الفتنة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
............................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
............................
إن الفتن هي الابتلاء
والاختبار الذي من شأنه تمييز الغث من السمين
، والصالح من الطالح .
وفي اللغة : فَتَنَه يَفْتِنُه فَتْناً _
إذابةُ الذهب بالنار لكي يتميز عن الشوائب العالقة به، ويصبح خالصاً نقياً . لذلك
فالفتن تعمل على تمييز الخير من الشر ، وفصل الصالحين عن الفاسدين . إنها عملية
غَرْبلة بالغة الدقة. والفتنُ هي حصاد المنافقين تفضحهم على رؤوس الأشهاد، وتعلي
شأنَ الصادقين الذي ثبتوا في المواقف الصعبة.
وهذا الامتحان القاسي ليعلم اللهُ الصادقَ
من الكاذب ، ويحصل كلُّ فرد على نصيبه الذي يستحقه . فإن كان صالحاً ثابتاً فالفتن
هي طريقه إلى الجنة ، وإن كان فاسداً مضطربَ العقيدة فالفتن هي الضربة التي ستقضي
عليه وتقوده إلى النار . وبالطبع فلا أحد يعرف قلبَه عند الفتن ، فلن يكون ثباتُ
المرء نتيجة عبقريته . بل إن الثبات والتثبيت من الله تعالى .
قال الله تعالى :} وكذلك جعلنا لكل نبي عَدُوَّاً شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضُهم
إلى بعض زُخرفَ القول غروراً { [ الأنعام : 112]{(1)}.
في هذه الآية دعمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم
وتسلية له . فكما جعل اللهُ تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أعداءً يبارزونه بالعداوة العملية والقَوْلية، جعل _سبحانه وتعالى_
أعداءً من الإنس والجن لكل الأنبياء_ عليهم السلام _،
وهؤلاء شياطين يُوَسْوِس بعضهم لبعض _بشكل خفي_ بالكلام المزيَّن المعسول لكي
يخدعوا الناس ، ويُغروهم .
وقد قدَّم اللهُ تعالى ذكر الإنس على الجن ،
لأن شياطين الإنس أشد خطورةً لأنهم منتشرون بين الناس ، ويتم الاحتكاك بهم على
الدوام ، ويتحركون في المجتمع طولاً وعرضاً مثل الآخرين ، ويتعاملون مع كافة
الأصناف ، وينشرون الآثام والضلال في أوصال الجماعات البشرية .
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : (( إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فَرُّوا من عمر )){(2)}.
وهذه منقبة جليلة لعمر بن الخطاب_ رضي الله
عنه _ حيث تفر منه شياطين الإنس والجن لقوته في الحق ، وهيبته العظيمة . وهذا
الحديثُ يُثبِت وجود شياطين إنسية وشياطين من الجن .
وقال الله تعالى : } وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون { [ الأنعام :121] .
فالشياطين يُوَسْوِسون إلى المشركين
أوليائهم في الباطل ليجادلوا المؤمنين في موضوع الميتة . فالمجادلة تتمثل في قول
المشركين للمؤمنين : أتأكلون مما قتلتُم ولا تأكلون مما قتل اللهُ ( الميتة ) ؟ .
فإن الشياطين وأولياءهم المشركين يريدون من المؤمنين أن يأكلوا الميتةَ ليضلُّوهم
. وإذا أطاع المؤمنون المشركين في مسألة تحليل الحرام ، فسيكونون عندئذ مثلهم في
الشِّرك . فينبغي الثباتُ في المواقف الجليلة ، وعدمُ إدخال المجاملات أو المداهنة
في موضوع العقائد والسلوكيات ، والتمسكُ بالحق بغض النظر عن رضا الناس أو عدم
رضاهم .
فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن
المشركين قالوا عن المؤمنين : (( ما قَتلوا أكلوا ، وما قتل اللهُ لم يأكلوا )){(3)}.
وهذا انحرافٌ عن المنهج العلمي في الاستدلال
، مرجعه إلى سوء الفهم وفسادِ النية . فمنطقُ المشركين مبني على قياس مغلوط نابع
من الهوى لا المرجعية الشرعية المتماسكة . لذلك انحرفوا عن جادة الصواب ، فلا يمكن
الوصول إلى نتيجة صحيحة إلا بوسيلة صحيحة . وكلُّ فهمٍ خاطئ لا بد أن يوصل إلى
فكرة منحرفة . وهذا ما حصل مع المشركين في موضوع الميْتة . فَهُم يَنظرون إلى
الميْتة على أنها مقتولة بأمر الله تعالى ، وبالتالي _ وفق منطقهم المعْوَج _ لا
بأس بأكلها . وهذا أدى إلى تقديم القذارة على الطهارة بسبب غياب منهج الاستدلال الصحيح
.
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : _ } وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم { . قال : (( يقولون ما ذُبح فذُكر اسم الله عليه فلا تأكلوه
، وما لم يذكر اسمُ الله عليه فكلوه )){(4)}.
وإننا لنجد أن المشركين الذين يتلقون الدعمَ
من شياطينهم ، يحاولون صرف المؤمنين عن الحق بواسطة التلبيس والكلامِ المعسول ،
واختراعِ حُجج تبدو للوهلة الأولى منطقية ، لكنها تنبئ عن مكر وجهل ، وتهدف إلى بث
الانحراف في الذات الفردية ، والذات الجماعية .
قال الله تعالى : } واتَّقوا فِتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة { [ الأنفال : 25 ] .
يحذِّر اللهُ تعالى المؤمنين من أن يصيبهم
بلاءٌ واختبار لا يطال الظالم فحسب ، بل يعم الجميعَ ( المحسن والمسيء معاً ) .
وعن أبي بكر الصديق _ رضي الله عنه _ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه
، أوشك أن يَعُمَّهم اللهُ بعقاب )){(5)}.
وهذا يشير إلى أن عدم إيقاف الظالم عند حده
والتصدي له سببٌ لعموم العقاب الشامل للصالح والطالح في المجتمع . وهذا العذاب لا
يفرق بين المحسن والمسيء ، لأن غياب عملية النصح والتصدي لمظاهر الباطل أدخل
الجميعَ في دائرة العقوبة . وهنا تتجلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعن زينب بنت جحش _ رضي الله عنها _
أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ ، قال: (( نعم،
إذا كَثُرَ الْخَبَثُ )){(6)}.
ويكون عندئذ الإهلاك الشامل حينما تعم
المعاصي ، ويكثر الفجور ، وتبرز المعاصي علانية . ولا يتم الوصول إلى هذه المرحلة
السيئة إلا بغياب النصح الفعال ، ومظاهرِ الإصلاح الشاملة ، وعدم ردع الظالمين
وإيقافهم ، وعدم كبح جماح المفسِدين . فالساكتُ عن الحق هو _ في واقع الأمر _
يساهم في انتشار الباطل . فبسبب تقصيره وعدم قيامه بواجبه استطاع الباطلُ أن يكسب
مواقعَ جديدة ، ويستشري لأنه لم يجد أمامه سداً منيعاً .
وعن مُطَرِّف قال : قلنا للزُّبير _ رضي الله
عنه _ : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ، ضَيَّعْتُم الخليفةَ حتى قُتل ثم جئتم تطلبون
بدمه . قال الزبير _ رضي الله عنه _ : (( إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان _ رضي الله عنهم _ :} واتَّقوا فِتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة { ، لم نكن نحسب أنَّا أهلها
حتى وقعت منا حيث وقعت )){(7)}.
وهكذا نرى أن الفتن قد تعم الجميعَ بدون
تمييز ، فإن جيل الصحابة _ رضي الله عنهم _ وهو الجيل الذهبي، قد أُصيب بفتن شرسة
للغاية مثل موقعة صِفِّين ، وموقعة الجمل. وعلى الإنسان أن يدور مع الحق حيث دار ،
بغض النظر عن شخوص الرجال ومكانتهم . فالحق أحق أن يُتَّبع . كما أن الفتن هي
عملية غربلة ، حيث تعمل على تمييز الصلاح وأهله من الفساد وأهله . وبالتأكيد فلن
يَثْبت إلا مَن ثَبَّته اللهُ تعالى مَالِكُ القلوب .
وقال الله تعالى : } واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فِتنةٌ { [ الأنفال : 28] .
ينبغي أن يُعلَم أن الأموال والأولاد
اختبارٌ إلهي لكي يمحِّص اللهُ تعالى الصالح من الفاسد. ويرى_سبحانه _ كيف يقوم
عبادُه بأداء شكر هذه النعم ، وتأدية الحقوق المرتبطة بها . كما أن الأموال
والأولاد تشغل الذهنَ عن القيام بالطاعة .
وعن كعب بن عياض _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن لكل أُمَّة فتنة ، وإن فتنة أُمَّتي المال
)){(8)}.
فالمالُ فتنة شديدة بسبب الالتهاء به عن
طاعة الله تعالى ، والانشغال بجمعه عن أداء العبادات على الوجه الأمثل . ولا يخفى
أن حب المال مسألة غريزية ، ولكن على الفرد أن يقاوم جموحَ شهواته ، ويجعل المال
في يده لا قلبه . فالإغراءُ المادي المتمثل في المال يخاطب الفطرةَ الداخلية للمرء
، وهنا تتجلى قيمة الثبات ، والتصدي لكل أنواع الإغراءات الشهوانية . وعلى المرء
أن يبعد قلبَه عن امتحانات الفتن ، لأن الداخل في البحر قد لا يَخرج منه أبداً .
وعن بُرَيْدة _ رضي الله عنه _ قال : بينما النبي
صلى الله عليه وسلم يخطب إذ أقبل الحسن والحسين ، وعليهما قميصان أحمران ، يقومان ويعثران
، فَنَزل إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما ، وقال : (( } أنما أموالكم وأولادكم فِتنةٌ { )){(9)}.
وهذه فتنة الأولاد التي أدَّت إلى قطع النبي
صلى الله عليه وسلم للخُطبة لكي يريح الحسن والحسين _ رضي الله عنهما _ من القيام والتعثر.
وهذا يعكس حُنُوَّ الوالد على ولده ، والرحمة النبوية الإنسانية الجليلة . فالنبي
صلى الله عليه وسلم هو كائن بشري ذو عواطف وميول قبل أن يكون نَبِيَّاً .
............الحاشية................
{(1)} في تفسير ابن كثير ( 1/ 16 ) : (( وقال سيبويه : العرب تقول : تَشَيْطَنَ فلان
، إذا فعل فعل الشياطين . ولو كان من شاط لقالوا تشيَّط. فالشيطان مُشتق من البعد، على الصحيح. ولهذا يُسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً )) اهـ .
{(2)} رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 621 ) برقم ( 3691 ) وصحَّحه .
{(3)}
رواه الحاكم في المستدرك (
4/ 260 ) برقم ( 7573 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 257 ) برقم (
7564 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي .
{(5)} رواه الترمذي( 5/ 256 )برقم ( 3057 ) وصحَّحه،ورواه ابن حبان في
صحيحه( 1/ 539 ).
{(6)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1317 ) برقم ( 3403 )،ومسلم ( 4/ 2207 )
برقم ( 2880).
{(7)} رواه أحمد في مسنده ( 1/ 165 )برقم( 1414 ) . وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 99 ) : (( رواه
أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح )) . وسكت عنه الحافظ في الفتح ( 13/ 4)
وقال إن المقصود بالخليفة هو عثمان _ رضي الله عنه _ الذي قُتل بالمدينة ، أما
قوله " تطلبون
بدمه " أي في البصرة .
{(8)}
رواه الحاكم في المستدرك (
4/ 354 ) برقم ( 7896 ) وصحَّحه ، ووافقه الذهبي . وصحَّحه ابن حبان ( 8/ 17 )
برقم ( 3223 ) .
{(9)} صحَّحه ابن حبان( 13/ 402) برقم( 6038 )،وصحَّحه ابن خزيمة ( 2/ 355
) برقم ( 1456 ). وقال الحافظ في الفتح ( 11/ 254 ) : (( وظاهر الحديث أن قطع
الخطبة والنزول لهما فتنة دعا إليها محبة الولد فيكون مرجوحاً. والجواب : إن ذلك إنما
هو في حق غيره ، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فهو لبيان الجواز ، فيكون في
حقه راجحاً. ولا يلزم من فعل الشيء لبيان الجواز أن لا يكون الأولى ترك فعله . ففيه
تنبيه على أن الفتنة بالولد مراتب ، وإن هذا من أدناها ، وقد يجر إلى ما فوقه فيُحذَر
)) اهـ .