الجرثومة الصغيرة والجرثومة الكبيرة
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
...........
دَور العقل الجمعي في تأسيس المفاهيم
الاجتماعية يُمثِّل جوهرَ السُّلطة الفكرية ذات السيادة المعنوية على إفرازات
الحياة اليومية . وهذه الحقيقة تَرجع إلى كَون العقل الجمعي هو المُؤهَّل لتفسير
ثقافة الأفراد ، وعلاقاتهم الاجتماعية ، وسلوكياتهم الحياتية النابعة مِن التفاعل
مَعَ الأحداث الواقعية والأحلام الخيالية . والعقلُ الجمعي ليس صيغةً مِن قواعد
التعامل الاجتماعي الجامدة ، والتعليمات المحفوظة مُسْبَقًا ، وإنَّما هو مِرآة
تَعكس درجةَ رُقِيِّ المجتمع روحيًّا وماديًّا . وهذا الرُّقِيُّ قائم على أساس
القُدرات العقلية في جمع المعلومات، وفحصها، وإيجاد روابط منطقية بينها،
والاستفادة مِنها في التخطيط للحاضر والمُستقبل ، ولا يَقوم الرُّقِيُّ على هَوَس
المنظومة الاستهلاكية ، لأن التَّقَدُّم الحقيقي يكمن في صناعة العقل القادر على
استخدام العِلم النافع لمنفعة البشرية ، وليس صناعة التَّوَحُّش الاستهلاكي ،
وحُمَّى الشِّراء والتَّسَوُّق ، والغرق في المُنتجات المادية للحضارة البشرية ،
واستنزاف موارد الطاقة ، وتدمير البيئة والمناخ ، وقتل رُوح الإنسان ، وإرهاق جسده
.
2
الوظيفة المركزية للعقل الجمعي في الحضارة ،
هي منع التعارض بين المسار والمصير ، لأن الغاية الشريفة يجب أن يكون الطريقُ
إلَيها نظيفًا ، والطريق إلى البَيت الجميل يجب أن يكون جميلًا ، لأن الجَمَال
مبدأ أساسي مُطْلَق ، لا يتجزَّأ ، ولا يَتغيَّر حَسَب المصالح الشخصية والظروف
الاجتماعية. ولا يُوجد عاقل يبني بَيتًا جميلًا في مكان مليء بالقُمامة . وهذا
الاتصال الوثيق بين المبدأ والغاية ، يُشير إلى الترابط الوجودي الحتمي بين العقل
الجمعي ، باعتباره المُتحدِّث الرسمي باسم ذِكريات الناس وأحلامهم وآمالهم ، وبين
الإفرازات الاجتماعية للحياة اليومية. وكما أن الإنسان ابن بيئته ، كذلك العقل ابن
بيئته ، ولكنَّ بيئة الإنسان تستمد شرعيتها من الحركة في المجتمع والتعامل معَ
الناس ، أمَّا بيئة العقل فتستمد شرعيتها مِن الحركة في الخيال والتعامل معَ الأفكار
، ومُحاولة نقلها إلى المجتمع ، لتغيير حياة الناس إلى الأفضل . وإذا كانت بيئة
الإنسان قائمة على التفاعل المادي معَ الأشخاص والأحداث اليومية ، فإن بيئة العقل
قائمة على التفاعل الرمزي مع تاريخ الأشخاص المُسْتَتِر ( الذكريات والأحلام
والمشاعر ) ، وتاريخِ الأحداث الخَفِيِّ ( الأسباب الحقيقية للسلوكيات الفردية
والجماعية) . والفرقُ بين بيئة الإنسان وبيئة العقل يجب أن يكون دافعًا للتكامل ،
وليس الصراع . والإنسانُ بلا عقل يتحوَّل إلى وحش شهواني كاسر ، والعقل بلا إنسان
يتحوَّل إلى أداة للقتل وتدمير مُنجزات الحضارة. وبالتأكيد، لا تَستطيع أيَّة
حضارة _ مهما كانت إنسانية ومُتقدِّمة وراقية _ أن تَمنع الجرائم ، ولكنَّها
تستطيع رفض تَبرير الجرائم ، ومَنع إيجاد شرعية لها . ولا يُمكن إيجاد إنسان بلا
ذُنوب ، ولكن يُمكن إيجاد إنسان بلا تَوَحُّش . وهذا يعني ضرورة تحقيق الشَّرْط
الإنساني في الحياة ، أي أن يكون الإنسانُ إنسانًا حقيقيًّا ، ولا يَكون وحشًا
يَرتدي قِناع الإنسان .
3
مِن أجل إيجاد حضارة أكثر إنسانية ورحمة
وأخلاقًا ، يجب قتل الوحش النائم في الإنسان ، وتَطهير الحضارة مِن التَّوَحُّش
الاستهلاكي الكامن فيها. وهذه المُهمة الصعبة لا يُمكن الوصول إلَيها إلا بتكريس
معاني البَذل والعطاء ومُساعدة الآخرين والعمل التَّطَوُّعي ، وتنظيف المَسار
الحضاري مِن مفاهيم القهر والنهب والإذلال والأنانية ، وبناء المجد الوهمي على
شقاء الآخرين وتعاستهم . وكما أن العَالَم يتوحَّد لمُواجَهة جُرثومة صغيرة تَجعل
مصيره على المِحَك، يجب عليه أيضًا أن يتوحَّد لمنع الحضارة مِن التَّحَوُّل إلى
جُرثومة كبيرة تُدمِّر حاضرَ البشر ، وتقضي على مُستقبلهم . وكما أن غسل الأيدي
مُهم لمنع وُصول الأمراض إلى الجسد ، كذلك غسل القُلوب مُهم لمنع وُصول الأمراض
إلى الرُّوح . وإن العاجز عن حماية رُوحه ، سيكون أكثرَ عجزًا عن حماية جسده .
ومِن المنطقي أن يُكافح الإنسانُ الأوبئة والأمراض ، ويسعى إلى تطهير الحياة من
الجراثيم ، لكن الكارثة عندما يتحول الإنسانُ إلى جُرثومة ضِد أخيه الإنسان ،
ويصير وحشًا كاسرًا ضِد المدنية ، وخطرًا حقيقيًّا على الوجود البشري .
4
الحيوان الذي يتصرَّف كحيوان ، يُمارس دَوره
المرسوم له بدِقَّة، ويُؤدِّي مهمته في النظام البيئي بكفاءة ونشاط . لكن الإنسان
الذي يتصرَّف كحيوان ، يخون إنسانيته ، ويُسيء إلى نفْسه ، وهذا هو السقوط
الأخلاقي المُريع ، والانهيار الشامل ، والانتكاسة الصادمة . ولا تُوجد مشكلة في
وجود الذئب في الطبيعة ، لكن المشكلة في تَحَوُّل الإنسان إلى ذِئب لأخيه الإنسان
.
5
حُب التَّمَلُّك الجُنوني إذا سيطرَ على
الإنسان، قاده إلى ارتكاب الجرائم وافتعال الحروب بكافة أشكالها . ومُحاولة
الاستحواذ على كل شيء ، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين وأحلامهم المشروعة،
يُؤَدِّيان إلى انتشار القتل العبثي ، والحروب التي لا تنتهي . وهذا سيكون على
حساب الإنسان والحضارة والمناخ. وإن الموتى الذين يتحركون على ظَهْر الأرض هُم
الخطر الحقيقي على الحياة ، وليس الموتى في بطن الأرض . ومَوْتُ القُلوب هو
الانتحار التدريجي الذي يَجعل الإنسانَ كيانًا فارغًا ، بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا
إنسانية . وسيظل مَوْتُ الإنسان في الحياة هو التَّحَدِّي الأبرز في الوُجود ،
والامتحان الحقيقي لضمير الحضارة .