إن القصيدة ليست متحفاً يرتاده القادرون على الدفع، وإنما هي عالَم شعبي ونخبوي في آن معاً. كما أنها سياسة منطقية تتمتع بالمشاعر الفياضة التي تزيد المجتمع قوةً لا ضعفاً . وكلما ازدادت أهمية القيمة الشعورية في الجماعة البشرية ، برز صوتُ الحياة في خصائص القصيدة ، واتضحت الهويةُ البشرية في قلب الكلمات. الأمر الذي يزيد الأفقَ الشعري اتساعاً ، وقدرةً على الصمود في وجه الانتكاسات الاجتماعية . وعندئذ تتحرك الكلماتُ وفق بوصلة المعنى ، ويتركز المعنى في أقصى مدى الكلمات. وهذه العلاقة الثنائية هي الضمانة الأكيدة لكي يرى المجتمعُ صورته في القصيدة ، ويتزاوج صوتُ الوجود البشري مع صوت القصيدة .
ولا شك أن تمدد الفضاء الشعري في العلاقات الاجتماعية المتشابكة بين الفرد والجماعة والبيئة، من شأنه تأسيس نظام حياتي متمرد على الوهم، لا يستسلم لإفرازات الحضارة المريضة ، ولا يقبل أن يوضع الإنسانُ على هامش الحياة . وكل المحاولات الحثيثة لبناء هذا النظام الحياتي إنما ترمي إلى توعية الفرد بأهميته المركزية في مجتمع الكائنات البشرية الحية ، وعوالمِ الكائنات الشعرية الحية .
والقصيدةُ لا يمكن أن تولَد وتنمو إلا في محيط حَي وحُر ، لأن الحياة والحرية هما جناحا طائر الشِّعر ، وبدونهما سيتحول الشِّعر إلى جثة هامدة لن تستفيد من طوق النجاة ، ولا التنفس الاصطناعي . وإذا مات الشِّعرُ فإن الإنسان سيغدو ميتاً في الحياة ، تائهاً في دروبها بلا وُجهة . فالإنسانُ يكتشف ذاته في أعماق النص الشعري الذي يلعب _ باقتدار _ دورَ المرشِد العارف بالطرقات المتشعبة ، والقادر على تحديد أقصر الطرق الموصلة إلى الهدف .
والإنسانُ حينما يضع ثقته في النص الشعري ، فهو يراهن على المستقبل وفق بصيرة نافذة لا سذاجة عاطفية. فالشِّعرُ هو المبصِر بين العميان، والقادر على الرؤية في الظلام بلا مناظير ليلية .
والمجتمع حينما يعتبر القصيدة خط الدفاع الأول عن التاريخ والجغرافيا ، هو الذي سيربح في نهاية المطاف، فعندئذ يكون المجتمع قد حافظ على وجوده أمام الهويات الدخيلة، وطَهَّر أجزاءه من التطرف والاستبداد ، وأرسى ثقافةَ الأسئلة والحوار بعيداً عن المعطيات الجاهزة ، والمسلَّماتِ الافتراضية ، وثقافةِ الجعجعة بلا طحن .