النظام الاجتماعي بين الفردية والإنسانية
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
............
تُشكِّل السياقاتُ المعرفية في النظام
الاجتماعي صياغةً مُتجددة لعلاقة الفرد مع نفْسه ، ضمن مُحيطه الإنساني وبيئته
الوجودية. وكُل نظام اجتماعي لا يمكن أن يستمر إلا إذا تركَّزَ عُنصرُ التَّجَدُّد
في نواته المركزية ، لأن التَّجَدُّد هو الضمانة الأكيدة لمنع الجمود والانغلاق ،
وبالتالي ضمان جريان الماء تحت جُسور المعرفة ، ولا شَك أن سُكون الماء يَجعله
آسِنًا . والحَلُّ الوحيد يتجلَّى في الحركة المُستمرة في الاتجاه الصحيح ، ولا
فائدة مِن سُرعة القِطار إذا كان سائرًا في الطريق الخاطئ ، كما أن التَّجَدُّد هو
العامل الثقافي القادر على إحداث توازن بين سُلطة المعرفة وسياسة الحداثة، التي
تقوم على الإبداع الذاتي ، وليس تقليد الآخرين ، واستيراد النظريات مِنهُم . وكُل
حداثة لا تنبع من الذات ، ستسقط لا مَحَالة ، لأن مصير الأقنعة السُّقوط ، وسوفَ
يَنكشف الوجهُ الحقيقي في يوم مِن الأيام. لذلك، ينبغي أن يكون التَّعويلُ على
تَجميل المجتمع بالإنجازات الحقيقية على أرض الواقع ، وليس باستخدام عمليات
التجميل ، أو انتهاج أسلوب التَّرقيع ، ودفنِ النار تحت الرماد. وكما أن جَمال
الشجرة الحقيقي ينبع من جَودة ثمرها ، وليس شكلها الخارجي، كذلك جَمال المجتمع
الحقيقي يَنبع من إبداع أفراده ، وليس أشكالهم وملابسهم .
2
إن تكوين علاقة منطقية بين قُدرة الأفراد
على الإبداع، وبين قِيَمِ المجتمع الإنساني ، يُمثِّل تَحَدِّيًا حقيقيًّا،
وامتحانًا لضمير المجتمع. ففي كُل مجتمع أعداء للنجاح،وفي كُل بيئة سياسية قوى شَد
عَكسي ، تُحارب الإبداع والحداثة والتجديد ، حِفاظًا على مصالحها الشخصية
وامتيازاتها الذاتية. وإذا أردنا أن يسير قِطارُ المجتمع على السِّكة بأمن وأمان،
فينبغي إزالة العقبات مِن طريقه، وحَمْل جميع الرُّكاب في القِطار، لئلا يَشعر
أحدُهم أنه مَنبوذ أو مُهمَّش أو مرفوض.وإذا شَعَرَ الرُّكابُ أن القِطار يُحقِّق
مصالحهم جميعًا، ويُوصلهم إلى أهدافهم، فسوفَ يُدافعونه عنه، ويَعتبرونه جُزْءًا
مِن نسيج حياتهم وأفكارهم وحاضرهم ومُستقبلهم،لا يُمكن الاستغناء عنه،ولا الاعتداء
عليه. وهذا يدل على أهمية الحاضنة الشعبية في تبنِّي الأفكار ، وتطبيقها بشكل
صحيح. وتحقيقُ هذا الحُلم لا يتأتَّى إلا باختيار القرار الصحيح في التَّوقيت
الصحيح ، ولا أحد يستطيع أن يتجاوز طبيعة الزمن ، أو يَقفز على عُنصر الوقت ، لأن
الفرد يتحرَّك في قالب محصور ، وصيغة زمنية محدودة ذات خصائص مُعيَّنة ، يجب أخذها
في الاعتبار ، لحماية الفرد مِن السقوط في الفراغ ، ومنعِ المجتمع من القفز في
المجهول .
3
كُلُّ الإنجازات المادية في طبيعة النظام
الاجتماعي ، هي انعكاس للمشاعر الإنسانية الفردية ، وإفراز للأحاسيس البشرية
الجماعية . والعواطفُ الوجدانية لَيست خيالات هُلامية ، أو جُزءًا من الرفاهية
الرومانسية الحالمة . إن هذه العواطف تُجسِّد شرعيةَ الوجود الإنساني في الإطار
المكاني والحيِّز الزماني ، وهي سُلطة معرفية اعتبارية ، تَمنح الفردَ مشروعيته
الوجودية ، وتَصنع التحولات الاجتماعية . وكما أن القَلْب مَلِك الجوارح وزعيم
الأعضاء ، وليس مُجرَّد كلمة في أغنية عاطفية ، كذلك العواطف الوجدانية ، هي
مَلِكة الحَراك الاجتماعي ، وزعيمة السُّلطة الشُّعورية المركزية الفردية ، ذات
الامتدادات في تفاصيل بُنية المجتمع ، وقواعدِ السُّلوك الفردي .
4
الفردُ لَيس كُتلة أسمنتية ، ولا آلة
بيولوجية للأكل والشُّرب والتكاثر . إن الفرد كيان اجتماعي سياسي قائم بذاته ، وهو
صانع سياسات ذهنية وواقعية ، بغض النظر عن مُستواه العِلمي والثقافي. وكُل فرد في
الحياة له سياسته الخاصة ، التي تنعكس على سُلوك وتعامله مع الناس وعناصرِ الطبيعة
، وهذا لا يَعني أنه صار سياسيًّا . وكُل فرد في الوجود له فلسفته الخاصة ، التي
تنعكس على تصوُّراته الفكرية وقناعاته الحياتية ، وهذا لا يعني أنه صار فَيلسوفًا
. وهناك فرق واضح بين السياسة كإجراء واقعي لَحْظي ومُمارسة يومية ، وبين السياسات
كتخطيط للحاضر والمستقبل . وهناك فرق جوهري بين الفلسفة كنظام تفكيري عقلاني
تجريدي ، وبين الفلسفات كقواعد للسلوك الإنساني ومبادئ للتعامل مع الآخرين .
5
إن سَعْي الفرد الدؤوب نحو صناعة حُلمه
الشخصي ، والمُساهمةِ في تحقيق آمال المجتمع وطُموحاته، يُؤدِّي _ مع مرور الوقت _
إلى تحوُّل حُلم الفرد إلى مشروع لخلاص المجتمع ، وانتشاله مِن مأزقه الوجودي ،
وكُل جُزء إذا وُضِع في مكانه الصحيح ، سَيَتَحَوَّل إلى منظومة جماعية مركزية لا
غِنى عَنها . وقيمةُ الأشياء لا تتحدَّد حَسَب حَجمها ، وإنما تتحدَّد حَسَب
السياق الذي وَردت فِيه. والكلمةُ لا تملك تأثيرًا فعليًّا إلا ضِمن الجُملة
اللغوية والسياق العام للكلام . ولا يمكن معرفة قيمة البُرغي إلا مِن خلال مَوقعه
ودَوره في الآلة الميكانيكية . والكُلُّ يَمنح الشرعيةَ والأهميةَ للجُزء ،
والجُزء يَمنح الإضافة النَّوعية اللازمة للكُل . وهذه المنظومة الفلسفية ( الجُزء
/ الكُل ) القائمة على المنفعة المتبادلة ، لتحقيق المصلحة المشتركة العُليا ،
تنقل الفردَ مِن فَرْديته إلى إنسانيته. أي إن الفرد مِن خلال بحثه عن معنى وجوده
وجَدوى حياته ، وإسهامه في نهضة مجتمعه ، وصناعة حاضره ومستقبله ، والنهوض
بالحضارة الإنسانية والمدنية العالمية ، يُصبح إنسانًا ذا موقع مركزي على خارطة
الإبداع ، وذا بصمة مؤثِّرة في تاريخ الحضارة والمدنية . وهذا يُشير إلى أن
الفَرْدية خُطوة في طريق الوصول إلى الإنسانية ، كما أن المَحَلِّية خُطوة في طريق
الوصول إلى العالمية . وبعبارة أُخرى ، كُل إنسان فرد ، وليس كُل فرد إنسانًا .
وكُل عَالَمِيٍّ مَحَلِّيٌّ ، وليس كُل مَحَلِّيٍّ عالميًّا .