القضاء والقدر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
...........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
...........................
إن الإيمان بالقضاء والقَدَر من أسس الإيمان
، فإذا زال زال الإيمانُ من جذوره . وهذا الإيمان يعني الخضوع لله تعالى
والاستسلام له دون التواكل أو الكسل .
فالقضاءُ والقَدَر لا يعنيان إجبار العبد على الطاعة أو المعصية ، بل
يعنيان أن الله تعالى هو المتصرِّف في الكون ، يفعل ما يشاء دون ظلمٍ للعباد .
فاللهُ تعالى خالقٌ للخير والشر ، والإنسانُ يختار الطريق الذي يريده بملء إرادته
.
أما تعريف هذا الركن الأساسي من أركان الإيمان {(1)} فهو على النحو التالي
: _
[ القضاء
: عِلْم الله_ عز وجل _ للأشياء في الأزل على الصورة التي ستُوجَد عليها ، وستكون
عليها في المستقبل . أمّا القَدَر فهو: إيجاد تلك الأشياء في علم الظهور
على وجه تفصيلي يوافق القضاءَ السابق الأزلي المتعلق بها ].
فالقضاءُ هو الأمر الكلي الإجمالي الذي أراده اللهُ منذ الأزل . أما
القَدَر فهو جزئيات ذلك الأمر الكلي .
قال الله تعالى :} وإذا قَضى أَمراً
فإنما يقول له كُن فَيَكون { [ البقرة : 117] .
فاللهُ تعالى إذا قضى أمراً من الأمور التي يريدها ، فهذا الأمر يحدث فوراً
دون توقف ، لأن تأثير القدرة الإلهية في الأشياء نافذ بلا موانع ، والإرادةُ
الإلهية لا شيء يعجزها أو يُعيقها .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 1750 ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ...
ولكنّ ربنا_ تبارك وتعالى اسمه _ إذا قضى أمراً
سَبّح حملةُ العرش ، ثم سَبّح أهلُ السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه
السماء الدنيا )) .
وقال أبو السعود في تفسيره ( 1/ 151 ) : (( وأصل
القضاء الإحكام ، أُطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه...
} فإنما يقول له كُن فَيَكون {
كلاهما من الكَوْن التام ، أي أَحْدَثَ فَيَحْدُثُ
، وليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لسهولة تأتّي المقدورات بحسب
تعلق مشيئته _ تعالى _ ، وتصوير لسرعة حدوثها )) اهـ .
فعندما يريد
اللهُ أمراً فذلك الأمر يقع مباشرة خضوعاً للإرادة الإلهية، دون أن يقول اللهُ
للشيء : } كُن {، لأن هذا الفعل إشارة لسرعة استجابة الأشياء لإرادة الله تعالى
وعدم تأخرها .
قال الله
تعالى : } قُل لن يُصيبنا إلا ما كَتب اللهُ لنا { [ التوبة : 51] .
فلن يصيب
الإنسانَ إلا ما قضاه اللهُ تعالى وقدّره في الأزل، في اللوح المحفوظ أو القرآن.
فهو _ سبحانه _ يبتلي عبادَه بالخير والشر ليعلم المؤمنَ من الكافر ، والصادق من
الكاذب ، والصابر من الساخط .
والمرءُ إذا
علم أن ما قدّره اللهُ تعالى واقعٌ لا محالة ولا مهرب منه ، وأن كل ما أصابه من
سعادة أو شقاء تم بقضاء الله وقَدَره ، صغرتْ في عينيه المصائب والآلام ، وهانت
الدنيا بكل ما تحتويه من أعداء وأحزان .
وعن
ابن الديلمي قال : أتيتُ أُبي بن كعب فقلتُ له : وقع في نفْسي شيء من القَدَر فحدّثْني
بشيء لعله أن يذهب من قلبي فقال : (( إن الله لو عَذّبَ أهلَ سماواته وأهلَ أرضه عَذّبهم
غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقتَ مثل أُحد في
سبيل الله ما قبله الله منكَ حتى تؤمن بالقَدَر،وتعلم أن ما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ،
وأن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ، ولو مِتّ على غير هذا لدخلتَ النار )) . قال : ثم أتيتُ
عبد الله بن مسعود فقال مثل قوله ثم أتيتُ حذيفة بن اليمان فقال مثل قوله ، ثم أتيتُ
زيد بن ثابت فَحَدّثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مِثل ذلك {(2)}.
فاللهُ
تعالى لو عذّب الخلائقَ ما كان ظالماً لأحد منهم ، لأنه يعاملهم بعدله ، ولأنهم ما
قَدَروا اللهَ حقّ قَدْره ، ولأن عباداتهم قاصرة عن معادلة نعمه الجزيلة . كما أن
رحمته _ تعالى _ أعظم من أعمالهم الضعيفة ، ولا أحد يدخل الجنةَ بعمله ولا حتى
الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ . فالكل خاضع للرحمة الإلهية ينتظرها بفارغ
الصبر .
والإيمانُ
بالقَدَر ليس من الكماليات ، بل هو من أُسس الإيمان . فمنكرُ القَدَر كافرٌ لا
ينفعه أي عمل صالح يقوم به . وكل ما يجري للخلائق من خيرٍ أو شر تم بقضاء الله
وقَدَره ، ولم يحدث مصادفةً ، وإنما قدّره اللهُ تعالى بشكل دقيق غير عشوائي ، ولا
يُخطئ صاحبَه .
قال الله
تعالى : } وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً {[ الأحزاب : 38] .
فأمرُ الله تعالى قضاءٌ مقضي ، وحُكْمٌ
مقطوع بوقوعه منذ الأزل ، لا تطرأ عليه التغييرات.
وكلّ أمر
يُقدِّره الله تعالى فهو كائن لا محالة ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . وعلمُ
الله تعالى محيط بكل شيء منذ الأزل. فهو _ سبحانه _ يعلم من سيذهب إلى الجنة ، ومن
سيذهب إلى النار، قبل أن يخلق الخلقَ ، لكنه لم يُجبِر الفردَ على الطاعة أو
المعصية . إذ لو كان هناك إجبار لسقط معنى الثواب والعقاب .
فأنتَ قد ترى أعمى سائراً في الشارع وأمامه
حُفرة ، فتعلم مسبقاً أنه سيسقط فيها ، لكنكَ لم تجبره على ذلك . ولنفترضْ أن هناك
تلميذاً في المدرسة مهملٌ في دروسه ، فالمعلِّمُ يعرف مسبقاً أن ذلك التلميذ سيرسب
آخر السنة ، لكنه لم يجبره على ذلك . فالعِلْمُ بالشيء لا يعني الإجبار بأية حال
من الأحوال .
والانتقالات في حياة الإنسان ، وتقلّبه بين
السعادة والشقاء ، والفرح والحزن ، والنجاة والهلاك ، كلها تتم تحت مظلة القَدَر .
وعلى الإنسان أن يختار الدرب الصحيح لكي يسير فيه ، مبتعداً عن العجز والكسل ، وأن
يطمح للحفاظ على حياته بكل السبل المتاحة ، ولا يستسلم للهلاك بدعوى أنها من
القَدَر . فالقضاءُ والقَدَر دافعان لمزيد من الجهد والعمل الدؤوب ، وليس التكاسل
والاستسلام وفهم النصوص الشرعية بشكل خاطئ .
فاللهُ تعالى رزاقٌ . لكن العباد مأمورون
بالسعي في طلب الرزق ، فالسماء لا تُمطر ذهباً ولا فضة . وقضاءُ الله مُحكَمٌ لا
تبديل فيه ، ولكن على المرء أن يعمل ، فكلّ إنسان مُيَسّر لما خُلِق له ، فاللهُ
تعالى يعلم مصيرَ العباد ، إلى السعادة أو الشقاء ، لكنه لم يُجبر العبد على
الطاعة أو المعصية . واللهُ تعالى لا يُطاع رغماً عنه ، ولا يُعصَى رغماً عنه . فهو
_ سبحانه _ مَالِكٌ لما مَلّك العبادَ . خلق الخيرَ والشر ، والإنسانُ يكتسبهما
بأفعاله . فإذا صدرت طاعةٌ من العبد فبفضل الله تعالى وله المِنّة . وإن أتى
العبدُ بمعصية فبِعدل الله تعالى وله الْحُجّة .
وفي حديث الطاعون أن عمر بن الخطاب_ رضي
الله عنه _قال: (( نَفِر من قَدَر الله إلى قَدَر الله )){(3)}.
فهو لم يقصد أنه يَفِر من قَدَر الله
حقيقةً، لأن القضاء والقَدَر يُظلِّلان حياةَ الإنسان شاء أم أبى، ولا مهرب منهما.
لكنّ حركة الإنسان في الحياة هي بقَدَر الله تعالى ، فالذي فرّ منه عمر _ رضي الله
عنه _ أمرٌ خاف على نفسه منه ، والذي فرّ إليه أمرٌ فيها النجاة _ حسب تقديره _ .
وكلا الأمرين من قَدَر الله تعالى الذي نهى عن إلقاء النفس في التّهلكة . كما أن
الأسباب والمسبِّبات من قَدَر الله تعالى . وهذه القضيةُ بالغة الدقة ، وقد وقع
الكثيرون في غبش تفكيرهم القاصر ، فخلطوا الحابلَ بالنابل .
فالذي يهرب من وحش ضارٍ ، أو يحاول زيادة
راتبه للخروج من الفقر إلى الغنى ، أو يسافر من أجل العمل ...إلخ . هو في حقيقة
الأمر ينتقل من قَدَر الله إلى قَدَر الله في عالم السبب والمسبِّب.
ولا ينبغي تركُ العمل، والاتكالُ على
القَدَر السابق . فيجب الامتثال للشريعة الإلهية في أوامرها ونواهيها . فمن كان من
أهل الجنّة يسّره اللهُ لعمل الطاعات فينال السعادة ، ومن كان من أهل النار يسّره
اللهُ للمعاصي فينال التعاسة .
وقد كان أهلُ الجاهلية لا يفهمون ماهيةَ
القضاء والقَدَر بالصورة الصحيحة ، وهذا أدخلهم في إشكاليات كثيرة انعكست سلباً
على طريقة تفكيرهم ونمطِ حياتهم .
قال الله تعالى: } سَيَقُولُ
الذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرّمْنَا
مِن شَيْءٍ{ [
الأنعام : 148] .
فقد علّقوا شِركهم على مشيئة الله تعالى
جهلاً منهم ، وجعلوا الشركَ إنما تم بمشيئته تعالى وإرادته وفق منظورهم الرامي إلى
تخليص أنفسهم من أية مسؤولية على اختياراتهم . وهم بهذا يهدفون إلى تقديم أنفسهم
كعباد مأمورين مُجبَرين على اعتناق العقائد الشِّركية ، وبالتالي لا يتحملون تبعات
أقوالهم وأعمالهم .
فنظرتهم العَقَدية متمركزة حول فكرة جَبرية
، وأنهم واقعون تحت مشيئة الله تعالى التي أجبرتهم على سلوك الأفعال السيئة _ وفق
عقيدتهم الباطلة _ . فهم يجهلون أن الخير والشر ، والإيمان والكفر ، يكتسبه
الإنسان بمِلك إرادته ، وأن القَدَر لا يُعارِض تحملَ الإنسان لمسؤولياته كاملة
غير منقوصة . فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، لكنه لم يجبر الإنسان على سلوك
طريق محدد . فالإجبارُ يتعارض كلياً مع عقيدة الثواب والعقاب في الآخرة ، ومن ثم
الجنة والنار .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه سمع
رَجلاً يقول : الشر ليس بقَدَر ، فقال ابن عباس _ رضي الله عنهما_: (( بَيْنَنا
وبين أهل القَدَر : ] سَيَقُولُ الذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [ ... . قال
ابن عباس: والعجز والكَيْس من القَدَر )) {(4)}.
وأهلُ القَدَر هم نُفاة القَدَر ، فهم
يُنكرونه . والآية القرآنية توضِّح إيمان المشركين بالقَدَر ، ولكنْ من منظور
مغلوط . فهم يعتقدون أن القَدَر سالبٌ لحريتهم ، وأن شِركهم خاضعٌ لمشيئة الله
تعالى دون أية علاقة لهم. وهذا يتنافى مع الإيمان . صحيحٌ أن كل شيء خاضع للمشيئة
الإلهية، لكنّ الله تعالى أعطى العبدَ القدرةَ على اختيار طريقه، إمّا الإيمان أو
الكفر. والعبدُ يتحمل مسؤوليةَ اختياره الحر .
وإنني في هذا المقام أنقل كلاماً نفيساً
للحافظ ابن حجر، لأني رأيتُ فيه تلخيصاً لمسائل شديدة الحساسية، حيث يقول في
الفتح( 13/ 449 ): (( وأما قوله في الأنعام : ] سَيَقُولُ الذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [ الآية . فقد
تمسّك بها المعتزلة ، وقالوا إن فيها رداً على أهل السنة . والجواب أن أهل السنة
تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق
المخلوق شيئاً، والإرادةُ شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه . فلما
عاند المشركون المعقول وكذّبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وأُلزموا الحجّة
بذلك، تمسكوا بالمشيئة والقَدَر السابق، وهي حُجّة مردودة لأن القَدَر لا تبطل به
الشريعة ، وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم )) اهـ .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : (( واعلم أن الأُمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك
إلا بشيء قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللهُ
عليك ، رُفعت الأقلامُ ، وجَفّت الصحف )) {(5)}.
إن الناس لا يَملكون من أمرهم شيئاً ، فهُم
مخلوقات عاجزة لم تحدِّد موعدَ الولادة ، ولا تَقدر على تحديد موعد الوفاة . ومَن
كان هذا شأنه فهو غارق في عجزه . ولو اجتمعت الأمة على نفعِ أحدٍ ما لم يَقدروا
على فعل ذلك إلا إذا كان مكتوباً عند الله تعالى. فما أراده اللهُ كان ، وما لم
يرده لم يكن . والناس يتحركون في عالَم الأسباب والمسبِّبات . لكنّ المسيطِر على
السبب والمسبِّب هو اللهُ تعالى ، ولا يَقع في مُلكه إلا ما شاء . ولو اجتمعت
الأمة على جلب ضر لأحدٍ لم يَقدروا على فعل ذلك إلا إذا كان مكتوباً عند الله
تعالى . فالنافعُ والضار هو الله وَحْدَه .
أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( رُفعت
الأقلامُ ، وجَفّت الصحف )) ، فهو تأكيدٌ باهر على أن ما تم قد تم ، ولا تبديل
لما سبق ، ولا يكون خِلاف ذلك ، وأن الأمر قد كَمُل بلا زيادة ولا نقصان ، وانتهى
الموضوع ، وقُضِيَ الأمرُ .
........الحاشية............
{(1)} انظر هذا
التعريف في كتاب/ سفينة النجاة في عقيدة الأئمة الهداة ، ص 147 .
{(2)} رواه ابن
حبان في صحيحه ( 2/ 505 ) برقم ( 727 ) .
{(3)} متفق عليه. البخاري( 5/ 2163 )برقم ( 5397 )،ومسلم ( 4/ 1740 )
برقم ( 2219).
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 347
) برقم ( 3237 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(5)} رواه أحمد في مسنده ( 1/ 293) برقم ( 2669)، والترمذي في سُننه
( 4/ 667) برقم ( 2516) ، وقال : (( حسن صحيح )) .