اللاعب والملعوب به
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
..............
كُل إنسان يعيش
حَيَاتَيْن معًا : حياة في داخل جِسمه ، وحياة في داخل جِسم المجتمع . وسعادةُ
الإنسان مُتوقفة على العلاقة بين الحَيَاتَيْن ، فإن كانت هذه العلاقة متوازنة ،
وقائمة على التصالح مع الذات ، والوئام مع أفراد المجتمع ، شَعَرَ الإنسانُ
بالسلام الداخلي ، الذي ينعكس بصورة إيجابية على عناصر الطبيعة وتفاصيل العلاقات
الاجتماعية . وإن كانت هذه العلاقة مُضطربة ، وقائمة على الصراع مع الذات ،
والصِّدام مع أفراد المجتمع ، شَعَرَ الإنسانُ بالتمزُّق الداخلي ، الذي يتحوَّل
معَ مُرور الوقت إلى انهيار للحقائق والمشاعر ، مِمَّا يَجعل الإنسان لُعبةً
هامشية في مسرح للدُّمى ، وبدلًا مِن أن يكون الإنسانُ هو صانع الأحداث ، واللاعب
الأساسي في مركز الحضارة ، يُصبح مَلعوبًا به ، وشيئًا مِن الأشياء ، ودُميةً
تُحرِّكها الأصابعُ الخفية مِن وراء الستار . وهذا المصيرُ الكابوسي يجعل الإنسانَ
فاقدًا للثقة بِنَفْسه ، وعاجزًا عن بناء ذاته ، والمُساهمة في نهضة مُجتمعه .
وبالتالي ، لا يَستطيع الإنسانُ قيادةَ الأحداث ، وتَوجيه دَفَّة الوقائع ، لأنَّه
ببساطة لا يَملِك عناصر القُوَّة التي تَفْرِض على الآخرين احترامَه وتقديره
والاستماع إليه . وكُل إنسان لا يَقْدِر أن يَكون مَتبوعًا ، سيكون تابعًا ، وإذا
كان عاجزًا عن إنتاج الفِعْل ، سَوْفَ يتلقَّى أفعالَ الآخرين ، ويُصبح رَدَّةَ
فِعْل . وهذا الأمرُ في مُنتهى الخُطورة ، لأنَّه يُفْقِد الإنسانَ صَوته الخاص ،
فيصير رَجْعَ صدى ، ويتحوَّل الأصلُ إلى نُسخة مُزوَّرة ، وتَؤُول الهُوِيَّةُ
الإنسانية الإبداعية إلى هاوية سحيقة بلا تاريخ ولا جُغرافيا . والمشكلةُ المُنتشرة
في الأنساق الاجتماعية هي أن يَعتقد الإنسانُ أنَّه يُدافع عن وُجوده الشخصي . وفي
حقيقة الأمر ، هو يُدافع عن وجود الآخرين المُسيطر على هُويته ومشاعره ومصالحه.
لذلك، يجب أن يَسأل كُلُّ إنسان نَفْسَه، بدون تحايُل عليها: هل صَوتي المُسيطر
على كياني هو صَوتي الخاص أَم مُجرَّد صدى لأصوات الآخرين ؟ . وهل أنا اللاعب أَم
المَلعوب به ؟ . وهل أنا حجر على رُقعة الشِّطْرَنج أم اليد التي تُحرِّك الحجر وترسم
خطواته؟. والعاقلُ قد يَخدع الآخرين ، ولكنَّه لا يَخدَع نَفْسَه .
إنَّ
الصِّراع على احتكار البناء الإنساني الحضاري عملية صعبة وخطرة ، لأنَّها لُعبة
صِفرية ، لا مَجال فيها للتعادل، ولا تَقْبَل اللونَ الرمادي. والإنسانُ أمام
خِيَارَيْن لا ثالث لهما: إمَّا أن يَكون سَيِّدًا مالكًا لأمره وسِيادته، وقادرًا
على إطعام نَفْسِه وحمايتها مِن الأخطار ، وإمَّا أن يكون خادمًا لغَيره ، يمدُّ
يَدَه للآخرين ، لأنَّه لا يَمْلِك مِن أمره شيئًا ، ولا يَستطيع تَوفير مُتطلباته
اليومية ، وحاجاته الأساسية . وهذا المنظورُ الشخصي هو الأساس السياسي الحاكم على
العلاقات بين الدُّوَل ، والدُّوَلُ مُنخرطة في محرقة حقيقية وحروب مُستمرة ذات
أشكال متعددة ، لإثبات الوجود ، وفرض الهيمنة ، والوصول إلى أسواق جديدة ،
والاستحواذ على مناطق نفوذ مُؤثِّرة ، وصناعة وُكَلاء وأدوات ، لأنَّ الدُّوَل (
اللاعبين الأساسيين والرؤوس الكبيرة ) لا تُقَاتِل بِنَفْسها، وإنما تُقاتِل
بأدواتها ، وتستخدم أذرعها، وتبتز بأوراق الضغط ، ولا يُوجد لاعب يَرمي الجوكر في
أوَّل اللعبة. وأصعب الحُرُوب هي التي لا يُطلَق فيها الرصاص ، لأنَّها تستهدف قتل
الرُّوح، أمَّا الحروب التقليدية فتهدف إلى قتل الجسد . وقَتلُ الرُّوح أسوأ بكثير
من قتل الجسد .