الأدب والتحرر من النقاد
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 4/7/2018
.....................
[1] إذا كانت آراءُ
النُّقادِ تُسَيْطِرُ عَلَيْكَ ، فَلَن تُنْتِجَ نَصًّا جَيِّدًا .
إذا
أرَدْتَ أن تُصْبِحَ كاتبًا عَظيمًا، انسَ النُّقادَ. انْسَ النَّاسَ. أنتَ تَعيشُ
في هذا العالَم وَحْدَكَ معَ الأشجارِ والشوارع والذِّكريات ، وعَلَيْكَ أن تُعيدَ
تَرتيب عناصر الطبيعة التي دَمَّرَها الإنسان . هذه هي نُقطة البِداية . لَن
يُقَدِّمَ الناسُ لَكَ أيَّ شَيْءٍ ، ولا تَنتظِرْ مِنهُم أيَّ شَيء . كُن وَحيدًا
لِتُصْبِحَ وَحْدَتُكَ مَناخًا إبداعيًّا. إرضاءُ الناسِ غايةٌ لا تُدْرَكُ .
الشخصُ الذي يُرِيدُكَ سَيَبْحَثُ عَنكَ، ويَقْبَل بِكَ كما أنتَ بِلا مِكياج ولا
أقنعة . لا تَنتظِرْ مَديحًا مِن أحَدٍ . لا تَضَعْ في رَأْسِكَ صُورةَ النُّقادِ.
لا تَبْحَثْ عَن الْمُعْجَبِين والْمُعْجَبَات. عِشْ مَعَ نَفْسِكَ. اعرِفْ نِقاطَ
قُوَّتِك، وَقُمْ باستغلالها . اعرِفْ نقاطَ ضَعْفك ، واعْمَلْ جَاهدًا لإزالتها .
كَوِّنْ مَشروعَك الفكريَّ أو الأدبِيَّ ، وحَاوِلْ أن تُطَوِّرَ لُغَتَكَ
وأُسلوبَكَ وأفكارَكَ . وعِندئذٍ ، سَتَفْرِضُ شُروطَك على النُّقادِ ، ويَلْهَث
وَراءَك الأتباعُ والْمُعْجَبُون . رُبَّما لا تَستطيع أن تُجْبِرَهُم أن
يُحِبُّوكَ، ولكنْ تَستطيع أن تُجْبِرَهُم أن يَحترِمُوك ، لأنَّ أعمالَك الأدبية
تُحفةٌ فَنِّية . ولا تَنْسَ أنَّ أجسادَنا طعامٌ للدُّودِ ، لكنَّ كلماتِنا
حَيَّةٌ لا تَمُوت .
[2] عَلى النُّقادِ أن يَصْعَدُوا إلى أحلامِ
الأُدَباء إِذا أَرَادُوا أن يَكُونوا مُنْصِفِين .
الناقدُ مَهْمَا كانَ عَبقريًّا ، فَهُوَ
تابعٌ وَرَدَّةُ فِعْلٍ . الأديبُ هُوَ القائدُ والفِعْلُ . وعلى الناقدِ أن يَركض
وَراءَ أفكارِ الأديب ، ولا يُحاوِل أن يَسبقه . لا يَنبغي للنَّاقدِ أن
يَتَذَاكَى على الأديبِ أوْ يُنَظِّرَ عَلَيهِ ، فالأديبُ هُوَ الذي يُقَاتِلُ على
أرضِ المعركة ، أمَّا الناقدُ فَيُرَاقِبُ المعركةَ عَن بُعْدٍ . ومهمةُ الناقد
تَنحصِرُ في بَيان نِقاطِ القوة ونِقاط الضَّعف، مَعَ عملية التَّحليل المنطقيِّ
لا الاستعلاء على النَّص وصَانِعِه .
[3] النَّصُّ الأدبِيُّ الذي تَفْرِضُهُ الآلةُ الإعلاميةُ سَيَذْهَبُ إلى
النِّسيان .
النَّصُّ الأدبِيُّ قادرٌ على إثبات نَفْسِه
بِنَفْسِه ، عَاجِلاً أو آجِلاً . لَكِنَّ هُناكَ عَوامل تَعْمَلُ على تَسليط
الضَّوء على النَّص أو التَّعتيم عَلَيه . وَعُمومًا ، الشمسُ لا تُغَطَّى
بِغِرْبال . وهُناك نصوص أدبيةٌ تافهةٌ ، لكنَّ الآلةَ الإعلاميةَ المأجورةَ
تَفْرِضُها فَرْضًا ، وتُلَمِّعُها ، وتُحيطها بهالةِ العَبقرية. وهذه النُّصوصُ
سَتَأخذ حَظَّها من الشُّهرة والانتشارِ ، لكنَّ بِذْرة هَلاكِها كامنة فِيها ،
ومُدَّة صَلاحيتها مَحدودة ، ولَن تستمر مَعَ الوَقْتِ ، لأنَّها لا تَتمتَّعُ
بالاكتفاء الذاتِيِّ ، إذ إن طاقتها مُستمدة مِنَ الخارج ، وليس مِن داخل الكلمات
. وهذه النُّصوصُ مِثْل الْحُكَّام الذين فَرَضَهم الاستعمارُ على شُعوبهم .
سَوْفَ يَحْكُمُون لمدةٍ زَمنيةٍ مَحدودة ، ولَن يَستمروا ، لأنَّهم بَنَوا
عُروشَهم على جماجم شُعوبهم ، ولَم يَبنوا عُروشَهم في قُلوب شُعوبهم .
[4] لَن أَترُكَ للتاريخِ فُرصةً للحُكْمِ
عَلَيَّ . أنا سَأكتبُ تاريخي بِكَلِماتي .
التاريخُ سَيَحْكُمُ عَلَينا بِمَا لَنا وما
عَلَينا. عِبارةٌ صحيحةٌ . ولكنْ ، لكلِّ قاعدةٍ شَواذ . إِنْ لَم تَكتب تاريخَك
سَيَكْتُبه الآخرون. إِنْ لَم تتكلم، سَيَتكلم عَنكَ الآخرون. إنْ لَم تَعترِضْ ،
سَيَعتبرون صَمْتَك مُوَافَقَةً . وفي ظِلِّ هذه المعطيات ، يَنبغي على كُلِّ شَخص
أن يَرْوِيَ قِصَّتَهُ بِنَفْسِه ، ويَكتبَ تاريخَه قبل أن يَكتبه الآخرون . إذا
كانَ التاريخُ صَنَمًا ، فاكْسِرْ هذا الصَّنَمَ . إذا كانَ التاريخُ ضَبعًا
سَيَتَعَشَّى بِك ، فَكُنْ أنتَ الأسدَ الذي سَيَتَغَدَّى بِه . لا تَتْرُكْ
للآخرين أن يُقرِّروا مَصيرَك ، لأنَّهم سَيتلاعبون بهذا المصير لمصلحتهم . كُن
أنتَ الْمُبَادِرَ ، واكتبْ تاريخَك بِنَفْسِك ، واحْكُمْ على التاريخ ، ولا
تَتْرُك التاريخَ يَحْكُم عَلَيك . الكُرْسِيُّ لا يَحْكُمُ على النَّجارِ الذي
صَنَعَهُ .
[5] القلبُ الذي تَستقِرُّ فِيهِ الفَلسفةُ تَهْرُبُ مِنهُ النِّساءُ .
الفلسفةُ والمرأةُ ضِدَّان لا يَجتمعان .
وهذه لَيْسَتْ إهانةً للمرأة ، ولا عَيبًا فِيها . إنَّ الفلسفةَ إذا سَيْطَرَتْ
على القلبِ، أدْخَلَت الإنسانَ في مَدار الحضارة البشرية ، فلا يَعُود يَرى إلا
مُشكلات الإنسان وأزمات الحضارة . وهذا العالَمُ الْمُغْلَقُ لا يُناسِب المرأةَ ،
فهي فَراشةٌ تُريد الانطلاقَ والاستمتاع بِحَياتها ، ولا علاقة لها بِنَشأة
الحضارات وسُقوطها . والفَلسفةُ إذا اسْتَحْوَذَت على القلب ، طَردتْ كُلَّ
العناصرِ مِنهُ ، لأنَّ الفلسفة (
التَّعبير الإنسانِي عَن الوجود ) لا تَقْبَل بِوُجود شَريك ، خُصوصًا إذا كان هذا
الشَّريك مِن الجِنس اللطيف . فالفلسفةُ هِيَ الجِنسُ الْخَشِنُ ، والتَّنظيرُ
المتماسكُ ، والخلاصُ الذِّهنيُّ لأزماتِ الإنسان الحياتية ، وانهياراتِ الحضارة
الإنسانية. والفَلسفةُ هِيَ القاتلُ والضَّحِيَّةُ في آنٍ مَعًا، وَهِيَ تَستحقُّ
الشَّفقةَ سَواءٌ أحْبَبْناها أَم كَرِهْناها .
[6] بَعْضُ الأُدَباء يَهْرُبُونَ مِنَ الاكتئاب
إلى الكتابةِ ، لَكِنَّ كِتَابَاتِهِم تَصِير اكتئابًا جَديدًا .
متعة الكتابة كامنةٌ أثناءَ الْمُمارَسة .
تَتفجَّر اللذةُ أثناءَ فِعْلِ الكتابةِ . وحِينَ يَنتهي هذا الفِعْل، تَبدأ
رِحْلةُ الْمُعاناة،وتَحَمُّلُ المسؤولية، وتَفَجُّرُ المشاعر الْمُتضارِبة. ولا
بُدَّ مِن دَفْعِ ضَريبةِ الاستمتاع. يجب دَفعُ ثمن اللذة ، ولا تُوجَد لَذَّةٌ
بِدُون ضَريبة ، ولا تُوجَد مُتعة بِدُون ثمن . والكتابةُ عَذابٌ مُتواصِلٌ يَرْمي
إلى تَطهير الأنساق الإنسانية مِنَ العذاب . إنَّ الضِّدَّ يُولِّدُ الضِّدَّ .
واكتئابُ الأُدَباءِ دَاخليٌّ مُتعلِّق بتفاصيل الوجود الإنسانِيِّ ، وغَير
مُتعلِّق بِلَحظات الفرح أو الْحُزْن . الأفراحُ والأحزانُ أعراضٌ زائلةٌ ، تَجيءُ
وتَذهبُ . أمَّا الوجودُ الإنسانِيُّ بِكُلِّ ما يَحْمِلُه مِن أضداد وتناقضات ،
فيظلُّ مَوجودًا في أعماق الإنسانِ ، ويظلُّ رَاسخًا في تفاصيل الحياةِ . ولا
مَهْرَبَ مِنهُ ، فالإنسانُ لا يَهْرُبُ مِنْ جِلْدِه . والناسُ يُعْجَبُون
بِصُورة المثقف ، لكنهم لا يَشعرون بالنار التي تتأجَّج في صَدْرِه. إنَّهُ
يَحترِق مِنَ الداخل.واللمعانُ ناتجٌ عَن الاحتراق لا اللذة.
[7] الأُسلوبُ الأدبِيُّ هُوَ أن تَعْرِفَ اسْمَ الْمُؤلِّفِ مِن
كِتَابَاتِه دُونَ أن يَكْتُبَ اسْمَهُ .
الأُسلوبُ هُوَ اسْمُ الكاتبِ الحقيقيُّ .
لقد سَكَبَ الكاتبُ شَظايا قَلْبِه في حُروفِ الأبجديةِ ، وعَلَينا أن نَعرِف
اسْمَ الكاتبِ مِن خِلال شَظايا قَلْبه التي تَقَمَّصَت الكلماتِ . عِندَما يَبدأُ
الكاتبُ رِحلةَ البَحث عن الألفاظ والمعاني ، يَنْسَى نَفْسَه ، ولا يَرى وَجْهَهُ
ولا أقْنِعَتَهُ ، لأنَّ نُورَ اللغةِ الساطعَ يُغَطِّي على عَقْلِه وقَلْبِه ،
ثُمَّ يَكشِف له الطريق . السَّائرُ في الطريقِ هُوَ الطريقُ . والكاتبُ هُوَ
الكِتَابةُ. الكتابةُ هِيَ اسْمٌ جَديدٌ للكاتبِ يَختلِف عَن الاسمِ في البِطاقة
الشَّخصية . اسْمُ الكاتبِ في الوثائق الرَّسمية هو جُزء مِن سِلْسلة النَّسَب
وحَلَقات التَّواصل عَبر الآباء والأجداد . أمَّا الاسمُ الجديدُ الذي تَمْنَحُهُ
الكتابةُ للكاتبِ ، فَهُوَ حَرْفٌ مِن حُروف الأبجديةِ ، ورَمْزٌ مِن رُموز اللغة
، ومِفْتاحٌ لِبَابِ الوُجود .