجعل كلامه وثيقةَ صُلح
ومحبة بين القبائل المتناحرة .
وقد اندلعت حربٌ طاحنة
بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان . وقد نصَّب الشاعرُ نَفْسَه رَجلَ سلام وصُلح ،
ووضع شِعْرَه في سياق إنهاء الحرب ، وإشاعة السلام والوئام . وهذا يدل على بُعد
نظره ، وكَوْنه مثقَّفاً عُضوياً ، أي منخرطاً في قضايا مجتمعه ، وهموم أفراده
وطموحاتهم .
يقول الشاعر : أَبلغ
ذُبيان وحُلفاءها ، وقُل لهم قد حَلفتم على إبرام الصُّلح كل حلف ، فاحذروا من
الحنث باليمين.
فالشاعرُ يَدعوهم إلى
حفظ اليمين. فهذه قضيةٌ لا تحتمل التلاعب، ولا تَقبل التحايل. فالحنثُ باليمين
يُعتبَر وصمة عار، ويُشير إلى سوءِ الأخلاق، وخُبث السريرة، وفساد الطباع ، ويدل
على انهيار الشخصية الإنسانية، وتلاشي القِيَم.
وبالإضافة إلى هذا،
فاليمين متعلِّق بإبرام الصُّلح ، وإنهاء حالة الحرب بين عَبْس وذُبيان. ويترتبُ
على الحنث به عودة الحرب ، وإزهاق الأرواح، وإتلاف الممتلكات . فلا بد من تذكيرهم
باليمين ، وضرورة الالتزام به . فالالتزام به طريقُ الخير والسلام والمصالحة
القَبَلية ، أمَّا الحنثُ به فهو طريق الشر والحرب والدمار الحتمي .
ويقول النابغة الذبياني
:
حَلفتُ
فلم أترك لنفسكَ رِيبةً وليس
وراءَ الله للمرء مَطْلبُ
إن الشاعرَ يؤكد أنه قد
حَلَفَ ، ولولا أن الأمر جليل لما أَقدم على هذا الأمر . وقد أَقدم على الحلف لأنه
يريد ألا يترك في نَفْس المخاطَب شَكاً ولا رِيبة . وليس بعد اليمين بالله مجال
لطلب غير ذلك من الحجج ، فلا بد من تصديقه وعدم تكذيبه، وهذا ما يَطمح إليه
الشاعرُ، وقد جاءَ باليمين من الأجل الوصول إلى هذه الغاية ( تصديقه وتَنْزيه
كلامه عن الكذب ) . فاليمينُ بالله هو أعظمُ حُجَّة، وأكبر دليل. وإذا لم يُصدِّق
المخاطَبُ هذا اليمينَ ، فلن يُصدِّق شيئاً ، وستنهشه الوساوسُ والشكوك .
3_
تعظيمُ الكعبة :
تعظيمُ الكعبة عقيدةٌ
أساسية في الجاهلية . فالكعبةُ هي بيتُ الله الذي طاف حَوْله الأنبياء والناس من
بعدهم، وهي مركزُ الوجود الدِّيني في الجزيرة العربية ، ومحط أنظار العرب من شتى
القبائل ، ومَوْضع حَجِّهم، وبيت أبيهم إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ ، ومأوى
أفئدتهم ، وحاضنة أصنامهم. وقد كان عربُ الجاهلية لا يَبنون بنياناً مُربَّعاً تعظيماً للكعبة ،
وحِفظاً لمكانتها وتميُّزها . لذلك ،
فليس غريباً أن يُحلَف بها ، وأن تُذكَر في المعلَّقات . ولَوْلا مكانتها السامية
لما تم تعليق أشعارهم عليها .
يقول الشاعرُ زهير بن أبي سُلمى :
فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَه رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيْشٍ
وَجُرْهُـمِ
لقد بدأ كلامَه بالقَسَم بالكعبة المشرَّفة،
ولَوْلا عَظَمتها لَمَا أقسمَ بها . ولا يكتفي بالقَسَم بها ، بل يُركِّز _ أيضاً
_ على قضية الطواف بها . وهو يشير إلى مَن طافَ حَوْلها ، وهُم رِجالٌ قاموا
ببنائها ، ويَنتمون إلى هاتَيْن القبيلتَيْن . جُرهم : وهي قبيلة قديمة تزوَّج
فيهم إسماعيل _ عليه الصلاة والسلام _، فَغَلبوا على الكعبة والْحَرم بعد وفاته ،
وضعف أمرُ أولاده ، ثم استولى عليها بعد جُرهم خُزاعة ، إلى أن عادت إلى قُرَيْش (
وهو اسم لولد النضر بن كنانة ) .
ولم يَكتفِ الشاعرُ
بتعظيم الكعبة وإبراز قُدسيتها ومكانتها الجليلة عن طريق القَسَم بها ، بل _ أيضاً
_ يُبرِز الحالةَ التاريخية المحيطة بالكعبة . وكأنه يُريد توضيح الأصول التاريخية
للكعبة ، والقول إن مقدَّسات العرب لها تاريخٌ ضارب جذوره في الأعماق ، وليست
مقدَّسات سطحية جاءت صُدفةً ، أو تم اختراعها دون سند حضاري أو تاريخي .
ونراه يُنوِّه بقُرَيْش
وجُرهم ، ويُظهِر دورهما التاريخي في بناء الكعبة ، والسيطرة عليها ، وبَسط النفوذ
على الْحَرم . وهُما قبيلتان عريقتان لهما وزنٌ مهم في حضارة الجزيرة العربية ،
وتاريخهما جزءٌ من تاريخ الكعبة. ولا يَخفى أن القبائل تَنظر إلى الكعبة باعتبارها
المركز ، وتَنظر إلى القبيلة التي تَغلب على الكعبة على أنها سَيِّدة القبائل بلا
منازِع ، والقبيلة الأولى المقدَّمة في كل المحافل . فالأمرُ لا يَقف عن الدلالة
الدينية، بل يحتوي_كذلك_على دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة الأهمية، ولا
يمكن تهميشها بأية حال من الأحوال .
ويقول الشاعرُ النابغة
الذبياني :
فلا، لَعَمْرُ الذي مسّحتُ كعبتَــه وما هُريق على الأنصاب من جسدِ
يَحلفُ الشاعرُ بربِّ الكعبة التي مَسَّحها
، أي طافَ بها ولَمَسَها . وهنا تَظهر إحدى الشعائر التعبدية ، وهي الطواف حَوْل
الكعبة ولَمْسها للتبرك بها . كما تَظهر إحدى الشعائر الوثنية التي كانت تُدنِّس
الكعبةَ المشرَّفة، وهي الذبحُ للأصنام ، وتقديم القرابين للآلهة . فالأنصابُ هي
حجارةٌ كانت تُنصَب في الجاهلية ، وتُذبَح عليها الذبائح ، فيسيل الدمُ على
الأنصاب . وهذه التفاصيل وضَّحها الشاعرُ من أجل إظهار عقيدته الإيمانية ( الإيمان
بالأصنام الآلهة والالتزام بكافة الطقوس التعبدية من ذبحٍ ، وتقديم قرابين ، ...
إلخ ) . فالشاعرُ ملتزم بدِين آبائه الموْروث بكل تفاصيله ، ولا يَحيد عنه . وهذه
القضيةُ _ بالنسبة إليه _ قضية مبدأ لا مساوَمة فيها .
وهذا الطقسُ الديني (
الذبح على الأنصاب ) شديد الأهمية في العقيدة الوثنية الجاهلية ، لأنه تجسيدٌ عملي
لفكرة الولاء للأصنام الآلهة ، والانتماء إلى دِين الآباء والأجداد . والأصنامُ هي
الفلسفة العَقَدية المركزية في دِين العرب قبل البعثة المحمّدية الإسلامية .