القصيدة والموازنة بين الغموض والوضوح
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 3/12/2017
...................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 3/12/2017
...................
إن اللغة تُمَثِّل عاطفةً
يوميةً مُعاشة تنبثق من تجارب المنظور الفكري للتحدي الإنساني ضد أيديولوجيات الوهم
وثقافةِ الأساطير وصناعةِ الأصنام البشرية. وهذا التحدي لا يمكن أن يتكرس إلا بحدوث
صِدام بين الإنسان وذاته ، لأن هذا الصِّدام طَوْرٌ مهم لتشكيل حالات الاندلاع الشعوري
للفكرة ، وترجمةِ الأحاسيس الاجتماعية إلى لغة مرئية يَفهمها العقلُ والجسدُ معًا
. وهذه التكاملية التاريخية المتعلقة بمراحل تفسير دلالات المحاولات الشِّعرية لتثوير
المجتمع، تُشَكِّل تضاريسَ الصراع الحتمي بين القصيدة ومؤسساتِ القمع ، مما يؤدي إلى
توليد حالة انسجام لغوية مع توجهات المنظور المنطقي للطبيعة القصائدية ، وهكذا تتكرس
خصائصُ الإشارات الرمزية في إطار التفاعل بين المفردات والمعاني، وهذا يصنع الأشكالَ
الجمالية للنص الشعري عبر إيجاد تكوينات حتمية لمجتمع الفضيلة التثويرية .
ولا يمكن تثوير الإيقاع اللغوي في البنية الشعرية إلا بتحرير الأبجدية من سطوة
الصور الفنية المستهلَكة . والمضامينُ الواعية لا بد أن ترتكز إلى رمزية التراكيب الفكرية
المتوالدة، التي تتخذ من فاعلية الصور الإبداعية طَوْرًا تكوينيًّا للفنون اللغوية
. ومن أجل تفادي تحول القصيدة إلى ساحة جدال بين السبب والنتيجة ، ينبغي تأسيس المصادر
المعرفية الخيالية على الرمزية المغرِقة في الواقع الملموس . والرمزيةُ الشعرية في
النص اللغوي المتدفق يجب أن تكون مثل شعرة معاوية ، أي إنها تدخل في الغموض دون الوصول
إلى الطلاسم ، وتدخل في الوضوح دون الوصول إلى الابتذال ، وهذا التوازن كفيل بإحالة
الفكر القصائدي إلى بنية متراصة تؤثر في الجماهير ، ولا تنحصر في النخبة . والأداءُ
الفلسفي المتوازن في ديناميكية القصيدة يضمن ملامسة الشعور الإنساني في الأفق اللغوي
دون تحويل النص الإبداعي إلى موعظة دينية أو خطاب سياسي .
إِن حشدَ المعاني الشِّعرية الكبرى في زاوية لغوية ضيقة ، ووضعَ أبجدية الشِّعر
في غير نِصابها ، عمليتان خطيرتان لأنهما تؤديان إلى قتل الأحاسيس الإنسانية ، وإحالةِ
الكائن الحي إلى قطعة رخام جامدة وغارقة في لعبة تزويق الكلام . وهذا يتعارض _ جملةً
وتفصيلاً _ مع ماهية الشرعية القصائدية . فالقصيدةُ الحقيقية هي كائن حي لا يموت .
وإذا اختلت الموازينُ اللغوية في القصيدة ، فإِن القصيدة سَوْفَ تغرق ، وعندئذ سَوْفَ
تَسقط اللغةُ الشعرية تحت حُكم الموت اللغوي ، الذي يَجعل النصَّ الشِّعري لعبةً كلماتية
مُزوَّقة ، أو لَغوًا يتقمص الشَّكلَ الإبداعي .