رواية جبل النظيف / الفصل السابع عشر
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
.............
الشمسُ
تشرق من جديد على جبل النظيف. تخرج الشموسُ من قضبان هذا السجن الكبير . حياةُ
الناس في هذا الحصارِ البنفسجي سيناريو متكرر .. أسطوانة مشروخة . لا جديد في
مشاعر الموتى ، ولا جديد في مشاعر الأحياء . يمشي قطارُ الملل إلى محطة القلوب
المكسورة ، والقلوبُ تمشي إلى الأجساد المحترقة بالأحلام المخنوقة . يستمر مسلسل
الوأد . وُلدوا كي يَموتوا . والتاريخُ يَكتبه المنتصرون الذين لم يَمروا من هنا .
علا الضجيجُ والتصفيقُ قرب مدرسة عاتكة بنت
زيد . باعةُ الخضار جاؤوا يَركضون فَوْر سماعهم للخبر . أصحابُ المحال التجارية
أَغلقوها ، وأتوا مسرِعين ليتأكدوا من صحة الخبر . النساءُ تركنَ أولادهن في
البيوت ، وجِئْنَ ليتفرجوا على هذا الحدَث . وكلُّ عجوز جالسة على عتبة منزلها
جاءت حاملة عكَّازها لترى هذا المشهد الفريد. أوقف السائقون سياراتهم وهَجموا على
المكان. هل قامت الحرب؟. ماذا يَحصل بالضبط ؟ . هل هي إشاعة أم حقيقة ؟ . لقد انتشر
الخبرُ انتشار النار في الهشيم. هل صحيح أن هناك امرأة ترتدي تنورة قصيرة جاءت إلى
هذا الجبل ؟ .
لقد عَرف الناسُ الجوابَ ، ولم يَعودوا
بحاجة إلى إلقاء الأسئلة . وها هُم يُشاهدون المنظر بأُم أعينهم. شابةٌ مفعمة
بالحيوية ترتدي تنورةً فوق الرُّكبة ، وأشعةُ الشمسِ ترسم خطوطاً على مكياجها
البراق . وشَعرها يتطاير في جهات اللهيب .
حذاؤها
ذو الكعب العالي يَلمع ، ويَحرق عيونَ الناس .
كلُّ أفراد الشعب تجمَّعوا . الباعةُ
المتجولون وباعةُ الخضار يتناقشون في هذا الحدَث التاريخي ، ومدى تأثيره في حياة
السكان . النساءُ أُصبنَ بالقلق من تأثير هذه المرأة على رِجالهن ، وقد تُساهِم في
زيادة عدد العوانس بين بناتِ الجبل . أحسَّ السائقون أن هذه المرأة تشكِّل خطراً
على الأمن القومي في جبل النظيف . صارت جوارحُ الناسِ صفاراتِ إنذار .
لأول مرةٍ في حياتهم يَرونَ امرأةً على أرض
الواقع ترتدي تنورةً فوق الرُّكبة . وحتى الذين يُشاهِدون الأفلامَ الإباحية لم
يَقدروا على تحمُّل هذه الصاعقة . فهذا الجبلُ بيئة محافِظة ، وكلُّ الأسرار تَجري
خلف الأبواب الموصدة ، والنوافذِ المغلَقة بإحكام .
لم تكن المرأةُ وحيدةً ، فقد كان معها مجموعة
شباب . أحدُهم يَحمل كاميرا . والواضحُ أنه يَعمل مُصوِّراً. إذن ، هذا طاقم عَمل
جاء من أجل مهمة ما ، ولم يجيء من أجل السياحة .
صَرخ الناسُ :
_ افتحوا الطريقَ للمختار .. افتحوا الطريقَ
.
هدأ الناسُ مع قدوم المختار . والضجيجُ
تحوَّل إلى همس . والجميعُ كانوا على أُهبة الاستعداد كأنهم يَنتظرون قراراً
مصيرياً . أحاسيسُهم مشوَّشة ، لكنهم لا يَملكون غير الانتظار .
تقدَّم المختارُ بخطى واثقة ، وقال :
_ تفضَّلي يا ابنتي .. كيف يمكن أن أخدمك ؟
.
تعمَّد المختارُ أن يختار لفظة " ابنتي
" ليُضفيَ جواً عائلياً على المشهد الذي بدا قطعةً من الجنون والفوضى .
ابتسمت " ابنته " في هذا المحيط
الملتهب ، وقالت :
_ بصراحة يا عَمُّو ، أنا كاتبة ، وأريد
إجراء تحقيق صحفي عن جبل النظيف لنشره في الجريدة .
كانت زليخة الأرملة تراقب المشهدَ عن كثب ،
وتستمع إلى الحوار . قالت لإحدى النساء بصوت هامس :
_ نعوذ بالله . نحن والشرطة سمن على عسل ،
ولا داعي للتحقيق .
ابتسمت المرأةُ باستهزاء ، وقالت :
_ فعلاً إنك جاهلة .. هذا تحقيق صحفي في
الجريدة ، وليس تحقيق شرطة .
قفز محمود بائع الخضار من بين الحشود ، وقال
بنبرة كسيرة :
_ أبوس يَدكِ ! ، اعملي معي مقابلة . لا
أَحمل شهادةً لكني مثقَّف ، وأحب أن تطلع صورتي في الجريدة .
ولَمَّا سمع المختارُ هذا الكلام ، قال
لمرافقيه :
_
أبعِدوا هذا الأجرب من هنا .. بائعُ خضار ويريد أن يصبح مشهوراً ! . يا عيني على
هذه المهزلة .
وهجم المرافِقون عليه . أوسعوه ضرباً أمام
الناس ، وقال له أحدهم :
_ يا ابن الكلب ! ، تريد أن تنافس المختارَ
على الشهرة . يا غبي ! ، العينُ لا تَعلو على الحاجب. رائحتك مقرفة وتحبُّ أن تظهر
صورتك في الجريدة يا وسخ ؟!. اذهب واستحم قبل ذلك .. انظر في المرآة لكي تَعرف
قيمتك يا أجرب .
ورَموه على أحد الأرصفة القريبة كقطعة
القماش القذرة . كانت الصيحاتُ تَخرج من أضلاعه المعجونة بالألم . وجسمُه يُهرول
في مدارات الوباء . انسحب محمود من المكان كاللص الذي يتسلل من أحلامه . شعر
بإهانة بالغة ، فقد مُسحت بكرامته الأرضُ . ليس هذا فَحَسْب ، بل جرى ذلك أمام
عيون الناس الذين كانوا يَتفرجون ضاحكين . وطبعاً سوفَ يُعيِّرونه بهذه الحادثة
طيلة حياته. إنها نقطة سوداء في تاريخه الشخصي ، ووصمة عارٍ في أرشيف احتضاراته .
كان يجرُّ نَفْسه جرَّاً . وصلَ إلى بيته
وهو في حالة مُزرِية يُرثَى لها . وبالكاد استطاع أن يَدق البابَ . خَرجت زوجته .
رأتْه في هذا الموقف الحرج لكنها لم تستغرب، ولم تهتز مشاعرها . ظَهرت علاماتُ
الشماتة على وجهها .
قال زَوْجها مستغيثاً كالغريق :
_ أرجوكِ يا عواطف .. ساعِديني على الدخول .
تجهَّم وجهها ، وقالت ساخرةً :
_ ساعِد نَفْسكَ ، أو اطلب مساعدة ست الحُسن
والجمال التي كنتَ تريد أن تَبوس يَدَها .
ومضت إلى داخل البيت ، وتَركت زوجَها ملقى
على الأرض كالمحتضر على فِراش الموت وحيداً .
كلُّ شيء ينتشر في هذا الجبل بسرعة . ولا
أحد يَعرف مصدر الأخبار . فهذه المرأة عَرفت القصةَ كاملةً كأن هناك بثاً حياً
ومباشراً. ولا أدري كيف وَصلت إليها الأخبار. المهم أنه لا شيء يمكن إخفاؤه في هذه
البُقعة. وهذه الحقيقة أدركها محمود الذي كان معلَّقاً بين الألم والألم .
وبصعوبة بالغة استطاع الدخول إلى بيته . إنه
محاصَر في بئر النهايات ، وينادي بأعلى صوته لعل أحدهم يُلقي إليه الحبل. إنه
يَغرق في بحر التلاشي، ويَرمي بصره نحو الشاطئ منتظراً طوق نجاة يأتي من أية جهة
.
نادى على زوجته بصوت ذابل :
_ يا عواطف .. عواطف . أبوس رِجْلكِ ، تعالي
أنقذيني .
رَقَّ قلبُها عندما سَمعت هذا الكلام ،
وأسرعت إليه كي تنقذه .
أَحضرتْ كرسياً.. أَجلسته عليه. ثم أَحضرت
ضماداتٍ مبلولة بالماء، وأَخذت تمسح جروحَه ، وهي تقرِّعه:
_ تريد أن تبوس يَدَها ! . يا عيب عليك .
لماذا لا تبوس يدي وأنا قضيتُ حياتي خادمة لك ؟! . مرمية في المطبخ مثل الكلبة ،
أنتظر منك كلمة حلوة ، وأنتَ مثل الحائط. يخرب بيتك ! .. تحب التنانير القصيرة ،
وتَركض وراء الكعب العالي . ماذا يَنقصني أنا ؟! . اشكرْ ربَّك أني رضيتُ بكَ .
لم ينبس محمود بكلمة. اكتفى بإطلاق الآهات .
وصار التأوُّه هو الشِّعار الرسمي لحياته .
نَزل طاقمُ العمل في بيت المختار بعد أن
حَلفَ بالطلاق إلا أن يَنزلوا في بيته . لسانُه معتادٌ على الحلف. وهو لا يَعرف
قيمةَ الحلف ، ولا قيمة الزواج . وربما طلَّق زوجته ألف مرة في حياته ، وما زال
يعيش معها كأن شيئاً لم يكن ! . وقد أرشده الشيخ عبدالرحيم عمران إلى خطورة
الأيمان التي يُطلِقها على الطالعة والنازلة، على الكبيرة والصغيرة ، ولكنْ لا
حياة لمن تنادي .
قال المختارُ لطاقم العمل :
_ سآخذكم في جَوْلة في جبل النظيف . ولكنْ
بعد أن نقدِّم لكم واجب الضيافة .
تتدفقُ الأحلامُ في المرايا المشروخة. وهذا
الجبلُ المنسي يصبح في فوهة الذاكرة. سيكون الكبتُ تاريخَ مَن لا تاريخ له . وتتحول
الأسرارُ العميقة إلى فراشاتٍ من دموعٍ ورصاص . وهذه المرأةُ التي اقتحمتْ هذا
الجبلَ أَلقت صخرةً في بركة الماء الراكدة . وفجأة ، صار الجميعُ مثقَّفين ،
عالقين في بئر الانتظار . الجميعُ يتحدث عن دور وسائل الإعلام . والذي لم يشترِ
جريدةً منذ مئة سنة ، وَضع ميزانيةً خاصة لشراء جميع الجرائد . إنها الهجرةُ نحو
المجد والشهرة .. القوافلُ تَسير إلى مناجم الذهب . إنها حُمَّى البحث عن الكنوز .
وهذا الهوسُ أوتادُ خيمةِ النسيان . يُهاجر صيادو المكافآت تاركين دموعَ زوجاتهم،
وجثثَ أبنائهم تَغلي في القُدور . والهلوسةُ اللازوردية تبني أقواسَ النصر على
الراية البيضاء ، ومزهرياتِ الخسارة .
كلُّ واحدٍ يَبحث عن مصلحته . السفنُ تتخلص
من الحمولة الزائدة لكي تخترق العمودَ الفقري للبحر . والمنطادُ يَرمي الأثقالَ
لكي يَخترق طبقاتِ الجو . لم يَنظر السكانُ في مرايا الحلم . اكتفَوا بالغبار الذي
يُغطِّي وجوهَهم المرهَقة . وهذا الغبارُ هو مرآةُ الأجسادِ الذابلةِ . والآن،
يستعد الجميعُ للمعركة القادمة.. الصراع على السراب الأُرجواني .
بدأت الجولةُ غير السياحية في جبل النظيف . وقد
أُعلن النفير العام ، والناسُ أعلنوا حالةَ الطوارئ من تلقاء أنفسهم . أصحابُ
المحلات التجارية بدأوا يَمسحون الواجهاتِ الزجاجية ، ويُزيلون الغبارَ عن البضائع
، ويَغسلون الأرضَ بالماء والصابون. وعُمَّالُ النظافةِ يُمشِّطون الأزقةَ حُلماً
حُلماً ويَصطادون أكياسَ القمامة. والأمهاتُ يُلْبِسنَ أبناءهن ملابسَ العيد . وبعضُ
السكانِ أَعلنوا اليوم عُطلةً رسمية . وكلُّ واحدٍ يُهيِّئ نَفْسَه من أجل الظهور
في الجريدة ، ويَرفع شعار " هذه الفرصة يجب استغلالها " . والجميعُ
مقتنعون بأنهم يستحقون الشهرة والبريق الإعلامي ، ولا يوجد أَحد أفضل من أَحد .
قاد المختارُ هذه الحملةَ الاستكشافية . بدأ
من بيوت الشركس القديمة المزروعة على تلةٍ تطل على وسط البلد. وضَّح لفريق العمل
خَطَّ سَيْر سرفيس جبل النظيف. فهذه المرْكباتُ العمومية تنطلق من قاع المدينة ،
وتمر في شارع المصدار ، ثم تقتحم جبل النظيف . (( وَمَن لا يُحِب صعودَ الجبالِ
يَعِشْ أبدَ الدهرِ بين الْحُفر )) . ألقى
المختارُ هذا البيتَ ليبدوَ أمام فريق العمل مثقفاً ، وواسعَ الاطلاع . ثم قادهم
إلى مسجد الشركس وأعطى نبذةً قصيرة عنه. ومضى بهم نحو مدرسة عاتكة بنت زيد، ثم
عَرَّفهم على مركز رعاية اليتيم . وأوقفهم بجانب المخبز القريب ، حيث اشترى لهم
خُبزاً ساخناً ، وقال ضاحكاً :
_ كلوا من هذا الخبز ليصبح بيننا " عيش
وملح " .
ومضوا عبر الأزقة ، وانتهى بهم المطاف إلى
مضارب الغجر ( النَّور ) ، حيث تم استقبالهم بالدفوف والأغاني . ومع أنهم لم
يَفهموا شيئاً من كلمات الأغاني إلا أن الجو كان ودياً للغاية ، والناسُ يُصفِّقون
، ولا يَعرفون _ على وجه الدقة _ لماذا يُصفِّقون .
وَصلوا إلى مسجد طارق بن زياد . وقال لهم
المختار :
_ اعذروني ليس لديَّ معلومات كثيرة عن طارق
بن زياد، لأني كنتُ ضعيفاً في مادة التاريخ أيام المدرسة .. لكنه قائد مسلم كبير
فتحَ أمريكا ! .
وهنا تدخَّلت الكاتبة الصحفية :
_ عفواً يا عَمُّو .. فتحَ إسبانيا ، يَعني
الأندلس ، وليس أمريكا .
ابتسمَ المختارُ ببلاهة ، وقال بصوت خجول :
_ لا تؤاخذيني .. كبرنا في السن ، والذاكرة
ضَعفت .. اكتبي في الجريدة عن طارق بن زياد مثلما عَلَّموك في الجامعة ! .
وأردف قائلاً :
_ وعلى أية حال ، إسبانيا وأمريكا كلها بلاد
أجانب .
ثم أشار المختارُ بأصبعه السبابة إلى البُقعة
المقابلة للمسجد ، وقال :
_ وهذه هي المقبرة . أسوارُها أثرية ، وترابها
يضم أشهر الشخصيات .
وعندما سمعت الكاتبةُ الصحفية جُملة "
أشهر الشخصيات " تشوَّقت لمعرفة هؤلاء الموتى ، فقالت :
_ هل يُمكن أن تذكر لنا بعض الأسماء الشهيرة
؟ .
صَمت المختارُ لوقتٍ قصير ، وراح يُفتِّش في
ذاكرته عن أهم الأسماء ، وقال :
_
سَجِّلي في دفترك . الحاجَّة سارة محمد عبد اللطيف زعيمة الحركة النسائية في الجبل
. كانت تحل المشاكل بين الناس ، ومَنَعت حالات طلاق كثيرة ، وولَّدت نصف نساء
الجبل مجاناً _ الله يَرحمها ويَجعل مأواها الجنة _ . والمحامون يَعتبرونها مرجعاً
في القانون العشائري .
ارتسمتْ علاماتُ الشوقِ على وجه المرأة ،
وسيطر الفضولُ عليها ، وقالت بلهفة حارقة :
_ هل لديها مؤلفات ؟ .. هل شاركتْ في
مؤتمرات محلية أو دولية ؟ .
ارتبكَ المختارُ ، وبدأ يَسعل بشكل متعمَّد
، وقال بنبرة مهزوزة :
_ بصراحة ، لم تؤلف كتباً لأنها كانت
أُمِّية لا تقرأ ولا تَكتب . ولم تشارك في مؤتمرات لأنها كانت مشغولة بالطبخ ،
ورعاية زوجها وأبنائها، وتوليد النساء . حتى إنها لم تستخرج جواز سَفر إلا مرة
واحدة في حياتها ، عندما قَرَّرت الذهابَ إلى الحج .
وأردف المختارُ قائلاً :
_ اكتبي أيضاً .. كانت المرحومة قائدة
الكفاح المسلَّح . وقد وجَّه لها هتلر رسالة شُكر لأنها قاومت الإنجليز، ووجَّه
لها تشرشل رسالة شُكر بسبب مقاومة الألمان .
كان الذهولُ يَقضم شظايا مكياجها . لم
تستوعب هذا الكلام ، فقالت وطيورُ الاستغراب تخمشُ خدودَها :
_ لم أَفهم ! .. هل كانت المرحومة عميلة
مزدوَجة ؟! .
انتفض المختارُ ، وقال بحدَّة :
_ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. هذا
الجبلُ لا يوجد فيه عملاء . المهم ، اكتبي في الجريدة إنها قادت الكفاح المسلح ،
واختاري الحربَ المناسِبة ! .
وتابعَ المختارُ :
_ ولا يمكن نسيان " عصام أبو الرُّكب
" أكبر تاجر بطيخ في تاريخ جبل النظيف .
ارتفع منسوبُ الذهول في جبهتها ، وقالت
والدهشةُ تفترس أعضاءها :
_ بطيخ ! .
ظَهرت الثقةُ على ملامح المختار ، وتحصَّن
بهدوء أعصابه ، وقال :
_ لا تستغربي يا ابنتي . كان رَجل أعمال
يساعد الفقراء والأرامل ، ويُوزِّع البطيخ على المنازل طيلة شهر رمضان المبارك
مجاناً _ الله يُحسن إليه _ . وحتى بعد رسوبه في انتخابات مجلس النواب ظَلَّ يساعد
الفقراء .
توقَّف المختارُ عند هذا الحد ، وحاول أن
يَتذكر أسماء أخرى ، لكن الكاتبة قَطعت حبل أفكاره قائلةً :
_ سنكتفي بهذَيْن الاسمين .
ثم قالت :
_ هل بقي هناك معالم في الجبل لم نزرها ؟ .
_ لَدَيْنا جمعية المركز الإسلامي ، وهي تقع
بجانب مسجد طارق. ولَدَيْنا مدرسة جبل النظيف الأساسية التي خَرَّجت الكثيرَ من
الطلاب الذين صاروا مثل توتن وسينا .
أَطلقت الكاتبةُ ضحكةً مجلجلة لم تَقدر على
منعها . وبعد فاصل طويل من الضحك ، قالت :
_ تقصد نيوتن وابن سينا .
ابتسم المختارُ ، وقال :
_ لا تؤاخذيني . العُمر له أحكام . والبركةُ
فيكِ .. أنتِ أعلم مني بهؤلاء الأجانب ! .
لم يعد المختارُ قادراً على المشي. رِجْلاه
لا تَحملانه . مفاصلُه تتفكك ، وفقراتُ عموده الفقري تنهار تدريجياً . وهذه
الجولةُ أَتعبته ، وفاقمتْ آلامَ عظامه . وقد طَلب من فريق العمل أن يَأخذوا
قِسطاً من الراحة ، ويُكمِلوا هذه الجولة فيما بعد .
لاقت الفكرةُ استحسان الجميع . لا بد من
استراحة المحارِب في هذه المعركة التي لا تريد أن تنتهيَ. وفي فترة الاستراحة
أَحضر مرافقو المختار مشروباتٍ غازية . وزَّعوها على طاقم العمل . وجلسوا في مكان
ظليل يُخطِّطون للمرحلة المقبلة .
استراحوا قرابة نصف ساعة. كان الوقتُ حُلماً
من لحم ودم . استعار المحارِبون أسلحتهم من حنجرة الطوفان . والشوارعُ المغلَّفة
بأكفان الزيتون رَحلت باتجاه عيونهم . وهُم سَيَرْحلون إلى هوية النزيف في شقوق
الحيطان .
قالت الكاتبة الصحفية للمختار :
_ بعد إِذنك يا عَمُّو ، نريد عمل لقاءات مع
السكان ، وأخذ آرائهم .
رفع المختارُ رأسَه عالياً ، وقال :
_ اعملي معي لقاء قبل الجميع . أنا المختار
، وكلمتي مسموعة ، ولا أحد يَكسرها .
_ يا عَمُّو ، أنتَ شخصية مميَّزة . سأضع
اسمك أولاً ، ولكن نريد لقاء الناس العاديين .
ضحك المختارُ ، وقال لمرافقيه :
_ سمعتُم هذا الكلام ؟ . أنا شخصية مميَّزة
، لكنكم لا تَعرفون قيمتي .
ولم يَكد يُنهي كلامَه حتى فوجئ الجميعُ
بشخص يقفز من داخل المقبرة على السور ، ثم يَهبط على الشارع مثل منطاد معطوب . عَمَّ
الارتباك في الأجواء ، واختلط الحابل بالنابل ، وعلا الضجيج . إنها مفاجأة من
العيار الثقيل . مَن هذا الشخص ؟! . هل ينتمي إلى عالَم الأحياء أو الموتى ؟! .
نظر إليه فريقُ العمل كما يَنظرون إلى كائن أسطوري لا يُرى إلا في أفلام الخيال
العلمي .
وَقفت الكاتبةُ أمامه مشدوهةً ، كأنها تريد
اكتشافه .. أن تَلمسه لتتأكد أنها في الواقع ولا تعيش حُلماً أو كابوساً . ارتبك
المختارُ أول الأمر ، ثم حاولَ أن يُلطِّف الجو ، ويُزيل الدهشة التي ضَربت
جذورَها في مناخ الرعب ، فقال مبتسماً :
_ لا تستغربوا .. هذا فايز ، من خِيرة شباب
الجبل . عِلْمٌ وأخلاق وأدب . وهو حفيد الحاجة سارة التي أخبرتُكم عنها .
ولم يَعرف المختارُ في البداية كيف يبرِّر
وجودَ فايز في المقبرة أمام فريق العمل ، ثم وَجد حِيلةً ، فقال واثقاً :
_ إنه يُنظِّف المقبرةَ من الأعشاب الضارة ،
ويُحافظ على جمالها . ففي هذا اليوم لَدَيْنا حملة نظافة تطوعية .
فَرحت الكاتبةُ عندما سَمعت هذا الكلام ،
وانطلت عليها الحِيلة ، وقالت بكل بساطة :
_ رائع ! ، إنكم تدمجون الشبابَ في العمل
الخيري التطوعي ، وهذا مؤشر على التقدم والازدهار .
عَلت البسمةُ وجهَ المختار ، وتهللت أساريره
، وقال :
_ إن شاء الله ، سوفَ نظل في حالة تقدم
وازدهار .
تحمَّست الكاتبة لإجراء لقاء مع فايز الذي
نَظرتْ إليه باعتباره شاباً منتمياً إلى مجتمعه، ويَعمل من أجل خدمته دون مقابل
مادي. وسوفَ يكون العملُ التطوعي موضوعاً جذاباً في هذا التحقيق الصحفي .
قالت الكاتبةُ ، وخدودُها الوردية تزداد
تفتحاً :
_ أستاذ فايز ، اسمحْ لي أن أسألك حول دورك
في العمل التطوعي لخدمة البيئة المحلية ؟ .
لأول مرة في حياته يَسمع أحداً يناديه
" أستاذ ". رَمى هذا اللقب وراء ظَهره ، ونَظر إلى هذه المرأة باستخفاف
واحتقار ، وقال :
_ انظري إلى ملابسك الفاضحة .. أنتِ فاسقة !
.
ألقى هذه اللغمَ في وجوه الجميع ، وانطلق
بكل هدوء . انسلَّ من المكان كما تنسل الشعرة من العجين .
سيطر جيشُ الوجوم على مساحات الوجوه ،
ووَقعت قلاعُ الحلم في قبضة الريح . تساقطت الرموشُ على الأرصفة . وألوانُ الطيف
ترتسم على أشكال الناس الحائرين . هكذا _ وبكل بساطة _ تتشقق الظلالُ ، وتسيل من
شواهد القبور . وقد صارت أجسادُ هؤلاء البشر شواهدَ قبور خرساء .
تغيَّر لونُ وجه الكاتبة . تبخر مكياجُها في
غبار السنوات . والبراكينُ الخامدة في قفصها الصدري ثارت من جديد. إنها تَغرق في
خريفها الشاحب، كأنها تنتظر ساعي بريد يُسلِّمها رسالةً قاتلة ، أو طَرْداً
مفخَّخاً . أطرافها ترتعش ، وما زالت واقفة في ثلاجة الموتى . صدمة كبيرة لم
تتوقعها . لقد أَطلق عليها رصاصةَ الرحمة ، أو هي أَطلقت على نَفْسها رصاصةَ
الذكريات .
والمختارُ صار أصفر اللون . وقف كالطفل
الصغير يَنظر حَوْله ببلاهة ، وهو غير مستوعب لما حَدَث. استجمع قواه الذهنية
بصعوبة. بصقَ على الأرض، وقال :
_ ولد تافه عديم التربية . الله يَخزيك ..
فضحتنا مع بنت الأكابر .
ثم نَظر إلى الكاتبة التي كانت في تلك
اللحظة كالجثة التي لا يَسندها سوى عمود كهرباء آيل للسقوط ، وقال :
_ لا تؤاخذيني يا ابنتي .. هذا الولدُ مريض
نَفْسي، وأهله يُعالجونه من الصرع. وأكيد هذه إحدى نوبات الصرع . وسوفَ نطلب من
الحكومة إنشاء عيادة لعلاج هؤلاء المرضى .
كان تبرير المختار ساذجاً ومكشوفاً ، لذا
قالت الكاتبة وهي تكاد تبكي :
_ لا داعي للتبرير والأعذار يا عمِّي . لقد
تعلَّمنا في مهنة الصحافة سماع الرأي والرأي الآخر . وهذا الشاب حُر في أفكاره
وآرائه .
_ الله يأخذه ويريحنا منه . شَوَّه سُمعةَ
جبل النظيف أمام الضيوف . هذا النوعُ من الناس لا يَعرف حرية ولا بطيخاً .
وأردف قائلاً :
_ لو سمحتِ يا ابنتي ، لا تكتبي هذه القصة
في الجريدة . لَدَيْنا نماذج مشرقة . ما رأيُكم في إجراء مقابلة مع أخيه ، الشيخ
عبد الرحيم عمران ؟. هذا رَجل فهمان تخرَّج من الجامعة ، ويُلقي دروساً في الإذاعة
، وفوق كل هذا يَحفظ كتابَ الله .
_ سوفَ نكتفي بهذا القَدْر ، فقد تأخَّرنا
في العمل ، ويجب تسليم التحقيق الصحفي لرئيس التحرير هذا اليوم .
وتفرَّقت القوافلُ في صحراء الشَّك . والمختارُ
ما زال يَدعو على فايز ، ويَصفه بأقبح الصفات . وأتى الوداعُ كما يأتي المطرُ
المفاجئ في صيف الجروح الساخنة . لا بد من الفِراق في دروب القمر الباكي. وبدأت
الوصايا الأخيرة. ستكتبُ الأمطارُ الحمضية سِفرَ الوصايا ، ووصيةَ الجرحى .
قال المختار في وصيته الأخيرة :
_ أرجوكِ اكتبي اسمي في رأس الصفحة بالخط
العريض .
وأخرج هويته الشخصية قائلاً :
_ سَجِّلي اسمي الرباعي لكيلا تنسيه .
ومضى يقول :
_ لا تنسي .. بالخط العريض . وقولي إن
المختار يَدعم مشاريع الحكومة في الإصلاح والتطوير . والمواطنون يَدفعون فواتير
الماء والكهرباء في الوقت المناسب ، ولن نسمح لأحد بسرقة الماء والكهرباء. أمَّا
موضوع تنظيم النسل، فنحن ملتزمون بخطة الحكومة ، ولكننا بحاجة إلى وقت لكي نُقنع
الناسَ بذلك .
توقَّف عند هذا الحد ، لأن نَفَسه قد انقطع
. التقط أنفاسه من جديد ، وقال :
_ ويا ليت تمدحيني ببعض الكلمات الرنانة. وأعدكِ
، إذا صرتُ وزيراً فسوفَ تكونين مديرة مكتبي ! .
كانت الرياحُ الشمسية تودِّع أزقةَ جبل
النظيف . والأشجارُ تهاجر من أرواح الموتى إلى الشفق . والدماءُ تتفرق بين القبائل
. صَمتت طبولُ الحرب ، وانتهت استراحة المحارِب إلى الأبد . وعَمَّ الصمتُ الرهيب
. عيونُ البشر أدغالٌ من القش المحترق ، وقططُ الشوارع تتقدم أمام الحواجز
العسكرية مذعورةً . هذه الأجسادُ المنهَكة حواجز عسكرية . الأحزانُ ساحةُ حربٍ ،
وجيشُ الصدى يَفرض شروطَ الهدنة على تاريخ البيوت العشوائية .
جاء الليلُ حاملاً معه شُعلة الأرق .
الهمومُ تتناثر على أثاث المنازل البسيط . السكانُ لا يَقدرون على النوم في هذه
الليلة الجارحة . الأذهانُ مشوَّشة ، والحواسُ رادار مُعطَّل . كل واحد يُفكِّر في
الجريدة . متى تَصدر ؟ . أين يتم توزيعها ؟ .
صار الجميعُ مثقفين . لم يَعد الرجال
يُفكِّرون في قوت يَوْمهم. لأول مرة لا يُفكِّرون في اقتناص رغيف الخبز . النساءُ
هَجرنَ فنونَ الطبخ ، وصحونَ المطبخ . الرجالُ لا يُفكِّرون في ممارسة الجنس مع
زوجاتهم . والنساءُ تَركنَ قمصان النوم في الخزانة ، والعطورُ منبوذة عند المرايا
. وَحْدَها رائحة العَرَق تحتل الأجسادَ البشرية .
والأطفالُ
لا يُفكِّرون في المدرسة ولا اللعب . الثقافةُ هي خبز الجميع . متى ينتهي هذا
الليل لكي يَشتروا الجريدةَ ؟. كل شخص تَظهر صورته في الجريدة سوفَ يقوم بقصها
ووضعها في برواز للذكرى يتوارثه أفرادُ العائلة كالأيقونة المبارَكة . والذي لا
تَظهر صورته سوفَ يُعلن الحِدادَ ، أو يَذهب إلى الجريدة معترضاً على هذه الإهانة ،
ومطالباً بإعادة التحقيق الصحفي . أفكارٌ غريبة هَجمت على الأذهان . ودائماً يكون
الليلُ طويلاً على المعذَّبين . الانتظارُ صعب ، يستنزف الأعصابَ ، يَعصرها مثل
الليمونة .
انطلقَ أذانُ الفجر ماسحاً الغبار عن الوجوه
المسحوقة . هاجرَ الرجالُ باتجاه الأذان. امتلأ مسجد طارق بن زياد ومسجد الشركس ،
حتى إن الناس ليُصلُّون في الطرقات. تعجَّب الجميعُ. والدهشةُ رَسمت خطوطها على
الوجوه. ففي العادة يكون المصلون في صلاة الفجر قِلة قليلة . هل نحن في رمضان ؟ .
هل سَهر الناسُ حتى السَّحور ثم جاؤوا إلى المسجد لأنهم كانوا مستيقظين ؟. هل صار
الناسُ كلهم أولياء لله يَحرصون على صلاة الفجر ويُضحون بلذة النوم من أجل لذة
العبادة ؟! . اللهُ هو الهادي .
انتهت الصلاةُ . وانتشر الناسُ في الدروب
المعتمة كالجراد المهووس . الكل يَبحث عن الجريدة. فُتحت المحلات مبكراً. حالةُ
استنفار قصوى . صفاراتُ الإنذار تتفجر في أذهان الناس . البعضُ انطلق إلى المناطق
المحيطة بجبل النظيف للحصول على الجريدة التي صارت مثل صَك الغفران .
لَمعت فكرة جهنمية في عقل يوسف ، صاحب بقالة
الخيَّامي . ذَهب إلى وسط البلد دون أن يُخبر أحداً. اشترى الجريدة بأعداد هائلة .
كان يتعامل مع الجريدة بالكيلوغرام وليس بالنُّسخ . اعتبرها مثل المعلَّبات أو علب
المشروبات الغازية .
تضاعف سِعرُ الجريدة تسع مرات. تأفَّف
الناسُ وأظهروا حنقهم، لكنهم _ في نهاية المطاف_ استسلموا لجشع يوسف وفلسفته
الاحتكارية. كثيرون ضَحوا بِقُوتِهم اليومي وقوتِ أبنائهم من أجل الحصول على
الجريدة . إنها غذاء الرُّوح ، وتاريخ مَن لا تاريخ له .
فَتَّشوا الجريدةَ سطراً سطراً .. حرفاً
حرفاً . إنهم يأكلون الحروفَ ، ويَشربون حِبرَ الكلمات. يُدقِّقون في الصور مثل الأطباء
الشرعيين الذين يريدون حَل ألغاز جريمة ما .. يَبحثون في كل أبعادها ، ويَربطونها
بالواقع . الناسُ فَقدوا عقولَهم في هذا الجبل . لا مكان للعقلانية ولا التأني . انتشرت
الفوضى ، واختلط الحابل بالنابل . وَحْدَها الهلوسة تتجول في الشوارع بكل جرأة .
قال أحدهم : (( إذا كانت الثقافة هكذا ، فأُريد أن أظل جاهلاً )) .
عَثرَ أحدُهم على العنوان المفقود . وَجد
الجنَّةَ الضائعةَ : " تحقيق صحفي حول جبل النظيف " . هَجم عليه الآخرون
ليَعرفوا رقم الصفحة . تم تعميمُ رقم الصفحة على جميع المواطنين في هذا الجبل .
صار رقماً أهم من دفتر العائلة . إنه رقمُ الحظ ، (( والذي ليس له حَظ لا يَتعب ولا
يَشقى )) . إنها الفلسفة الرسمية في هذه البُقعة .