الطهارة والتطهر من منظور إسلامي
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
..............................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
..............................
لقد حرص الإسلام على
تجذير مبدأ الطهارة في المجتمع على المستوى الفردي والجماعي ، والمستوى المحسوس
وغير المحسوس. فالمسلم هو عبدٌ لله تعالى ، فينبغي أن يكون طاهراً حتى يصح التوجه
إلى خالقه تعالى . كما أن الطهارة هي أساس العبادات ، سواءٌ بمعناها الفعلي المادي
أو المعنوي ( ماوراء المادة الملموسة ) .
قال الله تعالى : } ويُنَزِّل عليكم من
السماء ماءً ليُطَهِّركم به {[ الأنفال : 11] .
إن الماءَ هو أساس الطهارة . وقد نزَّل
اللهُ تعالى على المؤمنين ماءً في غزوة بَدْر ليُطهِّرهم به . يَشربون منه ،
ويَغتسلون به ، ويُصَلُّون طاهرين . وفي ذلك الموقف العصيب كان الماءُ مفقوداً ،
وقد جاء الغَوْثُ الإلهي رحمةً بالمؤمنين ، وتطهيراً لهم، وإنقاذاً لهم من هذا
المأزق القاسي . والإنسانُ لا يَعرف قيمةَ النِّعمة إلا في حال فَقْدها .
وفي
تفسير القرطبي ( 7/ 326 ) : (( وحكى الزجاج : أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى
ماء بدر فنزلوا عليه ، وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فوجست نفوسهم ، وعطشوا ، وأجنبوا
، وصَلُّوا كذلك . فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم : نزعم أنا أولياء الله
وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر ، السابعة
عشرة من رمضان ، حتى سالت الأودية فشربوا وتطهروا )) اهـ .
ومع أن الظروف المحيطة بالصحابة _ رضي الله
عنهم _ ظروف حرب ( غزوة بدر ) ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجعل عبادَه طاهرين لكي
يواجهوا الأعداءَ وهم في أعلى درجات النقاء المعنوية والحسية . فهذا الماءُ الذي
أنزله الله تعالى كان طاهراً مطهِّراً ، وبثَّ السكينةَ في قلوب المؤمنين ، ونقلهم
إلى مرتبة الطهارة الكاملة . وهذا يدل على أهمية النقاء والصفاء في كيان المسلم
وبيئته .
وطهارةُ المسلم ليست شكليةً ظاهرية فحسب ،
بل إنها تنفذ إلى صميم كيان المسلم الذي داخله كخارجه لا تعارض بينهما. فالطهارةُ
هي الحاضنة الشرعية لروح المسلم وجسده، تنقله إلى عوالم القرب من خالقه تعالى.
وليست الطهارةُ _بأية حال من الأحوال_ إجراءً تجميلياً تنظيفياً مجرَّداً من
أبعاده الروحية ودلالاته الاجتماعية . إذ إن مفهومها أوسع من ذلك، وأكثر شموليةً
وعمقاً. إنها تطهُّرٌ من شوائب الدنيا ، وانقطاعٌ تام عن النجاسات الحسية
والمعنوية ، وعمليةُ تطهير للإنسان من القيم السلبية على الصعيد المعنوي والمادي.
فلا يمكن للنور أن يستقر في مكان نجس ، لذلك كانت الطهارةُ هي الاستعداد الضروري
لاستقبال الهداية، والتَّهيئة الحتمية لاحتضان النور .
قال الله تعالى : } وإن كنتم جُنُباً
فاطَّهروا {[ المائدة : 6]{(1)}.
أي اغْتَسِلوا بالماء في حال حدوث جنابة (
الحدث الأكبر ) . وذلك لكي يظل المسلمون طاهرين في كل أحوالهم . فديمومةُ الطهارة
بالغة الأهمية من أجل استقبال الفيوضات الرَّحمانية ، والبقاء على أُهبة الاستعداد
لتلقي النفحات الربانية . فغيابُ الطهارة قطيعةٌ مع الهداية الإلهية .
وفي صحيح البخاري ( 1/ 99 ) : عن عائشة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم : أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا
اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يُدخل أصابعه في
الماء فيُخلِّل بها أصول شَعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غُرف بيديه ، ثم يُفيض الماءَ
على جِلده كله .
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم _ وهو الطاهر
المطهَّر_ لا يقوم بأعماله عبثاً، ولا تخضع حركاته وسكناته للصدفة . فالحرصُ على
الاغتسال من الجنابة مؤشر على أهمية الطهارة ، كما أن هذا الترتيب الدقيق المشتمل
على البدء باليدين ثم وضوء الصلاة والحرص على إيصال الماء لأصول الشَّعر ثم صب
الماء على الرأس بدون إفراط في استهلاك الماء ، ثم تعميم الماء على الجلد كله ،
ليس ترتيباً عبثياً ، بل هو نظام دقيق يتضمن عدم الإسراف في الماء ، واستحضار وضوء
الصلاة الذي يدل على الارتباط اللصيق بين الطهارة والصلاة ، وإيصال الماء إلى كل
نقاط الجسم دون استثناء . كما أن التَّيامن ( البدء بجهة اليمين ) سُنَّة نبوية
ثابتة. فهذه المنظومة المتكاملة تشير إلى أهمية الطهارة في حياة المسلم
وانعكاساتها على حياته وطبيعة تفكيره وسلوكياته . فليست الطهارةُ كميةً من الماء
تُسكَب على الجسم وينتهي الأمر ، أو مجموعة من المواد الكيميائية لإزالة الأوساخ .
إن ماهيتها أكبر من ذلك ، فهي تحتوي على منهجية شاملة لتجهيز العبد وتهيئته نفسياً
وجسمياً لاستحضار عَظَمة الخالق تعالى والوقوف بين يديه ونشر تعاليمه .
وقال الله تعالى : } وثيابكَ فَطَهِّرْ {[ المدَّثر : 4] .
فهذا الأمرُ الإلهي يشير إلى أهمية الطهارة
، سواءٌ كان المقصود بالآية الطهارة المادية ، وهي تطهير الثياب من النجاسات التي
قد تلحق بها. أو الطهارة المعنوية ، كتطهير القلب أو الجسم ... .
والمعنوي اللغوي الظاهر من الآية هو تطهير
الثياب الملبوسة . والأصلُ حَمْلُ آياتِ القرآن على المعنى الظاهر ، ولا يتم
اللجوء إلى المجاز إلا في حال ظهور قرينة .
أمَّا مَن فسَّر " الثياب " في
الآية بالقلب ، فقد استدل بقول امرئ القيس في معلَّقته :
وَإِن تَكُ قد ساءتكِ مني خَليقةٌ فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُـلِ
أو بقول عنترة :
فَشَكَكْتُ بالرُّمحِ الأصمِّ ثيابَهُ ليسَ الكريمُ على القَنا بِمُحَرَّمِ
قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 454 ) : ((
المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي . أمره اللهُ _ سبحانه _ بتطهير
ثيابه وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل : المراد بالثياب العمل
، وقيل : القلب ، وقيل : النفس ، وقيل : الجسم ، وقيل : الأهل ، وقيل : الدِّين ، وقيل
: الأخلاق . قال مجاهد وابن زيد وأبو رزين : أي عملك فأصلح . وقال قتادة : نفسك فطهِّر
من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير : قلبك فطهِّر . ومن هذا قول
امرئ القيس : ( فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ) . وقال عكرمة : المعنى ألبسها على غير غدر
وغير فجرة ، وقال : أما سمعت قول الشاعر :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبستُ ولا من غدرة أتقنع )) اهـ .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنهما
_ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدِّث عن فترة الوحي ، قال في حديثه
: (( بَيْنا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء فرفعتُ بصري فإذا الْمَلَك الذي جاءني
بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففرقتُ منه، فرجعتُ ، فقلتُ : زَمِّلوني زملوني
)) ، فدثَّروه ، فأنزل الله تعالى :} يا أيها المدَّثر .
قُمْ فأنذِرْ . وربَّكَ فكبِّرْ . وثيابكَ فطهِّرْ . والرُّجْزَ فاهْجُرْ {[ المدثر 1_5]{(2)}.
لقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه
وسلم بالطهارة الحسية والمعنوية . وهذا الأمرُ شامل لكل الأمة . وهنا تتجلى رحمة
الله تعالى بعباده الذين أرادهم أنقياء أصفياء بلا شوائب ، يدخلون إلى حضرته
العَلِيَّة وفق أحسن صورة ، قلباً وقالباً .
فالدربُ إلى الله تعالى لا مكان فيه
للنجاسات والشوائب، فهو دربٌ نوراني ممتلئ بالتطهر والخير والسعادة. ومن اختار أن
يمشيَ فيه ، عليه أن يكون طاهرَ السريرة ، وطاهرَ البدن . يهاجر إلى خالقه تعالى
مستعداً ، وعلى أفضل هيئة .
قال الله تعالى : } لا يَمَسُّهُ إلا
المطَهَّرون {[ الواقعة : 79] .
والذي يَظهر أن المقصود في الآية هو الكتاب
المكنون ( الكتاب الذي في السماء ) ، وليس القرآن الكريم . فالقرآنُ يمسُّه
المؤمنُ الطاهر والكافرُ النجس . أمَّا الكتاب المكنون فلا يمسُّه إلا المطهَّرون
، وهُم الملائكة .
قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 227 ) : ((
قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون: أي لا يمس الكتاب
المكنون إلا المطهَّرون، وهم الملائكة. وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم ))
اهـ .
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا مع سلمان
_ رضي الله عنه _ فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ، ثم خرج إلينا ، وليس بيننا وبينه ماء
. قال : فقلنا له : يا أبا عبد الله لو توضأتَ فسألناكَ عن أشياء من القرآن ، قال
: فقال : سلوا ، فإني لستُ أَمسه ، فقال: إنما يمسه المطهرون . ثم تلا : } إنه لقرآنٌ كريم {[ الواقعة : 77] . } لا يَمَسُّهُ إلا المطَهَّرون {[ الواقعة : 79]{(3)}.
ووفق هذا
الحديث يتَّضح أن سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ يعتقد أن المقصود في الآية هو
القرآن الكريم ، لذا رَفض أن يمسُّه وهو على غير وضوء . وهذا ما ذهب إليه بعضُ
المفسِّرين الذي يَرَوْن أن القرآن الكريم لا ينبغي مسُّه من قِبَل غير المطهَّرين
، ومن لم يلتزم بذلك فقد خالفَ الشريعةَ .
ومن خلال
النصوص الشرعية تتضح أهمية الطهارة والتطهر على جميع الأصعدة . لما في ذلك من
تهيئة الفرد للاضطلاع بمسؤولياته الجسيمة، باعتباره حامل أمانة الدِّين ، وخليفة
الله في الأرض. فالمنهج الشرعي واضحٌ في مساره ، حيث يحاط الإنسان بسياج الطهارة
والتطهر ، لكي يظل دائماً على اتصال مع خالقه تعالى ، وهو في أبهى حُلَّة مشتملة
على نقاء العبودية ، وصدقِ التوجه إلى الله تعالى .
قال الله تعالى : } وإذ قالت الملائكةُ
يا مريمُ إن الله اصطفاكِ وطهَّركِ {[ آل عمران : 42] .
أي إن الله اختاركِ وطهَّركِ من الكفر
والضلال والدنس ، وجعلكِ نقيةً عابدة تقية ذات قلب صافٍ لا مكان للشوائب فيه ،
وذات جسد طاهر شريف لا مكان للحرام فيه . فالسيدة مريم _ عليها السلام _ جُعلت ذات
قلب طاهر وجسدٍ نقي لكي تضطلع بدورها المحوري في الدعوة الإسلامية . فالهدايةُ
الربانية والنجاسة ضدان لا يجتمعان . ولو وُجدت أدنى شُبهة حول السيدة مريم لكان
ذلك ضربةً قاضية للدعوة ، وباباً واسعاً لدخول المشكِّكين الطاعنين في الدِّين ،
وعندئذ ستؤول دعوة النبي عيسى صلى الله عليه وسلم إلى الفشل بسبب غياب الحاضنة الطاهرة
. وهذا مُحال . فاللهُ تعالى اختار المنبعَ الصافي ( السيدة مريم ) لاحتضان هذا
النبي العظيم ، والمساهمة في الدعوة الإسلامية من خلال موقف قوي متماسك، ومنظورٍ
إيماني لا تتسلل إليه الشبهات أو النجاسات المعنوية والحسية . فالدعوةُ تخرج من
حاضنة طاهرة شريفة لكي تكون ذات تأثير وإقناع في الرأي العام ، ولا يمكن أن تنبع
من مكان مشبوه .
وقال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 510 ) :
(( قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأول . فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن
، والآخر لولادة عيسى ... وقيل : الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما
جميعاً واحد )) اهـ .
وهكذا تتجذر الطهارة كرتبة سامية ومنزلة
عظيمة لا يحصل عليها إلا من اختاره اللهُ تعالى لحمل مسؤولية الدين وتبليغه ،
وإيصال الدعوة الإسلامية إلى الآخرين . فالسيدةُ مريم _ عليها السلام _ ليست
امرأةً عادية حَبِلت وَوَلَدَت . فاللهُ تعالى اختارها لإجراء معجزة خالدة ، حيث
صارت حُبلى بدون زواج ، وهذا الطفلُ الذي كان في أحشاؤها هو واحد من أعظم أنبياء
الله تعالى ، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم الذي خلقه الله تعالى بدون أب ليرى الناسُ قدرةَ الخالق غير
المحدودة .
.........الحاشية..............
{(1)}
قال الشوكاني في فتح القدير
( 2/ 25 ) : (( وقد
ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد
الماء استدلالاً بهذه الآية . وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء
، وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه
مع عدمه وهو التراب . وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث
الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء )) اهـ . وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/ 5) : (( وأصل
الجنابة في اللغة : البُعد . وتُطلَق على الذي وجب عليه غُسْلٌ بجِماع ، أو خروج مني
، لأنه يجتنب الصلاةَ والقراءة والمسجد ، ويتباعد عنها ، والله أعلم )) .
{(2)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 4/ 1895 )برقم( 4671 ).ومسلم ( 1/
143) برقم ( 161).
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 519 ) وصححه ، ووافقه
الذهبي .