صرخة الأزمنة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 10/4/2017
.................
[1] لا أُحِبُّ إنشاءَ حَديقةٍ مَنْزليةٍ .
أُحِبُّ مُساعدةَ الأزهارِ في اختيار مَقرِّها .
إذا أنشأتُ حديقةً فقد فَرضتُ
شروطي على الأزهار . سأتركُ الأزهارَ تَكتشف مسارَها بِنَفْسها، وتحدِّد مصيرها
دون إملاءات خارجية. أتركُ لها حريةَ الاختيار الذهني، والتطبيق الواقعي . وسوفَ
أقوم بالمساعدة تطوُّعاً . وهكذا أُردُّ بعضَ الدَّيْنِ في عُنقي لتاريخي الشخصي ،
وبيئتي الداخلية ، وبيئتي الخارجية ، وحضارتي الكَوْنية . لا أفرضُ شروطي ورؤيتي
على العناصر ، وإنما أُساعد العناصر لكي تختارَ طريقها بنفسها دون ضغط خارجي. وقد عَلَّمتُ
تلاميذي أن يَنقلبوا عليَّ، وألا يأخذوا كلامي كمُسلَّمات . لستُ صنماً ، ولا
أودُّ أن يتَّخذني الآخرون صنماً . أُحبُّ التعرضَ للنقد البنَّاء لأنه يَكشف
عيوبي، وهذا يُساعدني في ردم الثغرات في حياتي ، وإزالة نقاط ضَعفي ، وتعزيز نقاط
قُوَّتي ، وتصحيحِ مساري ، وتحسين أدائي الحياتي . ورَحِمَ اللهُ مَن أهدى إِلَيَّ
عيوبي . الحبُّ الحقيقيُّ لا يَظهر في الامتلاك ، وإنما يَظهر في التَّخلي . لا
يَظهر في الاستحواذ ، وإنما يَظهر في المشارَكة . افتحْ بابَ القفص لكي يَطير
العُصفورُ . إن تحريره هو السيطرةُ الحقيقية عليه . إذا حَرَّرْتَه فقد
امْتَلَكْتَه إلى الأبد . اترك الزَّهرةَ في الحديقة ولا تَقطفها . إذا قَطَفْتَها
فقد خَسرتَ نَفْسكَ وخَسِرْتَ الزَّهرةَ إلى الأبد . إذا قَطعتَ العلاقةَ بين
الزَّهرةِ والأرضِ ، فقد قَطعتَ العلاقةَ بَيْنكَ وبين الأرض . والأرضُ هِيَ أُمُّنا
التي أَنْجبتنا ، وهِيَ التي سَتَبْلعنا . العِشْقُ هُوَ التضحيةُ ، أن تَتركَ
المرأةَ التي أَحْبَبْتَها إذا كُنتَ عاجزاً عن إسعادها ، تَتْركها لشخصٍ آخر
قادرٍ على إِسْعادها . لا تكنْ عَقبةً في طريق الأشخاص الذين أَحبُّوكَ بدافع
الأنانية ، وحُبِّ الامتلاك والسيطرة . إذا رَأيتَ نَفْسَكَ فَلَن تَرى الآخرين ،
وهذا هُوَ الانتحارُ في الحياة ، فاهربْ مِن مُسْتنقعِ الانتحار إلى ضوءِ الحياة .
إنَّ الحياةَ الحقيقية هي المعنى الإنساني الذي يَدور حَوْلَ التَّضحية، اتْرُك
الْحُلْمَ للحالِم ، ولا تَنْسَ نَصيبكَ مِنَ الْحُلْمِ . المكانُ يَتَّسِعُ
للجميع . ولا أحَدَ يَأخُذُ مكانَ أحَد .
[2]الفَيْلسوفُ هُوَ الكائنُ
الوحيدُ الذي يَكونُ عُمرُه حَيواتٍ متكررة منبثقة من أحزانه المتكررة.
إِنَّ الفيلسوفَ هُوَ ضَميرُ
الثورةِ الحيُّ ، إنه صَرخةُ العالَمِ الرافضِ للتدجين . مِهْنته هِيَ صَعقُ الناس
لتحريرهم مِن أنفسهم ، وانتشالهم من النظام الاستهلاكي الخانق ، والأخذ بأيديهم
إلى خالقهم ، وإِرْشادهم إلى الضَّوْءِ في نهاية النَّفق ، وإنقاذهم من الخوف لكي
يَنطلقوا إلى الأمام . وأفضلُ طريقةٍ للتخلص من الخوف هِيَ اقتحامُه . ارْمِ نَفْسَكَ
في قلبِ الخوف لكي تُفجِّرَ الخوفَ مِن دَاخله، وتَشعرَ بالأمان الروحيِّ والهدوءِ
الماديِّ . إنَّ وَظيفةَ الفَيلسوف هِيَ البحث عن العِطْر في أكوام القُمامة .
وَلَوْ خَيَّرُوني أن أَكُونَ فَيْلَسوفاً أوْ مَلِكاً ، لاخترتُ الأوَّلَ ،
لأنَّه الملِكُ الحقيقيُّ . الفَلْسَفةُ تُزيلُ اكتئابي ، وتُشعِرُني بِجَدوى
الحياةِ ، وأهميةِ العقلِ الإنسانِيِّ في حَركةِ التاريخِ ومَسارِ الوُجودِ.
والفلسفةُ هِيَ فَنُّ التَّنقيبِ عن الذات وتطهيرُها. والوسيلةُ الوَحيدةُ
لِتَخليدِ الفلسفةِ هِيَ بِنَاؤُها على رَمزيةِ اللغةِ والمشاعرِ الإنسانيةِ .
وَسِوَى ذلك سَوْفَ تَزولُ الفَلسفةُ . الفلسفةُ هِيَ ضَوْءُ الشمعة، وخارطةُ
الضوءِ ، وخُطةٌ واقعية لكي يُصبح الذَّكرُ رَجلاً ، وتصبح الأنثى امرأةً ، ويُصبح
الشخصُ إنساناً . والفَيْلسوفُ يَحرقُ الشوائبَ في الرُّوح الإنسانية لكي يَمنح
الخلاصَ والطهارةَ للإِنسان . إنَّ إزالةَ الشوائب من الرُّوح الإنسانية تَجْعل
الرُّوحَ طاهرةً ومُطهِّرةً . ولا يَخفى أن إزالةَ الشوائب من الذَّهبِ تَرتقي
بالذَّهبِ إلى درجةٍ أعلى . ولا مَكان للبريقِ في ظِلِّ وُجودِ الشَّوائب . عُمر
الفَيْلسوفِ حَيَوَاتٌ متكررة لأنه يَعيش في أماكن كثيرة دون أن يُغادِر مكانه،
ويُولَد في أزمنة كثيرة مع أنَّ تاريخَ ميلاده _ في شهادة الميلاد الرَّسمية _
واحدٌ لا يتكرر . وهذه الحيواتُ الحارقةُ المحترِقةُ تَنبعث من أحزانه ، لأنه
موجودٌ في مجتمعٍ استهلاكي .
[3] مَا يَدْفعُ الأشخاصَ إِلى
الكتابةِ هُوَ حُبٌّ عَنيفٌ أو حُزْنٌ عَنيفٌ .
الكتابةُ تَعبيرٌ عن الأنا
الأُخرى الكامنةِ فِينا ، وعمليةُ تطهُّرٍ مستمرةٌ . والأشخاصُ يُمارِسون فِعلَ
الكتابة مُنطَلِقين مِن حُب عنيف أو حُزن عنيف . وهاتان الطاقتان ( الحب / الحزن )
أكبرُ من قُدرة الإنسان على التَّحمل، فيتمُّ اللجوء إلى الكتابةِ للتخلص من هذا
الحِمْل الزائد ، وهذا الضغطِ الهستيري ، مِمَّا يُؤدي إلى تحقيقِ التوازن في
النَّفْسِ البشريةِ . إِنَّنا في سَفينةٍ مهترئةٍ في قلب البحرِ الثائر ، ويَنبغي
التخلصُ من الأحمال الزائدة لكي تَستعيدَ السفينةُ توازنَها، ويَستعيدَ البحَّارةُ
ثِقتهم بأنفسهم ، ويَصلوا إلى شاطئِ الأمان . ورَغْمَ كُلِّ شيء ، سَيَظلُّ
الكاتبُ الحقيقيُّ هُوَ الذي يَعتبر الكتابةَ موقفاً من الوجود بِأَسْره ، لا
لحظةَ حُب زائلة ، أو شعوراً حزيناً عابراً . إنَّ الكتابةَ هِيَ فَلسفةُ الوجودِ
الواقعيِّ والخيالِيِّ ، ولَيْسَتْ هِوَايةً لِمَلْءِ وَقْتِ الفَراغ ، أو وَجاهةً
اجتماعية . وأبجديةُ الْحُلْمِ في الكتابةِ هِيَ العذابُ المتواصلُ الذي يَهْدِفُ
إلى تَخليصِ المجتمعِ مِنَ العذابِ ، وتَحريرِ الأنساقِ الحياتية مِنَ الفَوضى ،
وترسيخِ المعاني الثَّورية في أقصى المشاعرِ الإنسانية .
[4] كُنْ مِسْماراً في نَعْشِ
الاحتلالِ لا قِيثارةً يَتغنَّى بها الأحرارُ .
التَّضحيةُ بالنَّفْسِ أعلى درجات
التضحية . ولا بُدَّ مِن مواجهة الاحتلال بالحديد والنار ، فما أُخذ بالقوة لا
يُستردُّ إلا بالقوة . أمَّا بناءُ نسقٍ رومانسي حالِم فهو أداءٌ متأخرٌ لا يَجوز
البَدءُ به . وفرقٌ شاسعٌ بَيْنَ مَن يَكتبُ بِدمه ، وَمَن يَكتب بالحِبر . الموتُ
أعلى وأقوى مِن الحُبِّ . والسَّيفُ هُوَ البُنيةُ التحتيةُ ( الحاملة ) ، والقلمُ
هو البنيةُ الفَوْقية ( المحمولة ) . والأساسُ هو البنية التحتية . جَذرُ
الشَّجرةِ أهمُّ بكثير مِن الأغصان . ولا يُمكن أن يُفكِّرَ العَقلُ إِلا إِذا
أُشبعت الغرائزُ ( الحاجات البيولوجية ). وإذا أرادَ أحدُهم الوصولَ إلى الطابقِ
الثاني في بنايةٍ ما ، فلا بُدَّ أن يمرَّ بالطابقِ الأول . لا بُدَّ مِنَ البناءِ
الإنسانِيِّ وَفْقَ التَّفكيرِ المنطقيِّ الْمُتَسَلْسِلِ . وهذا المبدأ الثابت هو
أساسُ الفَلسفةِ الحياتيةِ ، حياةِ الفردِ وحياةِ الجماعة .
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 10/4/2017
.................