أشباح الميناء المهجور
[رواية/الفصل الحادي والثلاثون( الأخير)]
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
دار اليازوري ، عَمان 2009م .
وفي طريق العودة قرَّر زياد أن يُعَرِّج على الشاطئ ، في تلك البقعة التي كان يرتادها في الماضي حينما كان يعود من صلاة الفجر . جلس على صخرة أحزانه ، ورمى كل جروحه في البحر . وأثناء ذلك مرَّ أسعد ، ذلك الخارج على قانون الاستئذان ، فهو يظهر من مجاهيل الومض من حيث لا تدري، يقتحم عوالم نزيفك ، ثم يلقي حلمَه ، ويرحل إلى المجهول كما جاء .
أخذ زياد يُجَهِّز نفسه للاستماع إلى تعاليم أسعد اللامتوقَّعة ، فصار توقُّع اللامتوقَّع هو نشيد هذا الشاطئ العنيف . اقترب أسعد وعيناه تبتسمان بصورة ساذجة ، وقال :
_ لا تحزن أيها الحزنُ ، فكل شيء سينطفئ . لقد سألتُ جِنِّيةً تزوجتْ أحدَ ملوك الجن الذي أَحَبَّتْه وأحبَّها عن عرسها الذي أقامه ضباطُ مخابرات غارقون في الرومانسية ، فقالت : (( رُبَّ امرئ حتفه فيما تمناه )) . بلادنا مقبرة ، فنحن نولد في المقبرة مليون مرة بكامل عنفوان الألم والرعشة ، ونموت في المقبرة مليون مرة بكامل عنفوان الضجر . نستيقظ في المقبرة ، وننام في المقبرة . ومع مرور الوقت نكتشف أن ذواتنا البشرية صارت مقبرةً كاملة المعالم مفعمةً بكل هندسة شواهد القبور الكريستالية . وهكذا نُدَمِّر أنفسنا بأنفسنا ، ويسرق بعضنا بعضاً ، ونظل نحلف أننا شرفاء .
_ لقد نسيتَ أن تقول إن الطوفان قادم ، لا بد أن يأتيَ .
_ نحن الطوفان ، ونحن الذين سنأتي ، وسننتزع أكسجينَ رئاتنا من حنجرة كل الأعشاب السامة ، ولن نرفع الرايةَ البيضاء .
ومضى أسعد إلى وجهته ، وهو يحدِّق في البحر بعينين حادتَيْن لا ترتعشان . وكلما مشى صرخ بأعلى صوته :
_ لِنَحْرِقْ كُلَّ الرايات البيضاء، ولنُجَهِّزْ كلَّ الأكفان البيضاء، ولنشطب البيتَ الأبيض ، ولنفتحْ شوارعنا المظلمة للقلوب البيضاء .
لأول مرة يشعر زياد أن أسعد صار صلباً وصعب المراس . لأول مرة يدرك أن ذلك القادم من المجهول الذاهب إلى المجهول لم يعد مجهولاً . إن نبرة التحدي في صوت البحر الممزوج بنظرات أسعد أخذت منحى جديداً ، منحى يزيد الذاكرةَ قدرةً على التوهج .
ومضى زياد إلى بيته ، والمشاعر المختلطة تتلاعب به . وعندما اقترب شيئاً فشيئاً رأى جموعاً كثيرة من الصحفيين والكاميرات التلفزيونية متجمعة أمام بيته ، فأدرك أن هناك أمراً غير عادي قد حصل ، لكنه لم يقدر على توقعه ، فهو لم يعرف أن هؤلاء الناس قد حضروا بسبب اعتراف الدكتور بأن كتاب" الرد على أرسطو" من تأليف زياد .
أُصيب زياد بالخوف المفاجئ من هذا المشهد ، وهو الذي كان يقود المظاهرات والاجتماعات ، ويخطب في الجميع دون أن يتلعثم أو يضطرب . ماذا حصل له ؟ . لم أتوقع أن يرتجف من منظر الجموع . أدرك أن عليه مغادرة المكان فوراً ليتجنب اللقاء بهؤلاء الناس . ولم يجد إلا العودة إلى أسعد ، والبقاء معه حتى ينفض الجمع .
رجع إلى الشاطئ ، ومضى يبحث عن أسعد ، وينادي عليه بكل ما في صوته من قوة ، لكن أحداً لم يجب غير ومض عيون البحر . واصل البحثَ لكن كل محاولاته باءت بالفشل . خاف أكثر من أي وقت مضى . شعر أن الشاطئ سيكون فارغاً لأول مرة في تاريخ الحلم ، وعارياً من آثار أقدام أسعد . هل سيمر أسعد من هنا مرةً أخرى ؟ . هل سيلقي تعاليمَه على هذه الرمال الشاسعة وهذا البحر النازف ؟ . استولت على أعضاء زياد مشاعر الفراغ والعدم المكاني ، فلم يقدر على الوقوف على رجليه .
جلس على صخرة قريبة ، وهو يجيل بصرَه في الأرجاء لعله يلتقي بأسعد ، ولو لدقيقة واحدة . كان الفراغ عارماً ، والبحر في ذروة هدوئه . صار زياد وحيداً في هذا المشهد السكوني المرعِب. حتى ظلال أسعد اختفت من مرايا البحر، كأن البحر هو الآخر خلع جِلْدَه ، وهرب من الأرجاء. جحظت عينا زياد ، وتداخلت أعضاؤه في احتفالات المد بموسم تزاوج الموج البِكْر . استعرضَ كلَّ تاريخ الرمال خلال عبوره في أرشيف السواحل النائية . غداً ستأتي السائحاتُ العاريات يلتقطن الصور التذكارية للفقراء والصيادين والباعة المتجولين، ويرجعن إلى بلادهن حاصلاتٍ على لحظات زمنية هاربة من أسر اللحظة .
بدا أن البحر تفاحةٌ للعابرين في نخاع المكان . لم يخطب الرملُ ألواحَ المراكب الجالسة على حواف الرعشة كالعاطلين عن العمل. لم يتذكر الليل أن يصادق البحرَ في دروب المجروحين أبداً كجناح نسر اعتزل الحياةَ السياسية ليموت وحيداً مثل أرملة حفار القبور . وطنٌ يهجر أزمنةَ الروح ، ويحفر قبرَه بيديه ، وما زال التصفيق يعلو رغوةَ المكان المتوحش .
وزَّع نظراتِه على كل الجهات،وآمن في تلك البؤرة الزمنية العميقة بأن الطوفان قادم ، ولكنْ من أية جهة سيأتي ؟ . لم يقدر على الإجابة عن هذا السؤال ، لكنه قال بصوت عنيف خلع كتفَ البحر :
_ صدقتَ يا أسعد . نحن الطوفان ، ونحن الذين سنأتي ، وسننتزع أُكسجينَ رئاتنا من حنجرة كل الأعشاب السامة ، ولن نرفع الرايةَ البيضاء .