سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

28‏/11‏/2015

الابتلاء والفتن اختبار للمؤمن

الابتلاء والفتن اختبار للمؤمن

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

....................

     إن الابتلاء يجسِّد اختباراً حقيقياً لإيمان المؤمن ، ومدى التزامه بالشريعة ، وقدرته على الصبر والتحمل والعملِ تحت ضغط الأزمات . فالشدائدُ تكشف عن معادن الرجال ، تماماً كما النار التي تكشف عن الذهب الحقيقي وتفصله عن الشوائب . فلا توجد درجات إيمانية في الجنة بدون اختبارات دنيوية وعملياتِ تمحيص وغَرْبلة . فمنظومةُ الاختبارات في الدنيا تكشف عن قوة القلب الحامل للعقيدة . ففي السراء يكون كلُّ الناس ثابتين واثقين ضاحكين ، لكن الأزمات هي المحك الحقيقي للكشف عن المعدن النفيس . 
     وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم في المنزلة وهكذا . كما أن الإنسان كلما علت مكانته الإيمانية كان بلاؤه أشد. فعن سعد بن أبي وقاص قال : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أشد الناس بلاءً ؟، قال : (( النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرَّجل على حسب دِينه ، إن كان صَلْبَ الدين اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة )){(1)}.
     لذلك يكون البلاءُ حسب إمكانيات الشخص وقدراته ، وهو _ بحد ذاته _ عملية تطهير للنفس الإنسانية مما علق فيها من آثام وثغرات ، وتنقية للجسد الآدمي مما علق به من خطايا وأوساخ معنوية جراء تتابع الذنوب عبر الأزمنة . وبذلك تكون الفتن للصابرين فرصةً ذهبية لتكفير ذنوبهم ، والعودة أنقياء طاهرين ، بعد أن يَخلعوا ثوبَ الخطيئة .
     قال الله تعالى : } ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين {[ البقرة : 155] .
     وهذا الكلام الإلهي مُوَجَّه للصحابة _ رضي الله عنهم _ . أي إن الله تعالى سيبتليهم بشيء من الخوف حيث يفتقدون الأمان ، والجوعِ حيث لا يجدون الطعامَ ، وتقل الأموال في أيديهم ، وتنقص القوى البشرية    ( يقل عدد الأنفس ) ، وتقل الثمرات حيث الأشجار يضعف إنتاجُها أو لا تعود تُنتج . وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الدنيا دار بلاء واختبار ، نعيمها مشوب بالكَدَر ، ونعومتها مختلطة بالخشونة ، وفرحها ممزوج بالحزن .
     ومن صبر على هذا الابتلاء فله البشرى والفوز ورفع الدرجات ، ومن سخط وضجر فعليه سخطه ، ورجع خائباً صِفر اليدين في الدنيا والآخرة .
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 631 ): عن أم سلمة_ رضي الله عنها_ قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ما مِن مسلم تصيبه مصيبة ، فيقول ما أمره الله : } إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون { [ البقرة : 156] ، اللهم أجرني في مصيبتي ، واخلفْ لي خيراً منها . إلا أخلف الله له خيراً منها )) .
     فالمسلمُ متصل بالله تعالى في السراء والضراء . وهو يعبد خالقَه تعالى لأنه أهلٌ لأن يُعبَد ، لا لنيل مكاسب دنيوية دنيئة ، أو تحقيق أرباح مالية ، أو تحصيل مكانة اجتماعية . فالعبادةُ التي هي حق الله على العبيد غير مرتبطة بالسراء والضراء في حياة المسلم . فعلى المؤمن أن يعبد خالقَه تعالى ويلتزم بذلك بغض النظر عما يحصل له في الدنيا ، خيراً أو شراً . فالإيمانُ ليس بورصةً يتحدد شكلُها وفق الربح الدنيوي أو الخسارة . إن الإيمان نظام متكامل لا يخدشه متاع الدنيا الزائل .  
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2295 ) : عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سَرَّاء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) .
     وقال الله تعالى : } ورفع بعضَكم فوق بعض درجاتٍ ليبلوَكم في ما آتاكم { [ الأنعام : 165] .
     فاللهُ تعالى قد خالف بين أحوال العباد من حيث الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والقوة والضعف . فالدنيا مبنية على التفاوت بين العباد . وكل ذلك من أجل الاختبار ، وتمييز الغث من السمين ، ومن يصبر ومن يسخط ، ومن يشكر ومن يكفر . فعلى المرء أن يستغل نقاطَ قوته ، ويحاول قَدْر الاستطاعة تحويل نقاط ضعفه إلى نقاط قوة . والكمالُ للهِ تعالى .
     وفي صحيح مسلم ( 4/ 2098 ) : عن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الدنيا حُلْوة خَضِرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون )) .
     فهذه الدنيا منظرها فتَّان ومُحبَّب للنفس بما فيها من زينة ولمعان . وهي دار ابتلاء واختبار . وإن الله تعالى جعل الناس مُسْتَخْلَفين فيها ، أي أنهم خَلَفوا الأممَ السابقة ، ووصلت إليهم الأمور ، من أجل الامتحان والابتلاء. وإن الله تعالى ناظر إليهم كيف يعملون ( من الذي سيؤدي شكرَ النعم فيفوز ، ومن الذي سيجحدها فيخسر ) .
     قال الله تعالى : } أَحَسِبَ الناسُ أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون { [ العنكبوت : 2] .
     وهذا الاستفهام الإنكاري معناه : هل يظن الناسُ أن لا يتعرضوا للامتحان بمجرد أن يقولوا بألسنتهم نحن مؤمنون ؟ . فلا بد للعمل أن يُصَدِّق قولَهم . فالفتنةُ هي الكاشفة عن صدق إيمانهم من عدمه .
     وهناك مسألة غاية في الدقة ، وهي اعتقاد الكثيرين أن البلاء مرتبط مع الضراء فقط . وهذا فهمٌ قاصر ، لأن البلاء مرتبط بالسراء والضراء ، والعلمِ والجهل ، والغنى والفقر . فأحياناً يكون ابتلاءُ النعيم أشد من ابتلاء الشقاء . 
     قال الله تعالى : } ونبلوكم بالشر والخير فِتْنةً {[ الأنبياء : 35 ] .
     وهذه الآية تدل على أن البلاء يكون بالشر ( المصائب ) تارةً لبيان الصابرين ، وتارةً بالخير ( النِّعم ) لبيان الشاكرين . وهكذا يتضح الشاكر من الكافر ، والصابر من الساخط ، والصادق من الكاذب .
     وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بالله تعالى فيقول: (( وأعوذ بكَ من فِتنة الغنى ، وأعوذ بك من فتنة الفقر )){(2)}.
     وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الغنى والفقر يتساويان في كَوْنهما اختباراً إلهياً للعبد لبيان درجة إيمانه عند الشدائد ، وثباتِ قلبه عند الفتن العاصفة . والمؤمنُ من يثبت عند الغنى ، فيقوم بشكر النعمة على أكمل وجه ، ليس باللسان فحسب ، بل بالعمل التطبيقي . فيُخرج الزكاةَ ، ويساعد الفقراء ، ولا يتكبر عليهم ، ولا يبذِّر ثروته . أما الفقير فعليه بالصبر قولاً وفعلاً ، فلا يَسخط ، وعليه أن يسعى في طلب الرزق ، فلا يَقنط ، ولا يَعجز ، ولا يشكو ربَّه إلى الناس . ومن التزم بالمثابرة والقناعة فهو على خير ، ومن هاج وثار على قضاءِ الله وقَدَره فسوف تكون ثورته وبالاً عليه .
     فالناجح في الدنيا والآخرة هو الذي يثبت عند الفتن ، ولا يترك الشدائدَ تلعب به يمنةً ويسرة. فالدهرُ يومان : يومٌ لك ، ويوم عليك . فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصطبر . فكلاهما سينحسر .
..........الحاشية..........
{(1)} رواه الحاكم في المستدرك( 1/ 100) برقم ( 121) . وصححه ابن كثير في تفسيره ( 3/ 536 ) .

{(2)} متفق عليه واللفظ للبخاري( 5/ 2344)برقم ( 6015).ومسلم ( 4/ 2078 )برقم( 589) .

26‏/11‏/2015

الشفاعة

الشفاعة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

........................

     إن الشفاعة نعمة جليلة من نعم الله تعالى على خلقه ، فهي مساعدة الأعلى للأدنى والأخذ بيده بعد أن تقطَّعت به السُّبل، فهي من تجليات الرحمة الإلهية غير المحدودة . وهي إحدى تجليات منظومة الأسباب والمسبِّبات الخاضعة للإرادة الإلهية . فلا بد للقوي أن يساعد الضعيف ، والغني يأخذ بيد الفقير ، وصاحبُ الجاه يستغل مكانته لتحقيق مصالح الضعفاء والمحتاجين دون إضاعة الحقوق أو التحايل على القوانين .
     أما تعريفها الدقيق : (( قال الزرقاني : هي انضمام الأدنى _ أي لجؤوه وقصده _ إلى الأعلى، ليستعين به على ما يرويه، _ أي جلب منفعة ، أو دفع مضرة )){(1)}.
     وقال الشوكاني في فتح القدير( 1/ 743 ): (( فالشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك)).
     والشفاعةُ قسمان : شفاعة حسنة ( تكون في أعمال الخير والصلاح ) ، وشفاعة سيئة ( تكون في أعمال الشر والفساد ) .
     قال الله تعالى : } مَن يَشْفَعْ شفاعةً حسنة يكن له نصيبٌ منها ومَن يَشْفَعْ شفاعةً سيئة يكن له كِفْلٌ منها { [ النساء : 85 ] .
     أي : من يسعى في عمل صالح يقود إلى حصول خير وتحصيل منفعة طيبة ، فإن له نصيباً وحظاً من ذلك الخير . ومن يسعى في أمر باطل يأتي بالمفسدة فعليه إثم من ذلك الأمر ، ويتحمل جزءاً من المسؤولية .  
     وبالتالي فليس كل شفاعة تؤدي إلى تحصيل أجر لصاحبها ، فالشفاعةُ الحسنة وحدها هي التي يؤجر عليها الفرد . (( وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه )){(2)}.
     وهكذا نجد أن الشرع قد رغَّب في الشفاعة الحسنة التي تشجع على أعمال البِر والخير، وتعزز العملَ الخيري والتكافلي في المجتمع الواحد المتراص . وجعل للشافع نصيباً من الخير . كما جرَّم الشفاعة السيئة التي تؤدي إلى نشر الباطل والإفساد في الأرض ، وتقطيع الروابط الاجتماعية ، وتشتيت كلمة المجتمع ، وحمَّل فاعلَها الوِزْرَ .  
     وقد روى الطبري في تفسيره ( 4/ 188 ) عن مجاهد في تفسير الآية قال : (( شفاعة بعض الناس لبعض )){(3)}.
     وعن أبي موسى _ رضي الله عنه _ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل ، أو طُلبت إليه حاجة،قال : (( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي اللهُ على لسان نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ما شاء )){(4)}.
     وفي هذا الحديث الشريف دعوة صريحة وحض على الشفاعة الحسنة التي تعكس تكافلَ أبناء المجتمع الواحد، ومساعدتهم لبعضهم البعض . حيث الناس متفاوتون في السُّلطة والنفوذ والمكانة الاجتماعية . فحينما يساعد القويُّ الضعيفَ ، ويشفع الغنيُّ للفقير ، ... إلخ . عندئذ ستزول الشحناء في النفوس ، ويصبح المجتمعُ على قلب رجل واحد ، لا مجال لاختراقه أو تفتيته . وهذه هي نقطة القوة المركزية في التكافل الاجتماعي . فالتفاوتُ هو مبدأ كَوْني، والناسُ درجاتٌ يختلفون في قدراتهم ، وهذا البناء الاجتماعي المتفاوت يتطلب التعاون فيما بينه لكي يقدر على التحرك إلى الأمام ، فالقطارُ لا يسير إلا إذا تكاملت حركة مقطوراته بكل تناسق .
     وقال الله تعالى : } مَن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه { [البقرة : 255] .
     وفيه بيان أن لا أحد يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه سبحانه ، ولا يوجد إنسان يملك تأثيراً مستقلاً عن إرادة الله تعالى . وفي هذا إبطال عقيدة المشركين التي تنص على شفاعة الأصنام .
     وقال الله تعالى : } لا يملكون الشفاعة إلا مَن اتخذ عند الرحمن عهداً { [ مريم : 87 ] .
     فلا أحد يَشفع أو يُشفَع له إلا من اعتنق شهادة التوحيد . فالعهد شهادة أن لا إله إلا الله .
     وعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ : أنه قرأ :} إلا مَن اتخذ عند الرحمن عهداً { فقال : (( اتخِذوا عند الرحمن عهداً ، فإن الله يقول يوم القيامة : مَن كان له عندي عهد فليقم )) ، قال : فقلنا : فعلِّمْنا يا أبا عبد الرحمن ، قال : (( قولوا : اللهم فاطرَ السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقرِّبني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعله لي عندك عهداً ... )){(5)}.
     وإننا لنرى أهمية شهادة التوحيد في نجاة صاحبها يوم القيامة ، ونَيْله الشرف الجليل ، وحصوله على المساعدة الكبرى ( الشفاعة ) بإذن الله تعالى . فاللهُ تعالى لم يخلق العبادَ ليعذِّبهم ، بل ليدخلهم الجنة إلا من رفض ذلك. أي رفض الإقرار بتوحيد الله تعالى . وعندئذ على الفرد أن يلوم نفسَه لأن اللهَ تعالى هداه إلى طريق الخير، لكنه استحب العمى على الهدى ، وارتضى لنفسه أن يكون عدواً لخالقه ، فعليه أن يتحمل مسؤوليةَ قراره الذي اختاره بمحض إرادته دون إجبار .
     وعن عبادة بن الصامت _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَن جاء بالصلوات الخمس ، قد أكملهن لم ينقص من حقهن شيئاً ، كان له عند الله عهد أن لا يعذِّبه، ومَن جاء بهن وقد انتقص من حقهن شيئاً، فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه، وإن شاء عذَّبه )){(6)}.
     وهكذا نرى أن الصلوات هي العهد الوثيق عند الله تعالى . فالحرصُ عليها ، وأداؤها في وقتها على أكمل وجه كانت عهداً عند الله تعالى يقيه من العذاب ، أما أن انتقص منها ، وأخلَّ بأدائها فقد خسر عهدَه عند الله تعالى ، وهو تحت المشيئة الإلهية ، إما للرحمة أو العذاب .
     وقال الله تعالى : } ولا يَشفعون إلا لمن ارتضى {[ الأنبياء : 28 ].
     هذه الآية تتحدث عن شفاعة الملائكة _ عليهم السلام _ . وأنهم لا يشفعون إلا لمن رضي اللهُ عنه ، وهم أهل الإيمان ( أهل شهادة أن لا إله إلا الله ) . وتدل هذه الآية على عظمة الرحمة الإلهية التي جعلت الملائكةَ يشفعون للمؤمنين ، ويساعدونهم في موقف هم فيه بأمس الحاجة إلى الشفاعة والمساندة .
     وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما_: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قولَ الله _عز وجل_: } ولا يَشفعون إلا لمن ارتضى { ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي )){(7)}.
     وهنا تتجلى الرحمة النبوية بالمؤمنين . فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يترك أُمَّته تضيع يوم القيامة ، فتأتي شفاعته كطَوْق نجاة للغرقى أهلِ الكبائر الذين ماتوا على التوحيد ، لكنهم ارتكبوا ذنوباً عظيمة .
     وفي حديث الشفاعة الطويل يقال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة : (( وقُلْ يُسْمَعْ ، وسَلْ تُعْطه ، واشْفَعْ تُشَفَّع )){(8)}.
     ولا يخفى أن هذه الرتبة السامية التي لم يصل إليه أي مخلوق سوى النبي صلى الله عليه وسلم ، تشير إلى الكرم الإلهي الجليل ، والمقامِ النبوي العظيم . فاللهُ تعالى مَنَحَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شرفَ الشفاعة لأمته لإنقاذهم من النار في موقف بالغ الصعوبة ، حيث تقطَّعت بهم السُّبل ، ولا ناصر لهم سوى الله تعالى . كما يدل الحديث على مكانة المؤمنين الذين أحبهم اللهُ تعالى ، لذلك أنقذهم من النار ، وجعل لهم من همِّهم مخرجاً .
     كما أن الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ أصحاب المكانة السامية لهم شفاعة تدل على منزلتهم العظيمة عند الله تعالى. ففي صحيح مسلم ( 1/ 167 ) : أن الله تعالى يقول يومَ القيامة : (( شفعت الملائكةُ ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين )) .
     وعندئذ يُخرِج اللهُ تعالى من شاء من النار. فرحمته وسعت كلَّ شيء . كما أن طاعات العباد لا تنفعه      _ سبحانه _ ، ومعاصيهم لا تضره . فلو ألقى كلَّ المخلوقاتِ في النار لما كان ظالماً لأي واحد فيهم ، ولو أبقى العصاةَ في النار خالدين لما قدر أحدٌ على إخراجهم . لكن اللهَ تعالى _ الذي خلق العبادَ _ هو أرحم بهم من أمهاتهم .
     قال الله تعالى : } ما للظالمين مِن حميمٍ ولا شفيع يُطاع { [ غافر : 18] .
     وعلى الجهة الأخرى نجد أن الكافرين لا قريب لهم ينفعهم ، ولا أحد يشفع لهم، لأنهم أضاعوا مستقبلَهم بمحض اختيارهم . والشخصُ حينما يقضي على نفسه بإرادته ، فلا ينتظر أحداً لكي ينقذه . فالكافرُ حينما يخلد في النار يكون قد ظلم نفسَه وأوردها المهالك . ولم يظلمه اللهُ تعالى الذي وضَّح الصراطَ المستقيم لعباده ، فمن التزمه نجا ، ومن انحرف عنه هَلَك . وقد كرَّم اللهُ تعالى الإنسانَ بنور العقل ، لكن الإنسان هو الذي يحجب ذلك النورَ بجهله وعناده وآثامه . ومن اعتقد أنه مستغنٍ عن خالقه تعالى ، وغير محتاج إلى الهداية ، فقد أهلك نفسَه ، وصار عبداً لشهواته وأطماعه الدنيوية البائسة ، غارقاً في متاهات الشك والحيرة .
     والجدير بالذِّكر أن الشفاعة خمسة أقسام {(9)}: أولها _ مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي الإراحة من هَوْل الموقف ، وتعجيل الحساب . والثانية _ في إدخال قوم الجنة بغير حساب  ،  وهذه وردتْ للنبي صلى الله عليه وسلم . والثالثة _ الشفاعة لقوم استوجبوا النارَ فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله تعالى . والرابعة _ فيمن دخل النار من المذنبين، فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يُخرِج اللهُ تعالى كلَّ من قال لا إله إلا الله. والخامسة _ في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها .
..........الحاشية..............
{(1)} سفينة النجاة في عقيدة الأئمة الهداة ، ص 357 .
{(2)} فتح الباري لابن حجر ( 10/ 451 ) .
{(3)} صحَّح إسنادَه الحافظ في الفتح ( 10/ 451 ) .
{(4)} متفق عليه واللفظ للبخاري( 2/ 520 )برقم ( 1365 ).ومسلم( 4/ 2026 ) برقم( 2627).
{(5)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 409 ) برقم ( 3426 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي . 
{(6)} رواه ابن حبان في صحيحه( 5/ 21 ) برقم ( 1731 ).وقال الحافظ في الفتح ( 12/ 203 ) : (( وصحَّحه ابن حبان وابن السكن وغيرهما )) .
{(7)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 414 ) برقم ( 3442 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(8)} متفق عليه . البخاري ( 6/ 2695 ) برقم ( 6975 ) ، ومسلم ( 1/ 180 ) برقم ( 193 ).

{(9)} ذكر هذه الأقسام النوويُّ في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 35و36) . [ منقول بتصرف].

23‏/11‏/2015

الفتنة

الفتنة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

............................

     إن الفتن هي الابتلاء والاختبار الذي من شأنه تمييز الغث من السمين  ،  والصالح من الطالح .
     وفي اللغة : فَتَنَه يَفْتِنُه فَتْناً _ إذابةُ الذهب بالنار لكي يتميز عن الشوائب العالقة به، ويصبح خالصاً نقياً . لذلك فالفتن تعمل على تمييز الخير من الشر ، وفصل الصالحين عن الفاسدين . إنها عملية غَرْبلة بالغة الدقة. والفتنُ هي حصاد المنافقين تفضحهم على رؤوس الأشهاد، وتعلي شأنَ الصادقين الذي ثبتوا في المواقف الصعبة.
     وهذا الامتحان القاسي ليعلم اللهُ الصادقَ من الكاذب ، ويحصل كلُّ فرد على نصيبه الذي يستحقه . فإن كان صالحاً ثابتاً فالفتن هي طريقه إلى الجنة ، وإن كان فاسداً مضطربَ العقيدة فالفتن هي الضربة التي ستقضي عليه وتقوده إلى النار . وبالطبع فلا أحد يعرف قلبَه عند الفتن ، فلن يكون ثباتُ المرء نتيجة عبقريته . بل إن الثبات والتثبيت من الله تعالى .   
     قال الله تعالى :} وكذلك جعلنا لكل نبي عَدُوَّاً شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضُهم إلى بعض زُخرفَ القول غروراً { [ الأنعام : 112]{(1)}.
     في هذه الآية دعمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له . فكما جعل اللهُ تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أعداءً يبارزونه بالعداوة العملية والقَوْلية، جعل _سبحانه وتعالى_ أعداءً من الإنس والجن لكل الأنبياء_ عليهم السلام _، وهؤلاء شياطين يُوَسْوِس بعضهم لبعض _بشكل خفي_ بالكلام المزيَّن المعسول لكي يخدعوا الناس ، ويُغروهم .
     وقد قدَّم اللهُ تعالى ذكر الإنس على الجن ، لأن شياطين الإنس أشد خطورةً لأنهم منتشرون بين الناس ، ويتم الاحتكاك بهم على الدوام ، ويتحركون في المجتمع طولاً وعرضاً مثل الآخرين ، ويتعاملون مع كافة الأصناف ، وينشرون الآثام والضلال في أوصال الجماعات البشرية .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فَرُّوا من عمر )){(2)}.
     وهذه منقبة جليلة لعمر بن الخطاب_ رضي الله عنه _ حيث تفر منه شياطين الإنس والجن لقوته في الحق ، وهيبته العظيمة . وهذا الحديثُ يُثبِت وجود شياطين إنسية وشياطين من الجن .
     وقال الله تعالى  :  } وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون {     [ الأنعام :121] .
     فالشياطين يُوَسْوِسون إلى المشركين أوليائهم في الباطل ليجادلوا المؤمنين في موضوع الميتة . فالمجادلة تتمثل في قول المشركين للمؤمنين : أتأكلون مما قتلتُم ولا تأكلون مما قتل اللهُ ( الميتة ) ؟ . فإن الشياطين وأولياءهم المشركين يريدون من المؤمنين أن يأكلوا الميتةَ ليضلُّوهم . وإذا أطاع المؤمنون المشركين في مسألة تحليل الحرام ، فسيكونون عندئذ مثلهم في الشِّرك . فينبغي الثباتُ في المواقف الجليلة ، وعدمُ إدخال المجاملات أو المداهنة في موضوع العقائد والسلوكيات ، والتمسكُ بالحق بغض النظر عن رضا الناس أو عدم رضاهم . 
     فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن المشركين قالوا عن المؤمنين : (( ما قَتلوا أكلوا ، وما قتل اللهُ لم يأكلوا )){(3)}.
     وهذا انحرافٌ عن المنهج العلمي في الاستدلال ، مرجعه إلى سوء الفهم وفسادِ النية . فمنطقُ المشركين مبني على قياس مغلوط نابع من الهوى لا المرجعية الشرعية المتماسكة . لذلك انحرفوا عن جادة الصواب ، فلا يمكن الوصول إلى نتيجة صحيحة إلا بوسيلة صحيحة . وكلُّ فهمٍ خاطئ لا بد أن يوصل إلى فكرة منحرفة . وهذا ما حصل مع المشركين في موضوع الميْتة . فَهُم يَنظرون إلى الميْتة على أنها مقتولة بأمر الله تعالى ، وبالتالي _ وفق منطقهم المعْوَج _ لا بأس بأكلها . وهذا أدى إلى تقديم القذارة على الطهارة بسبب غياب منهج الاستدلال الصحيح . 
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : _ } وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم { . قال :   (( يقولون ما ذُبح فذُكر اسم الله عليه فلا تأكلوه ، وما لم يذكر اسمُ الله عليه فكلوه )){(4)}.
     وإننا لنجد أن المشركين الذين يتلقون الدعمَ من شياطينهم ، يحاولون صرف المؤمنين عن الحق بواسطة التلبيس والكلامِ المعسول ، واختراعِ حُجج تبدو للوهلة الأولى منطقية ، لكنها تنبئ عن مكر وجهل ، وتهدف إلى بث الانحراف في الذات الفردية ، والذات الجماعية .
     قال الله تعالى : } واتَّقوا فِتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة { [ الأنفال : 25 ] .
     يحذِّر اللهُ تعالى المؤمنين من أن يصيبهم بلاءٌ واختبار لا يطال الظالم فحسب ، بل يعم الجميعَ ( المحسن والمسيء معاً ) .
     وعن أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يَعُمَّهم اللهُ بعقاب )){(5)}.
     وهذا يشير إلى أن عدم إيقاف الظالم عند حده والتصدي له سببٌ لعموم العقاب الشامل للصالح والطالح في المجتمع . وهذا العذاب لا يفرق بين المحسن والمسيء ، لأن غياب عملية النصح والتصدي لمظاهر الباطل أدخل الجميعَ في دائرة العقوبة . وهنا تتجلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وعن زينب بنت جحش       _ رضي الله عنها _ أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ ، قال: (( نعم، إذا كَثُرَ الْخَبَثُ )){(6)}.
     ويكون عندئذ الإهلاك الشامل حينما تعم المعاصي ، ويكثر الفجور ، وتبرز المعاصي علانية . ولا يتم الوصول إلى هذه المرحلة السيئة إلا بغياب النصح الفعال ، ومظاهرِ الإصلاح الشاملة ، وعدم ردع الظالمين وإيقافهم ، وعدم كبح جماح المفسِدين . فالساكتُ عن الحق هو _ في واقع الأمر _ يساهم في انتشار الباطل . فبسبب تقصيره وعدم قيامه بواجبه استطاع الباطلُ أن يكسب مواقعَ جديدة ، ويستشري لأنه لم يجد أمامه سداً منيعاً .
     وعن مُطَرِّف قال : قلنا للزُّبير _ رضي الله عنه _ : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ، ضَيَّعْتُم الخليفةَ حتى قُتل ثم جئتم تطلبون بدمه . قال الزبير _ رضي الله عنه _ : (( إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان _ رضي الله عنهم _ :} واتَّقوا فِتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة { ، لم نكن نحسب أنَّا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت )){(7)}.
     وهكذا نرى أن الفتن قد تعم الجميعَ بدون تمييز ، فإن جيل الصحابة _ رضي الله عنهم _ وهو الجيل الذهبي، قد أُصيب بفتن شرسة للغاية مثل موقعة صِفِّين ، وموقعة الجمل. وعلى الإنسان أن يدور مع الحق حيث دار ، بغض النظر عن شخوص الرجال ومكانتهم . فالحق أحق أن يُتَّبع . كما أن الفتن هي عملية غربلة ، حيث تعمل على تمييز الصلاح وأهله من الفساد وأهله . وبالتأكيد فلن يَثْبت إلا مَن ثَبَّته اللهُ تعالى مَالِكُ القلوب .
     وقال الله تعالى : } واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فِتنةٌ { [ الأنفال : 28] .
     ينبغي أن يُعلَم أن الأموال والأولاد اختبارٌ إلهي لكي يمحِّص اللهُ تعالى الصالح من الفاسد. ويرى_سبحانه _ كيف يقوم عبادُه بأداء شكر هذه النعم ، وتأدية الحقوق المرتبطة بها . كما أن الأموال والأولاد تشغل الذهنَ عن القيام بالطاعة .
     وعن كعب بن عياض _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن لكل أُمَّة فتنة ، وإن فتنة أُمَّتي المال )){(8)}.
     فالمالُ فتنة شديدة بسبب الالتهاء به عن طاعة الله تعالى ، والانشغال بجمعه عن أداء العبادات على الوجه الأمثل . ولا يخفى أن حب المال مسألة غريزية ، ولكن على الفرد أن يقاوم جموحَ شهواته ، ويجعل المال في يده لا قلبه . فالإغراءُ المادي المتمثل في المال يخاطب الفطرةَ الداخلية للمرء ، وهنا تتجلى قيمة الثبات ، والتصدي لكل أنواع الإغراءات الشهوانية . وعلى المرء أن يبعد قلبَه عن امتحانات الفتن ، لأن الداخل في البحر قد لا يَخرج منه أبداً .
     وعن بُرَيْدة _ رضي الله عنه _ قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ أقبل الحسن والحسين ، وعليهما قميصان أحمران ، يقومان ويعثران ، فَنَزل إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما ، وقال :         (( } أنما أموالكم وأولادكم فِتنةٌ { )){(9)}.
     وهذه فتنة الأولاد التي أدَّت إلى قطع النبي صلى الله عليه وسلم للخُطبة لكي يريح الحسن والحسين       _ رضي الله عنهما _ من القيام والتعثر. وهذا يعكس حُنُوَّ الوالد على ولده ، والرحمة النبوية الإنسانية الجليلة . فالنبي صلى الله عليه وسلم هو كائن بشري ذو عواطف وميول قبل أن يكون نَبِيَّاً .
............الحاشية................
{(1)} في تفسير ابن كثير ( 1/ 16 ) : (( وقال سيبويه : العرب تقول : تَشَيْطَنَ فلان ، إذا فعل فعل الشياطين . ولو كان من شاط لقالوا تشيَّط. فالشيطان مُشتق من البعد، على الصحيح. ولهذا يُسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً )) اهـ . 
{(2)} رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 621 ) برقم ( 3691 ) وصحَّحه .
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 260 ) برقم ( 7573 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 257 ) برقم ( 7564 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(5)} رواه الترمذي( 5/ 256 )برقم ( 3057 ) وصحَّحه،ورواه ابن حبان في صحيحه( 1/ 539 ).
{(6)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1317 ) برقم ( 3403 )،ومسلم ( 4/ 2207 ) برقم ( 2880).
{(7)} رواه أحمد في مسنده ( 1/ 165 )برقم( 1414 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 99 ) : (( رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح )) . وسكت عنه الحافظ في الفتح ( 13/ 4) وقال إن المقصود بالخليفة هو عثمان _ رضي الله عنه _ الذي قُتل بالمدينة ، أما قوله " تطلبون بدمه " أي في البصرة .
{(8)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 354 ) برقم ( 7896 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي . وصحَّحه ابن حبان ( 8/ 17 ) برقم ( 3223 ) . 

{(9)} صحَّحه ابن حبان( 13/ 402) برقم( 6038 )،وصحَّحه ابن خزيمة ( 2/ 355 ) برقم ( 1456 ). وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 254 ) : (( وظاهر الحديث أن قطع الخطبة والنزول لهما فتنة دعا إليها محبة الولد فيكون مرجوحاً. والجواب : إن ذلك إنما هو في حق غيره ، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو لبيان الجواز ، فيكون في حقه راجحاً. ولا يلزم من فعل الشيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله . ففيه تنبيه على أن الفتنة بالولد مراتب ، وإن هذا من أدناها ، وقد يجر إلى ما فوقه فيُحذَر )) اهـ . 

18‏/11‏/2015

النفاق والمنافقون

النفاق والمنافقون

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

..................

     إن النفاق يعني إظهار عكس الباطن ، أو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، أو إظهار الصداقة وإخفاء العداوة . لذلك فهو بالغ الخطورة في المجتمع الإنساني عموماً ، والإسلامي خصوصاً . فمن شأنه تفتيت أوصال المجتمع ، وتدمير معنويات أبنائه، والقضاء على المكتسبات الوطنية . وكل هذه العوامل تقضي على تماسك الجبهة الداخلية ، وتجعل من البلاد والعباد لقمةً سائغة للأعداء . فالشيء لا يمكن أن يَسقط إلا إذا سقط من الداخل . 
     لذلك كان المنافقون ( العدو الخفي ) أشد خطورة من الكافرين ( العدو الواضح )، لأن العدو الخفي لا تعلم من أين تأتي ضربته وغدره وخيانته، فيصبح عنصر المفاجأة شديد الخطورة، خصوصاً مع انعدام إمكانية التوقع وأخذِ الاحتياطات. أما العدو الواضح فمعلومٌ مكانه وإمكانياته ، وبالتالي لا مكان للمباغتة والمفاجأة. فيمكن أخذ الحيطة والحذر بسبب معرفة الشخص وقدراته وارتباطاته، فيكون الوضع تحت السيطرة .  
     فليس غريباً أن يكون عذاب المنافق أشد بكثير من عذاب الكافر . فقد قال الله تعالى : } إن المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً { [ النساء : 145] .
     إي إنهم في أسفل النار . (( فالمنافق لَمَّا كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غرَّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين . ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف. ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح )){(1)}.
     وقد فضح اللهُ تعالى المنافقين ، وكشف صفاتِهم للمؤمنين ، وأظهر كثيراً من المواقف التي صنعها المنافقون في محاولة يائسة منهم لتفريق الجماعة الإسلامية والقضاءِ على الدعوة . وهذه الإرشادات الإلهية جاءت لكي يأخذ المؤمنون حذرهم ، ويعملوا على تقوية الجبهة الداخلية لمجتمعاتهم ، ويمنعوا المنافقين من تنفيذ مخططاتهم الدنيئة . فالمؤمنُ كَيِّسٌ فَطِن ، وليس مُغفَّلاً يُضحَك عليه ، ويتم التلاعب به .
     قال الله تعالى :} وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلا بعضُهم إلى بعض قالوا أتحدِّثونهم بما فتح اللهُ عليكم ليحاجوكم به عند ربِّكم أفلا تعقلون { [ البقرة : 76] .
     وهؤلاء المنافقون كانوا إذا لقوا المؤمنين ادعوا الإيمانَ نفاقاً لخداع المؤمنين ، وتنفيذ أهدافهم التدميرية . وإذا خلا بعضهم ببعض وكانوا لوحدهم قالوا : (( أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ . ومن حكمه _ جل ثناؤه_ عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير ، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم  . وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حُجَّة على المكذِّبين به من اليهود المقرِّين بحكم التوراة وغير ذلك من أحكامه وقضائه )) [ تفسير الطبري ( 1/ 412 ) ] .
     وهؤلاء المنافقون كتموا العلمَ خوفاً أن يُحتج به عليهم . فهم يضحكون على أنفسهم ظناً منهم أنهم بذلك يحافظون على مكانتهم بين الناس ، ويخدعون المؤمنين من أجل تحقيق مآربهم المادية الوضيعة . وهذه هي الفلسفة اللامنطقية للمنافقين في كل العصور .
     وقال الله تعالى : } ألم ترَ إلى الذين يزعُمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليكَ وما أُنزل من قبلكَ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقدْ أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطانُ أن يُضِلَّهم ضلالاً بعيداً (60) وإذا قيل لهم تعالَوْا إلى ما أنزل اللهُ وإلى الرسول رأيتَ المنافقين يَصُدُّون عنكَ صدوداً (61) {[ سورة النساء] .
     وهذا إنكار من الله تعالى على هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإيمان بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم  والأنبياء السابقين _ عليهم الصلاة والسلام _ . ومع هذا لم يرضوا بحكم الكتاب والسنة . بل يريدون التحاكم إلى غيرهما .
     أما سبب نزول الآيات السابقة . فعن الشعبي قال : (( كان بين رَجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فدعا اليهوديُّ المنافقَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافقُ اليهوديَّ إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذونها )){(2)}.
     وهكذا نرى أن المنافقين _ دائماً _ ينتهجون الأساليب الملتوية، فلا يحبون أن يسلكوا الصراطَ المستقيم لأنه يتعارض مع مصالحهم الآنية الدنيوية الزائلة ، فتراهم يسلكون كل السبل المنحرفة التي من شأنها أن تحقِّق أطماعهم ، وتوفِّر لهم شرعيةً مصطنعة للحفاظ على مكاسبهم المادية ومكانتهم الاجتماعية . وهم دائمو التحرك بفعل أهوائهم ومصالحهم الشخصية بغض النظر عن موقف الشريعة منها .
     أما الطاغوت فهو كل معبود من دون الله تعالى . والمقصود به في الآية على قولَيْن :
     الأول _ أنه حاكم اليهود أبو برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب ( يصبح صحابياً ){(3)}.
     والثاني _ أنه كعب بن الأشرف {(4)}. وهو من أكابر سادة اليهود . وقد سُمِّيَ بالطاغوت لشدة طغيانه وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم .
     وقد أُمروا بأن يكفروا بالطاغوت، ويؤمنوا بالله تعالى، ويتحاكموا إلى الكتاب والسنة وحدهما. لكنهم رفضوا ذلك اتباعاً للهوى والمصلحة الشخصية ، وساروا في طريق الشيطان الذي يريد إضلالهم وإغواءهم ، وقيادتهم إلى طريق الجحيم .     
     وهؤلاء المنافقون إذا دُعوا إلى الكتاب والسنة ليحكما بينهم بالحق والخير، فإنهم يعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم رافضين الاحتكام إلى الشريعة . وهذا سقوطٌ مريع يجعل من الإنسان كائناً شاذاً عن مسار الحق والحقيقة ، ومتمرداً على الشريعة الإلهية. والإنسان بذلك يُلقي بنفسه إلى الهاوية . فاللهُ تعالى هو خالقُ الإنسانِ وواضعُ الشريعة ، وهو أعلم بالإنسان من نَفْسه ، وما يُصلحه وما يُفسده .
     والمؤمنون يحملون صفاتٍ معاكسة لصفات المنافقين . إذ إن الإيمان يوجب على الإنسان أن يحتكم إلى الكتاب والسُّنة، وأن يرضى بحكمهما . وهذه صفة لا تستقر إلا في قلب استقر فيه الإيمان . كما أن الاعتراض على الحكم الإلهي والحكمِ النبوي كارثة حقيقية تقضي على الإنسان ، وتجعل منه ظلاً باهتاً للأهواء والجهل .
     فعن عبد الله بن الزبير _ رضي الله عنهما _ أنه حدَّثه : أن رَجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة_ مسايل الماء _ التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرِّح الماء يمر فأبى عليه ، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : (( اسقِ يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك )). فغضب الأنصاري فقال : أن كان ابن عمتك ؟ ، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر )) . فقال الزبير : والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك } فلا وربِّكَ لا يؤمنون حتى يحكِّموكَ فيما شجر بينهم {[ النساء : 65]{(5)}.
     لقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقيَ ثم يرسل الماءَ إلى جاره . لكنَّ الأنصاري قد تلفظ بكلام بالغ القبح ، فقد طعن في حُكم النبي صلى الله عليه وسلم ، واتهمه بالمحاباة مع أقربائه . إذ إن والدة الزبير هي السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تلوَّن وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب انتهاك حُرمات الله تعالى . ولم يكن ليغضب لنفْسه الشريفة لأن قداسة الشريعة فوق مكانة النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا هو قمة السُّمو الأخلاقي ، وتقديم الشريعة الإلهية على الشخصية النبوية . فأمر صلى الله عليه وسلم الزبيرَ أن يحبس الماءَ حتى يرجع إلى الجدر (الحواجز التي تحبس الماءَ )، أي حتى تبلغ تمام الشرب. وهذه هي العدالة النبوية في الحكم بين الناس بغض النظر عن درجة القرابة .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : (( وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفْسه إلا أن تُنتهك حُرمة الله فينتقم لله بها )){(6)}.
     وهذا الكلامُ من الأنصاري جهلٌ وتهور . فكل من يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم كافرٌ بالإجماع . وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس ، ويصبر على أذاهم ، ويرشدهم إلى الخير .
     والنبي صلى الله عليه وسلم لم يظلم الأنصاري ، لأن أولوية السقي كانت للزبير _ رضي الله عنه _ بحكم موقع أرضه . فلا يجوز الاعتراض على الحكم النبوي المعصوم، ولا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسولَ صلى الله عليه وسلم في كل الأمور ، ويخضع لحكمه دون اعتراض ، فلا يمكن أن يتساوى الحكمُ النبوي المؤيَّد بالوحي المعصوم مع الحكم البشري القاصر .
     قال الله تعالى : } وإن منكم لَمَن ليُبَطِّئنَّ فإنْ أصابتْكم مصيبةٌ قال قدْ أنعم اللهُ عليَّ إذْ لم أكن معهم شهيداً (72) ولئنْ أصابكم فضلٌ من الله ليقولنَّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودةٌ يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً  ( 73) { [ سورة النساء ] .
     ويتوالى فضح المنافقين . ويجيء التحذير الإلهي بأن بين المؤمنين مجموعة مدسوسة من المنافقين الذين يظهرون الإيمان تقيةً. والمنافق يتباطأ في الخروج للجهاد ، ويُبطئ غيره لكي يثبِّطهم ، ويقضيَ على معنوياتهم .
     فإن أصاب المسلمين خسارة أو تفوق عليهم العدو لحكمة إلهية ، فإن هذا المنافق يفرح بعدم وجوده مع المؤمنين في تلك الموقعة، وما درى بتضييعه للأجر الإلهي الجزيل. أما إن انتصر المسلمون وحصلوا على الغنائم فيقول كأنه من ليس المؤمنين } يا ليتني كنتُ معهم {، وذلك للحصول على المكاسب المادية ، وتحقيق أرباح شخصية محضة .
     وقال الله تعالى:} ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندكَ بيَّت طائفةٌ منهم غير الذي تقول { [النساء: 81 ].
     وهؤلاء المنافقون عندما يكونون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يزعمون طاعته ، وموافقته ، وامتثالهم لأوامره، فإذا خرجوا قامت طائفة منهم بتبديل الكلام وتغيير المواقف لتحقيق مكاسبهم الشخصية. وهم يعتقدون بذلك أنهم يكسبون الوقت ، ويلعبون على الحبال دون أن يُكتشف أمرهم ، لكن الله تعالى يكتب أعمالهم الشريرة ، وسوف يحاسبهم عليها حساباً عسيراً . فكما هو معلوم إن الأحكام الدنيوية تُجرى على الظاهر ، أما السرائر فحسابها عند الله تعالى ، ولا طريق للبشر لمعرفتها . وبالتالي فالمنافق يضحك على نفسه لأنه يقامر بمصيره ، ويضيع دنياه وآخرته مجاناً .
     وقال الله تعالى : } فما لكم في المنافقين فئتَيْن واللهُ أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل اللهُ ومَن يُضللِ اللهُ فلن تجد له سبيلاً { [ النساء : 88] .
     وهذه الآيةُ تشير إلى انقسام المؤمنين في أمر المنافقين إلى فرقتَيْن ، وهذا عائد إلى اجتهادهم البشري وفق العلم الذي لديهم . والاستفهام للإنكار والتوبيخ . وفي هذا إشارةٌ إلى صعوبة التعامل مع المنافقين لأنهم أعداء يمتازون بالخفاء ، والتلاعب بالألفاظ . لذلك حصل الاختلافُ حَوْلهم . ولو كانت عداوتهم ظاهرةً لَمَا خُفِيت على أحد ، ولَمَا حصل الاختلافُ بشأنهم .
     وعن زيد بن ثابت _ رضي الله عنه _ قال : (( لَمَّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد ، رجع ناس من أصحابه، فقالت فرقة: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم. فنزلت} فما لكم في المنافقين فئتَيْن{  {(7)}.
     ومعناه : أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم . وهذا إنكار وتوبيخ للمؤمنين الذين يحكمون وفق علمهم الشخصي القاصر ، فيأتي التوجيه الرباني الكامل المعصوم ليرشد المؤمنين ، ويصحِّح أخطاءهم ، ويقودهم إلى جادة الصواب . فاللهُ تعالى يتولى أمر عباده الصادقين ، ولا يتركهم لآرائهم الشخصية .
     واللهُ تعالى أركس المنافقين ، أي ردَّهم إلى الضلال والكفر جزاء أعمالهم الدنيئة ، وعقوبة لهم على أفعالهم القبيحة. ولا يمكن هداية من أضلهم اللهُ تعالى وختم على قلوبهم . فهم يستحقون ذلك، فقد ظلموا أنفسهم ، وما ظلمهم اللهُ تعالى . ومن أضله اللهُ فلا تفلح كل المخلوقات في هدايته ، ومن يطرده اللهُ فلن ينجح أحد في إيوائه . 
     وتتوالى الآياتُ في إبراز صفات المنافقين السيئة . ومنها _ بل من أهمها _ موالاة الكافرين ، والاستقواء بهم لنيل العزة الوهمية ، وإيجاد ظهر يسندهم _ وفق ما يتصورون _ .
     قال الله تعالى:} الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العِزَّةَ فإن العزة لله جميعاً { [ النساء : 139] .
     فهؤلاء المنافقون يتخذون الكافرين نصراء وداعمين وأولياء متجاوزين بذلك ولايةَ المؤمنين . ويلجأ المنافقون لهذا العمل لنيل العِزة الوهمية ، والمنعةِ ، والحماية . لكن العِزة الحقيقية هي لله تعالى ومن خضع لأمره . والمؤمنون لا يوالون أعداءَ الله تعالى ، بل يوالون المؤمنين وينصرونهم .
     وعن علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم )) {(8)}.
     وهذا يشير إلى وحدة الجماعة الإسلامية ، وكونها يداً واحدة ، ومجتمعاً متماسكاً من قاعدة هرمه حتى الرأس . حيث يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً ، ولا يسمحون للغرباء ( الكفار ) بالدخول فيما بينهم لتفريق كلمتهم ، وتشتيت رأيهم ، وبث الوهن فيهم . فالمسلمون على الحق يتحركون في ظل الشريعة الإلهية ، وغيرهم على الباطل يتحركون بفعل قوة الأهواء ، وتضليلِ الشيطان . لذلك رفض النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يساعده أحد المشركين في المعركة . لأن المسلمين يقاتلون بدافع العقيدة الإسلامية الواضحة المستقيمة ، أما الكافرون فيقاتلون رياءً وسُمعة ، وبدافع تحقيق أرباح مادية .
     ففي صحيح مسلم ( 3/ 1449 ) : عن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر ، فلما كان بحرة الوبرة _ اسم مكان _ أدركه رجل قد كان يُذكر منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
جئتُ لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تومن بالله ورسوله ؟ )) ، قال : لا ، قال : (( فارجع فلن أستعين بمشرك )) .
     وقال الله تعالى في وصف المنافقين وفضحهم :} الذين يتربَّصون بكم فإن كان لكم فتحٌ من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين { [ النساء : 141] .
     فالمنافقون ينتظرون ماذا يحدث في أثناء المعركة وبعدها لكي يصوغوا مواقفهم الشريرة في اللعب على كل الحبال، ودراسة كل الاحتمالات. فإن انتصر المسلمون ، وحقَّقوا إنجازاتٍ حاسمة، جاء المنافقون يمدحون أنفسهم بأنهم قاتلوا إلى جانب المسلمين، ودافعوا عنهم، وكانوا معهم في الشدة ، فيطلبون نصيبهم من الغنائم . أما إن كان للكافرين نصر وظفر ، فيقولون للكافرين ألم نغلبكم ونقدر على قتلكم وأسركم ، لكننا حافظنا عليكم ، وحميناكم من المؤمنين ، فهاتوا نصيبنا من المكاسب التي حصلتم عليها .
     وقال الله تعالى : } إذْ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غَرَّ هؤلاء دينُهم { [ الأنفال : 49] .
     وقد قال المنافقون والذين في قلوبهم شك دون نفاق لكَوْنهم حديثي عهد بالإسلام إن المسلمين قد غرَّهم دينُهم حتى تكلَّفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش . وهذا الأسلوب الدنيء في لغة النفاق يهدف إلى تثبيط المؤمنين ، وتدميرِ معنوياتهم ، لكي يصبحوا فريسةً سهلة لأعدائهم . فإذا سقطت معنويات المقاتِلين فسيخسرون المعركة لا محالة . وهذا هو الوتر الحساس الذي يضرب عليه المنافقون في كل زمان ومكان .
     والمنافقون يفتقدون إلى الشجاعة والإقدام ، لذلك يخترعون الأعذار للهروب من المواجهات الحاسمة . وذلك لأن الدنيا بالنسبة إليهم هي حلمهم النهائي الحاسم ، فلا ينظرون إلى الأجر الإلهي الذي ينتظرهم إذا بذلوا جهدهم بإخلاص ، وقاموا بالتضحية من أجل الإسلام والمسلمين .
     قال الله تعالى : } إنما يستأذنكَ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبُهم فهم في رَيْبهم يترددون (45) ولو أرادوا الخروجَ لأعدُّوا له عُدَّةً ولكن كره اللهُ انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) {  [ سورة التوبة ] .
     فالمنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم للتخلف عن الجهاد مستخدمين أعذاراً واهية للهروب من هذه المسؤولية لعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر . فقلوبهم مرتابة مليئة بالشبهات والشكوك التي يغرقون فيها أكثر فأكثر . ولو أنهم كانوا صادقين لأعدوا عُدةً للجهاد ، وقاموا بتجهيز أنفسهم وعتادهم ، لكنهم لم يستعدوا للخروج، فكره اللهُ انبعاثهم ، فخذلهم ، وردَّهم على أعقابهم خاسرين وقاعدين.
     وقال الله تعالى :} يحذر المنافقون أن تُنَزَّل عليهم سورةٌ تنبِّئهم بما في قلوبهم قُلِ استهزؤوا إن الله مُخْرِجٌ ما تحذرون { [ التوبة : 64] .
     فقد كانوا يحذرون أن تُنزَّل سورةٌ تفضحهم وتكشف سرَّهم للمؤمنين . وهم مستمرون في استهزائهم وغيِّهم ، واللهُ تعالى يكشف أمرَهم للمؤمنين ، ويُنزل سورةً تفضحهم . وقد فضحهم في مواضع كثيرة في القرآن ، وبيَّن صفاتهم الدنيئة ، ومواقفهم المخزية .
     وقال الله تعالى :} وممَّن حَوْلكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذِّبهم مرَّتَيْن ثم يُرَدُّون إلى عذابٍ عظيم { [ التوبة : 101] .
     ويتواصل توضيح أحوال المنافقين الدنيئة . فهؤلاء المنافقون الذين هم حَوْل المدينة : مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع . ومن أهل المدينة منافقون أيضاً أقاموا على النفاق وغرقوا فيه فلم يفارقوه، وتخصَّصوا فيه فخفي أمرُهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فلم يقدروا على تحديد أسمائهم، لكن الله تعالى يعلمهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . وينتظرهم عذابان قبل نار الآخرة وهما : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر ، لكي يذوقوا جزاء أعمالهم البشعة الرامية إلى القضاء على الدعوة الإسلامية ، وإعادة الناس إلى الكفر والضلال .
     وقال الله تعالى :} ألا إنهم يثنون صدورَهم ليستخفوا منه ألا حين يَسْتغشون ثيابَهم يعلم ما يُسِرُّون وما يُعْلِنون إنه عليم بذات الصدور { [ هود : 5] .
     إن المنافقين يكتمون في قلوبهم الحقدَ على الإسلام وعداوةَ النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطوونها على المكر والخديعة . وهم يقومون بذلك ليستخفوا من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . ويغطون رؤوسهم بثيابهم لكي يحيكوا المؤامراتِ دون أن يراهم أحد _ في اعتقادهم _ . لكن الله تعالى يعلم سرَّهم وعلانيتهم . فلا يمكن إخفاء أي شيء عليه _ سبحانه وتعالى _ .
     وقال الله تعالى : } وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا اللهُ ورسولُه إلا غروراً {          [ الأحزاب : 12] .
     وهذه الآية تقدِّم وصفاً دقيقاً لحال المنافقين ومبلغ علمهم وموقفهم المخزي وقولهم الجاهل الوقح الرامي إلى خنق الدعوة الإسلامية ، وبث الإشاعات والشكوك في النفوس عن طريق استغلال الأوضاع ، ومحاولة تحويلها عن حقيقتها . فطبعُ المنافقين أنهم يحاولون اصطياد أية لحظة وتحويلها إلى نقطة في صالحهم _ حسب اعتقادهم الفاسد _ .
     فالمنافقون والذين قلوبهم مرض الشك والحيرة اعتبروا الوعدَ الإلهي والوعدَ النبوي باطلاً بلا أية قيمة . وهذا تجديفٌ كارثي وكفرٌ ممزوج بالوقاحة والجهل وغيابِ بعد النظر . (( قيل : قائله معتب بن قشير _ أحد المنافقين _ قال : يعدنا محمد بفتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً _ خوفاً _ ، ما هذا إلا وعد غرور )){(9)}.
     وقال الله تعالى :} وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا ويستأذن فريقٌ منهم النبيَّ يقولون إن بيوتنا عَوْرةٌ وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً { [ الأحزاب : 13]{(10)}.
     وتستمر خيانة المنافقين حيث قالوا لأهل المدينة : لا مكان لكم هنا ولا إقامة ، فاتركوا محمداً وأصحابه لوحدهم . وهذه دعوة لعزل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وجعلهم محاصَرين بلا قوة بشرية داعمة . وتأتي فرقة من المنافقين بعذر واهٍ ، حيث يزعمون أن بيوتهم عَوْرة ، أي غير حصينة ، فيخافون عليها اللصوص أو الاعتداء عليها . وقد كذَّبهم اللهُ تعالى ، ونفى أن تكون عَوْرة . لكنهم يريدون الهرب وعدم المواجهة .
     وقال الله تعالى عن المنافقين الكاذبين : } ولَوْ دُخلت عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتَوْها وما تلبَّثوا بها إلا يسيراً {[ الأحزاب : 14]{(11)}.
     أي : لو دخل الأعداءُ على هؤلاء المنافقين من كل جوانب المدينة ثم طُلب من المنافقين أن يكفروا ، ويقاتلوا المسلمين ، لفعلوا ذلك سريعاً دون تردد لفساد عقائدهم ، وغيابِ الحق في قلوبهم ، وخرابِ نياتهم ، وانعدامِ ثقتهم بأنفسهم .
     وقال الله تعالى :} أشِحَّةً عليكم فإذا جاء الخوفُ رأيتَهم ينظرون إليكَ تدور أعينهم كالذي يُغشَى عليه من الموت فإذا ذهب الخوفُ سلقوكم بألسنةٍ حِداد أشحَّةً على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط اللهُ أعمالَهم وكان ذلك على الله يسيراً { [ الأحزاب : 19] .
     وقد وصف اللهُ تعالى هؤلاء المنافقين بأنهم بخلاء على المؤمنين ، لا يساعدونهم لا مادياً ولا معنوياً. فإذا جاء الخوف أُصيبوا بالجزع والقلق وانعدام الاتزان وذهول العقل ، كالشخص الذي أصابته علامات الموت ، وهذه صفة الجبناء على الدوام . فإذا شعروا بالأمن آذوا المؤمنين بألسنة سليطة وقحة ، ويتميزون بالبخل الشديد . وكل هذه الصفات تكاثرت فيهم لأنهم لم يؤمنوا بالله واليومِ الآخر . فأفسد اللهُ أعمالَهم وأبطلها ، وردَّهم خاسرين في الدنيا والآخرة معاً .
     وقال الله تعالى : } لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجِفون في المدينة لنُغْرِيَنَّكَ بهم ثم لا يجاورونكَ فيها إلا قليلاً { [ الأحزاب : 60 ] .
     إذا لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض الفجور وشهوة الإثم ، والمرجِفون الذي يبثون الإشاعات لخلخلة الصفوف ، وإسقاطِ الروح المعنوية ، وتشتيتِ كلمة المجتمع ، فإن الله تعالى سيُسلِّط عليهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليستأصلهم . فيخرجون من المدينة ولا يعودون لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً قليلاً استعداداً للخروج .
     وقد كان النبيُّ بعيد النظر في التعامل مع المنافقين فلم يقتلهم لئلا يسبِّب ذلك بلبلةً في المجتمع الإسلامي ، وإضعافاً للروح المعنوية ، فيظهر المجتمع الإيماني ممزَّقاً يقتل بعضُه بعضاً . لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابَه )){(12)}.
     وقد صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول ( رأس المنافقين ) مع علمه بأحواله السيئة وأقواله الدنيئة ومواقفه القذرة .
     ففي صحيح البخاري ( 4/ 1715) عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ أنه قال : لَمَّا مات عبد الله بن أُبي بن سلول دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عليه ، فلمَّا قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وثبتُ إليه فقلتُ : يا رسول الله ، أتصلِّي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا : كذا وكذا ؟ ، قال : أُعدِّد عليه قوله ، فتبسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال :  (( أَخِّر عني يا عُمر ) . فلمَّا أكثرتُ عليه قال :   (( إني خُيِّرت فاخترتُ ، لو أعلمُ أني إِن زِدتُ على السبعين يُغفَر له لَزِدْتُ عليها )) . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة : } ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون { [ التوبة : 84] .
     إن النبي صلى الله عليه وسلم رحيمٌ بأصحابه في حياتهم ومماتهم . لذلك إذا مات أحدُهم يُصلِّي عليه ليرحمه الله تعالى ، وينتفع ببركة الصلاة النبوية . وعبد الله بن أُبي بن سلول كان رأس النفاق ، يُظهر الإيمان ويُبطن الكفرَ . وعمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ كان حريصاً على الدِّين ، وقد حَكم بأنه منافق بسبب اطلاعه على شؤونه. أمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فأجرى الحُكم وفقاً لظاهر الأمر وهو إسلام عبد الله ابن أُبي ، ولما في ذلك من مصلحة يَعرفها النبي صلى الله عليه وسلم ويُقدِّرها حق قَدْرها . والنبي صلى الله عليه وسلم ليس ساذجاً ولا مغفلاً ، واللهُ تعالى لا يمكن خداعه . وما صلاةُ النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المنافق إلا مؤشر باهر على رحمته بالناس ، واتساع صدره ، وطهارة قلبه . وكلُّ نَفْسٍ ذَهبت إلى النار فقد أَفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك يَحزن عليها . 
     وقال الحافظ في الفتح ( 8/ 335 ) : (( أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله . وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام ... واستصحاباً لظاهر الحكم ، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ، ومصلحة الاستئلاف لقومه ، ودفع المفسدة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح ، ثم أُمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه ... فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام، وقلَّ أهل الكفر وذلوا ، أمر بمجاهرة المنافقين ... ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين ... قال الخطابي : إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدِّين ، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم . فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سُبَّة على ابنه وعاراً على قومه ، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة )) اهـ .  
     وقال الله تعالى :} ومنهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من عندكَ قالوا للذين أُوتوا العلمَ ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع اللهُ على قلوبهم واتَّبَعوا أهواءهم { [ محمد : 16] .
     وهؤلاء المنافقون كان يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا خرجوا من عنده قالوا لجماعة الصحابة أصحاب الحصيلة العلمية الوافرة : ماذا قال قبل قليل ؟. حيث إنهم لم يفهموا كلامَه صلى الله عليه وسلم ، فأضافوا إلى جهلهم سخريةً ووقاحة وسوء أدب. فختم اللهُ على قلوبهم بالكفر والضلال ، واتبعوا أهواءهم الباطلة وأمانيهم التي لا أساس لها على أرض الواقع .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : في قوله _عز وجل _ :} حتى إذا خرجوا من عندكَ قالوا للذين أُوتوا العلمَ ماذا قال آنفاً { . قال : (( كنتُ فيمن يُسأل )){(13)}.
     والمنافقون لا يسألون حرصاً على العلم والتعلم . فأسئلتهم تُظهر ما في قلوبهم من حقد وحسد وكُفر وسخرية . فَهُم يَحملون فكرةً مسبقة ثابتة ، ولا يُريدون تغييرها سواءٌ ظَهر لهم الحق أم لم يَظهر .
     وقال الله تعالى : } وإذا رأيتَهم تعجبكَ أجسامُهم وإن يقولوا تَسْمَعْ لقَوْلهم كأنهم خُشُبٌ مُسنَّدة يحسبون كلَّ صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم { [ المنافقون : 4] .
     وهؤلاء المنافقون أصحاب خِلقة سوية وقاماتٍ منتصبة فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينما يراهم تعجبه أشكالهم ، وحينما يتكلمون يسمع لهم لأنهم أصحاب منطق ، ويجيدون الكلامَ المعسول . لكن الله تعالى الذي يعلم السرَّ وأخفى مطَّلع على نفوسهم الخبيثة ، فهم كالخشب المسندة لا خير فيها ولا منطق . فهم أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا عقول. ومن شدة جبنهم وخوفهم يحسبون كل صيحة أو أمر أنه نازل بهم . فكاد المريب أن يقول خذوني . فهؤلاء هم العدو الخطير الذين يختفون وراء الكلام المعسول . وجاء الأمرُ الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم لخبثهم ومكرهم وحقدهم . فالعدو الخفي أخطر بكثير من العدو المكشوف .
     وكما قال حسان بن ثابت _ رضي الله عنه _ :
لا بَأْسَ بالقَوْمِ من طُولٍ ومن عِظَمٍ           جِسْمُ البغالِ وَأحْلامُ العَصَــافِيرِ
     وقال الله تعالى عن المنافقين : } يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ولله العِزَّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون {[المنافقون : 8 ] .
     فالمنافقون قالوا حينما نرجع من غزوة بني المصطلق إلى بلدنا ( المدينة المنورة ) ليخرج الأعزُّ ( قصدوا به ابن سلول وأتباعه ) الأذلَّ ( قصدوا به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ) .
     وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ قال : كنا في غزاة ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار . فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ... وكانت الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ، ثم كَثُر المهاجرون بعد . فقال عبد الله بن أبي : أو قد فعلوا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ ، فقال عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دَعْهُ ، لا يتحدث الناس أن محمداً يَقتل أصحابه )){(14)}.
     ونلاحظ أن رأس النفاق ابن سلول قد حوَّل النزاع بين الأنصاري والمهاجري إلى عصبية قَبَلية، وقام بصب الزيت على النار لإشعال الفتن ، إذ إن المنافقين دائمو الاصطياد في الماء العكر ، ويعشقون إذكاء نار الفتن، وما دروا أنها حصادهم . وهم يهدفون من وراء ذلك إلى تدمير المجتمع، والقضاء على إنجازاته ، واستئصال الدعوة من جذورها ، وإحراق الأخضر واليابس لكي ترتاح نفوسهم الشريرة الحاقدة . لكن النبي صلى الله عليه وسلم
بما يملكه من بعد نظر مؤيَّد بالوحي المقدَّس المعصوم لا يمكن استفزازه بالكلمات الدنيئة التي تصدر من هنا وهناك ، فقام بتهدئة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ ، وأمره بترك ابن سلول ، لئلا يعتقد الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابَه، وعندئذ تتفرق كلمة المسلمين، وينهار المجتمع الإيماني من جذوره ، وتذهب الدعوة الإسلامية أدراج الرياح بسبب البلبلة والإشاعات وأعداءِ الداخل والخارجِ .
     وقال ابن حجر في أُسد الغابة ( 1/ 633 ) : [ فقال ابنه عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم : هو واللهِ الذليلُ وأنت العزيز يا رسول الله . إن أذنتَ لي في قتله قتلتُه ، فوالله لقد علمت الخزرجُ ما كان بها أحد أبر بوالده مني ، ولكني أخشى أن تأمر به رجلاً مسلماً فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حياً حتى أقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بل نحسن صحبته ، ونترفق به ما صحبنا ، ولا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابَه، ولكن بِرَّ أباك وأحسن صحبته )) ]{(15)}.
     تشير هذه القصة إلى القوة الإيمانية للصحابي الجليل عبد الله الذي والده هو زعيم المنافقين ، وكيف أنه قدَّم الإسلامَ على رابطة النسب ، واستعدَّ لقتل أبيه في سبيل الدعوة . لكن النبي صلى الله عليه وسلم بما يملكه من بعد نظر مؤيَّد بالوحي لم يرد أن يفرِّق الجماعةَ الإسلامية ، ويثيرَ فيها الفتن والقلاقل ، ويتركها فريسةً لكلام الأعداء وطعنهم . وهذا يدل على أهمية القائد الذي ينظر إلى ما وراء الواقع حفاظاً على مصلحة رعيَّته .
     ومن عظيم رحمة الله تعالى بخلقه أن جعل بابَ التوبة مفتوحاً . فالمنافقُ أمامه فرصة ذهبية للتوبة والعودة إلى الله تعالى لكي ينجوَ في الدارين . ولخطورة موضوع النفاق كانت التوبة منه أشد من التوبة من الكفر . فالكافر يدخل الإسلامَ بالشهادتين ، أما المنافق فعليه أن يحقِّق أربعة شروط معاً : التوبة ، والإصلاح ، والاعتصام بالله ، وإخلاص الدين لله .
     فقد قال الله تعالى :} إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلَصوا دينَهم لله فأولئك مع المؤمنين {   [ النساء : 146] .
     فهذا الاستثناء يشمل المنافقين الذين أرادوا التوبة . فعليهم أن ينتهوا عن نفاقهم ويتوبوا ، ويصلحوا نياتهم وأفعالهم وأقوالهم ، ويعتصموا بالشريعة الإلهية المعصومة ( الكتاب والسُّنة ) ، ويجعلوا كل أعمالهم الفعلية والقَوْلية طلباً لرضا الله وحده. وبذلك يصبحون مؤمنين، لكن الله تعالى لم يقل: فأولئك هم المؤمنون ، بل قال : } فأولئك مع المؤمنين { لكي يشعرهم بعظيم جُرْمهم ( النفاق ) ، وتشديد الله عليهم .
.........الحاشية...........
{(1)} تفسير ابن كثير ( 1/ 79 ) .
{(2)} قال الحافظ في الفتح ( 5/ 37 ) : رواه إسحاق بن راهويه في تفسيره بسند صحيح .
{(3)} قال ابن حجر : رواه الطبري بسند صحيح عن ابن عباس [ انظر المرجع السابق ] .
{(4)} قال ابن حجر : رواه الطبري بسند صحيح إلى مجاهد [ انظر المرجع السابق ] .
{(5)} متفق عليه. البخاري ( 2/ 832 ) برقم ( 2231)، ومسلم ( 4/ 1829 ) برقم ( 2357 ) .
{(6)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1306 ) برقم ( 3367)، ومسلم ( 4/ 1813 ) برقم ( 2327).
{(7)} متفق عليه. البخاري ( 2/ 666 ) برقم ( 1785 )، ومسلم ( 4/ 2142 ) برقم ( 2776 ).
{(8)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 153 ) برقم ( 2623 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(9)} تفسير البيضاوي ( 1/ 366 ) .
{(10)} يثرب : هو الاسم القديم للمدينة المنورة . (( ويقال كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد )) [ تفسير ابن كثير 3/ 624] . وفي الحديث المتفق عليه ( البخاري 3/ 1326 ومسلم 4/ 1779 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب )) . أي إن ظن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى اليمامة  ( بلد من بلاد الحجاز ) أو هجر ( بلد في اليمن ). وفي فتح الباري ( 4/ 87 ) : (( يقولون يثرب ، وهي المدينة . أي أن بعض المنافقين يسمِّيها يثرب ، واسمها الذي يليق بها المدينة . وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب. وقالوا : ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين )) اهـ . وقد روى أحمد في مسنده ( 4/ 285 ) عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَن سمَّى المدينة يثرب فليستغفر الله _ عز وجل _ ، هي طابة هي طابة )) . لكن ابن كثير ضعَّفه في تفسيره ( 3/ 624 ) . ففي سنده يزيد بن أبي زياد . قال عنه الهيثمي في المجمع ( 7/ 508 ) : (( والأكثر على ضعفه )) . وضعَّفه ابن حجر في تلخيص الحبير( 2/ 274 ). وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ( 3/ 221 ): (( متكلم فيه )).
{(11)} قال الحافظ في الفتح ( 13/ 71 ) : (( وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال:جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة } ولَوْ دُخلت عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتَوْها {، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرَّة )) اهـ . ووقعة الحرَّة سببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد،فأمَّر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وأمَّر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي . وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة، وقتلوا ابن حنظلة وقُتل من الأنصار شيء كثير جداً [ انظر فتح الباري لابن حجر 8/ 651 ] .
{(12)} متفق عليه. البخاري ( 4/ 1861 ) برقم ( 4622 )،ومسلم ( 4/ 1998) برقم ( 2584 ).
{(13)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 496 ) برقم ( 3705 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(14)} متفق عليه واللفظ للبخاري( 4/ 1863 )برقم( 4624 ).ومسلم( 4/ 1998 )برقم( 2584).

{(15)} انظر البداية والنهاية ( 4/ 158 )، وتاريخ الطبري ( 2/110)، وسيرة ابن هشام ( 4/ 255).