سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

30‏/09‏/2015

الطهارة والتطهر من منظور إسلامي

الطهارة والتطهر من منظور إسلامي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد 

facebook.com/abuawwad1982

..............................

     لقد حرص الإسلام على تجذير مبدأ الطهارة في المجتمع على المستوى الفردي والجماعي ، والمستوى المحسوس وغير المحسوس. فالمسلم هو عبدٌ لله تعالى ، فينبغي أن يكون طاهراً حتى يصح التوجه إلى خالقه تعالى . كما أن الطهارة هي أساس العبادات ، سواءٌ بمعناها الفعلي المادي أو المعنوي ( ماوراء المادة الملموسة ) .
     قال الله تعالى : } ويُنَزِّل عليكم من السماء ماءً ليُطَهِّركم به  {[ الأنفال : 11] .
     إن الماءَ هو أساس الطهارة . وقد نزَّل اللهُ تعالى على المؤمنين ماءً في غزوة بَدْر ليُطهِّرهم به . يَشربون منه ، ويَغتسلون به ، ويُصَلُّون طاهرين . وفي ذلك الموقف العصيب كان الماءُ مفقوداً ، وقد جاء الغَوْثُ الإلهي رحمةً بالمؤمنين ، وتطهيراً لهم، وإنقاذاً لهم من هذا المأزق القاسي . والإنسانُ لا يَعرف قيمةَ النِّعمة إلا في حال فَقْدها .
     وفي تفسير القرطبي ( 7/ 326 ) : (( وحكى الزجاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه ، وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فوجست نفوسهم ، وعطشوا ، وأجنبوا ، وصَلُّوا كذلك . فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر ، السابعة عشرة من رمضان ، حتى سالت الأودية فشربوا وتطهروا )) اهـ .
     ومع أن الظروف المحيطة بالصحابة _ رضي الله عنهم _ ظروف حرب ( غزوة بدر ) ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجعل عبادَه طاهرين لكي يواجهوا الأعداءَ وهم في أعلى درجات النقاء المعنوية والحسية . فهذا الماءُ الذي أنزله الله تعالى كان طاهراً مطهِّراً ، وبثَّ السكينةَ في قلوب المؤمنين ، ونقلهم إلى مرتبة الطهارة الكاملة . وهذا يدل على أهمية النقاء والصفاء في كيان المسلم وبيئته .
     وطهارةُ المسلم ليست شكليةً ظاهرية فحسب ، بل إنها تنفذ إلى صميم كيان المسلم الذي داخله كخارجه لا تعارض بينهما. فالطهارةُ هي الحاضنة الشرعية لروح المسلم وجسده، تنقله إلى عوالم القرب من خالقه تعالى. وليست الطهارةُ _بأية حال من الأحوال_ إجراءً تجميلياً تنظيفياً مجرَّداً من أبعاده الروحية ودلالاته الاجتماعية . إذ إن مفهومها أوسع من ذلك، وأكثر شموليةً وعمقاً. إنها تطهُّرٌ من شوائب الدنيا ، وانقطاعٌ تام عن النجاسات الحسية والمعنوية ، وعمليةُ تطهير للإنسان من القيم السلبية على الصعيد المعنوي والمادي. فلا يمكن للنور أن يستقر في مكان نجس ، لذلك كانت الطهارةُ هي الاستعداد الضروري لاستقبال الهداية، والتَّهيئة الحتمية لاحتضان النور .  
     قال الله تعالى : } وإن كنتم جُنُباً فاطَّهروا  {[ المائدة : 6]{(1)}.
     أي اغْتَسِلوا بالماء في حال حدوث جنابة ( الحدث الأكبر ) . وذلك لكي يظل المسلمون طاهرين في كل أحوالهم . فديمومةُ الطهارة بالغة الأهمية من أجل استقبال الفيوضات الرَّحمانية ، والبقاء على أُهبة الاستعداد لتلقي النفحات الربانية . فغيابُ الطهارة قطيعةٌ مع الهداية الإلهية .
     وفي صحيح البخاري ( 1/ 99 ) : عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيُخلِّل بها أصول شَعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غُرف بيديه ، ثم يُفيض الماءَ على جِلده كله .
     والنبيُّ صلى الله عليه وسلم _ وهو الطاهر المطهَّر_ لا يقوم بأعماله عبثاً، ولا تخضع حركاته وسكناته للصدفة . فالحرصُ على الاغتسال من الجنابة مؤشر على أهمية الطهارة ، كما أن هذا الترتيب الدقيق المشتمل على البدء باليدين ثم وضوء الصلاة والحرص على إيصال الماء لأصول الشَّعر ثم صب الماء على الرأس بدون إفراط في استهلاك الماء ، ثم تعميم الماء على الجلد كله ، ليس ترتيباً عبثياً ، بل هو نظام دقيق يتضمن عدم الإسراف في الماء ، واستحضار وضوء الصلاة الذي يدل على الارتباط اللصيق بين الطهارة والصلاة ، وإيصال الماء إلى كل نقاط الجسم دون استثناء . كما أن التَّيامن ( البدء بجهة اليمين ) سُنَّة نبوية ثابتة. فهذه المنظومة المتكاملة تشير إلى أهمية الطهارة في حياة المسلم وانعكاساتها على حياته وطبيعة تفكيره وسلوكياته . فليست الطهارةُ كميةً من الماء تُسكَب على الجسم وينتهي الأمر ، أو مجموعة من المواد الكيميائية لإزالة الأوساخ . إن ماهيتها أكبر من ذلك ، فهي تحتوي على منهجية شاملة لتجهيز العبد وتهيئته نفسياً وجسمياً لاستحضار عَظَمة الخالق تعالى والوقوف بين يديه ونشر تعاليمه . 
     وقال الله تعالى : } وثيابكَ فَطَهِّرْ  {[ المدَّثر : 4] .
     فهذا الأمرُ الإلهي يشير إلى أهمية الطهارة ، سواءٌ كان المقصود بالآية الطهارة المادية ، وهي تطهير الثياب من النجاسات التي قد تلحق بها. أو الطهارة المعنوية ، كتطهير القلب أو الجسم ... .
     والمعنوي اللغوي الظاهر من الآية هو تطهير الثياب الملبوسة . والأصلُ حَمْلُ آياتِ القرآن على المعنى الظاهر ، ولا يتم اللجوء إلى المجاز إلا في حال ظهور قرينة .
     أمَّا مَن فسَّر " الثياب " في الآية بالقلب ، فقد استدل بقول امرئ القيس في معلَّقته :
وَإِن تَكُ قد ساءتكِ مني خَليقةٌ          فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُـلِ
     أو بقول عنترة :
فَشَكَكْتُ بالرُّمحِ الأصمِّ ثيابَهُ          ليسَ الكريمُ على القَنا بِمُحَرَّمِ
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 454 ) : (( المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي . أمره اللهُ _ سبحانه _ بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل : المراد بالثياب العمل ، وقيل : القلب ، وقيل : النفس ، وقيل : الجسم ، وقيل : الأهل ، وقيل : الدِّين ، وقيل : الأخلاق . قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح . وقال قتادة : نفسك فطهِّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهِّر . ومن هذا قول امرئ القيس : ( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ) . وقال عكرمة : المعنى ألبسها على غير غدر وغير فجرة ، وقال : أما سمعت قول الشاعر :
                 وإني بحمد الله لا ثوب فاجر           لبستُ ولا من غدرة أتقنع )) اهـ .
     وعن جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدِّث عن فترة الوحي ، قال في حديثه : (( بَيْنا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء فرفعتُ بصري فإذا الْمَلَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففرقتُ منه، فرجعتُ ، فقلتُ : زَمِّلوني زملوني )) ، فدثَّروه ، فأنزل الله تعالى :} يا أيها المدَّثر . قُمْ فأنذِرْ . وربَّكَ فكبِّرْ . وثيابكَ فطهِّرْ . والرُّجْزَ فاهْجُرْ  {[ المدثر 1_5]{(2)}.
     لقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالطهارة الحسية والمعنوية . وهذا الأمرُ شامل لكل الأمة . وهنا تتجلى رحمة الله تعالى بعباده الذين أرادهم أنقياء أصفياء بلا شوائب ، يدخلون إلى حضرته العَلِيَّة وفق أحسن صورة ، قلباً وقالباً .
     فالدربُ إلى الله تعالى لا مكان فيه للنجاسات والشوائب، فهو دربٌ نوراني ممتلئ بالتطهر والخير والسعادة. ومن اختار أن يمشيَ فيه ، عليه أن يكون طاهرَ السريرة ، وطاهرَ البدن . يهاجر إلى خالقه تعالى مستعداً ، وعلى أفضل هيئة .
     قال الله تعالى : } لا يَمَسُّهُ إلا المطَهَّرون  {[ الواقعة : 79] .
     والذي يَظهر أن المقصود في الآية هو الكتاب المكنون ( الكتاب الذي في السماء ) ، وليس القرآن الكريم . فالقرآنُ يمسُّه المؤمنُ الطاهر والكافرُ النجس . أمَّا الكتاب المكنون فلا يمسُّه إلا المطهَّرون ، وهُم الملائكة .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 227 ) : (( قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون: أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهَّرون، وهم الملائكة. وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم )) اهـ .
     وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا مع سلمان _ رضي الله عنه _ فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ، ثم خرج إلينا ، وليس بيننا وبينه ماء . قال : فقلنا له : يا أبا عبد الله لو توضأتَ فسألناكَ عن أشياء من القرآن ، قال : فقال : سلوا ، فإني لستُ أَمسه ، فقال: إنما يمسه المطهرون . ثم تلا : } إنه لقرآنٌ كريم  {[ الواقعة : 77] . } لا يَمَسُّهُ إلا المطَهَّرون  {[ الواقعة : 79]{(3)}.
     ووفق هذا الحديث يتَّضح أن سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ يعتقد أن المقصود في الآية هو القرآن الكريم ، لذا رَفض أن يمسُّه وهو على غير وضوء . وهذا ما ذهب إليه بعضُ المفسِّرين الذي يَرَوْن أن القرآن الكريم لا ينبغي مسُّه من قِبَل غير المطهَّرين ،  ومن لم يلتزم بذلك فقد خالفَ الشريعةَ .
     ومن خلال النصوص الشرعية تتضح أهمية الطهارة والتطهر على جميع الأصعدة . لما في ذلك من تهيئة الفرد للاضطلاع بمسؤولياته الجسيمة، باعتباره حامل أمانة الدِّين ، وخليفة الله في الأرض. فالمنهج الشرعي واضحٌ في مساره ، حيث يحاط الإنسان بسياج الطهارة والتطهر ، لكي يظل دائماً على اتصال مع خالقه تعالى ، وهو في أبهى حُلَّة مشتملة على نقاء العبودية ، وصدقِ التوجه إلى الله تعالى .
     قال الله تعالى : } وإذ قالت الملائكةُ يا مريمُ إن الله اصطفاكِ وطهَّركِ  {[ آل عمران : 42] .
     أي إن الله اختاركِ وطهَّركِ من الكفر والضلال والدنس ، وجعلكِ نقيةً عابدة تقية ذات قلب صافٍ لا مكان للشوائب فيه ، وذات جسد طاهر شريف لا مكان للحرام فيه . فالسيدة مريم _ عليها السلام _ جُعلت ذات قلب طاهر وجسدٍ نقي لكي تضطلع بدورها المحوري في الدعوة الإسلامية . فالهدايةُ الربانية والنجاسة ضدان لا يجتمعان . ولو وُجدت أدنى شُبهة حول السيدة مريم لكان ذلك ضربةً قاضية للدعوة ، وباباً واسعاً لدخول المشكِّكين الطاعنين في الدِّين ، وعندئذ ستؤول دعوة النبي عيسى صلى الله عليه وسلم إلى الفشل بسبب غياب الحاضنة الطاهرة . وهذا مُحال . فاللهُ تعالى اختار المنبعَ الصافي ( السيدة مريم ) لاحتضان هذا النبي العظيم ، والمساهمة في الدعوة الإسلامية من خلال موقف قوي متماسك، ومنظورٍ إيماني لا تتسلل إليه الشبهات أو النجاسات المعنوية والحسية . فالدعوةُ تخرج من حاضنة طاهرة شريفة لكي تكون ذات تأثير وإقناع في الرأي العام ، ولا يمكن أن تنبع من مكان مشبوه .
     وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 510 ) : (( قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأول . فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن ، والآخر لولادة عيسى ... وقيل : الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما جميعاً واحد )) اهـ .
     وهكذا تتجذر الطهارة كرتبة سامية ومنزلة عظيمة لا يحصل عليها إلا من اختاره اللهُ تعالى لحمل مسؤولية الدين وتبليغه ، وإيصال الدعوة الإسلامية إلى الآخرين . فالسيدةُ مريم _ عليها السلام _ ليست امرأةً عادية حَبِلت وَوَلَدَت . فاللهُ تعالى اختارها لإجراء معجزة خالدة ، حيث صارت حُبلى بدون زواج ، وهذا الطفلُ الذي كان في أحشاؤها هو واحد من أعظم أنبياء الله تعالى ، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم الذي خلقه الله تعالى بدون أب ليرى الناسُ قدرةَ الخالق غير المحدودة .
.........الحاشية..............
{(1)} قال الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 25 ) : ((  وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية . وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء ، وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب . وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء )) اهـ . وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 5) : (( وأصل الجنابة في اللغة : البُعد . وتُطلَق على الذي وجب عليه غُسْلٌ بجِماع ، أو خروج مني ، لأنه يجتنب الصلاةَ والقراءة والمسجد ، ويتباعد عنها ، والله أعلم )) .
{(2)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1895 )برقم( 4671 ).ومسلم ( 1/ 143) برقم ( 161).

{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 519 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .

23‏/09‏/2015

شبهات الكافرين واحتجاجهم بالقدر وعداوتهم

شبهات الكافرين واحتجاجهم بالقدر وعداوتهم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

........................

  إن منهج أهل الكفر والضلال هو محاولة التنصل من أفعالهم الذاتية عبر إسنادها إلى القَدَر ، وذلك لتقديم أنفسهم كمجبَرِين لا ذنب لهم في كفرهم. فهم يتعلقون بالقَدَر ليس بدافع الإيمان به، بل بدافع اتخاذه ذريعةً ، وشماعةً يُعلِّقون عليها خطاياهم وضلالهم ، في محاولة يائسة للتنصل من تبعات أفعالهم القبيحة، والهروبِ من تحمل المسؤوليات الجسام المترتبة على كفرهم . فالفاشلُ الذي لا يعترف بفشله سوف يبحث عن شيء ما يضع عليه إخفاقه في محاولة للإفلات من المساءلة. وهذا الهروبُ لا يجدي نفعاً بسبب اشتماله على خداع النفس والالتفاف على محور الحقيقة ومحاولة تجميل الواقع البائس وتصويره في إطار براق ومقبول . فالعاقلُ لا يلجأ إلى المسكِرات الفكرية للفرار من مسؤولية أخطائه، أو يقضي وقته في المكابرة واختراع الأعذار وتبرير الكوارث ، بل يستغل وقتَه لتصحيح الأخطاء والخطايا . فالوقتُ الذي يؤخذ لتبرير الخطأ يكفي لإصلاحه .
     قال الله تعالى : } سيقول الذين أشركوا لو شاء اللهُ ما أَشْرَكْنا ولا آباؤنا ولا حَرَّمْنا من شيء كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسَنا  {[ الأنعام : 148] .
     فقد علَّقوا شِرْكهم على مشيئة الله تعالى جهلاً منهم ، وجعلوا الشِّرك إنما تم بمشيئته تعالى وإرادته وفق منظورهم الرامي إلى تخليص أنفسهم من أية مسؤولية على اختياراتهم . فنظرتهم العَقَدية متمركزة حول فكرة جَبرية ، وأنهم واقعون تحت مشيئة الله تعالى التي أجبرتهم على سلوك الأفعال السيئة_ وفق عقيدتهم الباطلة_ . فهم يجهلون أن الخير والشر، والإيمان والكفر ، يكتسبه الإنسان بملك إرادته ، وأن القَدَر لا يعارض تحمل الإنسان لمسؤولياته كاملة غير منقوصة . فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، لكنه لم يجبر الإنسان على سلوك طريق محدد . فاللهُ تعالى يعلم أن المشركين سيغرقون في الشِّرك لكنه لم يجبرهم على سلوك هذا الطريق . ولو كان هناك إجبارٌ لفقد الأنبياءُ شرعيةَ وجودهم ، وأصبحت الجنة والنار بلا معنى ، ولم يعد هناك فائدة ليوم الحساب .
     قال الحافظ في الفتح ( 13/ 449 ) : (( وأما قوله في الأنعام: ] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [ الآية. فقد تمسك بها المعتزلة وقالوا إن فيها رداً على أهل السُّنة . والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئاً . والإرادة شرط في الخلق ، ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه . فلما عاند المشركون المعقولَ ، وكذَّبوا المنقولَ الذي جاءتهم به الرسل ، وأُلزموا الحجة بذلك ، تمسَّكوا بالمشيئة والقَدَر السابق ، وهي حُجَّة مردودة ، لأن القَدَر لا تبطل به الشريعة ، وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم )) اهـ .
     إن منهج المعتزلة في الاستدلال قائم على ضَرب النصوص ببعضها البعض ، وأخذها مجتزأةً . وهذا منهج مهزوز لا تقوم له قائمة. فالنصوصُ الدينية وَحدة واحدة ينبغي أن تؤخذ معاً ، ولا بد من معرفة القواعد العامة للإسلام ، ورد المتشابه إلى الْمُحْكَم، وتقديم الجمع والتوفيق بين النصوص الشرعية قبل الذهاب إلى النسخ أو الترجيح .
     والمشرِكون قد رَبطوا شِرْكهم بالمشيئة الإلهية ، وتعلَّقوا بشُبهة وهي أن الله تعالى قادر على منعهم من الشِّرك ، ولو شاء لجعلهم وآباءهم غير مشرِكين ، وبما أنه سبحانه وتعالى لم يَفعل ذلك فهذا دليل على شرعية شِرْكهم ورضا الله تعالى عنه . وهذه حُجَّةٌ داحضة عند الله تعالى لأنها قائمة على أوهام متخيَّلة لا تمت للواقع بِصِلة .
     صحيحٌ أن كل شيء خاضع للمشيئة الإلهية ، وأيضاً إن الله تعالى قد خَلق الخيرَ والشر ، وأعطى الإنسانَ القدرة على الاختيار بينهما ، وحَسْبَ الاختيار يتحدد الجزاء ( الجنَّة أو النار ) ، فأداءُ الإنسان في هذا الامتحان الإلهي تُحدِّد النتيجةَ ، إمَّا النجاح وإمَّا الفشل .
     وقد ذَهبت المعتزلةُ إلى أن الإنسان يَخلق أفعالَه ، وهذا منتهى الضلال. فالإنسانُ كائن ضعيفٌ ومخلوق خاضع لخالقه تعالى ، والخلقُ صفةٌ لله تعالى ، ومحالٌ أن يتساوى المصنوع مع الصانع في فعل الخلْقِ . وكلُّ ما سوى الله تعالى مخلوقٌ ، واللهُ خالقُ كلِّ شيء . ولا يمكن أن يخلق المخلوق شيئاً لأن فاقد الشيء لا يُعطيه. فاللهُ تعالى خلق العباد وأكسابَهم ، وصَنع الفاعلَ ( العبدَ ) وفِعْلَه ، وهو سبحانه مالِكٌ لهم ولِمَا مَلَّكهم . لكنَّ المشركين لا يَملكون الحجَّةَ والمنطق الصحيح لذا تمسَّكوا بالقَدَر السابق ، ولا يَخفى أن القضاء والقَدَر لا يَسلبان الفردَ من قدراته ، ولا يُجرِّدانه من مسؤولياته . كما أن عِلْمَ الله تعالى الذي أحاط بكل شيء ليس إجباراً للمرء ، أو دفعه في طريق محدَّد رغمَ أنفه . لكنَّ العاجز دائم البحث عن مبررات لعجزه وفشله . ومن هنا يتم التعلق بالقضاء والقَدَر والمشيئة الإلهية والإرادة الرَّبانية دون معرفة المعاني الحقيقية لهذه القضايا التي حَار الكثيرون في فهمها والوقوف على معانيها بسبب عدم معرفة قواعد الإسلام ومنهجه .
     وقال الله تعالى : } وقالوا لَوْ شاء الرحمنُ ما عَبَدْناهم ما لهم بذلك من عِلْم إنْ هم إلا يَخْرصون { [ الزُّخرف : 20] .
     وها نحن نجد المشركين يتذرعون بالمشيئة الإلهية ، ويُعلِّقون عليها شِرْكهم . فهم يقولون إن الله تعالى لو شاء لمنعهم من عبادة الأصنام . وبما أنه سبحانه يَعلم أنهم يَعبدون الأصنام ولم يَمنعهم من ذلك فهذا دليل _ من وُجهة نظرهم _ على شرعية شِرْكهم ، وأنهم لم يُخالِفوا الإرادةَ الإلهية . وهذا وهمٌ كبير منبعث من أهواء شخصية متوارثة عن الآباء الغابرين ، كما أنه يشتمل على عدم فهم للقضاء والقَدَر . فاللهُ تعالى يَعلم كلَّ شيء عن الإنسان قبل أن يَخلقه ، لكنه لم يَجبره على اتخاذ طريق معيَّن .    } فَمَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرْ {    [ الكهف : 29] . فالإجبارُ يتنافى_ جُملةً وتفصيلاً _ مع حرية الاختيار التي يقوم عليها الحسابُ الذي يُحدِّد مصير الإنسان ( الجنَّة أو النار ) .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 4/ 159 ) : (( أي : لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله فإنه عالِم بذلك وهو يقرنا عليه . فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ : أحدها _ جعلهم لله تعالى ولداً  تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً . الثاني _ دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً . الثالث_ عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله _ عز وجل _ ، بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء . الرابع _ احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَراً . وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً ، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه )) اهـ .
     ونحن نجد أنهم يستخدمون القَدَر لتبرير كفرهم ، والتنصلِ من كافة مسؤولياتهم.وقولهم:} لَوْ شاء الرحمنُ ما عَبَدْناهم  {كلام حق يراد به باطل . فهم لم يقصدوا تعظيمَ الله تعالى ، وإظهار أن مشيئته نافذة في كل شيء. بل أرادوا خداع أنفسهم بأن الله تعالى يقرهم على الباطل ولم يمنعهم من الكفر _ وفق تفكيرهم القاصر _ . وهذا يعكس جهلاً متجذراً في فوضى التفكير داخل العقل الجاهلي البدائي . وكثيرٌ من الناس يختبئون وراء القَدَر للتخلص من أية لائمة . وهم سائرون في درب التقليد والمحاكاة . فالذي يفتقد إلى الحجَّة الناصعة تصبح أفكارُه خليطاً من تقاليد الآباء وما يدور في المجتمع من طقوس ورسوم . فالجاهلُ يقول كما يُقال لأنه يفتقد إلى منهجية التفكير والنقد والموازنة بين الأدلة والترجيح بينها . كما أن فكرة التبرير ووضع الإنسان لأخطائه وخطاياه في "القضاء والقَدَر " تريح أعصاب الكثيرين، وتنقذهم من وخز الضمير . ومع أن هذه الراحة خادعة كالسراب إلا أنها منتشرة على نطاق واسع . وللأسف فإن الكثيرين ينظرون _ لجهلهم _ إلى القضاء والقَدَر كما يَنظرون إلى الحبوب المهدِّئة . وهذا هو الوهمُ اللذيذ الذي يَغرق فيه الكثيرون بحثاً عن سعادةٍ مؤقتة دون النظر إلى ما وراء تلك " السعادة " من عذاب وتعاسة . 
عداوتهم :
     قال الله تعالى : } ما يَودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنَزَّل عليكم من خير من ربكم  { [ البقرة : 105] .
     إن الله تعالى يوضِّح شدة عداوة اليهود والنصارى والمشركين للمؤمنين . حيث إنهم لا يحبون أن يحصل المؤمنون على الخير من عند الله تعالى . وهذا يعكس الحقد المتجذر في صدورهم ، وابتعادهم عن مفهوم الأخوة الإنسانية الخاضعة للخالق تعالى . فالمؤمنُ يحبُّ الخيرَ للجميع لأنه يدرك أن له رسالة في هذه الحياة محدودة بمدة زمنية . فعليه أن يستغل هذا الوقت في الدعوة وإرشاد الناس إلى خالقهم وإعادة القطار الاجتماعي المنحرف إلى السكة . والإسلامُ ليس سُلطةً كهنوتية مغلَّفة بالأسرار والطلاسم ، ومغلقة في وجه الآخرين . إنه الدِّين العالمي للإنس والجن على السواء . ومقياسُ التفاضل بين الخلائق يعتمد على التقوى وليس الجنس أو العِرق أو اللون .
     والكفر ليس عقيدةً مخفية في الصدور فحسب ، بل هو أيضاً ذو انعكاس صارم على أرض الواقع ، حيث يتجذر الحقد ضد المؤمنين ، وتتأجج الكراهية في أبشع صورها . فالكافرُ يود لو كان الناسُ كلهم كفاراً ، وهذا من تمنِّي انتشار المنكرات في المجتمع الإنساني لئلا يشعر المنحرفون أنهم شاذون عن المسار الحياتي .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 376 ) : (( نزلت تكذيباً لجمع من اليهود ، يُظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير ، والود : محبة الشيء مع تمنِّيه )) اهـ .
     قال الله تعالى : } وإذا لقوكم قالوا آمنَّا وإذا خَلَوْا عَضُّوا عليكم الأناملَ من الغيظ  {[ آل عمران : 119] .
     يصف اللهُ تعالى المنافقين الذين إذا لقوا المؤمنين زعموا الإيمانَ تقيةً ، وإذا خَلَوْا عضوا على المؤمنين أطراف الأصابع من شدة الحقد والغيظ . وهذا التصويرُ القرآني البليغ يشير إلى نار الحقد المتأججة في صدور أهل الضلال ،  وأنهم يكرهون الخير للآخرين ، ولا يريدون صلاحَ الأرض وإعمارها. (( والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان )){(1)}.
     والقلبُ الخالي من نور الإيمان وبَرْد اليقين سوف تندلع فيه نيران الشك والضغينة والكراهية لكل ما هو جميل . لكنَّ نار الحقد تأكل صدرَ صاحبها وتقضي عليه ، فالنارُ حينما لا تجد ما تأكله ستأكل نفسَها .
     وعن عبد الله بن مسعود في قوله _ عز وجل _ : } فردوا أيديهم في أفواههم { [ إبراهيم : 9] . قال عبد الله : (( كذا ، وردَّ يدَه في فيه ، وعضَّ يدَه ))، وقال : (( عضوا على أصابعهم غيظاً )){(2)}.
     وفي هذا إشارة إلى الحقد الدفين في قلوب الكافرين الذين لو استطاعوا أن يأكلوا المؤمنين بأسنانهم لفعلوا ذلك . فهم يريدون أيةَ فرصة للانتقام من أهل الإيمان ، والتنكيل بهم ، وتشكيكهم بعقائدهم . كما يتمنون أن يرتد المؤمنون عن الإسلام لكي يصبحوا مع المنافقين والكافرين في نفس الخندق ، خندقِ الباطل ورفضِ الحق ومعاداة أهله .
     وكما قيل : إن اللص يحب أن يكون كلُّ الناس لصوصاً ، كما أن المرأة سيئة السمعة تود لو سارت النساءُ في طريقها . فأهلُ الباطل لا يكتفون بأنهم فاسدون ، بل يسعون _ بكل جهدهم _ أن يكونوا مُفسِدين ، لكي يجذبوا الآخرين إلى دربهم المظلم .
     قال الله تعالى : } لتَجِدَنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا  {[ المائدة : 82] .
     إن العداوة تنبع من القلب المتأجج بالحقد والكراهية. واليهودُ( القادة )والمشرِكون ( الأتباع ) كانت صدورُهم تغلي حقداً على المؤمنين وعداوةً لهم بسبب إيمانهم واتباعهم لمنهج الحق المضاد لانحرافات اليهود والمشركين، والمهدِّد لمصالحهم. ولم تقف العداوةُ عند الشعور الداخلي أو السلوك اللفظي، بل تحوَّلت إلى واقع عملي ملموس ، فتمَّت حياكة المؤامرات الرامية إلى وأد الدعوة الإسلامية ، وقتل رجالها . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن عداوة المؤمنين وكراهية الحق ركنان أساسيان في فلسفة اليهود والمشركين . وبالطبع فإن الذي لا يَملك نورَ الحقيقة ، وليست لديها القدرة على مقارعة الحُجَّة بالحجَّة ، سوف يلجأ إلى الأساليب القذرة والمؤامرات الخبيثة .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 117 ) : (( ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق ، وغمط للناس ، وتنقص بحملة العلم . ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء ، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ، وسَمُّوه ، وسحروه ، وأَلَّبوا عليه أشباههم من المشركين )) اهـ .
     كما أن العرب المشركين في الجاهلية ليس لهم أي كتاب ديني ، فهم أمةٌ أُمية وثنية . لذلك كانوا ألعوبة بيد اليهود والنصارى يحرِّكونها كيفما شاؤوا ، ويبثُّون فيها عقائدهم الباطلة ، وتعاليم كتبهم المحرَّفة .
     وفي صحيح البخاري ( 3/ 1156 ) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  مُخاطباً اليهود  : (( هل جعلتُم في هذه الشَّاةِ سُمَّاً )) ، قالوا : نَعَم ، قال: (( ما حملكم على ذلك ؟ ))، قالوا : أردنا إِنْ كُنْتَ كاذباً نستريح منك ، وإنْ كنتَ نبياً لم يضرك .  
     وهذا يشير إلى رسوخ العداوة في قلوب اليهود لكل المؤمنين ، وسعيهم الدؤوب إلى التشويش على الحق، ومحاولة وأده قبل ظهوره . لكن الحق لا يمكن إيقافه ، كما أن الشمس لا يمكن تغطيتها بغربال .
.............الحاشية................
{(1)} فتح القدير للشوكاني ( 1/ 567 ) .

{(2)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 382 ) برقم ( 3337 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .

17‏/09‏/2015

افتراء الكافرين على الله

افتراء الكافرين على الله

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

............................

     إن الكذب على الله تعالى هو نتيجة لانكسار الروح الإنسانية ، وانتكاسةِ الفرد في قاع الضلال ، وتمردِ المخلوق على الخالق . فالإنسان يلجأ إلى اختراع الافتراءات وإسنادها إلى الله تعالى من أجل تحقيق منفعة شخصية ، وإشباع غرور اتباع الهوى بالباطل، وتضليلِ الآخرين عبر نقلهم من الحق إلى الباطل ، وتثبيت سُلطة رجال الدِّين الضالين المتحالفين مع السادة من أجل ضمان استعباد الناس وإخضاعهم عبر التلاعب بالنصوص الدينية وتوجيهها لخدمة أغراض مادية .
     قال الله تعالى : } فويلٌ للذين يكتبون الكتابَ بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً  { [ البقرة : 79] .
     وهؤلاء صنفٌ من اليهود الذين حرَّفوا التوراةَ، وغيَّروا كلامَ الله تعالى ، حيث أضافوا وحذفوا وفق أهوائهم ومصالحهم الشخصية ، ونسبوا هذه التحريفات إلى الله تعالى من أجل الحصول على بعض المكاسب الدنيوية الوضيعة . وقد توعَّدهم اللهُ تعالى بالعذاب الشديد جزاء كذبهم على خالقهم تعالى ، وتحريفهم للكلام الإلهي المقدَّس ، ولن ينفعهم ما كسبوه من متاع الدنيا الزائل .
     إنهم أصحاب نظرة قاصرة ، فلم يَعرفوا المكانةَ الرفيعة للكلام الإلهي ، لذلك تَاجروا به ، واتَّخذوا من العقائد الدينية وسيلةً للثراء السريع ، والحصول على منافع شخصية . فكانت الدنيا هي الركيزة الأساسية في حياتهم ، فضحُّوا بالغالي والنفيس من أجلها دون النظر إلى ما وراء الزينة البراقة الخادعة . 
     وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الويل واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرَه )){(1)}.
     فالكافرُ ينتظره عذابٌ دائم لا يَزول بسبب رفضه الإيمان . فهذا الوادي في جهنم المسمَّى بالويل تبلغ المسافةُ بين بدايته وقَعره أربعين سنة ، وتم التعبير عن السَّنة بالخريف من أجل إظهار النهاية المأساوية للكافر ، والشِّدة العظيمة التي تنتظره ، والمآل الفظيع الذي قضى على آماله . 
     وفي صحيح البخاري ( 6/ 2679 ) : أن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث ، تقرؤونه محضاً لم يشب ، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيَّروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ؟ ، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ ، لا والله ما رأينا منهم رَجلاً يسألكم عن الذي أُنزل عليكم )) .
     والمعنى : كيف تسألون اليهود والنصارى عن الأمور الدينية والقرآنُ الكريم هو خاتم الكتب السماوية ، وهو محضٌ ، أي خالص لا تشوبه شائبة فلم يتم تغييره أو التلاعب به . ولم يُشب ، أي لم يُخلَط . والقرآنُ الكريم أخبر أن أهل الكتاب حرَّفوا التوراةَ والإنجيلَ وتلاعبوا بهما ، وذلك لتحقيق مكاسب آنية زائلة . فيُفتَرَض بأهل الكتاب أن يأتوا لسؤال المسلمين عن القرآن ، لأن القرآن كتابٌ محفوظ من كل تغيير بعكس التوراة والإنجيل . لكن أهل الكتاب محشورون في غرور اللحظة الراهنة ، ولا يُعمِلون عقولَهم في نقد المعطيات التوراتية والإنجيلية المتلاعب بها .
     وقال الله تعالى : } ألم ترَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً  {[ النساء : 51] .
     إنهم لم ينتفعوا بالعلم الذي حصلوا عليه لأن مصالحهم المادية قد طغت على شرف العلم والإخلاص في تحصيله ونشره . فمع أنهم أُوتوا نصيباً من كتاب الله تعالى وأدركوا ما فيه إلا أنهم انحرفوا عن جادة الطريق ، فآمنوا بالجبت والطاغوت ، وانزلقوا في وحل الكفر والعصيان .
     قال الطبري في تفسيره ( 4/ 133 ) : (( يعني بذلك جل ثناؤه : ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أُعطوا حظاً من كتاب الله فعلموه ... يُصدِّقون بالجبت والطاغوت، ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر ، والتصديق بهما شِرك )) اهـ .
     والغريبُ أنهم على بَيِّنة من أمرهم ، أي إن كُفرهم مبني على عِلم واستعداد مسبق ، ولا ينطلقون من الجهل أو عدم المعرفة . وهنا تظهر خطورة اتباع الهوى وتقديمه على الحق طمعاً في منافع دنيوية وقتية . كما أن العِلمَ وَحْدَه لا يقود إلى الإيمان ، بل يجب أن ينضويَ العِلمُ تحت الهداية الربانية ، وسوى ذلك سوف يصبح العِلمُ طريقاً للشقاء .
     وسبب النزول : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه ، فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة ، وأنت سيد أهل يثرب ، فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه _ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم _ يزعم أنه خير منا، فقال : أنتم خير منه. فنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : } إن شانئك هو الأبتر { ، ونزلت : } ألم ترَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً  {{(2)}.
     فالطاغوت ( كعب بن الأشرف ) الذي كان من زعماء اليهود استغل مكانته وعلمه بوصفه من أهل الكتاب للتدليس والتلبيس على أهل الجاهلية الوثنيين ، فكانت النتيجة أن قام بهذه الخيانة الشنيعة مفضلاً عبدة الأصنام على إمام الموحِّدين الأنقياء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . وهو _ بذلك _ ينطلق من حاكمية الأهواء بدون تقديم دليل علمي أو حُجَّةٍ منطقية ساطعة .
     وتفضيلُ الباطل على الحق مرجعه إلى نيل رضا عِلْية القوم المتنفذين بُغية تحقيق مكاسب ذاتية تشتمل على توسيع دائرة النفوذ والهيمنة والقبول في مجتمع المنحرفين عن الصراط المستقيم، وإبعادِ الناس عن الحق الذي يفتح العيونَ على الإيجابيات والسلبيات، وهذا لا يريده المتنفذون، لأنه يهدد مصالحهم وسيطرتهم .
     وفي واقع الأمر فإن الكفر مشروع استثماري مادي لتكريس سطوة السادة على العبيد ، والحفاظِ على مصالح أصحاب القرار ، والحيلولةِ دون نقد الأوضاع السيئة . فمن مصلحة الطغاة في كل العصور أن يظل الناسُ بدون عقول مفكرة ، لأن العقلَ المفكر يقود إلى النقد والنقض ، وهذا يشكل خطراً داهماً على نفوذ عِلْية القوم في المجتمعات القائمة على تجذير الباطل وحراسته . وبالتالي فإن الأنظمة الطاغوتية المنتشرة في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تخشى من رياح التغيير. فمن مصلحتها أن يظل الوضعُ ثابتاً على ما هو عليه ، وأن يظل الماء راكداً وآسناً لكي تقدر على مواصلة العيش في المستنقعات . وبما أن الإسلام قد قام بتثوير المجتمع وزرعِ القيم الانقلابية ، حيث انقلاب العدل على الظلم ، وأحدث حركةَ تصحيح للمسار والمفاهيم والسلوكيات ، فسوف يُحارَب بكل شراسة لأنه تهديد حقيقي لنفوذ الفاسدين وحراسِ الأساطير .
     وقال الله تعالى في وصف أهل الضلال : } وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سَمِعْنا لو نشاء لقُلنا مثلَ هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين  {[ الأنفال : 31] .
     فإذا سمعوا الآياتِ الربانية الباهرة فإنهم يزعمون أن بإمكانهم الإتيان بكلام مشابه ، وذلك تنقيصاً منهم لكلام الله تعالى ومحاولة طمس نوره والاستخفاف به . وبالطبع فهم عاجزون تماماً عن الإتيان بمثله، ولو كانوا صادقين لقَدَّموا شيئاً يُشبه القرآن أو يتفوق عليه . فهم يعتمدون منهجيةَ الطعن والتنقيص لإحداث شرخ في المجتمع الإيماني وتشكيك الناس بعقائدهم، مؤمنين بقاعدة " خير وسيلة للدفاع الهجوم ". ولو كانوا صادقين في دعواهم لَقَدَّموا البراهين الملموسة وأثبتوا أن القرآن كلامٌ بشري بالحجج، لكنهم عجزوا عن فعل ذلك . مما يشير إلى اتباع أهوائهم في غياب تام لقواعد المنهج العلمي .
     فمن صفات الكافرين أنهم يطلقون الأحكام بدون أدلة واقعية ملموسة . فهم يتحركون بدافع الهوى والحقد لا بدافع مقارعة الحجة بالحجة . وهذا ليس بغريب ، فهم لا يملكون الأهليةَ العلمية للجدال والحوار والمناظرة . لذلك نرى أن اتهام القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين لا تقوم له قائمة لأنه بدون دليل . وكما قال الشاعر :
والدعاوى إنْ لم  تُقيموا عليها           بيِّناتٍ أبناؤُها أدعيــــاءُ
     قال الطبري في تفسيره ( 6/ 229 ) : (( يقول تعالى ذِكْره : وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة ...} قالوا  {جهلاً منهم وعناداً للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم } لو نشاء لقُلنا مثلَ هذا{  الذي تُلِيَ علينا } إنْ هذا إلا أساطير الأولين  {. يعني : أنهم يقولون : ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين ... سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم ! )) اهـ .
     والمشكلةُ الحقيقية أن الكافرين يَضحكون على أنفسهم ويَخدعونها . والإنسانُ قَد يَخدع غيرَه لتحقيق مكاسب معيَّنة ، أمَّا أن يَخدع نفسَه فهذه هي الكارثة الكبرى . فاتِّهامُ القرآن بأنه أساطير الأولين كتبوه من أخبار الأمم الغابرة يفتقد إلى المنطق والعقلانية . فلو كان القرآنُ كلاماً بشرياً لما عَجز فصحاءُ العرب ( وهُم أهل الفصاحة والبلاغة ) عن الإتيان بمثله. فلماذ فشل الشعراء والأدباء والبلغاء عن تأليف كتابٍ كالقرآن ؟!. كما أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم معروف للجميع بأنه الصادق الأمين ، فمن غير المعقول أن يتحرى الصدقَ مع الناس طيلة حياته ثم يكذب على الله تعالى. أضف إلى هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أُمِّياً لا يَقرأ ولا يَكتب، ولم يُعرَف بأنه كان طالباً للعِلم، أو دارساً للتاريخ واللغاتِ القديمة، أو مُطَّلعاً على تراث الحضارات السابقة ، فمن أين أتى بكل المعلومات الدقيقة في القرآن الكريم ؟!. إن هذا يدل _ بلا شك _ على أن القرآن مصدره أعلى من مستوى البشر . ولو كان القرآن من تأليف إنسان فلماذا لم يُعرِّفْنا هذا المؤلِّف بكتابه ، أو يقول إن محمداً قد أخذه منه ؟! . مع العِلم أن كل مؤلِّف يهتم بتعريف الناس بكتبه ، والدعوة إلى قراءتها .  
.........الحاشية...................
{(1)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 551 ) برقم ( 3873 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .

{(2)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 14/ 534 ) برقم( 6572)واللفظ له . قلتُ : وفي تفسير ابن كثير     ( 4/ 560 ) : رواه البزار بسند صحيح .

11‏/09‏/2015

دعوة الناس إلى الاعتبار بمن سبقهم

دعوة الناس إلى الاعتبار بمن سبقهم

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

.............................

     إن صاحبَ البصيرة هو الذي يَدرس التاريخ من أجل أخذ العِبَر والفوائد ، فيتجنب الأخطاءَ والخطايا التي وقعت فيها الأقوامُ الغابرة . فالعاقلُ من اتَّعظ بغيره ، والجاهل من اتعظ بنفْسه .
     وليس التاريخُ كومةً عبثية من الأحداث ، أو سِجِلاً للوقائع خالياً من المعنى . إنه رصيد إنساني هائل يُبرز التحولاتِ الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في حياة الأفراد والجماعات ، ويَرصد منظومةَ الصعود والسقوط في حياة الأمم والحضارات . فالشخصُ المنقطع عن التاريخ إنما يتحرك في العُزلة والفراغ ، ويُقامر بحاضره ومستقبله ، ويُورد نفسَه المهالك دون أدنى بصيص أمل . أمَّا الشخص القارئ للتاريخ والمستوعِب لأحداثه إنما يبني مصيره على قاعدة صلبة مستقاة من تجارب الآخرين المتضمنة نجاحاتهم وإخفاقاتهم . كما أن التاريخ يُوفِّر على المرء البدء من الصفر ، وذلك بسبب وجود مخزون هائل من التجارب الإنسانية ونقاطِ القوة ونقاط الضعف . مما يجعل المرء ذا حصيلة معرفية ضخمة تؤهِّله لصهر المراحل ، والقفزِ فوق الفِخاخ ، وسَبْرِ أغوار القضايا الإنسانية والحضارية ، وتجنب الدروب المظلمة التي تفضي إلى طرق مسدودة . 
     وقد نَبَّه القرآنُ على أهمية التاريخ، ولفتَ الانتباه إلى حال الأمم الغابرة للتفكر في مسارها ومصيرها ، والوقوف على مشكلاتها الروحية والمادية والعمل على تجنبها ، والاعتبار بما حدث لها لئلا يتم السقوط في نَفْس الحُفرة .
     قال اللهُ تعالى: } ألم يَرَوا كَم أهلكنا مِن قبلهم مِن قَرْن مَكَّناهم في الأرض ما لم نُمكِّن لكم  { [ الأنعام : 6] .
     فينبغي النظر إلى الأمم الخالية التي أُوتِيَت من أسباب القوة والسَّعة والقدرات الفائقة ما لم يَحصل عليه أهل مكة . ومع هذا أهلكهم اللهُ تعالى وهم أصحاب التمكين والمنعة . إذن ، ماذا ستكون حالُ أهل مكة وهم أضعف منهم بكثير ؟! . فالقادرُ على إهلاك الجبابرة لن يَعجز عن إهلاك الضعفاء . ومن هنا تنبع أهميةُ التفكر في أحوال الأقوام السابقين الذين اعتمدوا على قوتهم الذاتية والأسبابِ المادية معتقدين أنها كفيلة بجعلهم صامدين في وجه الأزمات ، وضمان بقائهم على طول الدهر . لكنَّ شيئاً من هذا لم يَحدث . والمشكلةُ الكبرى في عقلية الظالمين عبر العصور ، هي اعتقادهم بأنهم استثناء من القاعدة ، وأن ما يَنطبق على غيرهم لا يَنطبق عليهم . وهذا الوهمُ مرجعه إلى غرور القوة الذي يمنع المرءَ من رؤية الأمور على حقيقتها . فالظالمُ سائرٌ إلى حتفه بكل غرور وتكبُّر . فقد غَرَّه حِلمُ الله عليه ، وطولُ أمله ، وثناءُ الناس عليه . ولو كان الظالِمُ قارئاً للتاريخ لأدرك أن لله تعالى سُنناً ثابتة تنطبق على الجميع ولا تتغير .
     وإن الحضارات العظمى التي زالت ، وعتاةَ الجبابرة الذين ذهبوا إلى غير رجعة ، وانتصار المظلوم على الظالم ولو بعد حين . كل هذه الأمور تدعو للتفكر من أجل اتخاذ القرار الصائب .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 392) : (( والقرن مدة أغلب أعمار الناس ، وهي سبعون سنة. وقيل: ثمانون، وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم قَلَّت المدة أو كَثُرت )) اهـ.
     وقال اللهُ تعالى : } أفلم يَهْدِ لهم كَم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآياتٍ لأُولي النُّهى  {[ طه : 128] .
     إن إهلاك الأمم الماضية واضحٌ للعيان ، إذ إن آثار ديارهم ماثلة أمام الناس الذين يمرون بها في أسفارهم، فيُشاهدون بقايا الأمم السابقة بكل وضوح. فالديارُ المتهالكة التي ذهب أصحابُها إلى اللاعودة تُنبئ عن الحال بكل جلاء ، وتدل على وجود أقوام سابقين عَمروا المكانَ ثم زالوا . ومن آثارهم تعرفونهم. وهذا الخرابُ الجاثم على صدر المكان يشير إلى العذاب الذي حَل بهؤلاء الأقوام، لكنَّ أصحاب العقول _ وَحْدَهم _ هم القادرون على التفكر وأخذ العِبَر .
     قال القرطبي في تفسيره ( 11/ 230) : (( يريد أهل مكة ، أي : أفلم يتبيَّن لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون ، يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة ، فيرَوْن بلادَ الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية، أي : أفلا يخافون أن يَحل بهم مثل ما حَل بالكفار قبلهم )) اهـ .
إنذارهم بالانتقام :
     لا يخفى أن الجزاء من جنس العمل . فالطائعُ سيُلاقي جزاءَ عمله خيراً وإحساناً وتوفيقاً ، أما المسيء فقد أَهلك نفسَه ، وأوردها المهالك. ولا يمكن للمجرم أن يهرب بفعلته ، أو يمارس أسلوبه القبيح على هواه دون حساب أو عقاب أو إنذار .
     واللهُ تعالى هو الحليم الصبور الذي لا تستفزُّه المعاصي ولا تضره . وهو _ سبحانه _ يَمنح الإنسانَ الفرصة تلو الفرصة لكي يُصحِّح مسارَه ، فيعود عن غَيِّه ، ويلتزم طريق الحق . وإن الله تعالى يُرسل رسائل إنذار ووعيد للمسرفين على أنفسهم من أجل أن يعودوا إلى جادة الصواب. وهذا يدل على سعة الرحمة الإلهية. فهذه الرسائل الإلهية التحذيرية تشير إلى حِلم الله تعالى ورحمته بعباده . فاللهُ تعالى قادرٌ على إهلاك العباد دون إنذارهم ، فلا طاقة لمخلوق مع قدرة الخالق ، ولا يمكن للعبد الضعيف أن يتحدى السَّيد العظيم . لكنَّ الله تعالى أرحم بالعباد من أمهاتهم ، فهو الصَّبور الحليم ، يُمهِل ولا يُهمِل . ومَن أعرض عن كل الرسائل التحذيرية فلا يلومنَّ إلا نفسه ، لأنه يمشي إلى الهاوية بقدمَيْه متجاهلاً كافة إشارات التنبيه .
     قال اللهُ تعالى : } أفأمنوا أن تأتيَهم غاشيةٌ من عذاب الله أو تأتيَهم الساعةُ بَغتةً وهُم لا يَشعرون  {        [ يوسف : 107] .
     فهل أمن المشركون أن تغشاهم عقوبةٌ إلهية قاصمة جزاء كُفرهم وإعراضهم عن الصراط المستقيم أو يأتيَهم يوم القيامة فجأةً فلا مجال للتوبة أو العودة ؟! . فعليهم أن يتفكروا في مصيرهم المحفوف بالمخاطر . فهم لم تأتيهم شهادة بأنهم من أهل الجنة فيطمئنوا ويرتاحوا . بل قد جاءهم تحذير بالغ الأهمية بأنهم على شفير الهاوية إذا استمروا سائرين في طريق الضلال . وهذا الأمر مدعاة للتفكر والتأمل وموازنة الأمور ما داموا في الدنيا    ( دار المُهلة ) . أمَّا إذا خرجوا إلى الآخرة فلا فرصة للتعويض بتاتاً .
     وفي زاد المسير ( 4/ 294) : (( قال ابن قتيبة : الغاشية المجلِّلة تغشاهم . وقال الزجاج : المعنى يأتيهم ما يغمرهم من العذاب ، والبغتة الفجأة من حيث لم تتوقع )) اهـ .
     وفي مختصر تاريخ دمشق ( 1/ 589) : أن الأسود بن بلال المحاربي صعد المنبر ، فخطب الناسَ ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قرأ : } أفأمنوا أن تأتيَهم غاشيةٌ من عذاب الله أو تأتيَهم الساعةُ بَغتةً وهُم لا يَشعرون  {، فصعق ، فَخَرَّ عن المنبر .
     وهكذا نرى تأثير الآية في النفس البشرية التي عَرفت عَظَمةَ خالقها ، وأيقنت بقدرته اللامحدودة على تعذيب المستحقين للعقاب . واللهُ تعالى لم يَخلق الناسَ ليجعل حياتهم جحيماً لا تُطاق ، أو يحشرهم في زاوية التفكر الدائم بالعذاب والخلود في النار . بل خلقهم وكَرَّمهم رحمةً بهم ، ومنحهم القدرة على التمييز بين الحق والباطل . فمَن اختار الحقَّ فقد نجا ، أمَّا الذي صَمَّم حياته على أن يكون عدواً لخالقه ، فعليه أن يتحمل كامل المسؤولية .
     وقال اللهُ تعالى : } وأنذِر الناسَ يومَ يأتيهم العذابُ فيقول الذين ظلموا رَبَّنا أَخِّرْنا إلى أجل قريب نُجب دعوتكَ ونتَّبع الرُّسلَ {[ إبراهيم : 44] .
     وهذا المشهد العظيم يومَ القيامة يدل على أن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم باختيارهم طريق الباطل سوف يؤمنون فيَطلبون إمهالهم لإجابة الدعوة الإلهية واتِّباع الرُّسل . لكن هذا الإيمان لا فائدة منه البتة ، لأنه جاء في وقت الحصاد لا وقتِ الزراعة . فالدنيا عملٌ بلا جزاء ، والآخرةُ جزاء بلا عمل . ولا معنى لإيمان الشخص في الآخرة إذا لم يؤمن في الدنيا . ففي الآخرة لا يعود هناك معنى للإيمان بالغيب . فالغيبُ صار حقيقةً مُشاهَدة . فالجنةُ والنار من عالَم الغيب في الدنيا ، لكنهما واقع ماثل أمام العيون في الآخرة . وكلُّ شيء جاء في غير موعده فلا أهمية له . فالعِبرةُ هي الإيمان في الدنيا كي يَعبر المرءُ إلى الآخرة بسلام ، وما سوى ذلك  لا يُجدي نفعاً .
     وقال اللهُ تعالى : } فَذَرْهم حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يُصعَقون  {[ الطور : 45] .
     فالمشركون سوف يُلاقون أهوالاً شديدة . ففي يوم القيامة سوف يُصعَقون ، أي يهلكون . ولا يخفى أن الصعق يشير إلى الشدة البالغة، والألم المذهل الواقع بهؤلاء الكافرين الذين أَعرضوا عن المنهج الإلهي القويم. 

     وقال الطبري في تفسيره ( 11/ 498) : (( فَدَعْ يا محمد هؤلاء المشركين حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يهلكون ، وذلك عند النفخة الأولى )) اهـ .