سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

29‏/05‏/2017

جنازة الفيلسوف المجهول / قصيدة

جنازة الفيلسوف المجهول / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد 

...............

     لَمْ يَرْجِعْ مِنْ وَجْهِي سِوَى الْمَرَاعِي/ أَنَا القَتيلُ ضِمْنِيَّاً فِي جِهَةٍ مَا/ الأُفُقُ النَّابِتُ في شُعَيْراتي الدَّمويةِ/ السَّائِرُ فِي هَلَعِ الشَّوَارِعِ/ أُوصِي الموتى أن يَناموا مع نِسَائهم / وَلا دَاعِي أَنْ يُسَانِدُوا ثَوْرَتِي / لأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْخَائِنُونَ / وَرَأْسِي لَيْسَتْ رَأْسَ الْحُسَيْنِ /

     عَاصِمَتِي غُرُورُ الضَّبَابِ شَلَلُ ضَفَادِعَ / كَمْ مَشَتْ تَحْتَ أَعْمِدَةِ الكَهْرباءِ شَقائقُ النُّعْمَانِ / وَالضَّوْءُ يَنْبُشُ قَبْرَ جَدَّتِي / فأرٌ يَخْطُبُ فِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ التَّابِعِ لِلطُّوفَانِ الصَّاعِدِ إِلَى رَايَاتٍ لا تَعْنِينِي/ سُفُني الغارِقةُ تُسْنِدُ ظِلالَها إلى رِئَتِي الْحُبْلَى/ تَخُطُّ الرَّصَاصَاتُ تَارِيخَ مِيلادِي / وَمُلوكُ الطوائفِ يُوزِّعُونَ الغنائِمَ على الذباب /
     صَدَاقَةُ السُّدُودِ / وأَجْوِبَةُ الْغَسَقِ / وسُطُوحُ مِمْحَاةِ الْحُلْمِ / أَرَقُ الْحِبْرِ لَحْظَةَ وِلادَةِ الْكَلِمَةِ / وَيَتَجَمَّعُ دُخَانُ السَّيَّارَاتِ فِي زَهْرَةِ الْوَرِيدِ / الْمُطِلِّ عَلَى يَقِينِ الضَّوْءِ / سُحُبٌ تَلْتَصِقُ بِحَنِينِي / سَقَطَ حَجَرُ الْخَوْفِ مِنْ قِرْمِيدِ النَّفْيِ إِلَى قَاعِ سَفِينَتِي / وَالْبَحْرُ مُجَفَّفٌ / وَدُسْتُورُ الأَلَمِ يُعَدِّلُ قَانُونَ أَنِينِي /
     انْعَقَدَ الْمُؤْتَمَرُ الْقَوْمِيُّ للجَرادِ / مَدِينَةٌ تُولَدُ مِنْ جِرَاحِي الْحَجَرِيَّةِ / كَانَت الْمُسَدَّسَاتُ تَنْبَعِثُ فِي الْخَوْخِ / مِثْلَمَا تَمُوتُ الشَّلالاتُ فِي قَلْبِي / مَارَّاً بِكُلِّ دَمٍ امْتَصَّنِي / اكْتَشَفْتُ أَنَّنِي الْمَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ / فَلَمْ أَجِدْ فِي تَقَاسِيمِ رَقَبَتِي غَيْرَ قَرْيَتِي الْمُحَاصَرَةِ / رَصَاصَاتُ الْحُلْمِ الْقَمَرِيِّ تَهُزُّنِي /
     سَمِّنُوا بَنَاتِكُمْ وَزِيدُوا أَوْزَانَهُنَّ / لَعَلَّكُمْ تَحْصُلُونَ عَلَى سِعْرٍ جَيِّدٍ مِنْ شُيُوخِ الْبِتْرُولِ / اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ جَيِّدَاً قَبْلَ افْتِرَاسِي / وَبَعْدَ الْتِهَامِ عُيُونِي مَعَ التَّوَابِلِ / تَصِيرُ أَعْضَاءُ الْفُقَرَاءِ الْجَدِيدَةُ قِطَعَ غَيَارٍ عَلَى رُفُوفِ أَجْسَادِ الأَغْنِيَاءِ / واليَتيماتُ في صَباحِ الْعِيدِ / يُغْرِقْنَ دَمِي الْمُؤَقَّتَ الْمَسْفُوحَ عَلَى الْهَوَادِجِ / فِي الْفَطَائِرِ الذَّابِلَةِ / سَأَحْضُنُ طُرُقَاتِ الْمُدُنِ الْمَحْرُوقَةِ بِالدِّعَايَاتِ الانْتِخَابِيَّةِ / ونَظَرَاتِ الشَّعْبِ الْمَسْرُوقَةِ / سَأَنْتَظِرُ أَمْطَارَاً تُرَتِّبُ شَعْرَهَا بَعْدَ أَنْ تَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ / سَأَنْتَظِرُ حَشَائِشَ وَفِيَّةً لا تُسْحَقُ تَحْتَ بَسَاطِيرِ الْمُجَنَّدَاتِ الْمُلَمَّعَةِ / سَأَنْتَظِرُ شَمْسَاً سَقَطَ مِشْطُهَا فِي أَرْضِ المعركةِ /

     انْتَظِرُوا قَلِيلاً حَتَّى أُقْتَلَ / لِكَيْ تُتَاجِرُوا بِجِرَاحِي الْمَنْشُورَةِ فِي الصَّفْحَةِ الأُولَى مِنْ وُجُوهِ شَعْبِي / وَتَفُوزُوا فِي الانْتِخَابَاتِ الْمُزَوَّرَةِ/ حَيْثُ تَتَعَلَّمُ الصَّبَايَا وَالْوَزِيرَاتُ الأَنِيقَاتُ تَفَاصِيلَ الْمُوضَةِ / عِنْدَ رُسُومَاتِ مَذْبَحَتِي .

25‏/05‏/2017

جيورجيوس سيفريس والانقلاب العسكري

جيورجيوس سيفريس والانقلاب العسكري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 25/5/2017

.....................

   وُلد الشاعر اليوناني جيورجيوس سفريس(1900_ 1971)في مدينة سميرنا(إزمير حالياً) على الساحل الغربي من تركيا،وتُوُفِّيَ في العاصمة اليونانية أثينا. اسْمُه الحقيقي جيورجيوس سفريادس .
     تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مسقط رأسه ، وأتم المرحلة الثانوية في أثينا ، عندما انتقلت إليها عائلته نتيجة أحداث الحرب العالمية الأولى . وفي عام 1918 ، هاجرت عائلته إلى باريس ، حيث درس سفريس القانون في جامعتها ، واهتمَّ بشكل أساسي بالأدب العالمي.عاد إلى أثينا عام1925، وعُيِّنَ في العام التالي موظفاً في وزارة الشؤون الخارجية،وابتدأت حياته في السِّلك الدبلوماسي، الذي أمضى فيه سنوات طويلة وناجحة.
     عمل في سفارة بلاده في لندن ( 1931_ 1934) ، وفي ألبانيا ( 1936_ 1938) . أمَّا في سنوات الحرب العالمية الثانية ، فقد رافق الحكومة اليونانية الحرة إلى المنفى في جزيرة كريت ومصر وجنوب أفريقيا وإيطاليا ، إلى أن عاد عام 1944 إلى أثينا المحرَّرة .    
     ثُمَّ عمل ثلاث سنوات في سفارة بلده في أنقرة ( 1948_ 1950) ، وفي لندن مَرَّةً ثانية    ( 1951_ 1953) ، ثُمَّ عُيِّنَ سفيراً لليونان في بيروت ، مع امتداد صلاحياته إلى سوريا والأردن والعراق ( 1953_ 1956) . انتقل بعدها سفيراً لبلده في بريطانيا ( 1957_ 1961)، وكان هذا آخر المناصب التي شغلها قبل تقاعده.لقد أعلنَ اعتزاله للعمل الدبلوماسي ، واعتكفَ في أثينا مُركِّزاً على عمله الأدبي والشِّعري .
     تلقى سفريس كثيراً من شهادات التقدير والجوائز، ودرجات دكتوراة الشرف من جامعات كمبردج (1960) ، وأكسفورد (1964) ، وسالونيكي (1964) وبرنستون ( 1965) .
     كَوَّنت رحلات سفريس المتعددة، وإقاماته الطويلة في كثير من العواصم ، خلفيةً غنية الألوان لمعظم إبداعاته الشِّعرية والنثرية ، التي تمحورت موضوعاتها حول الغربة والتجوال والموت.
     في مرحلته الإبداعية المبكِّرة التي تضم ديوان " مُنعطَف " ( 1931) وديوان " العقل الشَّبقي" ( 1931) ، والْجُب ( 1932) ، يظهر تأثره واضحاً بتيار الرمزية الفرنسية والسريالية. وتُمثِّل قصائد كل ديوان من هذه الدواوين حلقة شعرية مترابطة مضموناً ، ومنفصلة شَكلاً . أمَّا ديوانه  " تقرير حياة أسطورية " ( 1935) ، فيُعتبَر ذِروة مرحلة النُّضج الفني ، ويُمثِّل من حيث الشكل استمراراً للدواوين السابقة ، وهو حلقة شعرية مؤلفة من اثنتين وعشرين قصيدة، تستلهم رحلات التِّيه والضياع من ملحمة هوميروس " الأوديسة " ، ولكن من دون بطلها ( عوليس ). وتدل لُغتها الشِّعرية على خروج سفريس مِن أَسْر الرمزية والسريالية إلى شِعر يوناني أصيل. ويَكشف التحليلُ النقدي العميق عَن تَمَثُّل سفريس للصُّوَرية لدى تي. إس . إليوت وإزرا باوند على نحو إبداعي ، ولهذا يُعَدُّ هذا الديوان بحق محطة رئيسية في تاريخ الشعر اليوناني الحديث .
     اتَّكأ سفريس في قصائد هذا الديوان على مجموعة أسماء من أبطال الملحمة ، رابطاً فيما بينها بإسقاطات على أحداث معاصرة، ولا سِيَّما ما يتعلق بمصير مسقط رأسه ( سميرنا ) الذي أثَّرَ فيه أكثر من أي شيء آخر ، حسب تعبيره . أمَّا البُنية الكلية لحلقة القصائد فهي ليست روائية ولا ملحمية بل غنائية ، وقد بقيت موضوعات وهواجس هذا الديوان تشغل الشاعر في ديوان" كتاب التمارين " ( 1940) . وإلى جانب الشِّعر ، نشر سفريس كتابين ، تناولَ فيهما ماهية الإبداع الشِّعري.الأول بعنوان " حوار حول الشِّعر " ( 1939) ، والثاني بعنوان " محاولات"( 1962). كما ترجم مجموعة من القصائد عن الإنجليزية والفرنسية، نشرها في مجموعة حملت عنوان" نُسَخ " ( 1965) . وفي عام 1963 ، نال سفريس جائزة نوبل للآداب (( لِتَمَيُّز شِعره الغنائي الذي قُرض بمشاعر دافقة وعميقة ، تُعبِّر عن ثقافة العالَم الهِلِّيني ، الذي مَزج بين الشرق والغرب )) .
     والجديرُ بالذِّكر أن تعبير الهِلِّينية يُطلَق على واحدة من الحضارات التي عرفتها بلاد اليونان في تاريخها، وهي الحضارة الثانية في الترتيب الزمني بعد الحضارة الإيجية (2100- 1000ق.م) ، وقبل حضارة العصر الهلنستي (332-30ق.م) ، وهي واحدة من التسميات التي أطلقها المؤرِّخون المعاصرون على هذه الحضارة اعتماداً على ما أطلقه اليونانيون القدامى على أنفسهم تَيَمُّناً بجدهم الأسطوري هِيلِّين.
     وقد أصبح سفريس شاعر اليونان الأول ، فقد أدخلَ اللغة اليونانية إلى العالمية، وحَمَلَ حِكمة اليونان القديمة وتاريخها وشِعرها ، وأكَّدَ للجميع أن اليونان القديمة لا تزال حاضرة بتراثها رغم مرور القرون ، وبذلك يكون قد رَبط بين الماضي العريق والحاضر الْمُعاش .

     في عام 1967 ، استولى الجيش اليوناني على السُّلطة في انقلاب عسكري ، وتَمَّ إنشاء مجلس عسكري حكم اليونان حتى عام 1974، ومارست السُّلطةُ الحاكمةُ القمعَ والاعتقال والتعذيب. وقد عَبَّر سفريس عن موقفه المناهض للسُّلطة من خلال كلمة بثتها هيئة الإذاعة البريطانية في آذار/ مارس عام 1969 ، وأُرْسِلت مِنها نسخة لكل صُحف أثينا . وقد استنكر سفريس في كلمته ممارسات السُّلطة العسكرية الحاكمة ، وطالب برحيلها ، غَير أنه تُوُفِّيَ في 20 أيلول من عام 1971، دون أن يَشهد نهايتها .

23‏/05‏/2017

نكبة فلسطين : موت الضمير العالمي

نكبة فلسطين : موت الضمير العالمي

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة القدس العربي ، لندن ، 23/5/2017

...................


تمر في هذه الأيام ذكرى النكبة 15 أيار 1948، التي كانت وصمة العار في جبين الأمة العربية والإسلامية، وأدَّت إلى تعرية الأنظمة الرسمية، وإثبات عجزها التام، بل تواطؤها أحياناً، حيال قضية فلسطين المركزية، وكشفت هشاشة البنى الاجتماعية العربية الغارقة في الشعارات والأغاني الوطنية، دون تطبيقات على أرض الواقع.
وقد ارتكبت مؤسسات الحكم العربية خطايا كارثية، عبر مراحل القضية الفلسطينية المختلفة، بدءاً بنكبة 1948 وانتهاءً بنكبة أوسلو 1993، من أهمها :
ـ عدم تسليح الشعب الفلسطيني لكي يدافع عن أرضه بنفسه، ويثبِّت وجوده. واكتفت بإرسال بعض الجيوش من باب العصبية القبلية ورفع العتب، وحماية صورة الأنظمة أمام شعوبها. وكانت الجيوش غير مؤهلة لخوض حروب، وغير قادرة على مجاراة العصابات الصهيونية المدربة بشكل احترافي. وبعد كل ما جرى بدأ كل جيش يقدم إنجازاتِه «الأسطورية» في الدفاع عن فلسطين وصونِ شرف الأمة، لكن هذه الإنجازات الوهمية ظلت جعجعة بلا طحن رغم تضحيات الشرفاء الصادقة.
ـ تحويل القضية الفلسطينية إلى فلكلور شعبي، واختزال الثقافة الفلسطينية التاريخية في الدبكات الشعبية في الأعراس والمهرجانات الخطابية. ونحن لا نقلِّل من أهمية الرموز الثقافية العليا، ولكنْ ينبغي أن توضع في إطار الصراع الشامل، بين قوة احتلال مدعومة غربياً، وشعب تحت الاحتلال يتآمر عليها القريب قبل البعيد، ومن حقه الشرعي أن يقاوم الاحتلال بكل الوسائل.
ـ النظر إلى الشعب الفلسطيني في الشتات على أنهم خلايا نائمة وقنابل موقوتة في المجتمعات الحاضنة لهم، والتعامل معهم بالعقلية الأمنية المخابراتية القامعة، وعليهم أن يعيشوا ويموتوا في مخيمات بائسة، بحجة عدم التوطين، وأن يُحرَموا من العيش بكرامة بدعوى حق العودة، وأن يتم استغلال معاناتهم لتحقيق مكاسب شخصية للزعماء العرب السائرين على خطى صلاح الدين الأيوبي.
ـ قيام الحكام العرب بالاختباء وراء قُدسية القضية الفلسطينية، لكي يُلمِّعوا صورتهم ويُقدِّموا أنفسهم حارسين لشرف العروبة ومجد الإسلام . مع أن الجميع يعلم أن الكيان الصهيوني ما كان ليجد له موطئ قدم في فلسطين، لولا الخدمات الجليلة من بعض الحكام العرب، الذين ساهموا في بيع فلسطين لتثبيت أنظمة حكمهم، خاصةً أن المتاجرة بقضية فلسطين تدر أرباحاً مادية طائلة تُمكِّنهم من العيش في القصور الفخمة، والتصدق على الشعب بحفنة قمح أمريكي. وكما هو معلوم فالصهاينة ومن زرعهم في فلسطين، قادرون على الدفع فوراً وبدون تقسيط، وبالعملة الصعبة أيضاً.
ولو جئنا إلى الجهة الأخرى من الصورة لوجدنا أن ما يسمى بدولة إسرائيل تحتفل في يوم النكبة بـ»عيد استقلالها»، وهذه المسرحية الكوميدية تنطوي على جوانب فلسفية عميقة في الفكر الصهيوني، متماهية مع الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي الذي مارسه الصهاينة بكل رومانسية وحضارة. كما أن تعبير «عيد الاستقلال» في الكيان الصهيوني يثير عدة ملاحظات: فالكيان الصهيوني ليس دولة، بل هو قاعدة عسكرية تابعة للغرب الإمبريالي (أمريكا، بريطانيا…) وتعبير «عيد الاستقلال» لا ينطبق على القواعد العسكرية، فلم نسمع مثلاً، أن القاعدة العسكرية الأمريكية في اليابان قد احتفلت بعيد استقلالها، حتى الصهاينة أنفسهم لا يعترفون بدولتهم المزعومة، لأنهم لم يُثبِّتوا لها حدوداً، وكل كيان سياسي ليست له حدود لا يُعتبر دولةً، فلا داعي لكي يطلبوا من حماس أو الدول العربية الاعتراف بهم، فهم أصلاً، لا يعترفون بأنفسهم. كما أن الصهانية لا يتمتعون برومانسية الوفاء والإخلاص، فهم يعضون اليد التي ساعدتهم، فبدلاً من أن يشكروا بريطانيا، التي زرعتهم في فلسطين، لكي تتخلص أوروبا منهم، ها هم يعتبرونها قوة احتلال كانت تسيطر عليهم، لكنهم استطاعوا أن يتحرروا منها ويعلنوا «استقلالهم» بعد تضحيات عصابات الإجرام والتطهير العِرقي والإبادة الجماعية مثل، الإرجون والهاجاناه.
إن قيام بعض أبناء جلدتنا عبر كل طبقات هرم السلطة بتهنئة الكيان الصهيوني بمناسبة «عيد استقلاله»، يدل على وفاء العبد لأسياده الذين أحضروه إلى الحكم.
وفي ظل هذه الأحداث الجسام التي تحدث في دنيا الغاب، حيث «العالم الحر» يشرب الأنخاب مع الجلاد، ويحاكم الضحية، لا بد من الاعتماد على الكفاءات الداخلية في ممارسة فعل التحرر من قوى الاحتلال، وعدم التعويل على مساعدة الأنظمة الغربية وراء البحار، لأنها جزء من المشكلة لا الحل، ولن تساعد إلا نفسها في عالم محكوم بمنطق القوة لا قوة المنطق.

19‏/05‏/2017

جون شتاينبك والطبقة الكادحة

جون شتاينبك والطبقة الكادحة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ،19/5/2017

.........................

     وُلد الروائي الأمريكي جون شتاينبك( 1902_ 1968) في وادي ساليناس في كاليفورنيا ، لعائلة من الطبقة الوسطى المحافظة . وكان الابن الثالث ، والذَّكر الوحيد بين أربعة أطفال . تَنقَّل والده بين وظائف مُتعددة لإعالة أسرته . أمَّا والدته فكانت مُعلِّمة . اقتنعَ والداه بأهمية تثقيف أطفالهما ، فارتادوا المسرح بِصُحبتهم ، واقتنوا كثيراً من الأعمال الأدبية .
     عُرف في شبابه بذكائه وخجله الذي يعود إلى نشأته بين ثلاث شقيقات. وهذا الأمر جعله مُنطوياً على نَفْسه ، يعيش في عالمه الخاص مع أفكاره وأحلامه وذكرياته بعيداً عن الناس.
     ظهر اهتمام شتاينبك بالقراءة والكتابة في سن مُبكِّرة، إذ بدأ مُحرِّراً لصحيفة مدرسته الثانوية، وكتب فيها عدة مقالات وقصصاً قصيرة نالت إعجاب أساتذته . وقد قَرَّرَ في الرابعة عشرة مِن عُمره أن يُصبح كاتباً ، فكان يحبس نَفْسَه في غرفة نَومه لكتابة القصائد والقصص.كما كان مُحِبَّاً لوطنه ، وشديد الانتماء إلى مسقط رأسه ، وقد ذَكَرَه كثيراً في كتاباته .
     في عام 1919، التحقَ شتاينبك بجامعة ستانفورد لدراسة الأدب الإنجليزي تحت ضغط والديه ، بدون رغبة شخصية. وقد كانت سنواته الدراسية كابوساً مُرعِباً ، وحصل على نتائج مُتدنِّية ، إلى أن رسب نهائياً عام 1925 ، وترك الجامعة بدون شهادة . وبعد تركه للجامعة ، بحث جاهداً عن وظيفة لكسب قُوت يَومه ، فعمل ككاتب حُر ، ثم عمل في نيويورك في قِطاع البناء ثُمَّ مراسل صحيفة . وعاد إلى كاليفورنيا ليعمل حارس مبنى . وفي تلك الفترة كتب روايته الأولى" كأس من ذهب"( 1929)، والتقى زوجته الأولى، عِلماً بأنه تزوَّج ثلاث مرات في حياته. 
     رَكَّزَ شتاينبك جهوده في الكتابة ، معتمداً على راتبه المتواضع ودعم زوجته ، وكتب روايتين لَم يُكتَب لهما النجاح . وفي عام 1935، كتب رواية " شقة تورتيلا " بأسلوب فُكاهي ، وتناول فيها تفاصيل الحياة في إحدى مناطق كاليفورنيا . وقد حقَّقت نجاحاً باهراً لتدفعه إلى الشُّهرة . وبعدها ، استخدم أسلوباً أكثر جِدِّيةً وصرامةً في الكتابة ، وهذا يتَّضح في رواية " فئران ورجال"  ( 1937) والمجموعة القصصية " الوادي الطويل " ( 1938) .
     تُعتبَر رواية " عناقيد الغضب " ( 1939) أشهر روايات شتاينبك على الإطلاق . وهي رواية ملحمية تحكي قصة أجيال من عائلة كبيرة وفقيرة من أوكلاهوما ، وسَعيها لإقامة حياة جديدة في كاليفورنيا في فترة الكساد العظيم ( وهي أزمة اقتصادية حدثت في عام 1929، ومروراً بِعَقْد الثلاثينيات، وبداية عَقْد الأربعينيات ، وتُعتبَر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين . وقد بَدأت الأزمة مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر 1929 ، والمسمَّى بالثلاثاء الأسود )، لكنَّ هذه العائلة تكتشف أن كاليفورنيا ليست أرض الأحلام ، وأن الحياة فيها أشد قسوة ، وذلك بعد تعرُّض العائلة للخداع والاستغلال . وموضوعُ الرواية هو الصراع من أجل العَيش ، ضمن الإطار السياسي الاجتماعي الإنساني .
     تُصوِّر الروايةَ الغضبَ والقلق الذي أصاب المواطن الأمريكي خلال تلك الفترة . وقد بِيعت حوالي 10 آلاف نسخة من الرواية أسبوعياً ، وهذا النجاح قادَ شتاينبك إلى الفوز بجائزة بوليتزر عام 1940 . وبعد هذا النجاح الكبير ، عمل شتاينبك كمراسل حرب لصحيفة نيويورك هيرالد تريبيون خلال الحرب العالمية الثانية .
     كما اشْتُهرت له رواية " اللؤلؤة " ( 1947) التي أصبحت جزءاً من المناهج الدراسية ، بسبب موضوعها الأخلاقي الوَعظي ، إذْ تتحدَّث عن غطاس مكسيكي فقير ، يصطاد لؤلؤةً ثمينة تُغيِّر مجرى حياته ، فيبدأ الناس بالاهتمام بابنته المريضة بسبب اللؤلؤة ، ويُسيطر الطمعُ عليه ، فيخسر ابنته في النهاية ، ويرمي اللؤلؤة في البحر إلى غَير رَجعة .
     استخدم شتاينبك مسقط رأسه والرحلات التي قام بها خلفيةً لأهم رواياته ، فَرَكَّزَ على الطبقة الكادحة من العمال المكسيكيين الموسميين ، لِيُثير يقظة الشعب الأمريكي تجاه الفقراء البائسين الذين يُهاجرون من ولاية إلى أخرى طلباً للرزق ، فيقعون فريسةً في معسكرات تجميع المهاجرين ، حيث يتم استغلالهم كأيدٍ عاملة رخيصة، ولكنهم يتمكنون بتعاونهم وتماسكهم من التغلب على محنتهم .
     وُصف شتاينبك بأنه كاتب اجتماعي وواقعي ، يُسلِّط الضوء في كتاباته على التماسك العائلي والاجتماعي ، والاحتجاج الاجتماعي والسياسي ، وتأثير البيئة بكل أشكالها في الإنسان .
     وقد فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1962 ، وأعلنَ في خطاب تسلُّمه للجائزة هدفَه كروائي بِقَوله : (( إن المهمة الأساسية للكاتب لَم ولن تتغيَّر ، فواجبه أن يُظهِر أخطاءنا المؤلمة ، وفشلنا في التركيز على أحلامنا الجريئة ، بهدف الإصلاح )) .

     يُعتبَر شتاينبك واحداً من أكثر الروائيين الأمريكيين شعبيةً وشُهرة ، وكان لأعماله تأثير عميق في مجتمعه . وحُوِّلت مُعظَم رواياته إلى أفلام سينمائية لاقت نجاحاً كبيراً. حيث حُوِّلت رواية عناقيد الغضب إلى فيلم شعبي في 1941 . وحُوِّلت رواية " شرق عدن " ( 1952) إلى فيلم في عام 1955 ، مِن بطولة الممثل جيمس دين .

17‏/05‏/2017

نكبة فلسطين بين الضحية والجلاد

نكبة فلسطين بين الضحية والجلاد

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/5/2017

................

     تمر في هذه الأيام ذكرى النكبة ( 15 أيار 1948م ) التي كانت وصمة العار في جبين الأمة العربية والإسلامية ، وأدَّت إلى تعرية الأنظمة الرسمية ، وإثبات عجزها التام _ بل وتواطؤها أحياناً _ حيال قضية فلسطين المركزية ، وكشفت عن هشاشة البنى الاجتماعية العربية الغارقة في الشعارات والأغاني الوطنية دون تطبيقات على أرض الواقع .
     وقد ارتكبت مؤسسات الحكم العربية خطايا كارثية عبر مراحل القضية الفلسطينية المختلفة بدءاً بنكبة 1948م وانتهاءً بنكبة أوسلو 1993م، من أهمها :
     1) عدم تسليح الشعب الفلسطيني لكي يدافع عن أرضه بنفسه، ويثبِّت وجوده . فهي اكتفت بإرسال بعض الجيوش من باب العصبية القبلية ورفع العتب ، وحماية صورة الأنظمة أمام شعوبها . فهذه الجيوش _ بالأصل _ غير مؤهلة لخوض حروب ، وغير قادرة على مجاراة العصابات الصهيونية المدربة بشكل احترافي. وبعد كل ما جرى بدأ كل جيش يقدم إنجازاتِه " الأسطورية " في الدفاع عن فلسطين ، وصونِ شرف الأمة . لكن هذه الإنجازات الوهمية تظل جعجعة بلا طحن رغم تضحيات الشرفاء الصادقة .
     2) تحويل القضية الفلسطينية إلى فلكلور شعبي ، واختزال الثقافة الفلسطينية التاريخية في الدبكات الشعبية في الأعراس والمهرجانات الخطابية. ونحن لا نقلِّل من أهمية الرموز الثقافية العليا، ولكنْ ينبغي أن توضع في إطار الصراع الشامل بين قوة احتلال مدعومة غربياً ، وبين شعب تحت الاحتلال يتآمر عليها القريب قبل البعيد ، ومن حقه الشرعي أن يقاوم الاحتلال بكل الوسائل .
     3) النظر إلى الشعب الفلسطيني في الشتات على أنهم خلايا نائمة وقنابل موقوتة في المجتمعات الحاضنة لهم، والتعامل معهم بالعقلية الأمنية المخابراتية القامعة. فيجب أن يعيشوا ويموتوا في مخيمات بائسة بحجة عدم التوطين، وأن يُحرَموا من العيش بكرامة بدعوى حق العودة ، وأن يتم استغلال معاناتهم لتحقيق مكاسب شخصية للزعماء العرب السائرين على خطى صلاح الدين الأيوبي ! .
     4) قيام الحكام العرب بالاختباء وراء قُدسية القضية الفلسطينية ، لكي يُلمِّعوا صورتهم ، ويُقدِّموا أنفسهم كحارسين لشرف العروبة ومجد الإسلام . مع أن الجميع يعلم أن الكيان الصهيوني ما كان ليجد له موطئ قدم في فلسطين لولا الخدمات الجليلة من بعض الحكام العرب الذين ساهموا في بيع فلسطين لتثبيت أنظمة حكمهم . خاصةً أن المتاجرة بقضية فلسطين تدر أرباحاً مادية طائلة تُمكِّنهم من العيش في القصور الفخمة ، وسيارات المرسيدس الفارهة ، والتصدق على الشعب بحفنة قمح أمريكي . وكما هو معلوم فالصهاينة ومن زرعهم في فلسطين قادرون على الدفع فوراً وبدون تقسيط ، وبالعملة الصعبة أيضاً .
     ولو جئنا إلى الجهة الأخرى من الصورة لوجدنا أن ما يسمى بدولة إسرائيل تحتفل في يوم النكبة بِ "عيد استقلالها " . وهذه المسرحية الكوميدية تنطوي على جوانب فلسفية عميقة في الفكر الصهيوني متماهية مع الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي الذي مارسه الصهاينة بكل رومانسية وحضارة . كما أن تعبير "عيد الاستقلال" في الكيان الصهيوني يثير عدة ملاحظات :
     1) الكيان الصهيوني ليس دولة، بل هو قاعدة عسكرية تابعة للغرب الإمبريالي ( أمريكا ، بريطانيا ،... ) . وتعبير "عيد الاستقلال " لا ينطبق على القواعد العسكرية. فلم نسمع_ مثلاً_ أن القاعدة العسكرية الأمريكية في اليابان قد احتفلت بعيد استقلالها . حتى الصهاينة أنفسهم لا يعترفون بدولتهم المزعومة ، لأنهم لم يُثبِّتوا لها حدوداً ، وكل كيان سياسي ليس له حدود لا يُعتبر دولةً ، فلا داعي لكي يطلبوا من حماس أو الدول العربية الاعتراف بهم، فهم _ أصلاً _ لا يعترفون بأنفسهم . 
     2) الصهاينة لا يتمتعون برومانسية الوفاء والإخلاص ، فهم يعضون اليد التي ساعدتهم . فبدلاً من أن يشكروا بريطانيا التي زرعتهم في فلسطين لكي تتخلص أوروبا منهم، ها هم يعتبرونها قوة احتلال كانت تسيطر عليهم ، لكنهم استطاعوا أن يتحرروا منها ، ويعلنوا "استقلالهم" بعد تضحيات عصابات الإجرام والتطهير العِرقي والإبادة الجماعية مثل الإرجون والهاجاناه .
     3) قيام بعض أبناء جلدتنا عبر كل طبقات هرم السلطة بتهنئة الكيان الصهيوني بمناسبة " عيد استقلاله " . وهذا يدل على وفاء العبد لأسياده الذين أحضروه إلى الحكم .

     وفي ظل هذه الأحداث الجسام التي تحدث في دنيا الغاب ، حيث " العالم الحر" يشرب الأنخاب مع الجلاد ، ويحاكم الضحية ، لا بد من الاعتماد على الكفاءات الداخلية في ممارسة فعل التحرر من قوى الاحتلال ، وعدم التعويل على مساعدة الأنظمة الغربية وراء البحار ، لأنها جزء من المشكلة لا الحل ، ولن تساعد إلا نفسها في عالم محكوم بمنطق القوة لا قوة المنطق . 

14‏/05‏/2017

كوابيس هند بنت النعمان / قصيدة

كوابيس هند بنت النعمان / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

...................

   بِاسْمِ الحبِّ يُقْتَلُ الحبُّ / وَدَاعاً لِكُلِّ النِّساءِ / قَد مَاتَ الجنودُ في الخنادقِ / الحزنُ الشاسعُ/ والطريقُ إلى الصَّوْمَعةِ في شِتاءِ الدِّماءِ/ أُصيبَ الشفقُ بالملاريا / لكنَّ الغروبَ لا يَزالُ رُومانسياً / نتعلمُ أبجديةَ الحطبِ مِن أكواخِ العَبيدِ / والفراشاتُ تتساقطُ في حُفرتي /
     أيها العُشبُ اليتيمُ / لا تَحْزَنْ لأنَّ أُمَّكَ تنتظرُ أمامَ الحواجزِ العسكريةِ / كُلُّ القتلى يَشْربونَ الشَّايَ / مَعَ الشجرِ العائدِ مِنَ المجازِرِ / تختبئُ الأدغالُ في بِنطالِ الشَّلالِ / والصُّقورُ تَشربُ دَمَ الغيومِ / في أغنياتِ العارِ / أنا شَجرةٌ عَلى الطريقِ لا الطريقُ / أنا عُصْفورٌ عَلى الأسلاكِ الشائكةِ لا الْمُعْتَقَلُ / أَنقذتُ غابةَ اللازَوَرْدِ مِنَ الاحتراقِ / وَلَم أَعْرِفْ أنَّ عِشْقَها سَيَحْرِقُني / أَنقذتُ مِدْخنةَ الْحُلْمِ مِنَ الجليدِ / ولم أَعْرِفْ أنَّ حَليبَ البُحيراتِ مَسْمومٌ / حَقَّاً / سَوْفَ تُقْطَفُ الوردةُ / وَهِيَ في ذِرْوَةِ غُرورِها /  
     في رِئتي غُرْبةُ السَّنابلِ/ وَجَاءَتْ غُرْبتي مِن احمرارِ الشَّفقِ / أوْردتي كُوخٌ للطيورِ المذعورةِ / يا صَوْتَ أُمِّي الطالعَ مِنَ الضبابِ / كَيْفَ أَشُمُّكَ وَقَدْ سَرَقَ شَجَرُ الليلِ حَوَاسِّي ؟/ بَشَرٌ يَحْلُمونَ باللحمِ المخصَّصِ لِكِلابِ الخليفةِ / اختيارُ المرأةِ في حُكومةِ الشَّواذِّ جِنْسياً / حَسَبَ حَجْمِ صَدْرِها / المسابحُ في قَصْرِ الإمبراطورِ / والشعبُ لا يَجِدُ مَاءً للشُّرْبِ/ تُباعُ المرأةُ لِمَن يَدْفَعُ أكثرَ / انتهى الضَّحِكُ في مَدينتي المحاصَرَةِ / والأشجارُ تَحْبَلُ بالدُّموعِ / تنمو المسدَّساتُ على أغصانِ الفَجْرِ / والفقراءُ يَخْبِزُونَ أحزانَهم/ تاريخي قَتيلٌ / سُلِخَ لَحْمُهُ عَن ضَوْئِهِ / وَسُكِبَت المجاعاتُ في عِظَامِ القَمَرِ / أُحَرِّرُ العصافيرَ مِن عُرُوقي / أنا مَلِكُ القُشَعريرةِ في حَفْلةِ الرَّقْصِ القاتلِ / وَالبَدْوُ الرُّحَّلُ يَلْعَبُونَ القِمَارَ في جِيَفِ النُّسورِ/ سَتَكُونُ الأجسادُ رَايةً مُنَكَّسَةً/ وتأتي الرمالُ مِن توابيتِ الغروبِ / كما يأتي النبيذُ الفَرنسيُّ مِن عِنَبِ الجزائرِ/ أخافُ مِن نَفْسي / لأنَّ شَخصاً غَريباً يَعيشُ في دَاخِلي / رَقَصْنا مَعَ الغَجَرِ في إِشبيليةَ/ وجاءَ مَوْعِدُ طَرْدِنا / قَتَلْنا الْحُبَّ في طُرقاتِ الوَخْزِ / وجاءَ مَوْعِدُ إِعدامِنا / ستذهبُ الفَتياتُ إلى الاحتضارِ/ وتظلُّ رائحةُ العِطْرِ عَلى حَبْلِ الغسيلِ / مَحْكُومونَ بالحنين / والحمَامُ الزاجلُ يَنْقُلُ أحكامَ الإعدامِ / 
     في دَاخِلي فَراشاتٌ تَموتُ / وأنا أمشي إلى تاريخِ السُّفنِ الغارقةِ / أُخَزِّنُ في أكياسِ الطحينِ الدُّموعَ النازفةَ مِن ثُقوبِ الحِيطان / وأَخْبِزُ المطرَ بأحزاني / الأوامرُ العسكريةُ تائهةٌ بَيْنَ الماضي والمضارِعِ / والطواويسُ سَكَنَتْ في عُشِّ النَّسْرِ المقتولِ / يتشظى الثلجُ في أعصابي مِثْلَ أكواخِ الصفيحِ / والذِّكرياتُ تحتفلُ بِهَزِيمةِ جَيْشِها في المعركةِ / العُشبُ النابتُ في دَمي / يَحْمِلُ مُسدَّساً خَالياً مِنَ الرصاصِ / وآبارُ النِّفطِ في جِلْدي خاليةٌ مِنَ الرصاصِ /
     أُصيبَ العازِفُ بالشَّلَلِ/ وَبَقِيَ البيانو وَحيداً / الذُّعرُ يَخلعُ رِئةَ النهرِ/ وَشَراييني مُزَيَّنةٌ بالطحالبِ / يَتسلقُ البنفسجُ أبراجَ الجثثِ / والرِّمالُ تُطْلِقُ النارَ على البحرِ الأعزلِ/ البُيوتُ مُعْتِمَةٌ/ والقُشَعريرةُ تُضِيءُ المكانَ/ المهرِّجُونَ يَضْحَكُون / والسِّيركُ يَحترقُ / لا تسأليني أيتها الهِضابُ عَن عِيَارِ المسدَّسِ / الذي سَتَنْتَحِرِينَ بِهِ / الرَّعدُ يَصطادُ الأسماكَ مِن دَمي/ أَدْرُسُ مَعَ سَجَّاني دَوْرَ راقصاتِ الباليه في النظريةِ النِّسبيةِ/ خَرجتُ مِن قَفَصي الصَّدْرِيِّ / أَجُرُّ قُبَّعةَ الصحراءِ/ ضَيَّعْتَني يا نهرَ الجماجمِ الرشيقةِ/ دَمَّرْتني بِكُلِّ هُدوء / جَسَدي العَراءُ الْمُرُّ / وَالرِّيحُ تَنْخُرُ كَستناءَ الأراملِ / لا أَمْلِكُ غَيْرَ شَظايا رُوحي / وَجَوَارحي المجروحةُ تَرْقُعُ ثِيابي / لا بَيْتٌ للنوارسِ سِوَى مِدْخنةِ الثلجِ / ولا قَبيلةٌ للمطرِ سِوى أعضائي المتجمِّدةِ / الجوعُ يُطَوِّقُ البُحيرةَ / والقِرْميدُ ذاكرةٌ لاكتئابِ المداخِنِ / والصَّمْتُ يَبْسُطُ جَناحَيْهِ عَلى الجثامين / لكنَّ بُكاءَ النِّساءِ يَتفجَّرُ في لِيالي الشِّتاءِ /
     أيها الأنيقُ في غابةِ الراهباتِ العَمْياواتِ / سَوْفَ يَشْنُقُكَ المطرُ بِرَبطةِ عُنُقِكَ / أزرعُ القمحَ في أحزاني/ وَيَحْصِدُهُ الشفقُ / افْرَحْ يَا أبي / سَأحصلُ على رَاتبِ النهرِ بَعْدَ مَوْتِهِ / سَتُغَطِّي رَائِحةُ التَّبْغِ رَائحةَ الجثثِ / مَشَيْتُ في دِمائي / ومشى الخريفُ في أَوْردتي / تُهَرْوِلُ الأشجارُ في قُرى الملاريا / وكانَ الرَّمْلُ يُضاجِعُ الصحراءَ تَحْتَ المطرِ / أنا مَعَكم / وَلَسْتُ مِنكم / أنا السرابُ / عَرَقي الأرصفةُ / وَدَمْعي الغاباتُ / أنا مِن سَرابٍ / وأشلائي ظِلالٌ لِحُزْنِ الرياحِ / وأحزانُ أبي تُعَبِّدُ طَريقي إلى شمسِ المقابرِ / وكانَ طُموحي أن أُطْلِقَ النارَ على الوَسْواسِ القَهْرِيِّ / قَرْيتي تَركضُ في التُّوتِ السِّريِّ / وَحَليبُ التِّلالِ يَصُبُّ في آبارِ النِّفطِ / أشلائي طَباشيرُ مَنْسِيَّةٌ في مَدْرسةٍ مَجْهولةٍ/ جُيُوبِي مَليئةٌ بِدَماءِ القَبائلِ / وَخَاليةٌ مِن إسطبلاتِ البُكاءِ / خَطَبْتُ الأزقةَ / وَطَلَّقْتُ الشُّطآنَ / لا سُلْطةٌ للشُّموعِ إلا عَلى الغبارِ / ولا سِيادةٌ للطيورِ الجارحةِ إلا عَلى جَوارحي /
     ما أجْمَلَكَ أيها القَتيلُ تَحْتَ ظِلالِ النوارسِ / أتفجَّرُ مِن الدَّاخِلِ / وأشلائي مملكةُ الفراشاتِ المنفِيَّةِ / ابْتَلِعْ لَحمي أيها الغروبُ/ إِنَّ الحشراتِ لا تَعْرِفُ مَواعيدَ المجاعةِ / أغنامي مَريضةٌ بِالوَهْمِ / وَجُمجمتي على رَأْسِ رُمْحٍ / في مَتْحَفٍ مَهجورٍ / فِقراتُ ظَهْري تَدورُ كالرَّحى في حُقولِ الإقطاعيين / سِرْتُ سَارت الجوَّافةُ في رَقصةِ البارودِ / وأُنثى الصَّقْرِ نَسِيَتْ خَلْخالَها / في الطرقاتِ الْمُتْعَبَةِ / صَابونُ الليلِ في أرحامِ المقاصِلِ / وَعِندما تَموتُ الشُّطْآنُ بِسَرطانِ الثَّدْيِ / سَتظلُّ قُمصانُ النَّوْمِ في خِزانةِ البَحْرِ / جَسَدٌ مَنبوذٌ / رُوحٌ مَشْروخةٌ / يَنمو الصدى في مَقَابِرِنا اللوْزِيَّةِ / خَجَلُ المرايا مِثْلُ خَجَلِ الفَتَياتِ في لَيْلةِ الدُّخْلةِ / وَخَجَلُ سَجَّاني مِثْلُ خَجَلِ الأنهارِ / حِينَ يَسْبَحُ فِيها المصْلوبونَ العُراةُ / تَضاريسُ قَلْبي أطيافٌ للدُّودِ / والوَجَعُ طَيْفُ البحَّارةِ الغارقينَ في دُموعِ زَوْجاتهم / رِئتي الخيْمةُ الأخيرةُ / والدُّروبُ الحزينةُ هِيَ الطِّفْلَةُ اليَتيمةُ / التي أَنْجَبَتْها الصَّحاري البلوريةُ / يَضَعُ الضَّبابُ في إِصْبَعِ الحقولِ خَاتَمَ الخطوبةِ/ وَضَحِكاتُ الصَّبايا تَسيلُ على النِّصالِ الرَّماديةِ / للمِدْخنةِ أشجارُ دِمائنا / أُلقي السُّؤالَ على السُّؤالِ / لماذا مَرَرْتَ أيها المساءُ المذبوحُ في حَارتِنا / ولم تُلْقِ التَّحيةَ على أصدقائكَ القُدامى / الذينَ ماتوا في الحياةِ وعاشوا في الموْتِ ؟ /
     يَا أنا / مَن القَتيلُ فِينا؟/ قَتَلْنا الْحُسَيْن / وَحَلُمْنا بالمهديِّ المنتظَرِ / العناكبُ التي تَسيرُ على جِلْدي / هِيَ ظِلالي السِّريةُ / يَزُورني البُكاءُ في ليالي الشِّتاءِ / وَأَزُورُ قَبري في أعيادِ اليمامِ / أُطْلِقُ رَصاصةَ الرَّحمةِ على جَسَدِ البُحيرةِ / والغروبُ يُطْلِقُ أحزاني على رَصاصةِ الرَّحمةِ / الحزنُ هُوَ الْمَلِكُ / وأنا وَلِيُّ العَهْدِ / تَجُرُّ جُثماني خُيولُ القُشَعريرةِ / وَظِلالُ القَمرِ على النُّعوشِ الْمُسْتَعْمَلَةِ / أزرعُ الأشجارَ في دَمِ الرِّياحِ/ فاطمئِن أيها الرُّكامُ / سَوْفَ تَنْبُتُ الجماجمُ على أغصانِ المطرِ / ويأكلُ الجرادُ لَحْمَ الشَّفقِ/ وابتسمْ أيها الفَراغُ / سَيَقَعُ دَمِي الساخنُ في العصيرِ الباردِ /
     أيها المنْسِيُّ بَيْنَ سَلالِمِ الرَّمادِ/ جِسْمي رَحيلُ البَرقوقِ إلى خَيَالِ الدُّودِ / فاقتلني أيها الخريفُ شَابَّاً / لأظلَّ شَابَّاً إلى الأبدِ / الحزنُ خَيْمتي في انطفاءاتِ المطرِ / بَدأتُ أشجاراً / فَهَل تتمزَّقُ أجنحةُ الصَّقْرِ على مرايا السَّياراتِ ؟ / الليلُ قَلْبُ الحطبِ / وَبَيْنَنا أشواقُ الرَّعدِ وأحزانٌ غامضةٌ / رُبَّما يَقْتُلُني العَسَسُ في ذَلِكَ المساءِ الغامضِ / كَيَمامةٍ تَبكي على أُرجوحةِ الظهيرةِ / هَل ستبكي عَلَيَّ دِيدانُ الحقلِ ؟ / حَقيبةُ السَّفَرِ عِندَ بابِ غُرْفتي / والبَعوضُ يتشمَّسُ على عَقاربِ السَّاعةِ / ذاكرتي بِلا جُدْران / وَجُدْرانُ غُرْفتي جَرادةٌ مَشْلولةٌ /
     خَرَجْتُ مِن لحمي جائعاً / عَطَشي يَحْمِلُني إلى عَطَشٍ/ وَجُيوبي خَاليةٌ إِلا مِن ذِكْرياتِ النَّخيلِ/ نُفَتِّشُ في جُيوبِ الجنودِ القتلى/ عَن نُقودٍ لا تَحْمِلُ صُوَرَ الخليفةِ / والراهباتُ يَبْحَثْنَ في مَساميرِ الصليبِ / عَن خُبْزِ العَشاءِ الأخيرِ / مَشَيْتُ والمساءُ يَتقمَّصُني / نَزَلَتْ مِن ذاكرتي دُموعٌ / لا أَعْرِفُ جِنْسِيَّتَها / الأزهارُ في نُعاسِ الصُّقورِ / تبكي على الشجرِ القَتيلِ/ تُوَزِّعُ البُروقُ دَمِي عَلى شُيوخِ القَبائلِ / كَما يُوَزِّعُ الْمُخْبِرُونَ البطاطا المقليةَ في مَطاعمِ الوَجَباتِ السَّريعةِ / صَارَتْ أعلامُ القَبائلِ ثِياباً للرَّقْصِ/ وَتُزَيِّنُ الإماءُ سُوقَ النِّخاسةِ بالجوازاتِ الدُّبْلوماسيةِ / وَالحمَامُ يَبيضُ في قَفَصِي الصَّدْرِيِّ / وَلاعِباتُ التِّنسِ يَسْتَعْمِلْنَ مُزِيلَ العَرَقِ / أثناءَ حَفْلةِ إِعدامي /
     في ليالي الشِّتاءِ تنفجرُ ذِكْرياتُ العِشْقِ / فازرعْ جَسَدَ الفراشةِ بالألغامِ / قَبْلَ أن يَكْسِرَ الهلعُ رُموشَنا / وَضَعْتُ استقالتي على مَكتبِ النَّهْرِ / فلا تَحْقِدي عَلَيَّ يا سَيِّدةَ الصَّنَوْبَرِ/ كُلَّما نَظرتُ في عَيْنَيْكِ رَأيتُ تفاحَ المجازرِ / يَتَفَجَّرُ دَمي مِن حِجارةِ قَرْيتي خَوْخاً ومُسدَّساتٍ / مَاتت الحضارةُ / والتاريخُ مَشْغولٌ بِتَحْميلِ الجثثِ في عَرَباتِ الرِّيحِ / وَالبَقُّ أَكَلَ البراويزَ على الحِيطان / وانتحرت الذِّكرياتُ / مَطَرٌ يَنْحِتُ شَواهِدَ القُبورِ / وَدَمُ الحيْضِ يَسيلُ على النَّظاراتِ السَّوْداءِ / 
     عِندما تَضيعُ الدُّوَلُ / أَقِمْ دَوْلَتَكَ في قَلْبِ امرأةٍ / وَكُن قَريباً مِن الحبِّ القاتلِ / سَيَجْرِفُ الموْجُ كُثبانَ الذِّكرياتِ / وَتَظَلُّ الصحراءُ بِلا رِمالٍ / أحزانُ النِّساءِ في الليالي الباردةِ / فاعشقْ لَمَعانَ الرُّخامِ في مقابرِ الفراولةِ / قَبْلَ أن يَكْسِرَ الخريفُ مَزْهرياتِ قُلوبِنا / سَأَكُونُ قَتيلاً مَشْهوراً تَحْتَ شَمْسٍ غَريبةٍ / وأنا لَسْتُ أنا / لكني الْمَلِكُ الْمُتَوَّجُ عَلى رَمْلِ البَحْرِ /
     يا شَاطِئَ الفراشاتِ الحزينةِ / قُلْ لِلبُحيراتِ المحروقةِ / إِنَّ العُشاقَ يَسْكُبُونَ دُموعَهم في المزهرياتِ المخدوشةِ / أغنياتُ الظِّلِّ الحجَريِّ / ورائحةُ الأُنوثةِ المنسِيَّةُ / ضَاعَت النُّعوشُ التِّذكاريةُ في حُقولِ القُطْنِ/ والأراملُ يَخْلَعْنَ بَلاطَ أوْردتي كالزِّنزانةِ الانفراديةِ / والغُزاةُ يَتَقاسَمُونَ المهامَّ الأمنيةَ / لِمَنْعِ الشَّغبِ في جِنازتي / وغاباتُ البارودِ تَمْشي في عِظامي / تَختلطُ دَقَّاتُ قَلْبي بِدَقَّاتِ الساعةِ في حُقولِ الدَّمِ / وأنا تائهٌ بَيْنَ رَجْفةِ الحبِّ الأوَّلِ / وَرِعشَةِ الموْتِ الأوَّلِ / العارُ المرصَّعُ بالمومياواتِ / أنا الأبُ الرُّوحِيُّ لِحَبْلِ المِشْنقةِ/ وَسَوْفَ أُدْفَنُ ذَاتَ مَساءٍ عِندَ قَبْرِ أُستاذي / سَتَذْبَحُ الرِّياحُ نَفْسَها بالسَّيْفِ الذي عَشِقَتْهُ / والبَقُّ التهمَ خَشَبَ البَراويز / أشكالُ ذَبْحي مَزْهرياتٌ للغُرباءِ / وأنا الغريبُ بَيْنَ عُروقي والصَّنَوْبَرِ المنبوذِ /
     لا تَحْزَنْ أيها الرَّمْلُ / لَمعانُ عُيونِكَ سَيَكْسِرُ بَلاطَ سِجْنِكَ / لكنَّ الزوابعَ لم تَتْرُكْ لَنا فُرصةً / للبُكاءِ أمامَ قُبور أُمهاتنا / تعيشُ ظِلالُنا في ممالكِ الطاعون / حَيْثُ يَسيلُ دَمُ الحيْضِ تَحْتَ المطرِ / أُبَلِّطُ زِنزانةَ الرُّوحِ/ وَأسمعُ بُكاءَ امرأةٍ يأتي مِن شُقوقِ الليلِ/ تاريخُ الأعاصيرِ المزوَّرُ / لَوْحةٌ اشترتها أميرةُ الأنقاضِ بأموالِ الشَّعْبِ / وقالتْ لِعَشيقِها إِنَّها قَد رَسَمَتْهَا / والأسرى لم يَجِدوا ظِلالَهم / لِكَي يَرْسُموا ضَفائرَ أُمَّهاتهم على قُيودِهم / الرِّياحُ تَدْفِنُ النِّفاياتِ النوويةَ في صُداعِ الشَّفَقِ / أركضُ في شوارعِ الليلِ / فأتزوجُ أحزانَ الأرصفةِ / رَمَيْنا جُثَثَ الجنودِ في البُحيرةِ / وَرَاياتُ القبائلِ صَارَتْ مَلابِسَ داخليةً للسَّبايا / مُحْسِنٌ يتكفلُ بِنَفَقَاتِ جِنازةِ اليَمامِ / والهِضابُ نَسِيَت الجثثَ المسْتَعْمَلَةَ على الأثاثِ المسْتَعْمَلِ / وَيَعْلو صُراخُ النِّساءِ في الأقبيةِ البَاردةِ / تَصْنَعُ البَناتُ صُلبانَهنَّ مِن السِّيراميك/ لَم تنتظرني هِندُ بِنْتُ النُّعمان في الصَّوْمَعةِ/ ولَم تنتظرني الأمُّ تيريزا في غُرفةِ الاعترافِ / كانت الرِّمالُ تَنْقُلُ النهرَ إلى المستشفى / والطحالبُ تَخْرُجُ مِن ثُقوبِ جِلْدي / يا مَن تَعيشُ في حُفَرِ المجاري / وَتَحْلُمُ بِجَدائلِ الملِكَاتِ / أيها المنْفِيُّ في دَمِكَ / المقتولُ على ضِفافِ زَفيرِكَ / يا وَرْدةً تتلاشى في مِدْخنةِ الدَّيْرِ / إِنَّ اكتئابَ الراهباتِ أكبرُ مِن الصَّليبِ / أيها المحكومُ بالحنين / سترى ضَفائرَ أُمِّكَ مُعلَّقةً على حَبْلِ مِشْنَقَتِكَ / فِرَاشُ الاحتضارِ جاهزٌ دائماً / والراهباتُ يَخْدِمْنَ ضُيوفَ الكاردينالِ رَغْماً عَنْهُنَّ /
     ألغيتُ دَساتيرَ صَالةِ القِمارِ / والضَّبابُ يُحَطِّمُ الأرقامَ القِيَاسيةَ الْمُسَجَّلَةَ بِاسْمِ الرَّمادِ / ذَلِكَ الغريبُ سَيأتي مِن عُروقِنا / يُعيدُ الألوانَ لِمَلامِحِ العَصافيرِ / وَيَزرعُ رِقابَنا في ضَوْءٍ يَقتلعُ مِقْصلةَ الغِرْبان / أجسادُ الفُقراءِ سَجَّادٌ للعَرباتِ العَسكريةِ / وَرُموشُ اليتيماتِ استراحةٌ صَحْراويةٌ للجُنودِ الخاسرين / رَجفةُ العِشْقِ في مَمالكِ الجرادِ / وخَلاخيلُ الإِمَاءِ تترسَّبُ في بَراميلِ البَارودِ /
     لا تَحْزَنْ على الثلجِ / حِينَ يَشْنُقُ نَفْسَهُ بِجَديلةِ أُمِّهِ / إِنَّ جَدَائِلَ أُمَّهاتِنا حِبَالُ مَشانِقِنا / هَذهِ جَماجِمُنا مَصابيحُ عَلى أسْوارِ الطوفان / والأمطارُ سَوْفَ تَنطفئُ في قِمَّةِ لَمَعَانِها / أُصغي إلى كَلامِ الزَّيْتُونِ المحاصَرِ في أعيادِ الرُّعْبِ / نَحْنُ قَشُّ الإسْطبلاتِ/ نُوَرَّثُ كالجواري في بَلاطِ الخلفاءِ / بِعْنا حَنَاجِرَنا في السُّوقِ السَّوْداءِ / مِن أجْلِ الرَّاتبِ الشَّهْرِيِّ / مِتْنا قَبْلَ أن نَموتَ / نَحْنُ حُفاةٌ نرتدي عُرْيَنا / نَخجلُ مِن أسماءِ آبائنا / وَنَفتخرُ بِقُبَّعاتِ السُّياحِ /
     كَلا / هذا زَمَنٌ لا يُرَوِّضُهُ السَّلاطين / زَمَنٌ اختلطَ بِدِمائنا / فصارَ شَجَراً أمامَ ذَاكرةِ الإبادةِ / مُنْتَصَفُ الليلِ / وَمُنْتَصَفُ النَّزيفِ / يَنمو وَبَرُ الجِمَالِ على خُدودِ الأيتامِ / قَفَصي الصَّدْرِيُّ زِنزانةٌ مَكْسورةٌ / وَرُموشي بُندقيةٌ آلِيَّةٌ / لم تَلْمَسْها لاعبةُ التِّنسِ / المساءُ يُخَبِّئُ الفُقراءَ بَيْنَ شَعراتِ رُموشِهِ / وَجُروحُ الشَّفَقِ طَريقٌ لِعَرَباتِ نَقْلِ الجنودِ/ لم يَلْتقِ القَمرُ والشَّمْسُ وَجْهاً لِوَجْهٍ / وأنا الْتَقَيْتُ مَعَ البَحْرِ في لَحْظةٍ/ نَسِيَتْهَا مِلَفَّاتُ البُوليسِ السِّياسِيِّ/ سيأتي النِّسيانُ مِن سُعالِ الْخُلْجانِ / يُقَبِّلُني قَمْحُ الموانِئِ/ بَيْنَما يُساقُ إلى الذَّبْحِ البطيءِ/ مَا المنفَى إلا أنا / العِشْقُ مَسافةٌ بَيْنَ نَعْشَيْنِ مِن القَصْدير / وأنا أركضُ بَيْنَ جُثتي الناعمةِ وَظِلالِها الخشِنةِ / مِكْياجٌ غَامِضٌ عَلى عُشْبِ الأضرحةِ / وَكُلما سَألتُ عَن فَراشةٍ / عَرَفْتُ أنها مَاتتْ / سَيَقْتُلُكَ البَحْرُ يا صَديقي / وَلَكِنْ / ابْقَ عَاشِقاً لَهُ /

     تكتحلُ أراملُ الجنودِ بالبارودِ / والحشَراتُ تُغطِّي جُثمانَ قَوْسِ قُزَحَ / والْحُبُّ هُرُوبُنا الأبَديُّ وعَذابُنا اللذيذُ / فَاهْرُبْ مِن الْحُبِّ كي نلتقيَ في متاهةِ اللوزِ / واخْتَرْ رَقْمَ قَبْرٍ مُمَيَّزاً / كَي تُحِبَّكَ ابنةُ حفَّارِ القُبور .

11‏/05‏/2017

إيفو أندريتش ومعاداة الإسلام

إيفو أندريتش ومعاداة الإسلام

للكاتب / إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 11/5/2017

................

     وُلد إيفو أندريتش( 1892_ 1975) في مدينة ترافنيك في البوسنة . وهو أديب وسياسي بوسني _ يوغسلافي مُعاصر . هو بوسني الأصل ، ولكنه أعلن أنه صِربي بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب انتمائه إلى صرب البوسنة .
     تُوُفِّيَ والده وهو ابن عامَيْن، وأنهى دراسته الثانوية بصعوبة في مدينة سراييفو ( عاصمة البوسنة والهرسك ) ، ودرس الأدب والتاريخ في زَغْرِب ( عاصمة كرواتيا ) في الفترة 1912_ 1913 ، وفيينا ( عاصمة النمسا ) في الفترة 1913_ 1914.
     نشأ أندريتش في بيئة متمازجة من المسلمين والمسيحيين واليهود ، وهذا الأمر ترك بصمةً مُؤثِّرة في رواياته . بدأ حياته سياسياً في خدمة الأهداف التوسعية لمملكة صربيا . وأسَّس في أواخر عام 1911 " منظمة الشبيبة السِّرية " التي عُرفت لاحقاً باسم " البوسنة الفتاة " بعد أن تمكنت من اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو(1914).وكان ذلك سبباً في اندلاع الحرب العالمية الأولى.
     في نهاية الحرب ، وتقديراً لخدماته ، تَبَوَّأ أندريتش مكانةً سياسيةً في الدولة الجديدة ( مملكة يوغسلافيا ) التي كانت قد توسَّعت عن مملكة صربيا . وفي عام 1920 ، انتقل إلى العمل الدبلوماسي في الخارج ، وتنقَّل في بلدان كثيرة .
     حصل على الدكتوراة من جامعة غراتس النمساوية عام 1924عن أطروحته " تطور الحياة الروحية في البوسنة تحت تأثير الحكم التركي " . وفي عام 1937 ، أصبح نائباً لوزير الخارجية . واختير في عام 1939سفيراً ليوغسلافيا في برلين . وفي عام 1941 ، عاد إلى بلغراد ( عاصمة صربيا ) بعد الغزو الألماني ليوغسلافيا ، وعاش هُناك في عُزلة تامة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ، مُفضِّلاً أن يتفرَّغ لكتابة رواياته ، لئلا يُؤخَذ عليه أي موقف من الحرب الدائرة .
     في عام 1946، حصل على جائزة الدولة عن روايته" جسر على نهر درينا ". وفي العام نفسه، أصبح رئيساً لاتحاد الكتاب في يوغسلافيا . وتُعتبَر روايته " الفناء الملعون " ( 1954) أهم رواياته على الإطلاق،وهي التي ساهمت بشكل كبير في منحه جائزة نوبل للآداب(1961). وهي رواية تتَّسم بالواقعية الفلسفية والتاريخية، إلى جانب النَّزعة الإنسانية ، مع التأكيد على القيم الروحية ، وأهمية الحضارات القديمة والحديثة . وتحكي الرواية قصة راهب مسيحي مسجون في سجن تركي في إسطنبول(عاصمة الخلافة الإسلامية)، حيث يتعرَّف إلى باشا تركي مسكون بهاجس أحد السلاطين القدماء ، كما تُقدِّم الرواية شخصيات متنوعة مِثل : اليهودي المتشكِّك ، وقراقوش التركي غريب الأطوار ، والرُّهبان الحاسدون في الدَّير البعيد في البوسنة .
     لاقت رواياته رواجاً عالمياً بعد فوزه بجائزة نوبل . وبعد عام 1967 ، أُثيرت أسئلة كثيرة حول نقاط غامضة في نشاطه السياسي المشبوه ، وحول مواقفه المعادية للإسلام والمسلمين في يوغسلافيا ، سواءٌ أثناء عمله في الخارجية ( 1937_ 1939) ، أو في رواياته .
     تتميَّز رواياته ، وخاصة " جسر على نهر درينا " ( 1945). و" وقائع مدينة ترافنيك "      ( 1945)، باعتمادها على مصادر تاريخية مُتحيِّزة وانتقائية وغَير مَوثوقة، تخدم الخط السياسي للمؤلف . ويَبدو هذا الموقف واضحاً في أُطروحته للدكتوراة التي رَفض أندريتش أن تُترجَم أو تُنشَر وهو حَي. وهذا الرفض يحمل دلالة شديدة الخطورة ، ويُثير أسئلة حول مَصادره ومواقفه الفكرية وطبيعة كتاباته .
     لقد كانت العلاقة بين الشرق والغرب هي الموضوع الأساسي في كتابات أندريتش . ومن الواضح أن هذا الموضوع كان يُسيطر على تفكيره وتفاصيل حياته . وقد كانت كلمة " الجسر " مُهيمنة على أعماله الأدبية ، وكأنه يَقصد ذلك الجسر الرمزي الواصل بين الحضارات والأمم والشعوب . لقد أرادَ صناعة جسر يصل بين الشرق والغرب ، ولكنَّ المشكلة تَكمن في طبيعة هذا الجسر ، حيث إِنَّه شَيَّده وفق أفكاره الذاتية ووجهة نظره الشخصية ، دُون تقديم أفكار الآخرين بشكل صحيح، ولا عَرْض وُجهة نظر الطرف الآخَر بأمانة ودِقَّة . والتحيُّز الواضح وغيابُ الموضوعية جَعلاه عُرضةً لسهام النقد ، والتشكيك في مصادره الفكرية والتاريخية .

     وقد كان التاريخُ قيمةً أساسية في أعماله الأدبية ، تُسيطر على تفكيره . وهذا يُفسِّر اهتمامه الشديد بالرواية التاريخية ، والعودة إلى الماضي . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، رواية " الفناء الملعون " تَدور أحداثها في عام 1432م ، وتَحكي عن رَجل تُخيِّل نَفْسُه تناسخاً روحياً مع جمشيد ( ابن السلطان محمد الفاتح ) . وروايته " وقائع مدينة ترافنيك " تدور أحداثها في عام 1560م، وتحكي عن الثورات التي قامت في المدينة للانفصال عن الحكم العثماني في تلك الفترة. وروايته " جسر على نهر درينا " تدور أحداثُها عام 1571 ، وتحكي عن الأحداث التي شهدتها مدينة فيتشيغراد . وهذا الجسر الحجري الشهير أُقيم على نهر درينا بمدينة فيتشيغراد ، وكان الغرض من إقامته أن يربط بين البوسنة والصرب ، وهما يومئذ إقليمان من أقاليم الإمبراطورية العثمانية .

04‏/05‏/2017

سان جون بيرس والغربة الأبدية

سان جون بيرس والغربة الأبدية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 4/5/2017

..................

     وُلد الشاعر والدُّبلوماسي الفرنسي سان جون بيرس ( 1887_ 1975) في إحدى جُزر الأنتيل . اسمه الحقيقي ألكسي سان ليجي . انتقل إلى فرنسا في 1898 للدراسة بمدينة بوردو . وفي عام 1914 ، التحق بوزارة الخارجية ، حيث تولى عدة مناصب دبلوماسية في بكين وواشنطن ، ثُمَّ ترقَّى إلى منصب السكرتير العام لوزارة الخارجية .
     عاش بيرس حياة الغربة والترحال الدائم، وهذا الأمر جعله يبتعد في الرؤية الفكرية ، والمعالجة الشِّعرية . وهذا سبب تَمَيُّزه عن مُعاصريه من شعراء النصف الأول من القرن العشرين مِثْل : لوركا ، وكافافيس ، وماياكوفسكي .
     لقد حَوَّلته الغربة إلى إنسان عائش في الأحلام والذكريات ، وصار يرى الأمور من منظور فلسفي مُتميِّز ومُختلف عن الآخرين . كما أنَّ الترحال الدائم جعله يَلتقي بأشخاص مختلفين دينياً وعِرقياً وفكرياً ، كما ساهم في تَعَرُّفه على عادات الشعوب وثقافاتها . ولا شَكَّ أن هذا الانفتاح على الحضارات في الشرق والغرب ، ساهمَ بشكل كبير في توسيع ثقافته ، وإبعاده عن النظرة الأحادية الضَّيقة، وزيادة خِبرته العملية.وهذا انعكسَ إيجاباً على مستواه الفكري وإبداعه الشِّعري.
     لقد كان بيرس شاعراً شديد الحساسية والتميز . يمتلك إحساساً بالرِّفعة والعُلُوِّ . وعلى الرغم من كثرة أسفاره ، واختلاطه بكثير من الناس أثناء ترحاله الدائم ، إلا أنه كان دائم العودة إلى نَفْسه ، ولا يَعيش إلا مع ذاته . كان معتزلاً بصورة دائمة ، وغائباً باستمرار .
     والعُزلةُ والاعتزالُ والغيابُ ، كُلها قيم فكرية ذات تأثير هائل في حياته الشخصية ، وواضحة في شِعره وأفكاره . لقد انعكست تفاصيل حياته الشخصية على أشعاره . وصار مَتنه الشِّعري أشبه بوصفة سِحرية، وخليط من الأحلام الضائعة، والذكريات البعيدة ، والبشر الراحلين في الزمان والمكان . وكأنَّ الشاعر يُقدِّم للبشرية خطاباً شِعرياً مترامي الأطراف ، ونمطاً صعباً وعسيراً على الفهم ، يمتلأ بالصياغات اللغوية الغامضة ، ويتحرَّك ضمن صوت مُقنَّع وأفكار لا نهائية .
     صاغَ بيرس خطاباً شِعرياً شديد التعقيد على الصعيدين اللغوي والفكري ، وكأنَّه خِطاب من العالَم القديم لأحد الخطباء الرومان ، تَمَّ إعداده لِيُلقى على الأمراء وعِلية القَوم . وهذا يدل على أن الشاعر كان نُخبوياً إلى أبعد درجة ، ولَم يكن معنياً بالوصول إلى الناس ، أو تحقيق جماهيرية ونجومية بينهم. لقد آمنَ أن الشِّعر مِرآة الرُّوح الغامضة ، وفن نُخبوي سِرِّي لا علاقة للعوام بِه .
     يمتاز شِعر بيرس بغنائية ذات طبيعة ملحمية ، لا نظير لها بين مُعاصريه . كما أنه يُعتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعر الفرنسي . فعلى المستوى التقني ، نجده يتخلى عن البيت الشِّعري ، لِيُؤسِّس المقطع الشِّعري المتكامل الذي يُشبِه الفقرة ، كما أنه تخلى عن بحور الشِّعر الفرنسي التقليدية ، وراحَ يكتب الشِّعر على شكل إيقاعات متتالية ، ذات موسيقى خاصة بها .
     إن الغربة روحياً ومكانياً تتجلى بكل وضوح في أدق تفاصيل حياة الشاعر . فقد وُلد في أرض غريبة ( إحدى جُزر الأنتيل ) . وتَقَلَّدَ مناصب دبلوماسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في بلادٍ بعيدة . ثُمَّ عاش حياة الاغتراب منذ الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية .
     وكل هذا التشرد في المدن والبلاد والجغرافيا ، لَم يفصله روحياً عن العالَم ، ولَم يُؤثِّر سلباً على حساسيته الشِّعرية، ومرجعيته الفكرية. فقد نشر ديوانه الشِّعري الأول"مدائح " عام 1911 تحت اسمه الحقيقي. وبعدها يصمت لمدة ثلاثة عشر عاماً،مع انقطاع عن الوسط الشِّعري الفرنسي، باستثناء صديقيه الشاعر بول كلوديل ، والكاتب فكتور سيغالين الذي كان دليله لمعرفة العالَم الآسيوي مُمثَّلاً بالمجال الثقافي الصيني .
     وهذا الابتعاد جعله بمعزل عن التأثر بالتيارات الشِّعرية في عصره كالسريالية ، والشِّعر الملتزم النضالي. وقد كان كثيراً ما يَسخر من السرياليين ، ويَعتبرهم عائشين في الأوهام والخديعة البصرية.
     وفي عام 1924 ، أصدر ديوانه الشِّعري الثاني" صداقة الأمير " تحت اسم سان جون بيرس ، وهو الاسم الأدبي الذي اختاره لنفسه ، ليتخفى وراءه طيلة حياته الأدبية .
     وفي العام نفسه ، نشر قصيدته الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعراً عالمياً . و " آناباز " ليس اسماً لفتاة كما يُخيَّل إلى البعض . بل هو تعبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات " .
     وبعدها يصمت مرةً أخرة لمدة ثمانية عشر عاماً ، ثُمَّ يُصدر قصيدته " منفى " التي نشرها في ثلاث مدن في آنٍ معاً : شيكاغو ، وبوينس آيرس ، ومرسيليا ، كما ظهرت بباريس في طبعة سِرِّية . ثُمَّ نشر بشكل متتابع : " قصائد إلى الغريبة " ( 1943) ، ويتلوها بقصيدة " أمطار "    ( 1943) . ثُمَّ قصيدة " ثلوج " ( 1944) ، ويَتلوها بقصيدة " رياح " ( 1946) . وفي عام 1953 ، جمع كُل هذه القصائد المطوَّلة في كتاب واحد عنوانه ( أعمال شِعرية ) .

     وكل هذه الإنجازات الشِّعرية ذات الطبيعة الملحمية المتفرِّدة، ساهمت في فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1960 . 

01‏/05‏/2017

سنلتقي عند شاهد قبر مجهول / قصيدة

سنلتقي عند شاهد قبر مجهول / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد 

...................

 زَرَعَ الضبابُ دُمُوعَهُ في جَسَدِ ابنةِ عَمِّهِ / والحزنُ الذي زَرَعَني نَسِيَ أن يَحْصِدَني / ضَاعَ المِنْجَلُ بَيْنَ أكوامِ الجثثِ / والبَعوضُ يَعيشُ في دَمِ الشُّطآنِ / وَيَحْلُمُ بأرملةِ البَحْرِ / اضْحَكْ أيها العَدَمُ / سَوْفَ تتعلمُ الفَتَياتُ المشْيَ بالكَعْبِ العالي في جِنازتي / افْرَحْ أيها الثلجُ الذي يُخَطِّطُ لاغتيالِ الصَّدى / إِنَّ الصليبَ بُوصلةٌ تُرْشِدُ الأشجارَ إلى بُكاءِ الراهباتِ / الطريقُ إلى الدَّيْرِ مُعَبَّدٌ بِرَاياتِ القَرَاصنةِ / والدُّودُ يَتَشَمَّسُ في شُقُوقِ جِلْدي / أيها المنْفِيُّ عَن ذاتِكَ في ذَاتِكَ / سَيُنْقِذُكَ الجنونُ مِن حُمُوضةِ الذِّكرياتِ / تلتصقُ العَناكبُ على جُدرانِ شَراييني / وَنُعوشُ الفقراءِ مُرَتَّبةٌ على سُطوحِ القِطاراتِ /
     أُوصيكَ أيها النَّهْرُ الأطرشُ/ إذا سَمِعْتَ نَبَأَ اغتيالي في المِذْياعِ/ فَغَيِّر الإذاعةَ / ولا تَكْرَه أُمَّكَ / إِذا وَرَّثَتْكَ الوَسْواسَ القَهْرِيَّ / وَرَحَلَتْ إلى لَمَعانِ الصَّنَوْبَرِ في المقابِرِ / ولا تَكْرَه أباكَ / حِينَ يَخْرُجُ الجرادُ مِن شُقُوقِ شَفَتِهِ / حُزْنُ الفَرَاشةِ نَقيضُ البَحْرِ / فاغرقْ في الهديلِ المالحِ / أيها الغَريبُ السَّائرُ على لَحْمِ البُحيرةِ / عِندما تَموتُ سَتَحْرُسُ ظِلالَكَ نُعومةُ الرُّخامِ / الذي مَشَى عَلَيْهِ الجنودُ المهزومون / المساءُ أزرقُ كَدِمَاءِ شَرْكسيةٍ حَزينةٍ/ بِيتزا بِجَانِبِ جُثةِ المطرِ / وَكُلَّ يَوْمٍ / يَذهبُ الفَيَضانُ إلى خِزانةِ مَلابِسِ زَوْجَتِهِ الميْتَةِ / وَيَشُمُّ خُيوطَ القُماشِ / يَشُمُّ رِعشةَ الخريفِ الممزوجةَ بِعِطْرِ الأغرابِ / وَيَرْفَعُ الرايةَ البَيْضاءَ أمامَ جَيْشِ الدُّموعِ /
     انكسرت الفناجين / لكننا نَشربُ القَهْوةَ بِرَغْوَةِ الدَّمِ / تملأ البدوياتُ الجِرَارَ بِسُعالِ القَمرِ/ والقَتيلُ يَطْرَحُ الأسئلةَ على جُثمانِهِ/ تَرْحَلُ الأشجارُ في مَوْسِمِ البَيَاتِ الشَّتَوِيِّ / والأرصفةُ تَذهبُ إلى شَهْرِ العَسَلِ / لكنَّ الأزمنةَ مَكْسورةٌ / مَطَرٌ للأحزانِ يَطْرُقُ أبوابَ المستشفياتِ المخَصَّصةِ للأغنياء / إِنَّ النَّهْرَ مِثْلُ جَسَدي / يَحْرُثُهُما الصَّدى أثناءَ هِجْرةِ الطيورِ /
     لم يَستطع المساءُ أن يَلْمَسَ خَاتَمَ الرِّياحِ / ولم تَقْدِر التِّلالُ على شِراءِ فُسْتانِ العُرْسِ/ فابتعدي أيتها الغاباتُ عَن مَداري لِكَيْلا تَحْتَرقي/ أَهْرُبُ مِن لحمي/ فأسقطُ في شَهيقي / ماتَ النهارُ مِن الجوعِ / ماتَ الليلُ مِن التُّخمةِ / سَتُصبحُ أصابعُ الذبابةِ صَالةَ تزلجٍ للأرستقراطياتِ/ وَقَدْ يَدْفِنُ العُشَّاقُ عَصِيرَ البُرتقالِ في المرتفعاتِ الجبليةِ/ رَائحةُ جُثثِ الراهباتِ تتزوَّجُ رَائحةَ البَصَلِ في مَطْبخِ الدَّيْرِ / ولم أَجِدْ في سَراويلِ البَحْرِ غَيْرَ عَوَاصِمِ الطاعون / والحرَّاسُ يُسَلِّطُونَ الأضواءَ عَلى وَجْهِ الشَّاطِئِ / لِمَنْعِهِ مِن النَّوْمِ / يَسْرِقُونَ النهرَ مِن أبَوَيْهِ / وَيَضَعُونَهُ في مَلْجأ للأيتامِ / انكسرَ المرْمَرُ في وَصَايا الزيتون / وَحْشةُ أجزائي / وتوهُّجُ أشلائي / يَقْطُرُ الوَطَنُ عَسَلاً لِغَيْرِنا / والأحزانُ تتفجرُ في موانئِ الليلِ / تَحْمِلُ السُّفُنُ النُّعوشَ الغامضةَ/ والبَحَّارةُ الغَرْقى يَدْفِنُونَ في عِظامهم مَناديلَ النِّساءِ / ستأتي إلى المِيناءِ امرأةٌ / وتسألُ رَمْلَ البَحْرِ عَن قَبْرِ زَوْجِها / الموْجُ الأجنبيُّ / وَدِمَاءُ الحيْضِ تَسيلُ على اللوحاتِ الفنيةِ / في مَتْحَفِ التَّطهيرِ العِرْقِيِّ /
     حَجَرْتُ عَلى بُكائي / لأُريحَ الأشجارَ مِن ضَجيجِ الدُّموعِ / فاقْطِفْ بُرتقالَ المذابحِ عَن أغصانِ دَمْعي / أطفالُ الموتِ يَعيشونَ في أدغالِ رُموشي/ والموتُ يُوَقِّعُ على طَوابعِ البَريدِ النادرةِ / فلا تُسافِرْ بَيْنَ كُرياتِ دَمي/ إِنَّ عِظَامي أثاثٌ لِبُيوتِ الأراملِ / أنا جُثةٌ معدنيةٌ تتفجَّرُ في مَداراتِ الياسمين / أبكي في مُسْتَوْدَعاتِ المِيناءِ وَحيداً/ والقَمَرُ يَرمي عَلى أظافري حُزْنَ العالَمِ/ والهدوءُ الأعرجُ يَحْرُسُ توابيتَ الغرباء /
     عِشْتُ قَبْلَ الآن / وَمِتُّ قَبْلَ الآن / فَقَدَت الزِّنزانةُ غِشاءَ بَكارتها / لَكني أُدافعُ عَن شَرَفِ الغبارِ / يَتَوَكَّأُ الضَّبابُ عَلى بُندقيتي / والجِرذانُ تأكلُ أحذيةَ الكَعْبِ العالي / والأرستقراطياتُ في مَرَاكزِ التَّسوقِ / اختفى صَهيلُ الفِضَّةِ / فابدأْ مِن حَيْثُ انتهى المطرُ / مُؤتمرٌ صَحَفِيٌّ سَرِيعٌ يَجْمَعُ القاتلَ والمقتولَ / في صَالةِ البَاليه المفتوحةِ للطاعون /
     لَيالي الوَخْزِ / وناقلاتُ النِّفطِ تَغْرَقُ في مَعِدَةِ العواصفِ / بُقَعُ النِّفطِ على جُلودِ الجواري / وَسَوْفَ تنكسرُ عُيونُ الجاريةِ أمامَ سَيِّدِها / حِينَ تنكسرُ أجنحةُ الحمَامِ الزَّاجلِ في مُدُنِ الملاريا / أطفالٌ يَبِيعُونَ أضرحةَ آبائهم على الإشاراتِ الضَّوئيةِ / والأسرى لم يَأتوا لِيأكلوا الكافيارَ / في الرِّياحِ المسيَّجةِ بالحواجزِ الأمنيةِ /
     أيها الجسدُ المحنَّطُ في ظِلالِ العَناكِبِ/ أنا أبكي لأنني لم أَجِدْ وَقْتاً للبُكاءِ/ أحزانُ الشَّجرِ محروسةٌ بالكِلابِ البُوليسيةِ/ وكانَ طُمُوحُ الفَراشةِ أن تَموتَ في لَيْلةٍ مَاطِرَةٍ/ ذَلِكَ الغريبُ هُوَ أنا / كُلما نَظرتُ إلى المِرآةِ رأيتُ وُجوهَ الموتى / وفي بلادي / كُلما مَاتَ صَنَمٌ وَرِثَهُ صَنَمٌ/ هُناكَ/ وُلِدْتُ طَيْفاً/ وَقُتِلْتُ حُلْماً/ تبني الطيورُ الجارحةُ أعشاشَها في مَناديلِ الأراملِ / كُلما فَكَّرْتُ في الرُّومانسيةِ / عَرَفْتُ أنَّ مَلَكَ الموْتِ سَيَقْضي عَلَيْها/ الموْتُ حقيقتُنا/ والحبُّ أُكذوبةٌ تَحْتَ شَمْسِ الجثثِ/ طَرَدني الشَّاطئُ حِينَ تقدَّمْتُ لِخِطْبةِ الرِّمالِ / لأني لا أَمْلِكُ غَيْرَ مِقْصَلَتي / جِسْمي أكثرُ مِن هَذَيان / وأقلُّ مِن رِعشَةٍ/ فابتعدْ عَن مَداري يا تفاحَ الإبادةِ لِكَيْلا تَحترقَ / أعيشُ في مَوْتي البطيء نَسْراً / أضاعَ رِيشَهُ في المجاعاتِ / مَا فائدةُ رِيشِ النَّعَامِ في وِسَادتي / وأنا نائمٌ عَلى فِرَاشِ الموْتِ ؟/ أحترقُ في أجفانِ غَزالةٍ / عَلى وَشَكِ الوُقوعِ في المِصْيدةِ / أنسحبُ مِن حَياةِ عَقَاربِ السَّاعةِ / لأنَّ عَقَاربَ الصَّحراءِ لَدَغَتْ أشعةَ القَمرِ / أنا المهاجِرُ في جَوارحي الجارحةِ/ والمسافِرُ في أعضائي المتحارِبَةِ / أَنْزِفُ قَشَّاً لإسطبلاتِ الصُّراخِ / ذَلِكَ المجروحُ هُوَ أنا / لم أَعْشَقْ بُحَيْرَةَ السُّعالِ / لكني تزوَّجْتُها لِكَيْلا تُصابَ بِصَدْمةٍ عَصبيةٍ /
     أيها القَنَّاصُ الذي يُراقِبُ بَصْمةَ دُموعي على زُجاجِ المقابِرِ / إِنَّ حِيطانَ بَيْتي مُزَيَّنةٌ بالجرادِ الوهَّاجِ / وَسَوْفَ تُولَدُ شَمْسٌ مِن الكُوليرا / كُلما مَشَيْتُ في الطريقِ / رَأيتُ جُثتي على الرصيفِ/ اترُكْني يا أنا/ كَي أَحْرُثَ الأزقةَ بِدَمعاتي/ بَلاطُ الزنازين السِّرِّيُّ / سَأَقْلِبُ الطاولةَ على كُلِّ الفَراشاتِ / وأَحْرِقُ كُلَّ أوراقِ اللعبِ / انتهت اللعبةُ / وَجَسَدي البَعيدُ طَاوِلةُ قِمَارٍ لِبَناتِ آوَى / حُكومةُ المذابحِ الإلكترونيةِ / والمدينةُ الضائعةُ / والحبُّ الضائعُ / أُقاتِلُ كُرياتِ دَمي بِسَيْفِ البُحيرةِ الخشَبِيِّ / وَصُداعي مُسَدَّسٌ للذبابِ المتمتِّعِ بالحصَانةِ الدُّبْلوماسيةِ / الغُموضُ المسمومُ يَسيلُ على رُموشِ بِنْتٍ/ سَرَقَها أبوها مِن الكُحْلِ / كَي يَئِدَها في صَحراءِ الشَّفقِ / يَا وَطَناً مَنثوراً في مِكْياجِ الضَّفادعِ/ وأقنعةِ السَّناجبِ/ تَمْشي أُنثى الضَّبابِ مَعَ كَلْبِها/ في سَراديبِ كنائسِ القُرونِ الوُسْطى/ وأنا أمشي مَعَ جُثماني في نَزيفِ التِّلالِ البلوريةِ /
     سَوْفَ تنسى الراهباتُ المكانِسَ في الكنائسِ / عِندما تتزاوجُ الأرصفةُ في المحاكِمِ العَسْكريةِ / ويَحتفلُ الغبارُ بالغبارِ / الحضارةُ فَأْرَةُ التَّجاربِ / والذِّكرياتُ حَقْلُ ألغامٍ / الشَّجرُ المختونُ في شِتاءِ الكَسْتناءِ / والصقيعُ يُطَوِّقُ العرائسَ المجبَرَاتِ على الانتحارِ/ تُزْهِرُ الرِّماحُ بَيْنَ شُعَيْراتي الدَّمويةِ/ وَعُرُوقي مَفْتوحةٌ لضفادعِ المستنقعاتِ/
     خُلْجانُ الإبادةِ / والمجاعاتُ الضَّوْئيةُ تُقَبِّلُ أعمدةَ الكَهْرباءِ / في مُدُنِ الرُّعْبِ / والأوسمةُ العَسْكريةُ تتساقطُ على الجِنرالِ أثناءَ الجِمَاعِ / تَدورُ كُؤوسُ الدَّمِ حَوْلَ أشْرعتي / وَكُلُّ رَغيفٍ أَطْلُبُهُ بِقِطْعَةٍ مِن لَحْمي / أنا اللغزُ/ مَوْتي يَفُكُّ شِيفرةَ أحزاني/ والأعشابُ حَوْلَ قَبْري سَتَكْشِفُ أسراري / سَتبكي أيها الحطبُ / وَلَن تَجِدَ أَحَدَاً يَمْسَحُ دُمُوعَكَ إلا المطرَ / تبكي الحِيطانُ لأنَّ بُكاءَ النباتاتِ يَخْلَعُ أظافرَ البِئْرِ/ الجسدُ مُتَكَرِّرٌ والمِشْنقةُ وَاحدةٌ / وإِعداماتُ الترابِ النَّقِيِّ / تُلَمِّعُ مَسَاميرَ نَعْشِ الكُوليرا / والهنودُ الْحُمْرُ يُناقِشُونَ حُقوقَ الإنسانِ / تَحْتَ أطيافِ الرَّصاصِ الحيِّ / والخيولُ تَمشي على الأسلاكِ الشَّائكةِ / على سُورِ المعْتَقَلِ / وعَرَباتُ السَّبايا تمشي في جَبينِ المطرِ / كُلُّنا نمشي إلى هاويةِ الكَهْرمانِ ضَاحِكِين / تَدخلُ قُرى الغروبِ إلى عَمُودي الفِقرِيِّ / وتجاعيدُ المذنَّباتِ مَمْزوجةٌ بالزَّعترِ البَلَديِّ / كُلُّنا نأكلُ لَحْمَ الأنهارِ في بَراري الذُّعْرِ / مَصابيحي مَمْلكةُ الفَراشاتِ الذبيحةِ / والأمواتُ لم يَجِدُوا أمواتاً يَعْتنونَ بِقَمْحِ الجِرَاحاتِ /  
     عِندما كُنَّا صِغاراً / ظَنَنَّا أننا أصْغَرُ مِن المِقْصلةِ / وَحِينَ قُتِلْنا عَرَفْنا أنَّ المِقْصلةَ أصغرُ مِنَّا / أَدْخُلُ إلى السِّجْنِ / فَلا أَجِدُ مَن يَسْتَقْبِلُني / وَأَخْرُجُ مِنهُ فلا أجدُ مَن يَسْتَقْبِلُني/ يُعانِقُني الشَّارعُ مَخْتوماً بِالشَّمْعِ الأحمرِ / والذبابُ يَخْرُجُ مِن احتضاري / أَحْفِرُ في غابةِ الجنونِ أجندةً للكَسْتناءِ / تَحْرُسُني مِن أزيزِ دُموعي / جِلْدي المشقَّقُ يَمتطي عَرَقَ الهِضابِ / والعصافيرُ تَقودني إلى قَبْرِ أُمِّي / أبني كُوخي في الصَّليلِ / والرؤوسُ المتطايرةُ أُغنياتٌ لِلْوَحْلِ العاطفيِّ / فلا تَحْقِدْ على الصَّحراءِ أيها الرَّمْلُ / انْزِع الأغطيةَ البيضاءَ عَن أثاثِ المنفى / لِتَصيرَ كَفَناً لِلْمَوْجِ / سَيَصْعَدُ الجرادُ مِن انتحاراتي / وهذا دَمِي أثاثٌ مُسْتَعْمَلٌ / دَخلتُ في نَشْوةِ الرُّعودِ / وَبَعْدَ اغتيالي / ستقرأُ الشركسياتُ أشعاري في المساءِ البَعيدِ / لَن يُقَدِّمَ البَرْقُ عصا إلكترونيةً للفَراشةِ العَمياءِ / كَي تَركضَ بَيْنَ أكوامِ الجثثِ / وَلَن تَسْرِقَ الذبابةُ العَرْجاءُ رِجْلاً صِناعِيَّةً / كَي تَرْقُصَ في حَفلاتِ القَصْرِ /
     كَم هِيَ قِصَصُ العِشْقِ المدفونةُ في المقابر ! / سَتَضْرِبُ الصاعقةُ الأرْزةَ/ وَهِيَ في قِمَّةِ مَجْدِها/ سُنْبلةٌ أضاعتْ خَارطةَ قَبْرِها / والأمواجُ تنهضُ مِنَ الأحكامِ العُرْفيةِ / سأقولُ للأشجارِ حِكايةً قَبْلَ النَّوْمِ / وإذا مَرَّتْ ظِلالُ الزَّوْبعةِ عَلى جَسدي / سأبكي مِثْلما يَبْكي خَشَبُ السُّفنِ الغارقةِ / النُّعاسُ البلاستيكيُّ يَمْشي إلى الصَّنوبرِ / والقواربُ مُحَمَّلةٌ بالنُّعوشِ وجَدائلِ الغَيْماتِ / أحزانٌ مُهَرَّبةٌ كالتَّبْغِ المهرَّبِ / وَسَوْفَ تزدادُ شُهْرَةُ الرياحِ بَعْدَ مَقْتَلِها / أنا المقتولُ في حَياةِ الأعشابِ / التي تَنمو بَيْنَ شراييني / السنابلُ تَصْعَدُ مِن قَبْرِ الحضارةِ / والزِّئبقُ يَغْسِلُ جَبْهةَ الضبابِ / لم أعتذِرْ للطوفان / ولم يَعُد البابونَجُ يَذْكُرُ رَاياتِ الغُزاةِ / أنسَى آبارَ الملاريا / كَي أتذكرَ غَيْمةً أَنْكَرَتْ مَعْرفتي / لم أَبِعْ أحزاني في سُوقِ النِّخاسةِ / لكنَّ دِمَاءَ العُشْبِ تَسيلُ على الصُّلْبانِ البلاستيكيةِ /

     عِندما يُغْرِقُني المساءُ بالمرايا / أخافُ لأنكِ لَسْتِ مَعي / يُهاجِمُني الليلُ بأحلامِ الطفولة / فأعودُ مُسدَّساً في عُلْبةِ مِكْياجِكِ / أيها الجسَدُ الأُنثويُّ الموزَّعُ بَيْنَ الألغامِ ورائحةِ البَصَلِ / ذَاكِرَتي مِن السِّيراميكِ / وأمشي عَلى بَلاطِ الإبادةِ/ وَلَسْتُ مِن شُعراءِ البَلاطِ / الرايةُ المكْسُورةُ / وَالعَبيدُ يُردِّدونَ نَشيدَ الحضارةِ / يَزْحَفُ الثلجُ الدَّمويُّ إلى أعضائي / وَقُبورُ الأطفالِ تتوهجُ في ظِلالِ النَّيازكِ / أُفَتِّشُ عَن قلبي المكسورِ في حُزْنِ الأرستقراطياتِ / المنثورِ في إِسْطَبْلاتِ الخيولِ / سَوْفَ تَكْسِرُكَ امرأةٌ في شِتاءِ الهياكلِ العَظْميةِ / فاكْسِرْ طَيْفَكَ / واصْعَدْ مِن جُثماني طَيْفاً .