العقل في مواجهة الشهوة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
........................
[1] الفَيْلَسُوفُ الذي يَكْتُبُ لِنَفْسِهِ
يُؤسِّس فَلْسَفَتَهُ في الهواءِ .
الفلسفةُ هِيَ الشِّيفرةُ السِّريةُ
للوُجودِ الإنسانِيِّ ، والمِفتاحُ السِّحريُّ لأبوابِ التاريخِ الحضاريِّ. وهذه
الرُّتبةُ السَّامِيَةُ التي وَصلتْ إلَيها الفلسفةُ ، جَعَلَتْ مِنَ اللغةِ
الفلسفيةِ لُغةً شَديدة التَّعقيد ، لأنَّ الأفكارَ العظيمةَ لا تُحْمَلُ إلا على
الكلمات القوية ، كناطحات السَّحاب لا تَقوم إلا على أقسى أنواع الفولاذ . ومعَ
هذا ، لا بُدَّ مِنَ الوُصول إلى نُقطة ما في مُنتصَف الطريق ، وذلك كَحَلٍّ وَسَط
. فالفَلسفةُ هِيَ عِلْمٌ إنسانِيٌّ ، والإنسانُ هو الرَّكيزة الأساسية في الفلسفة
، فلا بُدَّ أن تَصِلَ إلَيه الكلمات، كَي تَتِمَّ عَمليةُ الاستيعاب ثُمَّ
التطبيق على أرض الواقع. وهُنا تَبْرُز مَهارة الفَيلسوف في صناعة كلمات واضحة
وقوية في آنٍ مَعًا ، وتَوليد أفكارٍ عَظيمة ومَفهومة في الوَقْتِ نَفْسِه .
[2] الكاتب لا يَحْمِلُ اسْمَه إلا مؤلفاته .
" مَنْ خَلَّفَ ما مَات " .
والكاتبُ خَلَّفَ تَرِكَةً فكريةً ، سواءٌ تزوَّجَ أَم لَم يتزوَّج . لقد تَرَكَ
كلماته في هذا العالَم تَسْبَحُ بلا تَعَبٍ . الشخصُ العاديُّ يَسْعَى إلى الخلودِ
عَن طَريقِ التكاثر البيولوجي. أمَّا الشخص الْمُبْدِعُ فَيَسْعَى إلى الخلودِ عَن
طريق مُمارَسة الكِتابة ( التكاثر الرُّوحي ) . فالكلمةُ تظلُّ إلى الأبد ، لا
تَتحلَّل حُروفُها في التراب ، ولا يَأكلها الدُّود .
[3] عِندَما تَتعاملُ مَعَ الذِّئابِ ، مِنَ الغباءِ أن تَفترِضَ حُسْنَ
النِّية .
لماذا تتعاملُ مَعَ الذِّئاب ؟ ، لأنَّكَ
خاضعٌ لسياسة الأمر الواقع . ولَم تَجِد المصلحةَ في التعامل مَعَ الحِمْلان ،
فصارَ التعاملُ مَعَ الذئاب هُوَ المصلحة . الأمرُ مَفروضٌ عَلَيك ، ولَيْسَ
اختيارًا حُرًّا . لا تَتحوَّل إلى ذِئب أثناءَ التعامل مَعَ الذئاب . احتفِظْ
بالْهُوِيَّة الإنسانية ، والشخصيةِ الحضارية ، ولكنْ، تَفَقَّدْ سَلاحَكَ في كل
وقت ، واحفظ خَطَّ الرَّجعة . الذِّئبُ سَيَظَلُّ ذِئبًا ، وهذا لَيْسَ ذَنْبَهُ
ولا مُشْكِلَتَهُ . هذه مُشكلتك أنتَ . لا تَلُمْ الثَّوْرَ إذا قَتَلَ
الْمُصَارِعَ . الْمُصَارِعُ دَفَعَ ثَمَنَ حَماقته . لَم يَكُن الثَّوْرُ وَحشيًّا
، ولَم يَكُن الْمُصَارِعُ رُومانسيًّا . الصَّيادُ هُوَ الصَّيادُ . والفَريسةُ
هِيَ الفريسةُ.
[4] كِتابةُ القَصيدةِ مِثْل العَمليةِ الجِراحية .
القصيدةُ مُخْتَبَرُ الوجودِ . والشاعرُ
هُوَ مُخْتَبِرُ الأنساق المعرفية . يَكتبُ الشاعرُ قَصِيدَتَهُ كما يَقومُ
الطبيبُ بالعملية الجراحية. لا فَرْقَ بين طبيب وطبيب إلا بالمهارة والمشاعر
والذكريات . وحجمُ الألَمِ هو الذي يُميِّز المريضَ عن المريض . أغسلُ يَدَيَّ
بالماء والصابون قَبْلَ كتابةِ القصيدةِ وبَعْدَها ، لِئَلا تَنتقل جَراثيمُ
الأحزان إلى جسد الذاكرة . أُطَهِّرُ قَصيدتي مِنَ أصواتِ الضَّحايا ، وأُطَهِّرُ
قَلبي مِن الأضداد والأندادِ . قَد يَخرجُ المريضُ مِن غُرفة العمليات إلى
المقبرةِ ، وقَد يَخرجُ إلى أحضان زوجته . لا شَيْءَ مَضْمُونًا في الأنساقِ
الإنسانية والأنساقِ الفكرية .
[5] القَصيدةُ هِيَ الْمُعادَلةُ الأُنثويةُ التي تُعَوِّضُني عَن غِيابِ
المرأة في حَيَاتي .
اخْتَفَت المرأةُ مِن حياتي ، لأنَّني
اخْتَفَيْتُ مِنَ الحياةِ . أنا مَغرَمٌ لا مَغنَمٌ . لَوْ أحَبَّتْنِي امرأةٌ
فأنا خاسرٌ وَهِيَ خاسرةٌ . هل سَتَكون الكراهيةُ هي وسيلةَ النَّجاة ؟ . إنَّ
النَّوْمَ على مقاعد محطة القِطارات أفضلُ من الركوب في القطار الخطأ . التَّوقيتُ
مُهِمٌّ ، والوُجهة مُهِمَّةٌ . ولكنَّ الحياةَ لا تَتوقَّف. سأبحثُ عَن أُنوثةِ
عناصر الطبيعة لأظلَّ حَيًّا في قلبِ الأبجدية . القصيدةُ هِيَ اختزالٌ لعناصرِ
الطبيعة ، والأُنثى المتكرِّرة في الوجوه لا الأقنعة ، والقصيدةُ الأُنثى تَحميني
من الجنون ، وتَمنحني التَّوازنَ العاطفيَّ كَي أسيرَ بِهُدوء وعَقلانية في ظِل
القَمْع والكَبْت.
[6] كُلَّمَا سَبَحْتُ في اللغةِ اكتشفتُ العناصرَ الرَّمزيةَ في السُّلوكِ
البَشَرِيِّ الغامِضِ .
اللغةُ لَيْسَتْ وَسيلةً
للتخاطبِ فَحَسْب . اللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ للإنسانِ والحضارةِ . وكُلَّما
سَبَحْنا في اللغة ، وَصَلْنا إلى أعماق الإنسانِ ، وأمْسَكْنا بِمَنْبَع القيم
الحضارية . وإذا عَرَفْنا مَنْبَع النهر سَنعرف مَجْرَاه. إنَّ رمزيةَ اللغة
تَكشِف لنا كُلَّ العناصر الرمزية في السلوك البشري الغامض، لأنَّ الرَّمْزَ
وَحدةٌ واحدةٌ مُتَّصلة عَبْر الزمان والمكان . واللغةُ هي الفلسفةُ العميقةُ التي
تَكسِر قناعَ الإنسان ، وتُبْرِز وَجْهَهُ الحقيقيَّ بِدُون مُسْتَحْضَرَات التَّجميل
. والفرقُ الجذريُّ بين اللغة والإنسان، هو أن اللغة كائن حيٌّ خالدٌ ، أمَّا
الإنسان فكائنٌ حيٌّ مَيت . وإذا وَظَّفْنا رمزيةَ اللغةِ في السلوك الإنسانِيِّ ،
فَسَوْفَ يَتحوَّل الإنسانُ إلى رَمْزٍ لُغويٍّ خَالدٍ ، ويَصير الْحُلْمُ
الإنسانِيُّ كلمةً أبديةً .
[7] عِندَما يُصْبِحُ العَقْلُ فَارِغًا يَنحصِرُ التفكيرُ في الشَّهوة
الجنسية .
عِندَما تَنكسِرُ البُنيةُ الفَوقيةُ (
المنظومة العقلانية الأخلاقية ) ، تُصْبِحُ الشَّهوة الجِنسية هي المنظومةَ
الحاكمةَ على النَّسَق الحياتِيِّ كُلِّه . والشَّهوةُ لا تُسيطِرُ على العَقْلِ
إلا في لحظات الفراغ ، لأنَّ الفراغَ تَفريغٌ للأنظمة العَقلانية ، والجسمُ يَرفض
الفراغَ ، فلا بُدَّ أن تَحْدُث عَملية إِحلال ، فَتَحِل الشَّهوةُ الجنسيةُ في
البُنية الفَوقية ، ويُصبِحُ الجِنسُ هو العقلَ المسيطِر على تفاصيلِ المشاعر ، وأنساقِ
الجسد ، وتقاطعاتِ الألفاظ مَعَ المعاني . وكُلَّما اضمحلَّ صَوْتُ العقلِ ،
ارتفعَ صَوْتُ الرصاص ، وَكُلَّما غَابَ العقلُ أو غُيِّبَ ، صَارَت الكلمةُ
الفَصْلُ للشَّهوة الغريزية . وهذا أدى إلى نشر هستيريا الجِنس في هذا العالَم
الذي دمَّره الإنسان ، لأن الكثيرين يعتقدون أن بنادقَهم هِيَ صَوْتُهم الصادق
الذي لا يَخُونهم ، وكُلَّما ابتعدَ الإنسانُ عن قُواه العقلية اقتربَ من قواه
البدنية. فالذي يَضرب ويَقتل قَد مَنَحَ عَقْلَه إجازةً مفتوحة . وهذا الفِكْرُ
المنحرِفُ يَرْفُضُه المنطقُ العقلانِيُّ ، فلا بُدَّ أن يَكُونَ صَوْتُ الإنسانِ
أعْلَى مِن صَوْتِ الغريزة .