الجاهلية المعاصرة والتحرر الشامل
المؤلف : إبراهيم أبو عواد
إن فلسفة الجاهلية المعاصرة تأخذ أشكالاً متعددة منها على سبيل المثال:
1) الشكل الثوري : كما في ثورة 1952م في مصر ، وثورة الخميني في إيران ، وكلاهما ثورة اللصوص على اللصوص .
2) الشكل السياسي : ويتمثل في القادة الفاتحين الذين ينامون في غرف العمليات ، ويدفعون الشباب إلى الموت مجاناً ، ثم يسمون الهزائم انتصاراتٍ ، ويسجلون تلك " الانتصارات " بأسمائهم وأنظمتهم الحاكمة . وهذا الشكل السياسي له أبعاد أخرى مثل السماح بالمظاهرات المرخَّصة مسبقاً لتحسين صورة النظام السياسي ، وإلصاق الحرية به لصقاً مفضوحاً . والعجيب أن الحكومات كلها تتحدث في السياسة ، ولا توجد حكومة تفهم في السياسة . حيث صارت سرقة الشعب جزء أساسي من فلسفة الوحدة الوطنية، لأن الشعب _ أصلاً _ يخطط حياته ويُنظِّمها وفق أساس فوضوي.
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( تأتي على الناس سنوات خَدَّاعات ، يُصَدَّق فيها الكاذب ، ويُكَذَّب فيها الصادق، و يؤتمن فيها الخائن ، ويُخَوَّن فيها الأمين ، وينطق فيهم الرويبضة )) ، قيل : يا رسول الله ، وما الرويبضة ؟ ، قال : (( الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )) [ الحاكم وصححه ، ووافقه الذهبي ] .
فالحاكم العربي الصَّنم يدير الدولة بالعقلية البدوية فهو شيخ القبيلة المقدَّس ، والشعب قطيع الغنم الذي لا يجرؤ على الاعتراض سواءٌ ذُبِح أم لم يُذبَح، وهذا جعل الوطن العربي أجمل مقبرة في العالم . وقد ماتت الدولة في ضمير الشعب ، فأضحى كل فرد دولةً مستقلة بلا بوصلة ، وبدون حلم جماعي موحَّد . فكل فرد صار هدفه أن ينجوَ بنفسه، وأن يقفز من هذه السفينة التي تغرق ( الوطن العربي ). وهذا مرجعه إلى أن الشعوب العربية مدمنة على المخدرات السياسية ، وهي تتعاطى الكوكايين السياسي منذ قرون ، وهو أخطر من كل أنواع المخدرات الموجودة .
وهذا التخبط السياسي العنيف أَفرز أنظمة عربية صهيونية مرمية في أحضان العدو اليهودي ، وهذا يعود إلى سببين :
أ ) السياسيون العرب يهرفون بما لا يعرفون ، فهم لديهم نفس فلسفة المتسولين على إشارات المرور .
ب) إن أقصر طريق إلى قلب الشيطان الأمريكي نيل رضا العدو الصهيوني الذي هو في واقع الأمر جثةٌ راقدة في غرفة العناية المركزة ، تعيش على أجهزة التنفس الصناعي ، وفي أية وقت سيتم تفجير غرفة العناية المركزة . ولا يخفى أن كل كارثة في العالَم وراءها أصابع يهودية بشكل مباشر أو غير مباشر .
إن مشكلة الحكم في العالَم العربي هي اتساع الصدمة الوجدانية المرافقة لتحول راعي الغنم إلى رئيس دولة. ومشكلة الحاكم أن أجهزته الأمنية لا تقدر أن تدافع عنه وهو في القبر . ولكن يظل الحل جذري الأكثر نجاعةً للتعامل مع الأنظمة الحاكمة باسم الشيطان هي قلب نظام الحكم عسكرياً.وفي الدول المتخلفة يكون الجيش الوطني هو أكبر منظمة إرهابية في البلاد. وعليه ينبغي للشعب أن يقول كلمته لأنه صاحب القضية ، ويكون ذلك عبر أخذ زمام المبادرة . ولكن الإشكالية الحقيقية أن المواطن العربي في علاقته مع الحاكم صار مثل المرأة الكاثوليكية التي ترى زوجها يخونها ، ومع هذا لا يحق لها طلب الطلاق .
إن الانهيار السياسي كان له تداعيات عنيفة على المؤسسة العسكرية العربية المهزومة والعاجزة. فالأمة العربية وضعت على مكتب الشيطان استقالتها من العروبة بعد أن خسرت فلسطين في لعبة قمار . وهناك نكتة مضحكة تقول إن الجيوش العربية غير مستعدة لتحرير فلسطين لأنها مشغولة بتحرير الأندلس .
3) الشكل المنافِق : ويتجسد في التطبيل والتزمير من قبل الشعب للحاكم منتظرين بعض الأعطيات والصدقات . وقد يصل الأمر إلى ظاهرة تقديس الطاغوت بعد موته ، وهذا مؤشر خطير على أن البعض يعشق قاتله مثلما تعشق المرأة غير السوية مغتصبها وجلادها . وإذا أردنا صناعة شعوب ثورية جديدة ينبغي تحطيم صور الطغاة في مخيلة الشعوب المدجَّنة . وللأسف فإن الشعب يعشق الرئيسَ الذي يضحك عليه . ومن خلال هذا الانكسار الانسحابي لا يمكن أن تبنيَ نظاماً في العالَم العربي إلا على أساس الفوضى المتجذرة وقرونِ التخلف الطويلة .
4) الشكل الفلسفي : وهو يتناول فلسفة الحكم المبنية على أساس " الغاية تبرِّر الوسيلةَ " ، والمستندة إلى أبعاد ذهنية وواقعية يتم تنفيذها بشكل تقابلي ارتدادي للحفاظ على ديمومة النظام الحاكم كيفما اتفق . إذ إن تقدم المجتمعات يشكل خطراً حقيقياً على الأنظمة الحاكمة ، لذا فمن مصلحة النظام الحاكم أن يظل الشعب متخلفاً . وما بُنِيَ على التلبيس لا يُكشَف إلا بالتمحيص . وللأسف فإن حكامنا يحكمون منذ عصر الديناصورات حتى الآن .
5) الشكل الاجتماعي : ويخص طبيعة نظر السلطة الحاكمة إلى الشعب فردياً وجماعياً . فالمواطن العربي الصالح هو الشخص المسطول الذي لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم . فالشخص الملتزم بالقانون هو الذي يُعاقَب، وهو الحائط المنخفض الذي يداس تحت الأقدام . أما بالنسبة للكفاءات والمواهب ، فالأدمغة العربية بين نارين بلا منطقة وسط : البقاء في الوطن العربي ، وهذا يعني تدمير المستقبل ، أو الذهاب إلى الغرب لخدمة الأعداء . ففي الوطن العربي لا فرق بين العالِم الحائز على الدكتوراة من هارفارد وبائع العلكة . كلاهما يملكان نفس المكانة ، بل على العكس فإن بائع العلكة يمتلك أفقاً فلسفياً أكبر لأن يستطيع تنفيذ مخططاته التطويرية ، أما العالِم فلا يقدر أن يطبق نظرياته في بيئة قاتلة للإبداع . وكل الأنظمة الشمولية في العالم تعتبر أن أفضل وسيلة للتعامل مع الموهبة هي التخلص منها لأنها تعتقد أن العقل المفكر يشكل خطراً على نظام الحكم ، فينبغي وأده . وكما قال الشاعر :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاء منعـم
وضمن منهجية إعادة تشكيل الإطار الاجتماعي نجد أن الحكومات فتحت أبوابَ الفجور على كافة المصاريع لتخدير الناس،وإبعادهم عن الكوارث السياسية. وقد دفعت الحكوماتُ اللصوصية كثيراً من الناس إلى بيع شرفهم لكي يأكلوا . وعلى أية حال فإن المرأة التي تبيع جسدها أفضل من الطغاة الذين باعوا شرفَ الأمَّة مجاناً ، وهم غارقون في التخمة . وكما قال الشاعر :
قد يُعذَرون لو أن الجوع أرغمهم
والله ما عطشوا يوماً و لا جاعــوا
ولن تحصل نهضة إلا إذا امتنع الحاكمُ عن سرقة الشعبِ ، لكن هذا لن يحصل في المدى المنظور ، لأن النظام العربي المعتمد في الإدارة هو الفوضى الخلاقة . وهكذا أضحى الوطن العربي بيئة خصبة لسرقة الشعب والفساد الإداري . ففي الدول المتقدمة يكون الحاكم خادماً للشعب، وفي الدول المتخلفة يكون الشعب خادماً للحاكم . وإن أخطر سياسة تمارسها الحكومةُ هي القتل المنهجي للمشاعر في دماء الشعب. فأضحى البشر أشباحاً مفرغة من المعنى، لاهثةً وراء كسرة الخبز بكل ذل. لكننا نشدد على المسار الاجتماعي وأبعاده الدقيقة التي ينبغي أن تستند إلى حقيقة أن الإنسان كلما اقترب من ملوك الأرض ابتعد عن ملك السماوات والأرض .
لكن الأنظمة السياسية التي تتغطى بالإسلام لنيل الشرعية الوهمية ، وتسييس الدين لمصالح شخصية ضيقة مستعدة أن تتاجر بكل شيء . وحينما يتخلى الحاكم عن صفات الألوهية سيخرج الوطن من المقبرة . أما من ينام في أحضان السلطة القمعية ثم يبحث عن العدالة والمستقبل المشرق فحاله كمن يبحث عن إمام مسجد في وسط تجار المخدرات . فالسياسة العربية كبيع البطيخ على الأرصفة بلا مسار ولا رؤية ولا وجهة ، وهي عاجزة عن تحقيق العدالة والتنمية . وهذه الشعوب العربية ضائعة بين طغاة الداخل وغزاةِ الخارج ، وبالتالي فهي في مركزية التخبط بلا حاضر أو مستقبل ، حتى الماضي صار مصادَراً . وكما هو معلوم فالفقر لا يظهر في المجتمع إلا إذا كان النظام الحاكم لصوصياً . والحاكم العربي أفسد دنيانا فأفسدنا آخرته .
والخلاص الحقيقي لهذه الأمة هو إعلان الجهاد في سبيل الله ( الكفاح المسلح ). ولا يخفى أن الذين فتحوا فلسطين هم الصحابة _ رضي الله عنهم _ ، ولن يعيدها إلا أحفادهم . فالشعب الفلسطيني جرَّب الخيار العلماني ( حركة فتح العميلة ) ففشل ، وقد رأينا كيف تحولت حركة فتح إلى وكلاء حصريين للاحتلال ، وجيشِ لحد ، وحكومةِ فيشي. وجرَّب الخيار الماركسي ( الجبهة الشعبية ) ففشل. وقد رأينا كيف أن جورج حبش الذي كان يسعى لإزالة النظام الأردني قد دُفِن في الأردن بإذن من السلطات الأردنية التي أَشفقت عليه .
وكل أطنان شعارات الحرية والتحرير كانت زوبعة في فنجان لأنها مبنية على أساس باطل . فقد تحولت البندقية إلى سيارة مرسيدس ، وهذه هي الكارثة الفعلية .
وياسر عرفات الفاشل _ الذي هو عبء على القضية الفلسطينية في حياته وبعد مماته_ حينما كان مقاوِماً للاحتلال كان الغرب يصنفه كإرهابي . وحينما تنازل عن فلسطين في أوسلو تم منحه جائزة نوبل للسلام . والحال ينطبق على منظمة التحرير الفلسطينية التي فشلت في تحرير ذبابة لأن الفساد نخرها منذ بدايتها حتى وفاتها .
وفلسفة الغرب النازي في كل العصور هي الكيل بمكيالَيْن . لذلك فإن البندقية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني . ولا مفر من بناء نظام حياتنا وفق منهجية نسور قريش كالحسين وابن الزبير : القتال حتى انفصال الرأس عن الجسد .
وبالتالي لا خيار للشعب الفلسطيني إلا حركات التحرر الإسلامية لأنها القادرة على الوقوف استناداً إلى متانة العقيدة التي تحركها . وإذا نظرنا بسرعة إلى خريطة الحركات المقاتِلة في العالم سنجد الغالبية الساحقة هي حركات إسلامية بامتياز مع اختلاف المنهجية في بعض الأحيان . ولا يمكن نسيان حقيقة أن الوجود البشري لا معنى له بدون تحرير فلسطين مملكةِ الله على الأرض . وإن عملية تحرير أي بلد إسلامي مندمجة بالكامل مع استرجاع الأندلس .
فالإسلام جهادٌ لا ينتظر المجاهِدَ ، ثورةٌ لا ترقبُ قدومَ الثائر ، وردٌ بلا شوكٍ لم ينبت على الأرضِ، لأن ما ينبتُ على الأرضِ تدوسه الأقدامُ. والإسلام أكبر حركة جهادية ثورية انقلابية في التاريخ . والسلطات الحاكمة تعرف هذه الحقيقة ، لذلك تعمل جاهدة على تدجين الإسلام ، وتقليم أظافر المجاهدين ، عبر توظيف علماء السلاطين الذين يقومون بتخدير الشعوب الإسلامية ليسهل ذبحُها عن طريق احتكار تأويل النصوص الدينية، وتوجيهها في درب شرعنة حكم الطواغيت، وتبرير ظلمهم وخيانتهم .
والجهاد لا بد له من أجيال متماسكة تحمله ، وهذا يعكس أهمية التربية الإيمانية الصافية ، وضرورة تربية الأبناء على أدبيات الانقلابات العسكرية ، لأن الدول العربية والإسلامية التي تم اختطافها بالقوة من قبل جهات معادية لا يمكن إعادتها إلا بالقوة . فقلب أنظمة الحكم السياسية والاجتماعية هو التطبيق الواقعي للحداثة المؤمنة .
وللأسف فإن الأم لم تعد تربِّي ، وإنما الخادمة هي التي تربي . فقد ضيعنا المرأةَ باسم حقوق المرأة . كما أن جمعيات حقوق تشريح المرأة سوقٌ لتعليم كيف تتاجرُ المرأةُ بأعضائها في الوقت الذي تريده وفي المكان الذي تختاره ، وعِصابةٌ لتحويل النساء إلى غرائز بمقاسات مختلفة حسب رغبة الزبائن .
لذا ينبغي إعادة التربية الإسلامية إلى البيت كأساس للتغيير في المجتمع من الرأس حتى القاعدة .