فلسفة التنازلات في العلاقات الاجتماعية
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
.............
إن تاريخ الفكر يُولَد
باستمرار في الأنساق الاجتماعية الحَيَّة ، التي تمتلك ثنائية ( النقد / النقض ) ،
نقد الممارسات الفكرية البعيدة عن قواعد المنهج العِلمي ، ونقض السلوكيات
المُنحرفة عن المسار الحضاري ، وهذه
العملية تُمثِّل جوهرَ الحراك الاجتماعي . وكُل جوهر فكري حقيقي ، لا يتكرَّس
كنظام اجتماعي متوازن وفَعَّال ، إلا إذا وظَّف ثنائية ( النقد / النقض ) في
المجتمع الإنساني الواعي ، مِن أجل هدم القيم السلبية ، وبناء القيم الإيجابية .
وبين الهدم المنطقي التدريجي ، والبناء العقلاني المُتسلسل ، تتَّضح هُويةُ
المجتمع الفكرية ، ويتحدَّد مساره الإنساني ، وتبرز قدرته على التوفيق بين التناقضات
، والجمع بين الأضداد ، وتكريس منهجية إمساك العصا من المنتصف ، لحفظ حقوق الفرد
والجماعة . وفي كثير من الأحيان ، يتعذَّر الوصول إلى حُلول حاسمة وقاطعة ، بسبب
تعارض الرغبات والمصالح والدوافع . وعندئذ ، لا بُد من اعتماد أنصاف الحُلول ،
وتقديم تنازلات مُتبادلة ، مِن أجل ضمان سَير القطار الاجتماعي وعدم توقُّفه .
وينبغي أن تظل التنازلات بعيدةً عن المبادئ، لأن التنازل عن المبادئ انهيار شامل ،
أمَّا التنازل عن بعض الأدوات والسياسات فيمكن القَبول به ، إذا كان يُحقِّق
المصلحةَ للجماعة ، ويجلب النفعَ للفرد . وفي هذه الحالة ، ينبغي تكريس وَحدة
المصير الجامع بين الفرد والجماعة ، لأنَّ المصير الواحد ، يجمع الأطراف المختلفة
، كما أن التهديد المشترك يجمع المُتضررين ، على اختلاف أفكارهم وتوجُّهاتهم . والمصائب
تَجْمَع المُصابين .
2
إذا فُرض
التنازل على الشجرة ، فينبغي التنازل عن بعض الأغصان والفروع ، وعدم التنازل عن
الجَذر بأيَّة حال مِن الأحوال ، لأن الجَذر هو الضمانة الحقيقية لبقاء الشجرة .
وفي هذا السياق ، ينبغي التفريق بين التهديدات الجوهرية الوجودية ، والتهديدات
العَرَضِيَّة الطارئة . فالأُولَى تمسُّ مصيرَ المجتمع ووجوده الاعتباري وشرعية
بقائه ، ولا مجال لأنصاف الحلول في التعامل معها ، وأيَّة ضربة للعمود الفِقري
ستُؤدِّي إلى الشَّلَل ، وستكون ضربةً قاصمةً . أمَّا الثانية ، فهي تهديدات عابرة
ذات تأثير بسيط محدود ، يُمكن امتصاصه ، والتضحية ببعض المُكتسبات لمواجهته .
3
إذا امتلكَ
المجتمعُ الإنساني إرادته وقرارَه وأدواته العقلانية ، واقتحمَ المناطق الرمادية ،
مُسَلَّحًا بالفِكر والعِلْم والمعرفة ، استطاعَ صهرَ الأضداد والتناقضات في
بَوتقة النقد البَنَّاء ، والحصول على نسيج اجتماعي متماسك ومتجانس ، وتحقيق مصالح
جميع الأطراف بلا تهميش ولا اضطهاد ، والوصول إلى بَر الأمان . والتفاصيلُ
الحياتية لا تنقسم إلى الأبيض والأسود، لأنها تفاصيل مُتشابكة ومُتشعِّبة ، تجمع
بين المصالح المتعارضة ، والأهواء المُتصادمة ، والأفكار المختلفة . وما أراه
صحيحًا ، قد يراه غَيْري خاطئًا ، وما أراه خاطئًا ، قد يراه غَيْري صحيحًا ، لأنَّ
الحُكم على الشَّيء فَرْع عن تصوُّره ، والتصورات تنبع من المبادئ التي يعتنقها
الفردُ على الصَّعِيدَيْن الروحي والمادي. واختلاف المبادئ يعني اختلاف
التصوُّرات،واختلافُ التصوُّرات يعني اختلاف الأحكام . والحل الوحيد لهذه المُعضلة
المنتشرة في كل المجتمعات الإنسانية ، هي تعميق ثقافة الحوار ، والنِّقاش ،
ومُقارَعة الحُجَّة بالحُجَّة ، لأن الفِكر لا يُوَاجَه إلا بالفِكر ، كما أن
البندقية لا تُوَاجَه إلا بالبندقية . وأهميةُ الفكر تتجلَّى في بقائه على مَر
العصور والأزمان ، بغض النظر عن وجود صاحبه أو غيابه . فالفكرُ يظل حيًّا ، حتى لو
مات صاحبُه. وكَم مِن مُفكِّر ماتَ، وبقيت أفكارُه. بل إنَّ كثيرًا مِن
المُفكِّرين كان مَوْتُهم أو قتلُهم حياةً جديدةً لأفكارهم ، وكأن دمهم قد أضاءَ
حِبْرَ كلماتهم ، ونشرها في الآفاق . وهذا يدلُّ بوضوح على أن السلاح الوحيد
للتعامل مع الفِكر هو الفِكر .