افتراء الكافرين على الله
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
............................
إن الكذب على الله
تعالى هو نتيجة لانكسار الروح الإنسانية ، وانتكاسةِ الفرد في قاع الضلال ، وتمردِ
المخلوق على الخالق . فالإنسان يلجأ إلى اختراع الافتراءات وإسنادها إلى الله
تعالى من أجل تحقيق منفعة شخصية ، وإشباع غرور اتباع الهوى بالباطل، وتضليلِ
الآخرين عبر نقلهم من الحق إلى الباطل ، وتثبيت سُلطة رجال الدِّين الضالين
المتحالفين مع السادة من أجل ضمان استعباد الناس وإخضاعهم عبر التلاعب بالنصوص
الدينية وتوجيهها لخدمة أغراض مادية .
قال الله تعالى : } فويلٌ للذين يكتبون
الكتابَ بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً { [ البقرة : 79] .
وهؤلاء صنفٌ من اليهود الذين حرَّفوا
التوراةَ، وغيَّروا كلامَ الله تعالى ، حيث أضافوا وحذفوا وفق أهوائهم ومصالحهم
الشخصية ، ونسبوا هذه التحريفات إلى الله تعالى من أجل الحصول على بعض المكاسب
الدنيوية الوضيعة . وقد توعَّدهم اللهُ تعالى بالعذاب الشديد جزاء كذبهم على
خالقهم تعالى ، وتحريفهم للكلام الإلهي المقدَّس ، ولن ينفعهم ما كسبوه من متاع
الدنيا الزائل .
إنهم أصحاب نظرة قاصرة ، فلم يَعرفوا
المكانةَ الرفيعة للكلام الإلهي ، لذلك تَاجروا به ، واتَّخذوا من العقائد الدينية
وسيلةً للثراء السريع ، والحصول على منافع شخصية . فكانت الدنيا هي الركيزة
الأساسية في حياتهم ، فضحُّوا بالغالي والنفيس من أجلها دون النظر إلى ما وراء
الزينة البراقة الخادعة .
وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : (( الويل واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل
أن يبلغ قعرَه )){(1)}.
فالكافرُ ينتظره عذابٌ دائم لا يَزول بسبب
رفضه الإيمان . فهذا الوادي في جهنم المسمَّى بالويل تبلغ المسافةُ بين بدايته
وقَعره أربعين سنة ، وتم التعبير عن السَّنة بالخريف من أجل إظهار النهاية
المأساوية للكافر ، والشِّدة العظيمة التي تنتظره ، والمآل الفظيع الذي قضى على
آماله .
وفي صحيح البخاري ( 6/ 2679 ) : أن ابن عباس
_ رضي الله عنهما _ قال : (( كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث ، تقرؤونه محضاً لم يشب ، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب
بدَّلوا كتابَ الله وغيَّروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله ليشتروا
به ثمناً قليلاً ؟ ، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ ، لا والله ما رأينا
منهم رَجلاً يسألكم عن الذي أُنزل عليكم )) .
والمعنى : كيف تسألون اليهود والنصارى عن
الأمور الدينية والقرآنُ الكريم هو خاتم الكتب السماوية ، وهو محضٌ ، أي خالص لا
تشوبه شائبة فلم يتم تغييره أو التلاعب به . ولم يُشب ، أي لم يُخلَط . والقرآنُ
الكريم أخبر أن أهل الكتاب حرَّفوا التوراةَ والإنجيلَ وتلاعبوا بهما ، وذلك
لتحقيق مكاسب آنية زائلة . فيُفتَرَض بأهل الكتاب أن يأتوا لسؤال المسلمين عن
القرآن ، لأن القرآن كتابٌ محفوظ من كل تغيير بعكس التوراة والإنجيل . لكن أهل
الكتاب محشورون في غرور اللحظة الراهنة ، ولا يُعمِلون عقولَهم في نقد المعطيات
التوراتية والإنجيلية المتلاعب بها .
وقال الله تعالى : } ألم ترَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً {[ النساء : 51] .
إنهم لم ينتفعوا بالعلم الذي حصلوا عليه لأن
مصالحهم المادية قد طغت على شرف العلم والإخلاص في تحصيله ونشره . فمع أنهم أُوتوا
نصيباً من كتاب الله تعالى وأدركوا ما فيه إلا أنهم انحرفوا عن جادة الطريق ،
فآمنوا بالجبت والطاغوت ، وانزلقوا في وحل الكفر والعصيان .
قال الطبري في تفسيره ( 4/ 133 ) : (( يعني بذلك
جل ثناؤه : ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أُعطوا حظاً من كتاب الله فعلموه ... يُصدِّقون
بالجبت والطاغوت، ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر ، والتصديق بهما شِرك
)) اهـ .
والغريبُ أنهم على بَيِّنة من أمرهم ، أي إن
كُفرهم مبني على عِلم واستعداد مسبق ، ولا ينطلقون من الجهل أو عدم المعرفة . وهنا
تظهر خطورة اتباع الهوى وتقديمه على الحق طمعاً في منافع دنيوية وقتية . كما أن
العِلمَ وَحْدَه لا يقود إلى الإيمان ، بل يجب أن ينضويَ العِلمُ تحت الهداية
الربانية ، وسوى ذلك سوف يصبح العِلمُ طريقاً للشقاء .
وسبب النزول : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما
_ قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه ، فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة ،
وأنت سيد أهل يثرب ، فنحن خير أم هذا الصنيبير المنبتر من قومه _ يقصدون النبي صلى
الله عليه وسلم _ يزعم أنه خير منا، فقال : أنتم خير منه. فنزل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم : } إن
شانئك هو الأبتر { ،
ونزلت : } ألم ترَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً {{(2)}.
فالطاغوت ( كعب بن الأشرف ) الذي كان من زعماء اليهود استغل مكانته وعلمه
بوصفه من أهل الكتاب للتدليس والتلبيس على أهل الجاهلية الوثنيين ، فكانت النتيجة
أن قام بهذه الخيانة الشنيعة مفضلاً عبدة الأصنام على إمام الموحِّدين الأنقياء
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . وهو _ بذلك _ ينطلق من حاكمية الأهواء
بدون تقديم دليل علمي أو حُجَّةٍ منطقية ساطعة .
وتفضيلُ الباطل على الحق مرجعه إلى نيل رضا عِلْية القوم المتنفذين بُغية
تحقيق مكاسب ذاتية تشتمل على توسيع دائرة النفوذ والهيمنة والقبول في مجتمع
المنحرفين عن الصراط المستقيم، وإبعادِ الناس عن الحق الذي يفتح العيونَ على
الإيجابيات والسلبيات، وهذا لا يريده المتنفذون، لأنه يهدد مصالحهم وسيطرتهم .
وفي واقع الأمر فإن الكفر مشروع استثماري مادي لتكريس سطوة السادة على
العبيد ، والحفاظِ على مصالح أصحاب القرار ، والحيلولةِ دون نقد الأوضاع السيئة .
فمن مصلحة الطغاة في كل العصور أن يظل الناسُ بدون عقول مفكرة ، لأن العقلَ المفكر
يقود إلى النقد والنقض ، وهذا يشكل خطراً داهماً على نفوذ عِلْية القوم في
المجتمعات القائمة على تجذير الباطل وحراسته . وبالتالي فإن الأنظمة الطاغوتية
المنتشرة في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تخشى من رياح
التغيير. فمن مصلحتها أن يظل الوضعُ ثابتاً على ما هو عليه ، وأن يظل الماء راكداً
وآسناً لكي تقدر على مواصلة العيش في المستنقعات . وبما أن الإسلام قد قام بتثوير
المجتمع وزرعِ القيم الانقلابية ، حيث انقلاب العدل على الظلم ، وأحدث حركةَ تصحيح
للمسار والمفاهيم والسلوكيات ، فسوف يُحارَب بكل شراسة لأنه تهديد حقيقي لنفوذ
الفاسدين وحراسِ الأساطير .
وقال الله تعالى في وصف
أهل الضلال : } وإذا
تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سَمِعْنا لو نشاء لقُلنا مثلَ هذا إنْ هذا إلا أساطير
الأولين {[ الأنفال : 31] .
فإذا سمعوا الآياتِ الربانية الباهرة فإنهم يزعمون أن بإمكانهم الإتيان
بكلام مشابه ، وذلك تنقيصاً منهم لكلام الله تعالى ومحاولة طمس نوره والاستخفاف به
. وبالطبع فهم عاجزون تماماً عن الإتيان بمثله، ولو كانوا صادقين لقَدَّموا شيئاً
يُشبه القرآن أو يتفوق عليه . فهم يعتمدون منهجيةَ الطعن والتنقيص لإحداث شرخ في
المجتمع الإيماني وتشكيك الناس بعقائدهم، مؤمنين بقاعدة " خير وسيلة للدفاع
الهجوم ". ولو كانوا صادقين في دعواهم لَقَدَّموا البراهين الملموسة وأثبتوا
أن القرآن كلامٌ بشري بالحجج، لكنهم عجزوا عن فعل ذلك . مما يشير إلى اتباع
أهوائهم في غياب تام لقواعد المنهج العلمي .
فمن صفات الكافرين أنهم يطلقون الأحكام بدون
أدلة واقعية ملموسة . فهم يتحركون بدافع الهوى والحقد لا بدافع مقارعة الحجة
بالحجة . وهذا ليس بغريب ، فهم لا يملكون الأهليةَ العلمية للجدال والحوار
والمناظرة . لذلك نرى أن اتهام القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين لا تقوم له
قائمة لأنه بدون دليل . وكما قال الشاعر :
والدعاوى إنْ لم تُقيموا
عليها بيِّناتٍ أبناؤُها
أدعيــــاءُ
قال الطبري في تفسيره ( 6/ 229 ) : (( يقول تعالى ذِكْره : وإذا تتلى
على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة ...}
قالوا {جهلاً منهم وعناداً للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم } لو
نشاء لقُلنا مثلَ هذا{ الذي تُلِيَ علينا } إنْ
هذا إلا أساطير الأولين {. يعني : أنهم يقولون : ما هذا القرآن الذي يتلى
عليهم إلا أساطير الأولين ... سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم ! )) اهـ .
والمشكلةُ الحقيقية أن الكافرين يَضحكون على
أنفسهم ويَخدعونها . والإنسانُ قَد يَخدع غيرَه لتحقيق مكاسب معيَّنة ، أمَّا أن
يَخدع نفسَه فهذه هي الكارثة الكبرى . فاتِّهامُ القرآن بأنه أساطير الأولين كتبوه
من أخبار الأمم الغابرة يفتقد إلى المنطق والعقلانية . فلو كان القرآنُ كلاماً
بشرياً لما عَجز فصحاءُ العرب ( وهُم أهل الفصاحة والبلاغة ) عن الإتيان بمثله.
فلماذ فشل الشعراء والأدباء والبلغاء عن تأليف كتابٍ كالقرآن ؟!. كما أن محمَّداً
صلى الله عليه وسلم معروف للجميع بأنه الصادق الأمين ، فمن غير المعقول أن يتحرى
الصدقَ مع الناس طيلة حياته ثم يكذب على الله تعالى. أضف إلى هذا أن محمداً صلى
الله عليه وسلم كان أُمِّياً لا يَقرأ ولا
يَكتب، ولم يُعرَف بأنه كان طالباً للعِلم، أو دارساً للتاريخ واللغاتِ القديمة،
أو مُطَّلعاً على تراث الحضارات السابقة ، فمن أين أتى بكل المعلومات الدقيقة في
القرآن الكريم ؟!. إن هذا يدل _ بلا شك _ على أن القرآن مصدره أعلى من مستوى البشر
. ولو كان القرآن من تأليف إنسان فلماذا لم يُعرِّفْنا هذا المؤلِّف بكتابه ، أو
يقول إن محمداً قد أخذه منه ؟! . مع العِلم أن كل مؤلِّف يهتم بتعريف الناس بكتبه
، والدعوة إلى قراءتها .
.........الحاشية...................
{(1)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 551 ) برقم ( 3873 ) وصححه ، ووافقه
الذهبي .
{(2)} رواه ابن حبان في صحيحه ( 14/ 534 ) برقم( 6572)واللفظ له . قلتُ :
وفي تفسير ابن كثير ( 4/ 560 ) : رواه البزار بسند صحيح .