الإيمان والإسلام ومثال الإيمان
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...............................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...............................
قال الله تعالى : } قالت الأعرابُ آمنَّا
قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم { [ الحجرات : 14] .
إن الآية
السابقة تشير إلى وجود فرق بين الإيمان والإسلام . وهذه مسألة مشهورة عند أهل العلم
. فهؤلاء الأعراب الذين ادعوا الإيمانَ لم يصلوا إلى هذه الرتبة ، فجاء الأمر
الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : } لم تؤمنوا {، أي لم تصلوا إلى منزلة المؤمنين، ولم تنالوا
رتبةَ الإيمان . } ولكن قولوا
أَسْلَمْنا { . ولَمَّا تدخل شعائر الإيمان وحقيقته في
قلوبكم . فالإسلام قولٌ ، أما الإيمان فقولٌ وعمل . وهذا يشير إلى أن الإيمان
مكانة مميزة أخص من الإسلام .
وفي حديث جبريل الشهير في صحيح مسلم ( 1/ 36
) : أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف الإسلامَ بقوله : (( أن
تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي
الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) ، ثم انتقل إلى تعريف
الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم : (( أن
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) ، ثم
انتقل إلى تعريف الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم : (( أن
تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) .
أي إن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من
العام ( الإسلام ) إلى الخاص( الإيمان ) إلى الأخص( الإحسان)، وفرَّق بين هذه
المفاهيم الثلاثة في التعريف . مما يدل _ بلا ريب _ على اختلاف معنى الإسلام عن
معنى الإيمان.
وعن سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه _ : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه
وسلم رَجلاً هو أعجبهم إلَيَّ، فقلتُ: يا رسول الله،
ما لك عن فلان ؟ ، فوالله إني لأراه مؤمناً ، فقال : (( أو مسلماً )){(1)}.
(( فليس فيه إنكار كَوْنه مؤمناً ، بل معناه
: النهي عن القطع بالإيمان ، وإن لفظة الإسلام أولى به ، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر
، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى )){(2)}.
وهكذا نرى أن فرقاً جوهرياً بين الإسلام
والإيمان . فكل من نطق الشهادتين يُحكَم عليه بالإسلام ، ويصبح معصومَ الدم ، بغض
النظر عن صدقه أو كذبه ، وتُجرَى عليه الأحكام حسب ظاهره ، وحسابه عند الله تعالى
الذي يعلم الباطنَ .
أما الإيمان فباطنٌ مكانه القلب لا سبيل لمخلوق للاطلاع عليه لأنه مخفي عن
عيون الناس ، ولا يعلم حقيقته إلا الله تعالى الذي يحاسب الناس ، ليس بالنظر إلى
صورهم ، بل إلى قلوبهم .
مثال الإيمان :
لقد ضرب
اللهُ تعالى مثلاً باهراً للإيمان ، حيث امرأتان في منتهى الإيمان والطهارة ، تجذر
في قلبَيْهما حب الله تعالى والالتزام بأوامره . وفي ذلك تكريمٌ خصوصي للمرأة ،
حيث ذُكرت في القرآن ، وصارت مثلاً سامياً للإخلاص يتردد اسمها حتى يوم القيامة .
ولا يوجد
أعظم من هذا التكريم الذي يرد على كل أولئك الذين يرمون الإسلامَ بتهمة احتقار
المرأة ، وهم لا يملكون أية دليل . بل إن الأدلة الشرعية متضافرة على تكريم
الإسلام للإنسان عموماً ، والمرأة خصوصاً .
قال الله
تعالى :} وضربَ اللهُ مثلاً
للذين آمنوا امرأةَ فِرْعَوْن إذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّة
ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين { [ التحريم : 11] .
فامرأةُ
فرعون وهي آسيا بنت مزاحم كانت مؤمنةً بموسى صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ولم
يُؤثِّر عليها كَوْنها زوجةً لفرعون اللعين ، لأن الإيمان قد تجذر في قلبها،
فدينها متماسكٌ، وطهارتها في الأوج، وصلتها بالله تعالى وثيقة ، فهي تدعوه ،
وتتوجه إليه .
وهذا المثال
الإيماني الباهر يُعتبر قدوةً عظمى ليس للنساء فحسْب ، بل أيضاً للرجال . فهذه
المرأة عانت من كفر زوجها وظلمه ، لكنها بقيت متماسكةً راسخة الإيمان رغم ضعف
الأنثى . إذ إن علاقتها المتينة مع خالقها تعالى جعلتْ منها قرآناً يُتلى حتى يوم
القيامة ، وأنموذجاً خالد الذكر ، وقدوةً تُحتذى في كل العالم . إنها مثال لشحذ
الهمم وحث النفوس على الصبر في طريق الإيمان ، والثباتِ على الحق مهما كانت
المعاناة والأزمات والتهديد والعذاب .
وفي هذا
المثل الرباني العظيم دروس جليلةٌ منها : إن مخالطة الكافرين لا تضر إذا وُجدت
ضرورة لذلك . وإن اللهَ تعالى لا يؤاخذ شخصاً بذنب آخر ، فامرأةُ فرعون كانت زوجةً
لفرعون إمامِ الكافرين ، فلم تتأثر ، لأنها كانت مؤمنة متمسكة بعلاقتها مع الله
تعالى .
(( ومن فضائل آسية امرأة فرعون أنها اختارت القتل على المُلْك ، والعذاب في
الدنيا على النعيم الذي كانت فيه . وكانت فراستها في موسى _ عليه السلام _ صادقة ،
حين قالت :} قُرَّةُ عَيْنٍ لي { [
القَصَص : 9] )){(3)}.
أما دعاءُ آسيا _ رضي الله عنها : } ربِّ ابْنِ لي عندكَ
بيتاً في الجنَّة { ، فيدل على كمال عقلها ، وقوةِ إيمانها ، لأنها قدَّمت ذكر الله
تعالى على البيت فلم تقل : ابن لي بيتاً في الجنة عندكَ ، وإنما قالت : } ابْنِ لي عندكَ بيتاً
في الجنَّة { ، أي قريب من رحمتك ، أو في أعلى درجات الجنة ، فاللهُ تعالى
مُنَزَّه عن المكان ، فلا يحل في الأشياء ، ولا تحل الأشياء فيه .
وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ : أن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها
ورجليها ، فكان إذا تفرقوا عنها ظَلَّلَتْها الملائكة فقالت : } ربِّ ابْنِ لي عندكَ
بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين { ، فكُشف لها عن بيتها في الجنة{(4)}.
وهذا يشير إلى شدة العذاب الذي لقيته السيدة
آسيا _ رضي الله عنه _ ، وقوةِ تحملها وصبرها على الألم في سبيل الله تعالى الذي
أكرمها بأن جعل الملائكة تظلِّلها كرامةً لها . مما يدل على وصولها إلى رتبة
إيمانية سامية نالتها بفعل ثبوتها على طاعة الله تعالى في أحلك الظروف ، وأشد
الأزمات النفسية والجسدية . وقد صارت مضربَ المثل في الصبر على الطاعة وقوةِ
التحمل . فأضحت _ بذلك _ قدوةً للرجال والنساء على السواء . وقد أكرمها اللهُ
تعالى بأن جعلها قرآناً يُتلى آناء الليل وأطراف النهار .
وصدق
الشاعر إذ يقول :
ولو كان النساء كمثل هذي لفُضِّلت النساءُ على الرجال
وقد وردت بعض الأوصاف لطريقة تعذيبها ،
وقوةِ صبرها على الشدائد الجسيمة .
فعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله
عنه _ قال : (( وتَّد فرعون لامرأته أربعة
أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحىً عظيماً حتى ماتت )){(5)}.
وعن سلمان _ رضي الله عنه _ قال : (( كانت امرأة فرعون تُعَذَّب بالشمس )){(6)}.
وما دعاؤها الله تعالى بأن ينجِّيها من فرعون وعمله والقوم الظالمين إلا
مؤشر بالغ على رفضها للكافرين وأعمالهم الشريرة بكل أشكالها ، وهذا يعكس حرصها على
الإيمان والتمسك به حتى اللحظة الأخيرة .
وهناك مثلٌ إيماني باهر يتجاوز مثال السيدة آسيا بنت مزاحم _ رضي الله عنها
_ ، وهو السيدة مريم الصِّديقة _ رضي الله عنها _ .
قال الله تعالى : } ومريمَ ابنةَ عِمْران
التي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيه من روحنا وصدَّقتْ بكلمات ربِّها وكتبه
وكانت من القانتين { [ التحريم : 12] .
إن هذا الكلام الإلهي المقدَّس مديحٌ رباني للسيدة مريم _ رضي الله عنها _
، حيث أثبت القرآنُ طهارتها وإحصانها لفَرْجها، أي إنها حفظته من الشبهات والشكوك والفجور
، وحافظت على ورعها وطهارتها وشرفها . لا كما زعم اليهود بأنها زانية ، وأن المسيح
ابن زنا . فهي الطاهرةُ النقية التي لا تتسلل الريبةُ إلى سلوكها .
وقد أكرمها اللهُ تعالى بأن جعلها تحبل بالنبي عيسى صلى الله عليه وسلم من
غير زَوْج . وذلك عن طريق الْمَلَك جبريل _ عليه السلام _ الذي نفخ في فتحة
جَيْبها فحبلتْ .
وقد شهد اللهُ تعالى بأن مريم صِدِّيقة في قوله : } وصدَّقتْ بكلمات
ربِّها وكتبه { ، أي آمنتْ بقَدَر الله تعالى وشرعه وكتبه السماوية . وفي هذا
إشارة بليغة إلى علم السيدة مريم بالكتب السماوية وقراءتها لهذه الكتب. فلا يُعقَل
أن تؤمن بشيء تجهله . وهذا غير مستغرب ، فهي العالِمة التقية الطاهرة التي اختارها
اللهُ تعالى على نساء العالَمِين . وهي القانتة العابدة لخالقها ، والمطيعة له،
والملتزمة بأوامره ، والمجتنبة لنواهيه .
وهكذا نجد أن الله تعالى قد كرَّم المرأة
كامرأة ، وذكر امرأتين عابدتَيْن ، وجعلهما مثلاً خالداً للإيمان الذي لا يهتز
أمام الأزمات .
وعن أبي موسى الأشعري _رضي الله عنه_ عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا
مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون )){(7)}.
وقد أثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكمال لمريم وآسيا _ رضي الله عنهما
_ ، وهذا يعني وصولهما إلى رتبة الولاية العظمى ، ومنتهى الفضائل والأخلاق الطيبة
، وقمةِ الطهارة .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد، وفاطمة
بنت محمد،ومريم بنت عمران،وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)){(8)}.
وبالطبع ، فهؤلاء النساءُ العظيمات لم يصلن
إلى هذه المكانة السامية إلا بالإيمان بالله تعالى ، والصبر على الشدائد، والتحلي بالأخلاق
الفاضلة . وهُنَّ بذلك يُعطينَ القدوةَ الحسنة لباقي النساء من بعدهن . والمرأةُ
الحريصة على رضا الله تعالى تقتفي آثارهن وتتشبَّه بهن ، بدلاً من التشبه
بالممثلات والمطربات في الشرق والغرب .
..........الحاشية................
{(1)} متفق عليه . البخاري ( 1/
18) برقم ( 27) ، ومسلم ( 1/ 132 ) برقم ( 150 ) .
{(2)}
شرح النووي على صحيح مسلم ( 2/ 181 ) .
{(3)} فتح
الباري لابن حجر ( 6/ 448 ) .
{(4)} رواه أبو
يعلى ( 11/ 316 ) برقم (6431 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 9/ 350 ) : (( ورجاله
رجال الصحيح )) . وقال
السيوطي في الدر المنثور ( 8/ 229 ) : أخرجه أبو يعلى والبيهقي بسند
صحيح .
{(5)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 568 ) برقم ( 3929 )
وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(6)} رواه الحاكم في المستدرك (
2/ 538 ) برقم ( 3834 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(7)} متفق عليه. البخاري ( 5/
2067 ) برقم ( 5102 )،ومسلم ( 4/ 1886 ) برقم ( 2431).
{(8)} رواه الحاكم في المستدرك (
2/ 539 ) برقم ( 3836 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .