سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

29‏/05‏/2014

كشمير تلبسني / قصيدة

كشمير تلبسني / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد 

facebook.com/abuawwad1982

..........................

     رَائحةُ المطرِ تَغْلي في عِظامي / يا نَشيداً أَقْوى مِن ضَوْءِ الرَّحيلِ / وَأَجْمَلَ مِن رَقصةِ الخريفِ على جَبينِ الرُّمْحِ/ كَشْميرُ يَاقوتةٌ في كَفِّ النَّهْرِ/ وِشاحُكِ يُغْرِقُني في إِيقاعات السِّكين / يَا لَكِ مِن زُمُرُّدةٍ حَمْراءَ أبراجاً ! / قُتِلْتِ ألفَ مَرَّةٍ وَمَا زِلْتِ تَمْشين / جَدِّفي في شَهيقي حتى فلسطين / لأني سَأُغنِّيكِ فَجْراً للعَواصفِ / وَأَنتِ سُلالةُ أقمارٍ / حُذِفَ الاغتصابُ مِن قَاموسها / تَوَضَّئي بِمَاءِ عُيوني المقْذُوفَتَيْن في غَاباتكِ / قَالَت: (( دَعْنا نَتَيَمَّمْ وَنُصَلِّ رَكْعَتَيْن )) / وَرَكِبْنا أشرعةَ الضَّبابِ / كَانَت جَدائلُكِ تَرتفعُ عَلى الحواجزِ الأمنيةِ عِنْدَ نَخيلِ الغروبِ / أتخيَّلُ جِلْدي كَشْميرَ / وَكَشْميرُ هِيَ أنا في رَعْشةِ الجهاتِ /

     يَوْمَ أضاءَ حِجَابُكِ في دُنيا القَمرِ/ كَانَ الناسُ سَلَّمُوا مَفَاتيحَ عُيونهم للنُّعاس / لَكِنِّي انتظرْتُكِ لآخُذَ عِن خُدودكِ أنهارَ السَّفَر/ رَكَضْنا في حَدائقِ المِشْنقةِ / لأنَّ التَّعبَ زَرَعَ رُموشَنا عَلى سُطوحِ القِطاراتِ / أَنْفُكِ يُشْبِهُ أَنْفِي / لَمْ يَبْقَ إِلا وَجْهان طَرِيَّان / بَنى الصَّخَبُ بَيْنهما سُوراً مِن الفَراشاتِ الرَّافضةِ /

     زِئْبقٌ في عُيونِ المنْفَى / وَأَنتِ وَجْهي حِينَ يَنصهرُ المساءُ / في حماقاتِ الهديلِ أيَّامَ شَبابه / دَفاترُ اليَتيماتِ مِن صُوفِ النِّعاجِ / والشُّوكولاتةُ تَنصهرُ عَلى زُجاجاتِ العِطْرِ / هِيَ صَباحٌ كَشميرُ أو دَمُ المجرَّة / أُحِبُّ الشِّعْرَ لأَكْرَهَ السَّلاطين / وأتوقَّعَ خِياناتِ الشَّاطئِ الهارِبِ / أُسَمِّي عَظماتي بَأسماءِ تِلالكِ / وَأَنظرُ في مَرايا عَيْنَيْكِ كَي أُصَفِّفَ شَعْري / وأُرتِّبَ ثِيابَ القِتالِ المغسولةَ / وأُجَهِّزَ التَّوابلَ للقَتلى القَادمين مِن الشَّفقِ/ ذَاكِرتي حَجَرٌ أَنقى مِن الأحجارِ الكَريمةِ/ فَاذْكُرِيني طِفْلاً بَاكياً بَينَ رُومانسيةِ الغُموضِ وَغُموضِ الجثثِ الضَّوْئيةِ / 
     أَنتِ عُشِّي / وَأنا الصَّقْرُ الذي يَنْهَشُني عِشْقُكِ / كُنتُ مُتعَباً مِن الإِبحارِ في ضَفائرِكِ / فَحَمَلْتُ جُثَّتي عَلى ظَهْري المشقَّقِ / وَتَنَقَّلْتُ في حِنَّاءِ كَفَّيْكِ الناعمتَيْن / شَرِيدٌ لَحْنُ وَريدِكِ / وأنا شَرِيدٌ / كَأَنَّ الرُّفاتَ على شَفِتي بُركانٌ وَحِيد /  
     مُشْتاقاً إِلى نَسيمِ نَبَضاتكِ الممْلوكةِ/ حَاصِريني بالقُبُلاتِ العَابرةِ / تلتصقُ يَدَانا / وَيَنْسابُ رَمْلُ البحرِ بَيْنهما / وَبِرَكُ السِّباحةِ في دِمَاءِ الشُّهداءِ / سَرَقَت حِصَّتنا مِن حُزْنِ الأنهارِ /  
     عِشْتُ مَوْتي في الشَّرايينِ اليابسةِ  / كَمَوْجَةٍ تَبْحثُ عَن جُثةٍ تتناولُ العَشاءَ في عُرْسِها/ هَشَّمَ رَبيعُ الأشلاءِ بَراويزَ لقائنا/ فَصِرْتُ بَعْدَكِ بِرْوازاً لِتِذْكاراتِ السُّنونو/ هَل رَأيتِ أجفاني خارجةً مِن إِشبيلية في السَّحَر ؟ / جُثةُ فَتاةٍ في بِئْرِ التاريخِ / مَثَّلَ بها المساءُ الضَّيقُ / أَحزانُ الطريقِ مَخَدَّةٌ للعَرائسِ في الكنيسةِ / الدَّمْعاتُ شَجَرتي اليتيمةُ/ وجُروحي أحصنةُ المنبوذين/ وَضَرَبَ الصَّمْتَ البنفسجيَّ الحقولُ المنْكَسِرةُ / فَلْتَكُن ثِيابُ الحِدَاد جَاهِزةً عَلى حَبْلِ الغَسيلِ /
     حُموضةُ الذِّكرياتِ على فَأْسِ الوَداعِ / أَسْتَلُّ مِن لَحْمِ القَمرِ قِطْعةً / وَيُشْرِقُ الحطبُ في جَبينِ يَمامةٍ / وَيَأْسِرُني شَوْقٌ إِلى شَيْءٍ غَامِضٍ/ الأمسُ المسْتَقْبَلِيُّ / وَالرِّيحُ الجريحةُ تَصْرَعُ اسْمَها / كَيْفَ مَشَتْ حِيطانُ السِّجْنِ إِلى مَناديلِ الصَّبايا ؟ / 

     أُنادي عَلى الشَّوارعِ القَتيلةِ / فارغةٌ أَنتِ إِلا مِن الضَّحايا والعَصافيرِ / وَغَابَت الحقولُ عَن مُؤتمرِ الصُّلْحِ بَيْنَ السَّرابِ والضَّبابِ / أَدُورُ عَلى أَبوابِ الأراملِ المذْبوحاتِ / تَصْعَقُ جِسْمي قَناديلُ الصَّحراءِ / والشَّفقُ يُنْزِلُ دَلْواً ممتلئاً بِسُعالي إِلى قَاعِ أحزاني / وَالنَّارُ لا تَعْلَمُ أَنَّ جَنينَ الرَّمادِ سَيَقْتُلها .

27‏/05‏/2014

التبرج والعري في الجاهلية

التبرج والعري في الجاهلية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982 

.......................

إن الحياةَ الاجتماعية في الجاهلية نسقٌ ضاغط على المرأة باعتبارها الطرف الأضعف ، والحلقة المكسورة . وهذا النسقُ الصحراوي العنيف قد حَصَرَ المرأةَ في دائرة الإغراء والزِّينة والشهوة . مما أدَّى إلى تبرُّج النساء بشكل أو بآخر . فالبيئةُ الجاهلية أقنعت المرأةَ بأن وجودها مرتبط بما تقدِّمه وتعرضه من جسدها . فَكُلما عَرَضت مساحةً أكبر من لحمها ومفاتنها صارت مطلوبة أكثر ، يُعجَب بها الرجال ، ويتسابقون لخطبِ وُدِّها . فالجاهليةُ ألغت عقلَ المرأة ، وحشرتها في زاوية الغريزة . فاقتنعت المرأةُ أن لا وجود لها خارج نطاق الشهوة . وللأسف فإن المرأة ككائن حي قد تم اختزاله في الجسد . وهذه نتيجة متوقَّعة لثقافة الجاهلية الاختزالية التي تنظر إلى جوانب مُحدَّدة في البشر ، وعناصرِ الطبيعة ، والشَّعائرِ الدينية . لذا فإن التهميش والاختزال هما من أبرز أركان فلسفة الجاهلية في تعاملها مع الأشياء .   
     قال الله تعالى : ] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [ [ الأحزاب: 33]{(1)}.
     والتبرجُ هو إظهار المرأة لزِينتها ومفاتنها ، وهو انعكاس طبيعي لحالة الجماعة البشرية التي سلَّعت المرأةَ (أي جعلتها سِلعة دنيئة )، وأدخلتها في التشيؤ الرخيص ( أي جعلتها شيئاً غير ذي قيمة ). فأضحت المرأة تضحِّي بجسدها وتعرضه على العامة مقابل أن تلقى الاهتمام والإشباع الذاتي ، ولكي تُقنِع نَفْسَها أنها قادرة على الإغراء وجذب الرجال{(2)}.
     والمرأةُ في الجاهلية كانت حريصةً على إظهار زِينتها ، وكشفِ مفاتنها ، لإغراء الرجال ، والاستحواذ على اهتمامهم ، فكانت المرأةُ تمشي بين الرِّجال ، كما أن مِشْيتها فيها تكسُّر وتغنُّج وتَبَخْتُر .
     وعن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ أنه تلا هذه الآية: ] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [، قال :     (( كانت فيما بين نوح وإدريس ألف سنة ، وأن بَطْنَيْن مِن وَلَد آدم كان أحدهما يَسكن السهل ، والآخر يَسكن الجبلَ ، وكان رِجالُ الجبل صِباحاً_ يعني جَمِيلين مُشرِقين _ ، وفي النساء دَمامة _ يعني قُبْحاً _ ، وكانت نساء السهل صِباحاً ، وفي الرجال دَمامة ، وأن إبليس أتى رَجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فجاء فيه بصوت لم يَسْمع الناسُ مِثْلَه فاتخذوا عِيداً يَجتمعون إليه في السَّنة، وأن رَجلاً من أهل الجبل هجم عليهم، وهُم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصَباحتهنَّ، فأتى أصحابه، فأخبرهم بذلك فتحوَّلوا إليهنَّ ، ونَزلوا معهنَّ ، فَظَهَرَت الفاحشةُ فِيهنَّ ، فذلك قَوْل الله _ عَزَّ وَجَلَّ _ : ] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [ )){(3)}.
     إن السلاحَ الفعَّال للشيطان هو الشَّهْوة ، فهو يتلاعب بالإنسان عبر تهييج شهوته ، وتحريكِ الفِعل الغريزي . فهؤلاء الرِّجالُ الصِّباح رَكضوا وراء شهوتهم وغريزتهم ، فَسَقطوا أمامَ النساء الجميلات ، ولم يَصْمدوا أمام هذا الامتحان القاسي ، فصارت الشهوةُ وسيلةً للفجور والفاحشة . وهذا الانحراف قد تَمَّ بسبب تحريك الشيطان للشهوة الكامنة ، وتزيينه للمعصية .
     ولا يخفَى أن النساءَ حبائلُ الشيطان ، يعني أنهنَّ شِباك الشيطان التي يَنْصبها للصَّيْدِ ، صَيْدِ الرجال ، وذلك لحاجة الرِّجال الشديدة إليهنَّ ، وكَوْنهن مَحل شهوة الرجال ، والأكثر قُدرة على الإغواء والإغراء . ولَوْلا الشَّهوة المركَّبة في الرَّجل لَمَا كانت للمرأة أيةُ سُلطة عليه. وكلُّ شخص لا يَقْدر الشيطانُ على اختراقه ، سَيُحاوِل اختراقه عن طريق النساء . فالمرأةُ هي زِينةٌ قائمة بذاتها .
     وعن أسامة بن زيد _ رضي الله عنهما_: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَا تَركتُ بَعْدي فِتْنةً أضر على الرِّجال مِن النِّساء )){(4)}.
     فالرَّجلُ مَجبولٌ على حُب المرأة ، والميل إليها . وهذا الأمرُ قد يَدْفعه إلى انتهاك المحرَّمات للظفر بها ، وتحقيق رغباتها . وفي المستطرف ( 2/ 493) : (( وقال حَكيم : النساء شَرٌّ كُلهنَّ ، وشَرُّ ما فيهنَّ قِلة الاستغناء عنهنَّ )) اهـ .
     فالمرأةُ شَرٌّ إذا كانت فاسدةً ، وهي خَيْرٌ إذا كانت صالحةً . وفي واقع الأمر ، إن النساء الصالحات قليلاتٌ جِداً مقارنةً مع النساء الفاسدات .
     وفي المستطرف ( 2/ 492) : (( في حِكمة داود _ عليه الصلاة والسلام _ : وَجَدْتُ في الرِّجال واحداً في ألف ، ولم أجد واحدة في جميع النساء )) اهـ .
     وإذا صَحَّ هذا عن النبي داود صلى الله عليه وسلم ، فهو يعني أن نِسبة الصالحين في الرِّجال أعلى مِن نِسبة الصالحات في النساء ، وأن الفسادَ في عالَم النساء أكثر من الفساد في عالَم الرِّجال .
     و" الجاهليةُ الأُولى " مُصْطَلَح يُعبِّر عن مرحلة زمنية مُحدَّدة . فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _  قال : (( كانت الجاهليةُ الأُولى ألفَ سَنة فيما بين نوح وإدريس )){(5)}.
     وقال القرطبي في تفسيره ( 14/ 158 ) : [ واختلف الناس في ( الجاهلية الأولى ) ، فقيل : هي الزمن الذي وُلد فيه إبراهيم _ عليه السلام _ : كانت المرأة تلبس الدِّرْعَ من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفْسَها على الرِّجال . وقال الحكم بن عيينة : (( ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، وَحُكِيَت لهم سِيَر ذميمة )) . وقال ابن عباس : (( ما بين نوح وإدريس )) . الكلبي : (( ما بين نوح وإبراهيم )) ، قِيل : (( إن المرأة كانت تلبس الدِّرْعَ من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثياب الرِّقاق ، ولا تواري بدنها )). وقالت فِرْقة : (( ما بين موسى وعيسى )) . الشعبي : (( ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم )) . أبو العالية : (( هي زمان داود وسليمان ، كان فيه للمرأة قميص من الدُّر غير مخيط الجانبين )) . وقال أبو العباس المبرد : (( والجاهلية الأولى ، كما تقول الجاهلية الجهلاء )) ، قال : (( وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يُظْهِرْنَ ما يَقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زَوْجها وخِلِّها فينفرد خِلُّها بما فوق الإزار إلى الأعلى ، وينفرد زَوْجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سألَ أحدهما صاحبه البدل )) ] اهـ .
     وهذا الانهيارُ الشاملُ يتمحور حول العُري والتَّعري والإغراء ، حيث كانت المرأةُ تخترع وسائل إغراء لجذب أنظار الرِّجال، ونَيْلِ اهتمامهم ، والسيطرةِ على مشاعرهم ، وتهييجِ شهواتهم، وبالتالي تصبح المتعةُ منظومةً مشتركة بين الرَّجل والمرأة ، ويشترك الاثنان في الاستمتاع المحرَّم .
     وفي الدر المنثور ( 6/ 601 ):[ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ سأله ، فقال : (( أرأيتَ قَوْلَ الله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [ ، هل كانت الجاهلية غير واحدة ؟ ))، فقال ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : (( مَا سَمعتُ بأُولى إلا ولها آخِرة )) ] اهـ.
     والمنْطقُ يقول إن مفهوم " الجاهلية الأُولى " يدل على وجود جاهلية ثانية أو أكثر .
     ويمكن اعتبار الجاهلية الأُولى هي جاهلية الكفر قبل البعثة المحمَّدية الإسلامية ، والجاهليةُ الثانية هي جاهلية الفِسق والمعاصي في الإسلام . ويُؤيِّد هذا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذَر _ رضي الله عنه _ : (( إِنَّكَ امرؤ فِيكَ جَاهلية )){(6)}.
     وهذا لا يعني أن أبا ذَر كافر خَرَجَ من الإسلام وعاد إلى الجاهلية . فلا يمكن جحد مكانة أبي ذَر العالية . وإنما يعني أن فِيه خِصْلة من خِصال أهل الجاهلية ، ينبغي تركها لمخالفتها للشرع .
     وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه ، قال : جاءت أُميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام ، فقال : (( أُبايعكِ على أن لا تشركي بالله شيئاً ، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي وَلدك، ولا تأتي بِبُهْتان تفترينه بين يَدَيْكِ ورِجْلَيْكِ ، ولا تنوحي ، ولا تبرَّجي تبرج الجاهلية الأُولى )){(7)}.
     إن شروط البَيْعة لَيْست شروطاً خيالية أو إنشائية. فهذه الصفاتُ القبيحة كانت منتشرةً بكثرة في الجاهلية، فأرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُطهِّر المجتمعَ من هذه العيوب تمهيداً لزرع الخير فيها . وبالتأكيد، إن دَرْءَ المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، كما أن الصفات الحسنة تتطلب بيئةً نظيفةً طاهرةً ، فلا بد من إجراء عملية تنظيف للقلوب والبيئة الاجتماعية قبل عملية زرع الفضائل، لكي يتم الحصول على نتائج جيِّدة، وثمار مفيدة . 
     فالشِّركُ بالله تعالى هو أساس الثقافة الجاهلية ، كما أن السرقة والزِّنا كانا في قلب الحياة العربية البدائية. وأيضاً قتل الولد ( وأد البنت ) كان شِعاراً رئيسياً في الحياة الجاهلية . أمَّا البُهْتان، فقد كانت المرأةُ في الجاهلية تلتقط الموْلودَ ، فتقول لزوجها : هذا ولدي مِنك . وبالنسبة للنِّياحة فهي رَفع الصوت بالندب على الميت ، وهذه الصِّفة كانت ملتصقةً بالمرأة الجاهلية . أمَّا التَّبَرُّجُ ، فقد كانت المرأة في الجاهلية تُبرز مفاتنها وتمشي في الأسواق مُتعطِّرة متكشِّفة متبخترة لِلَفْتِ انتباه الرجال ، وجذبهم إليها .
     وقد وضَّح الإسلامُ مخاطرَ هذا الفِعل ، وآثاره المدمرة في الحياة الاجتماعية للأفراد ، وألغاه بصورة حاسمة قاطعة . والإسلام لا يُغلق درباً محرَّماً إلا ويفتح بدلاً منه مئات الدروب المشروعة . فحثَّ على الزواج ، ودعا إلى أن تتزين المرأةُ لزوجها ، وأن يتزين الزَّوْجُ لامرأته ، لكي يحصل الإشباع العاطفي النَّفْسي والمادي داخل نطاق الأسرة، ولكي يحصل الاكتفاء الذاتي، فلا يبحث كل طرف عن الإشباع خارج نطاق الزوجية،وهكذا سد الإسلامُ الذرائع الموصلة إلى كل مفسدة.
     وقال اللهُ تعالى : ] ولا يَضْرِبْنَ بِأرجلهنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِين مِن زِينتهنَّ [ [ النُّور : 31] .
     أي : لا تَضرب المرأةُ بِرِجْلها إذا مشت في الطريق ليسمعَ الرجالُ صوتَ خَلْخالها ، فهذا الصوتُ المغري يُعْتَبَر من إظهار الزِّينة ، كما أنه يُحرِّك الشهوةَ ، وهو مُحرَّم . وفي أحيانٍ كثيرة يَكون الصوتُ أشدَّ تأثيراً من النظر . يقولُ بشار بن بُرْد ( وهو شاعر أعمى ) :
يا قومُ أُذني لبعض الحيِّ عاشقــة           والأُذن تَعشَق قبل العين أحيانــا
قالوا بمن  لا تَرى تَهذِي فقلتُ لهم            الأذن كالعين تُوفي القلب ما كانـا
     وهذا يدلُّ على أهمية حاسَّة السمع في مجال العِشق ، وأن سماع صوت المرأة _ أو أي صوت يَصْدر مِنها _ ذو تأثير بالغ في قلوب الرجال . فلا ينبغي الاستهانة بالأصوات ، خصوصاً إذا كانت ناعمةً ومليئة بالغنج والتَّكسُّر .  وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 378 ): (( كانت المرأة في الجاهلية ، إذا كانت تمشي في الطريق ، وفي رِجلها خَلْخال صامت لا يُعلَم صوته ، ضَربت بِرِجْلها الأرض ، فَيَعْلم الرجالُ طَنينه )) اهـ .
     وقد أشارَ الشاعرُ الجاهلي عمرو بن كلثوم إلى هذا المعنى بِقَوْله : يَرِنُّ خَشاشُ حَلْيِهما رَنينا .
     أي: تَرِنُّ خلاخيل الساقَيْن ( حَلْيِهما ). فهذه الخلاخيلُ المغرِيةُ لها خَشْخشةٌ ( صَوْت / رنين ). وهذا الرنينُ العذبُ يَنبعث من عالَم الإغراء والشهوة ، ويَقْرع قلوبَ السامعين بلا رحمة .
     وهذه السياسة الإغرائية نتاج متوقع للبيئة الجاهلية التي حَشرت المرأةَ في زاوية الجنس والمتعة الجسدية والإغراء . ولأن العقل الجاهلي الجمعي يمارس سلطاتِه بقسوة على الكيان الأنثوي ، فقد اقتنعت المرأة بأن شرعية وجودها مستندة إلى قدرتها على الإغراء وجذب الرجال ، فأضحت كالسلعة التي يراد تسويقها بشتى الوسائل لئلا تصبح بضاعةً كاسدة .
     ولم يتوقف الأمرُ في المجتمع الجاهلي عند فلسفة الإغراء واللعبِ بقلوب الرجال . بل أيضاً تكرَّست فلسفةُ العُري في السلوك الاجتماعي ، والشعائرِ الدينية الوثنية عند المرأة الجاهلية التي كانت تطوف حول الكعبة المشرفة عاريةً تماماً راميةً شرف المرأة وراء ظَهْرها، وهذا الانهيار الصادم في بنية التركيبة المجتمعية مرجعه إلى الثقافة الفوضوية في البيئة الجاهلية المعزولة عن العِلم وإعمال العقل . وفي صحيح مسلم ( 4/ 2320 ) : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( كانت المرأة تطوفُ بالبيت وهي عُرْيانة ، فتقول : مَن يُعيرني تطوافاً {(8)} ؟ ، تجعله على فَرْجها ، وتقول : اليومَ يَبْدو بَعْضُه أو كُلُّه ... فما بدا مِنه فلا أُحِلُّه . فَنَزلت هذه الآية : } خذوا زينتكم عند كل مسجد  {)) .
     قال الحافظ في الفتح ( 1/ 465 ) : (( ونقل ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العَوْرة )) .
     وهكذا نجد أن المرأةَ في الجاهلية كانت تَرْتع في مأزق العري وكشف العورات ، خصوصاً في البيت الحرام. وهذا يدل على الجهل بالله تعالى ، وفسادِ العقائد المختلطة بالهوى والجهل والكفر. فأراد اللهُ تعالى أن يرشدهم إلى الأخلاق العالية ، وستر العورات ، والالتزام بالهيئة الحسنة البعيدة كل البعد عن العري ، والانحراف الأخلاقي . فالحرص على الزينة عند الصلاة والطواف من شأنه أن يرتقيَ بإنسانية الإنسان ، وينتشلها من مستنقع الرذيلة والتعري .
     والعُري الجاهليُّ المقزِّزُ يعكس المرتبةَ المتدنية للمرأة . حيث يتم تعريتها باسم الدِّين ، وتصبح لوحةً عارية أمام الناظرين . وللأسف فقد ارتبط هذا العُري بالطواف حول بيت الله الحرام. مما يشير إلى فلسفة اختراع الشرائع والطقوس من بنات أفكار أهل الجاهلية الذين جعلوا عقولَهم مصدراً للتشريع والتحليل والتحريم، وهم يعتقدون أنهم على الصراط المستقيم .
     وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 279 ) : (( وأكثر ما كان النساء يَطُفْنَ عُراةً بالليل، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مُستنِد إلى أمر مِن الله وشرع )) اهـ .
     والطقوسُ الخرافية التي ابتدعها الوثنيون هي مؤشر على سعيهم الدؤوب لتكوين دِين ذي قواعد وفروع لئلا يَشعروا بالنقص أمام أصحاب الأديان كاليهود والنصارى . فالعربُ في الجاهلية كانوا حريصين على تكوين شريعة لهم تعكس ثقافتهم خصوصاً أنهم ليسوا أهلَ كتاب . فأرادوا أن تكون سلوكياتهم الصَّنمية هي الكتاب الشفوي المقدَّس مقابل التوراة والإنجيل. وبالطبع ، فإن غياب الهداية الإلهية في حياتهم ، وعدم وجود تشريع سماوي بين أيديهم ، وتخلفهم الصحراوي المتوارث، جعلهم يَنظرون إلى تقاليد آبائهم وأهوائهم وعقولهم القاصرة على أنها مصدر التشريع ، والشريعة اللازمة للفرد والجماعة . وهذا أشعرهم _ إلى حد ما _ بالتقارب مع اليهود والنصارى الذي كانوا يَفخرون على العرب بأنهم أهل كتاب . وطبعاً، كان عربُ الجاهلية يَشعرون بنقصهم ورُتبتهم المتدنية أمام اليهود والنصارى لأنهم ليس لديهم كتاب كالتوراة أو الإنجيل .
................الحاشية...................
{(1)} يقال : تَبَرَّجت السماءُ ، أي تزيَّنت بالكواكب. وتبرَّجت المرأةُ ، أي أظهرت زينتها ومحاسنها . [ انظر المعجم الوجيز ، ص 43] .
{(2)} المرأة الطبيعية تشعر بالانهيار حين تفقد القدرة على الإغراء، أو حين تشعر أنها غير مرغوب فيها. لذا يجب توجيه الإغراء وتفعيله داخل الحياة الزوجية لئلا تبحث المرأة عَمَّن تغريه خارج نطاق الزواج.
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 598 ) برقم ( 4013) ، وسكت عنه الذهبي .
{(4)} متفق عليه. البخاري ( 5/ 1959) برقم (4808) ، ومسلم ( 4/ 2097) برقم ( 2740 ) .
{(5)} ذَكَرَه الحافظ في الفتح ( 8/ 520 ) ، وقال : (( إسناده قوي )) .
{(6)} متفق عليه . البخاري ( 5/ 2248) برقم ( 5703)، ومسلم ( 3/ 1282) برقم ( 1661) .
{(7)} رواه أحمد في مسنده ( 2/ 196) برقم ( 6850). وقال الهيثمي في المجمع ( 6/ 41): (( رواه الطبراني ، ورجاله ثقات )) .
{(8)} قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 18/ 162 ): (( وهو ثوب تلبسه المرأة تطوف به.

وكان أهل الجاهلية يطوفون عُراة، ويرمون ثيابهم، ويتركونها ملقاة على الأرض ، ولايأخذونها أبداً ، ويتركونها تداس بالأرجل )) . 

25‏/05‏/2014

الطلاق في الجاهلية

الطلاق في الجاهلية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

................

     الطلاقُ {(1)} في الجاهلية كان أُلعوبةً بيد الرَّجل ، وكان يَقع على المرأة ظُلمٌ كبير ، حيث يتم استخدام الطلاق كورقة ضَغط على المرأة ، من أجل التلاعب بها ، واستغلالها ، واضطهادها .
     والجديرُ بالذِّكر أن المرأة كانت تُؤكل حقوقها ، وتُنهَب أموالها ، وتُعضَل ( تُمنَع ) بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تَنكح زوجاً ترضاه . قال اللهُ تعالى : ] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ [ [البقرة : 232].
     فإذا انقضت عِدَّةُ المرأة التي تَمَّ تطليقها ، فلا يحقُّ للوَلِيِّ أن يمنعها من العودة إلى زَوْجها السابق بنكاح جديد . 
     وفي صحيح البخاري ( 4/ 1645 ) : (( عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طَلَّقها زَوْجُها فتركها حتى انقضت عِدَّتها فخطبها ، فأبى معقل . فَنَزَلت : ] فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [ )){(2)}.
     إن العقلية الذكورية متغلغلة في الأنساق الاجتماعية ، لأن الجاهلية هي نسق ذكوري متطرف شديد الانغلاق والتأثير في الفرد والجماعة . فقمعُ المرأة ومنعها من حقوقها كان أمراً عادياً جداً، بل إنه كان مظهراً من مظاهر الرجولة ، وشدة البأس، وسيادة الرَّجل على المرأة ، وتجذير نفوذ الهرم السُّلطوي القَبَلي في المجتمع ، الذي رأسه الرَّجل الذي يأمر وينهى دون اعتراض .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 370 ) : (( ] فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [ إِمَّا أن يكون للأزواج ، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أَرَدْنَ من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لِحَمِيَّة الجاهلية ، كما يقع كثيراً من الخلفاء والسلاطين غَيرة على مَن كُنَّ تحتهم من النساء أن يَصِرْنَ تحت غَيْرهم ... )) اهـ .
     وهذا الأمرُ منتشر بكثرة في طبقة عِلْية القوم ، فالواحدُ منهم إذا طَلَّق زوجته ، لا يَسْتسيغ أن يرى طليقته ( وقد تكون أُم أولاده ) زوجةً لِرَجل آخر ، خصوصاً إذا كان من طبقة متدنِّية اجتماعياً . فهذا الأمرُ يَجرح كبرياءه ، ويَحرق ذكرياته ، ويَطعنه في الصميم . والإنسانُ لا يَعرف قيمةَ النِّعمة إلا بعد أن يَفقدها. وبشكل عام ، إن الإنسانَ لا يَرى الشيء الذي في يده ، وإنما يَرى الشيء الذي في أيدي الآخرين . والكثيرون لا يَعرفون قيمةَ زوجاتهم ، إلا بعد تطليقهنَّ ، ورؤيتهنَّ مع أزواجهنَّ الجدد . 
     وقال اللهُ تعالى : ] الطلاقُ مَرَّتان [ [ البقرة : 229] .
     أي : التطليق الرَّجعي اثنان . وقد كان طلاق الجاهلية غير محصور بعدد .
     وفي زاد المسير ( 1/ 263 ) : (( ففي قَوْله تعالى : ] الطلاقُ مَرَّتان [ قَوْلان : أحدهما _ أنه بيان لِسُنَّة الطلاق ، وأن يُوقع في كل قَرْء طَلْقة ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يَملك معه الرَّجعة ، قاله عروة وقتادة ... )) اهـ .
     وفي الدر المنثور ( 1/ 663) : (( وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن بعض الفقهاء قال :   " كان الرَّجلُ في الجاهلية يُطلِّق امرأته ما شاء، لا يكون عليها عِدَّة، فتتزوج من مكانها إن شاءت . فجاء رَجلٌ من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إني طَلَّقتُ امرأتي ، وأنا أخشى أن تتزوج فيكون الولد لِغَيْري ، فأنزل اللهُ : ] الطلاقُ مَرَّتان [ ، فَنَسَختْ هذه كُلَّ طِلاق في القرآن " )) .
     هناك فوضى عارمة في الطلاق عند أهل الجاهلية ، فهُم يُطلِّقون بلا عدد ولا حساب . وهذا يُشير إلى اعتبار المرأة تحصيل حاصل ، وسِلعةً خالية من المشاعر ، ومجرَّد شيء مثل باقي الأشياء . فالطلاقُ بلا عدد انعكاسٌ لحالة عدم احترام المرأة . ولا يخفَى أن المرأة إذا تزوَّجت بعد طلاقها مِن رَجل آخر ، قد يكون الولدُ لغير زَوْجها الأول، وبالتالي تَضيع الأنساب ، ويَختلط الحابل بالنابل . وهذا بحد ذاته أمرٌ شديد الخطورة ، وذو تأثير سلبي في العلاقات الاجتماعية .
     قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 120): (( ثَبَتَ أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عَدد )).
     وروى أبو داود في سُننه ( 1/ 666 ) عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ قال : (( ... وذلك أن الرَّجلَ كان إذا طَلَّق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طَلَّقها ثلاثاً، فَنُسِخَ ذلك ، وقال : ] الطلاقُ مَرَّتان [ الآية )) .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : (( كان الرَّجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يُطلِّقها ، وإِن طَلَّقها مائة أو أكثر إذا ارتجعها قبل أن تنقضيَ عِدَّتها ، حتى قال الرَّجلُ لامرأته : والله لا أُطلِّقكِ فتبيني مني ، ولا آويك إِلَيَّ ، قالت : وكيف ذلك ؟قال: أُطلِّقكِ، وكلما قاربتْ عِدَّتك أن تنقضيَ ارتجعتك ثم أُطلِّقكِ، وأفعل ذلك )). فَشَكَت المرأةُ ذلك إلى عائشة ، فَذَكَرَتْ ذلك عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَسَكَتَ فلم يقل شيئاً ، حتى نزلَ القرآنُ : ] الطلاقُ مَرَّتان [ {(3)}.
     إن إلحاق الأذى بالمرأة من أفعال الجاهلية . فالجاهليةُ هي نسقٌ اجتماعي ضاغط على المرأة باعتبارها الطرف الأضعف المسحوق . لذلك من الطبيعي ، أن يتم اضطهادها ، والإضرار بها ، من أجل السيطرة عليها، وإخضاعها، وتكريسها كعبدة خانعة لسَيِّدها الذي يَمْلكها . ويُعْتَبَر التلاعب بالطلاق سلاحاً فعَّالاً بيد الرَّجل لإذلال المرأة ، وسحق مشاعرها ، وتحويلها إلى كيان مُفْرغ من معناه . وهكذا صار التلاعبُ بالطلاق ورقةَ ضغط على المرأة للهيمنة عليها بشكل كامل .
     وقال اللهُ تعالى : ] ولا تُمسكوهنَّ ضِراراً لِتَعْتدوا [ [ البقرة : 231] .
     أي: لا تراجعوهن لإلحاق الضرر بهن ، وأنتم لا تحتاجون إليهن . والاعتداءُ هو تطويل العِدَّة .
     وقد كان الرَّجلُ يُطلِّق المرأةَ ثم يُراجعها ، ثم يُطلِّقها ، ثُم يُراجعها ، من أجل إلحاق الضرر بها ، وتعذيبها ، وليس لأنه بحاجة إليها . وهذا الفعلُ وَرِثه بعضُ المسلمين عن الجاهلية ، فجاءَ النهي الإلهي عن هذا العمل الخبيث الذي يُلحِق الضرر بالمرأة ، ويَجعلها أُلعوبة بيد الرَّجل .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 378 ) : (( قال ابن عباس ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد : كان الرَّجل يُطلِّق المرأةَ ، فإذا قاربت انقضاء العِدَّة راجعها ضِراراً لئلا تَذهب إلى غيره ، ثم يُطلِّقها فتعتد )) اهـ .
     إن الدوران في هذه الحلقة المفرغة يَرمي إلى تطويل العِدَّة على المرأة من أجل الإضرار بها ، وتحطيم أعصابها ، وكسر معنوياتها ، وتهشيم أحاسيسها . وهذا بالطبع يؤدي إلى انهيارها .
     وقال اللهُ تعالى : ] ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أرحامهنَّ [ [ البقرة : 228] .
     فلا يَجوز أن تكتم المرأةُ أمر الولد أو الحيض لكي تستعجل العِدَّةَ ، أو تُبطِل حَقَّ الرَّجعة .
وفي تفسير الطبري ( 2/ 462) عن قتادة قال : (( وكان أهل الجاهلية ، كان الرَّجل يُطلِّق امرأته وهي حامل، فتكتم الولدَ وتذهب به إلى غَيْره ، وتكتم مخافة الرَّجعة ، فنهى اللهُ عن ذلك )) اهـ .
     فالمرأةُ في الجاهلية كانت تكتم أمرَ حَمْلها لئلا يُعيدها زوجها حفاظاً على ابنه القادم . وخطَّتها تقضي بكتمان الولد للخروج من العِدَّة ، والزواج بِرَجل آخر ، والذهاب بالولد إليه . وهذا يدل على منهجية التلاعب بالأنساب في المجتمع الجاهلي .
     وفي تفسير الطبري ( 2/ 452 ) عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ قال : (( لا يَحِلُّ لها إن كانت حائضاً أن تَكتم حَيْضها ، ولا يَحِلُّ لها إن كانت حاملاً أن تَكتم حَمْلها )){(4)}.
     فعلى المرأة إذا كانت حائضاً أن تَكشف هذا الأمر ولا تُخفيه . وكذلك إن كانت حاملاً ، فينبغي أن تُظهِر حَمْلها. وهذه القضايا لا مجال للتلاعب بها أو إخفائها ، لأنه يترتب عليها مسائل كثيرة متعلِّقة بإثبات النَّسَب .
     ومن غرائب أهل الجاهلية ، وضِمن فوضى الطلاق ، أن الرَّجل كان يُطلِّق المرأة قبل الزواج ، أي إنهُ يُطلِّق امرأةً لا سُلطة له عليها . وهذا يُشير إلى مدى الاضطراب في العلاقات الاجتماعية .
     وذَكَرَ سِبطُ ابن الجوزي في إيثار الإنصاف ( ص 159) أن الزهري قال : (( كانت المرأة تُعرَض على الرَّجل في الجاهلية ( فإذا لم تعجبه ) قال: هي طالق ثلاثاً )) اهـ .
     وعن جابر_رضي الله عنه_قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا طَلاق لِمَن لم يَمْلك )){(5)}.
     فالرَّجلُ الذي يُطلِّق امرأةً وهو غير متزوج بها ، إنما هو يتصرف فيما لا يَمْلك . فهذه المرأةُ لَيْست في دائرة نفوذه ، ولا تَرتبط به بأية علاقة ، فكيف يقوم بفك علاقة غير موجودة أصلاً ؟!.
     وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا طلاق قَبْل النِّكاح )){(6)}.
     إن النكاح عُقدةٌ تُعقَد، والطلاقُ هو حَلٌّ لهذه العُقدة . فلا يُعقَل أن يتم حَل عُقدة قبل عَقْدها.
     وفي فتح الباري ( 9/ 433) : (( وقال الشافعي : سمعتُ مَن أرضَى من أهل العِلم بالقرآن يقول : كان أهلُ الجاهلية يُطلِّقون بثلات : الظِّهار ، والإيلاء ، والطلاق ، فأقرَّ اللهُ الطلاقَ طلاقاً ، وحَكَمَ في الإيلاء والظِّهار بما بَيَّن في القُرآن )) اهـ .
     والظِّهارُ مشتق من الظَّهر . وهو أن يقول الرَّجلُ لزوجته : أنتِ عليَّ كظَهْر أُمِّي .
     قال الحافظ في الفتح ( 9/ 432) : (( وإنما خُصَّ الظَّهْر بذلك دون سائر الأعضاء ، لأنه محل الركوب غالباً، ولذلك سُمِّيَ المركوب ظَهراً، فَشُبِّهت الزوجةُ بذلك لأنها مَركوب الرَّجل ))اهـ.
     والظِّهارُ كان يُعتَبَر في الجاهلية طَلاقاً . أمَّا في الإسلام فله وضعٌ خاص . فَيَحْرم إتيان الزوجة حتى يُخرِج الرَّجلُ كفَّارة الظِّهار .
     وعن عائشة _ رضي الله عنها _ : (( أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت ، وكان أوس امرءاً به لمم ، فإذا اشتد لممه ظَاهرَ من امرأته ، فأنزلَ اللهُ فيه كَفَّارة الظِّهار )){(7)}.
     واللممُ هنا بمعنى العصبية أو شِدَّة الغضب أو الحِدَّة . وهذا يدل على أهمية ضبط الأعصاب في العلاقة الزوجية لأن أيَّ كلمة غير محسوبة قد يكون لها آثار وخيمة على الزواج ، وقد تؤدي إلى إنهائه . وكَفَّارةُ الظِّهار هي : تحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ، وهي على الترتيب لا التخيير. ] فتحريرُ رَقبة مِن قَبْل أن يتماسا ذلكم توعظون بِه واللهُ بما تعملون خبير (3) فَمَن لم يَجد فصيامُ شهرين متتابعين مِن قَبْل أن يتماسا فَمَن لم يستطع فإطعامُ سِتين مِسكيناً [ [ سورة المجادِلة ] .
     أمَّا الإيلاءُ شَرْعاً فهو حَلف الرَّجل بالله تعالى ألا يَطأَ زوجته مدة تزيد عن أربعة شهر .
     قال اللهُ تعالى : ] للذين يُؤْلُون مِن نسائهم تَرَبُّصُ أربعة أشهر [ [ البقرة : 226] .
     الذين يَحلفون على عدم جِماع زوجاتهم . على الواحد منهم الانتظار أربعة أشهر من حِين الحلف . فإذا مَضَت هذه المدَّة ، فإمَّا أن يُطلِّق أو يُجامِع زوجته ، فإن رَفض الأمرَيْن معاً ، قام القاضي بالتطليق .
     وقد كان الإيلاءُ في الجاهلية طلاقاً . وفي العجاب في بيان الأسباب ( 1/ 579) : (( عن قتادة : كان أهلُ الجاهلية يَعُدُّون الإيلاء طلاقاً ، فَحَدَّ لهم أربعة أشهر ، فإن فاء _ رَجَعَ _ فيها كَفَّر يمينه وكانت امرأته ، وإن مضت أربعة أشهر ، ولم يفيء بها فهي تطليقة . وذكر الثعلبي عن سعيد بن المسيب : كان الإيلاء مِن ضِرار أهل الجاهلية ، كان أحدهم لا يُريد المرأة ، ولا يُحب أن يتزوَّجها غَيْره فَيَحْلف أن لا يَقْربها أبداً ، فكان يَتركها كذلك ، لا أيِّماً ، ولا ذات بَعْل )) اهـ .
     إن فلسفةَ الإيلاء في الجاهلية مبنيةٌ على الإضرار بالمرأة وإذلالها وتحطيمها . حيث تُتْرَك مثل الشيء البالي ، أو المتاع المهْمَل . فَزَوْجها موجود وغير موجود في حياتها . موجودٌ بمعنى أنه زَوْجها بِحُكم الأعراف والشريعة الجاهلية ، وغير موجود بمعنى أنه لا يقوم بِجِماعها وإحصانها ، وهذا حق شَرعي للمرأة، وبدونه يَفقد الزواجُ مُبرِّرَ وجوده، وتُصاب المرأة بأذى نَفْسي وجسدي في آنٍ معاً.
     وفي زاد المسير ( 1/ 256) : (( قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طَلب الرَّجل من امرأته شيئاً فأبت أن تُعْطِيَه حَلَفَ أن لا يَقْربها السَّنة والسَّنَتَيْن والثلاث )) اهـ .
     هذا يدل على أن الإيلاء كان يُسْتَخْدَم كعقوبة للمرأة ، وسيفٍ مُسلَّط على رقبتها ، وأداةٍ لابتزازها وتهديدها . وعندما يَحلف الرَّجلُ إلا يُجامِع زوجته لِسَنة أو أكثر ، فهذا يؤدي قَطْعاً إلى مشكلات أُسرية وأخلاقية لا حَصْرَ لها . والمرأةُ إن لم يُشبِعها زوجها في الفِراش ، فقد تَبحث عن الإشباع مع رِجال آخرين ، وهكذا يَكون بابُ الخيانة الزوجية قد فُتح على مِصْرَاعَيْه .
     وقد حَدَّدت الشريعةُ الإسلاميةُ الأجلَ بأربعة أشهر لحماية المرأة من الأذى النَّفْسي والجسدي، ولمعرفة موقف الرَّجل ، هل يُريد تطليق زوجته أَم العَوْدة إليها ( جِماعها ) .
     ونلاحظُ _ في هذا السياق _ أن الإسلامَ قد هَدَمَ عادة أهل الجاهلية في موضوع الظِّهار والإيلاء ، ووَضَعَ أحكاماً شَرعية واضحة لا لَبْسَ فيها ، بهدف حماية المرأة ، وصَوْن كرامتها ، والمحافظةِ على عواطفها ، وحفظِ جسدها ، وتوفير الظروف المناسبة لكي تَقوم بدورها المركزي كأُم وزوجة ضمن حياة إنسانية كريمة بعيدة عن الكبت العاطفي ، والكبتِ الجنسي ، وضمن ظروف اجتماعية راقية لا مكان فيها للعُقد النَّفْسية .
     وفي تفسير القرطبي ( 3/ 99) : (( وقد رُوِيَ أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد  :ألا طَالَ هذا الليلُ واسْوَدَّ جانبه ... وأرَّقني أن لا حبيب أُلاعبــه ... فوالله لَوْلا الله لا شـيء غَيْـره ... لِزُعْزِع مِن  هذا السرير جوانبه ... مخافة رَبِّي والحياءُ يَكُفُّـــني ... وإِكرام بَعْلي أن  تُنال مراكـبه . فلمَّا كان مِن الغد استدعى عُمر بتلك المرأة، وقال لها: أين زوجك ؟، فقالت : بَعثتَ به إلى العراق !، فاستدعى نساء فسألهنَّ عن المرأة : كم مقدار ما تصبر عن زوجها ؟ ، فقلنَ : شهرين ، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد صبرها في أربعة أشهر . فجعل عُمر مُدَّة غزو الرَّجل أربعة أشهر ، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووَجَّه بقوم آخرين ، وهذا والله أعلم يُقوِّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر )) اهـ .
     ويمكن استخلاص دروس عديدة من هذه القصة :
     أ _ إن الحاكم العادل يَحرص على معرفة أخبار شعبه . وهذا لا يعني التجسس عليهم ، وإنما يعني تفقُّد أحوالهم ، والوقوف على مشكلاتهم ، وإيجاد حلول عملية لها . أمَّا النومُ في القصور ، ونسيان أحوال الرَّعية ، وعدم السؤال عنهم ، فهذه صفات الحاكم الظالم .
     ب_ إن المرأةَ المتزوِّجة تحتاج إلى إشباع عاطفي، وإشباع جِنسي. وعلى الزَّوْجِ أن يَنتبه إلى هذا الأمر ، ويَحرص على إشباع زوجته، لكي تستمر الأُسرة بلا مشكلات. وأيُّ خللٍ في المنظومة العاطفية والحياةِ الجنسية ، فإن المشكلات ستعصف بالبيت والأُسرة ، وعندئذ يَغرق الأبَوَان مع الأبناء في مستنقع عميق . 
     ج_ الوَحدةُ قاتلةٌ وتُثير الخواطرَ السَّيئة . وعلى الإنسان أن يَملأ وقتَ فراغه بالأشياء المفيدة ، لأن الفَراغ مفسدة عظيمة، وفاتحة الشرور . والفراغُ هو المحطة الأُولى في طريق الانحراف. وبشكل عام ، إن الفراغَ في حياة المرأة المتزوِّجة سَيَقودها إلى الخيانة الزوجية . فإذا اختفت محبةُ الله من القلب ، سَكَنَ فيه محبةُ المخلوقين . وفي مدارج السالكين ( 3/ 129 ): (( قال الشافعي _ رضي الله عنه_: صَحِبْتُ الصُّوفيةَ، فما انتفعتُ مِنهم إلا بكلمتين ، سمعتُهم يقولون : الوقتُ سَيْفٌ ، فإن قَطَعْتَه وإلا قَطَعَكَ ، ونَفْسُكَ إن لم تشغلها بالحق وإلا شَغَلَتْكَ بالباطل )) اهـ .
     د _ المرأةُ الصالحة تَصون نَفْسَها ، وتَصون شَرفَ زوجها ، ولا تستغل فترةَ غيابه لخيانته ، وتلطيخ سُمعته من أجل شهوة مؤقَّتة ودنيئة .
     هـ _ الحاكمُ العادلُ يُحقِّق في الأمور للوقوف على طبيعتها، ويَسعى إلى حَل مشكلات رَعِيَّته بكل وسيلة ممكنة ، ولا يُهمِل أيَّةَ مشكلة _ مهما بَدَت صغيرة أو شخصية _ .
     و _ سؤال أهل الخِبرة عن الأُمور . فمثلاً ، إن النساء أعْلم بشؤون النساء ، لذلك يتم أخذ رأيهنَّ حول القضايا المتعلِّقة بالمرأة ، خصوصاً القضية الجِنسية .
     ز _ المرأةُ كيان من المشاعر والشهوات ، ولَيْست حائطاً. ولها رغبات ينبغي تحقيقها، خصوصاً الرغبة الجِنسية . فالغريزةُ مُركَّبة في الرَّجل والمرأة ، ويجب احترامها ، لأنها مخلوقٌ وضعه اللهُ تعالى في الكيان الإنساني من أجل التكاثر وإعمار الأرض . وهذه الغريزةُ ليست عَيْباً ، أو أمراً قذراً يستدعي الخجلَ ، بل هي غريزة محترمة يجب وضعها في سياقها الصحيح ( الزواج ) .
     ح _ الحرصُ على تمتين العلاقات الاجتماعية ، وذلك بعدم السماح للرجال بالغياب عن زوجاتهم لفترة طويلة .
     ط _ ترجمة الآراء القادمة من أصحاب الخِبرة إلى واقع ملموس ، وتحويل الأقوال إلى أفعال .
     وفي مجمع الأمثال للميداني ( 1/ 444) : (( وكان الرَّجلُ في الجاهلية إذ قال لامرأته " الظباءَ على البقر " بَانَتْ منه ، وكان عندهم طَلاقاً )) اهـ .
     و" الظِّباءَ " منصوبٌ على معنى اخترتُ . يعني : اخترتُ الظِّباءَ على البقر ، والبقرُ كنايةٌ عن النساء {(8)}. والمقصودُ هو بقر الوحش لأنها ترعى مع الظباء . وهذه العِبارةُ كانت في الجاهلية تُعْتَبَر طلاقاً ، مما يدل على الفوضى اللفظية والمعنوية في موضوع الطلاق . فلا يوجد احترام لكرامة المرأة ، ولا تقدير لمشاعرها ، فهي تُطلَّق لأتفه الأسباب .
     وفي الجاهلية ، كان الطلاقُ أُلعوبةً بيد الرَّجل ، حيث تم التلاعب بالطلاق ، وإدخاله في باب المزاح ، مما يدل على احتقار المرأة ، واعتبارها شيئاً تافهاً لا وَزْن له .
     قال اللهُ تعالى : ] ولا تَتَّخذوا آياتِ الله هُزُواً [ [ البقرة : 231] .
     وهذا نهيٌّ صريح عن التلاعب بآيات الله تعالى ، وعدم احترامها ، والإعراض عنها . فلا يجوز التهاون بأحكام الله تعالى واتخاذها أُلعوبةً، فإنها أحكامٌ شرعية مُقدَّسة . وقد كان الرَّجلُ في الجاهلية يُطلِّق زوجته ، ثم يقول إنني كنتُ لاعباً . 
     قال الواحدي في الوجيز ( 1/ 171) : (( كان الرَّجلُ يُطلِّق في الجاهلية، ويقول : إنما طَلَّقْتُ وأنا لاعب ، فَيَرْجع فيها )) اهـ .
     وفي هذا دلالةٌ واضحة على اتخاذ الطلاق لُعبةً،والنظر إلى المرأة على أنها دُمية للتسلية واللعبِ.
     وقد وصل هذا الفِعل الجاهلي إلى بعض المسلمين ، وتأثَّروا به لِقُرب عهدهم بالجاهلية . ففي العُجاب في بيان الأسباب ( 1/ 589 ) : (( أخرج الطبري بسند صحيح عن الزهري عن سليمان بن أرقم أن الحسن حَدَّثه أن الناس كانوا في عهد رسول الله يُطلِّق الرَّجلُ أو يُعتِق ، فيقال له : ما صنعتَ، فيقول: كنتُ لاعباً. قال الحسن:وهو قول الله تعالى: ] ولا تتخذوا آيات الله هزواً [ )).
     واللعبُ في موضوع الطلاق مرفوضٌ جُملةً وتفضيلاً ، لأنه يؤدي إلى إلحاق الضرر بالزوجة .
ومَن طَلَّقَ زوجته مازحاً أو لاعباً فقد وَقَعَ الطلاقُ . قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 147 ) : (( ولا خلاف بين العلماء أنَّ مَن طَلَّق هازلاً أن الطلاق يَلْزمه )) اهـ .
     وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث جِدُّهُنَّ جِدٌّ ، وهَزْلهنَّ جِدٌّ : النكاح والطلاق والرجعة )){(9)}.
     لقد أبطلَ الإسلامُ أمرَ الجاهلية ، حيث كان الناسُ فيها يتلاعبون بالألفاظ والمعاني ، ويتخذون آيات الله هُزواً ، فيتلاعبون بموضوع الطلاق وغيره . وقرَّر الإسلامُ بكل وضوح أن النكاح والطلاق والرجعة ، أمورٌ واقعة سواءٌ كانت بِنِيَّة الجِد أو الهزل ، وأن أحكامَها مُلزِمة مهما كان السياق الذي قِيل فيها .
.........الحاشية..........................
{(1)} قال الحافظ في الفتح ( 9/ 346 ) : (( الطلاق في اللغة : حَل الوثاق . مشتق من الإطلاق وهو الإرسال والترك . وفلان طلق اليد بالخير أي كثير البذل ، وفي الشرع : حَل عُقدة التزويج فقط وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي . قال إمام الحرمين : هو لفظ جاهلي وَرد الشرعُ بتقريره )) .
{(2)} قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 150 ) : (( ] تَعْضُلُوهُنَّ [ معناه تحبسوهن . وحكى الخليل : دجاجة معضل: قد احتبس بيضها. وقيل: العضل التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس )) اهـ . قلتُ : والمعضلة هي المشكلة، ومنه قول الشافعي :
إذا المعضلات تصدين لي           كشفت خفاء لها بالنظر
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 307) وصححه ، وقال : (( ولم يتكلم أحد في يعقوب ابن حميد بِحُجَّة )) اهـ ، وقال الذهبي عَقبه : (( قد ضَعَّفه غير واحد )) اهـ . قلتُ : يعقوب بن حميد، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب ( 1/ 607 ) : (( صدوق ربما وهم )) اهـ ، وقال الذهبي في الكاشف ( 2/ 393 ) : (( قال أبو حاتم : ضعيف . وقال غيره : صاحب مناكير . وقال البخاري : لم تر إلا خيراً، هو في الأصل صدوق )) اهـ. وفي الجرح والتعديل( 9/ 206) أن يحيى بن معين قال عنه : (( ليس بشيء )) .
{(4)} حسَّنه الحافظ في الفتح ( 1/ 425) .
{(5)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 222) برقم ( 2819) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(6)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 222) برقم ( 2820) ، وصحَّحه الذهبي .
{(7)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 523) وصححه ، ووافقه الذهبي .
{(8)} قال الميداني في مجمع الأمثال ( 1/ 164) : (( جاءَ يَجُرُّ بَقَرَهُ : أي عِيالَه. كَنَّى عن العيال بالبقر لأن النساء محلُّ الْحَرْث والزرع كما أن البقر آلة لهما )) اهـ .

{(9)} رواه الترمذي في سُننه ( 3/ 490 ) برقم ( 1184). وقال: (( هذا حديث حسن غريب . والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ))،والحاكمُ في المستدرك( 2/ 216 ) برقم ( 2800) وصححه . اهـ . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 210) : (( هو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك ، وهو مختلف فيه ، قال النَّسائي : مُنكَر الحديث ، وَوَثَّقه غيره ، فهو على هذا حسن )) اهـ . قلتُ : أخطأ ابن الجوزي حين اعتقد أن " عطاء " المذكور في سند الحديث هو ابن عجلان ، فقال في التحقيق في أحاديث الخلاف ( 2/ 294) : (( عطاء هو ابن عجلان متروك الحديث )) اهـ. قلتُ:" عطاء " هذا هو عطاء بن أبي رباح الفقيه المشهور ، مفتي أهل مكَّة في زمانه.