الطلاق في الجاهلية
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
................
الطلاقُ {(1)} في الجاهلية كان أُلعوبةً بيد
الرَّجل ، وكان يَقع على المرأة ظُلمٌ كبير ، حيث يتم استخدام الطلاق كورقة ضَغط
على المرأة ، من أجل التلاعب بها ، واستغلالها ، واضطهادها .
والجديرُ بالذِّكر أن المرأة كانت تُؤكل حقوقها ، وتُنهَب أموالها ، وتُعضَل ( تُمنَع ) بعد
الطلاق أو وفاة الزوج من أن تَنكح زوجاً ترضاه . قال اللهُ تعالى : ] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم
بِالْمَعْرُوفِ [ [البقرة : 232].
فإذا
انقضت عِدَّةُ المرأة التي تَمَّ تطليقها ، فلا يحقُّ للوَلِيِّ أن يمنعها من
العودة إلى زَوْجها السابق بنكاح جديد .
وفي صحيح البخاري ( 4/
1645 ) : (( عن الحسن : أن أخت معقل بن يسار طَلَّقها زَوْجُها فتركها حتى انقضت عِدَّتها
فخطبها ، فأبى معقل . فَنَزَلت : ] فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [ )){(2)}.
إن العقلية الذكورية
متغلغلة في الأنساق الاجتماعية ، لأن الجاهلية هي نسق ذكوري متطرف شديد الانغلاق
والتأثير في الفرد والجماعة . فقمعُ المرأة ومنعها من حقوقها كان أمراً عادياً جداً،
بل إنه كان مظهراً من مظاهر الرجولة ، وشدة البأس، وسيادة الرَّجل على المرأة ،
وتجذير نفوذ الهرم السُّلطوي القَبَلي في المجتمع ، الذي رأسه الرَّجل الذي يأمر
وينهى دون اعتراض .
قال الشوكاني في فتح
القدير ( 1/ 370 ) : (( ] فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [ إِمَّا أن يكون للأزواج ، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهن من أن يتزوجن
من أَرَدْنَ من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لِحَمِيَّة الجاهلية ، كما يقع كثيراً من
الخلفاء والسلاطين غَيرة على مَن كُنَّ تحتهم من النساء أن يَصِرْنَ تحت غَيْرهم ... )) اهـ .
وهذا الأمرُ منتشر بكثرة
في طبقة عِلْية القوم ، فالواحدُ منهم إذا طَلَّق زوجته ، لا يَسْتسيغ أن يرى
طليقته ( وقد تكون أُم أولاده ) زوجةً لِرَجل آخر ، خصوصاً إذا كان من طبقة
متدنِّية اجتماعياً . فهذا الأمرُ يَجرح كبرياءه ، ويَحرق ذكرياته ، ويَطعنه في
الصميم . والإنسانُ لا يَعرف قيمةَ النِّعمة إلا بعد أن يَفقدها. وبشكل عام ، إن
الإنسانَ لا يَرى الشيء الذي في يده ، وإنما يَرى الشيء الذي في أيدي الآخرين .
والكثيرون لا يَعرفون قيمةَ زوجاتهم ، إلا بعد تطليقهنَّ ، ورؤيتهنَّ مع أزواجهنَّ
الجدد .
وقال اللهُ تعالى : ] الطلاقُ مَرَّتان [ [ البقرة : 229] .
أي : التطليق الرَّجعي
اثنان . وقد كان طلاق الجاهلية غير محصور بعدد .
وفي زاد المسير ( 1/ 263
) : (( ففي قَوْله تعالى : ] الطلاقُ مَرَّتان [ قَوْلان : أحدهما
_ أنه بيان لِسُنَّة الطلاق ، وأن يُوقع في كل قَرْء طَلْقة ، قاله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يَملك معه الرَّجعة ، قاله عروة وقتادة ... )) اهـ
.
وفي الدر المنثور ( 1/
663) : (( وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن بعض الفقهاء قال : " كان الرَّجلُ في الجاهلية يُطلِّق امرأته
ما شاء، لا يكون عليها عِدَّة، فتتزوج من مكانها إن شاءت . فجاء رَجلٌ من أشجع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إني طَلَّقتُ امرأتي ، وأنا أخشى أن
تتزوج فيكون الولد لِغَيْري ، فأنزل اللهُ : ] الطلاقُ مَرَّتان [ ، فَنَسَختْ هذه كُلَّ طِلاق
في القرآن " )) .
هناك فوضى عارمة في الطلاق عند أهل الجاهلية
، فهُم يُطلِّقون بلا عدد ولا حساب . وهذا يُشير إلى اعتبار المرأة تحصيل حاصل ،
وسِلعةً خالية من المشاعر ، ومجرَّد شيء مثل باقي الأشياء . فالطلاقُ بلا عدد
انعكاسٌ لحالة عدم احترام المرأة . ولا يخفَى أن المرأة إذا تزوَّجت بعد طلاقها مِن رَجل آخر ، قد يكون
الولدُ لغير زَوْجها الأول، وبالتالي تَضيع الأنساب ، ويَختلط الحابل بالنابل .
وهذا بحد ذاته أمرٌ شديد الخطورة ، وذو تأثير سلبي في العلاقات الاجتماعية .
قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 120): (( ثَبَتَ
أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عَدد )).
وروى أبو داود في سُننه
( 1/ 666 ) عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ قال : (( ... وذلك أن الرَّجلَ كان إذا
طَلَّق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طَلَّقها ثلاثاً، فَنُسِخَ ذلك ، وقال : ] الطلاقُ مَرَّتان [ الآية )) .
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : (( كان الرَّجل
يُطلِّق امرأته ما شاء أن يُطلِّقها ، وإِن طَلَّقها مائة أو أكثر إذا ارتجعها قبل
أن تنقضيَ عِدَّتها ، حتى قال الرَّجلُ لامرأته : والله لا أُطلِّقكِ فتبيني مني ،
ولا آويك إِلَيَّ ، قالت : وكيف ذلك ؟قال: أُطلِّقكِ، وكلما قاربتْ عِدَّتك أن تنقضيَ
ارتجعتك ثم أُطلِّقكِ، وأفعل ذلك )). فَشَكَت المرأةُ ذلك إلى عائشة ، فَذَكَرَتْ ذلك
عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَسَكَتَ فلم يقل شيئاً
، حتى نزلَ القرآنُ : ] الطلاقُ مَرَّتان [ {(3)}.
إن إلحاق الأذى بالمرأة من أفعال الجاهلية .
فالجاهليةُ هي نسقٌ اجتماعي ضاغط على المرأة باعتبارها الطرف الأضعف المسحوق .
لذلك من الطبيعي ، أن يتم اضطهادها ، والإضرار بها ، من أجل السيطرة عليها،
وإخضاعها، وتكريسها كعبدة خانعة لسَيِّدها الذي يَمْلكها . ويُعْتَبَر التلاعب
بالطلاق سلاحاً فعَّالاً بيد الرَّجل لإذلال المرأة ، وسحق مشاعرها ، وتحويلها إلى
كيان مُفْرغ من معناه . وهكذا صار التلاعبُ بالطلاق ورقةَ ضغط على المرأة للهيمنة
عليها بشكل كامل .
وقال اللهُ تعالى : ] ولا تُمسكوهنَّ ضِراراً لِتَعْتدوا [ [ البقرة : 231] .
أي: لا تراجعوهن لإلحاق الضرر بهن ، وأنتم
لا تحتاجون إليهن . والاعتداءُ هو تطويل العِدَّة .
وقد كان الرَّجلُ يُطلِّق المرأةَ ثم
يُراجعها ، ثم يُطلِّقها ، ثُم يُراجعها ، من أجل إلحاق الضرر بها ، وتعذيبها ،
وليس لأنه بحاجة إليها . وهذا الفعلُ وَرِثه بعضُ المسلمين عن الجاهلية ، فجاءَ
النهي الإلهي عن هذا العمل الخبيث الذي يُلحِق الضرر بالمرأة ، ويَجعلها أُلعوبة
بيد الرَّجل .
قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 378 ) : (( قال
ابن عباس ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد :
كان الرَّجل يُطلِّق المرأةَ ، فإذا قاربت انقضاء العِدَّة راجعها ضِراراً لئلا تَذهب
إلى غيره ، ثم يُطلِّقها فتعتد )) اهـ .
إن الدوران في هذه الحلقة المفرغة يَرمي إلى
تطويل العِدَّة على المرأة من أجل الإضرار بها ، وتحطيم أعصابها ، وكسر معنوياتها
، وتهشيم أحاسيسها . وهذا بالطبع يؤدي إلى انهيارها .
وقال اللهُ تعالى : ] ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أرحامهنَّ [ [ البقرة : 228] .
فلا يَجوز أن تكتم المرأةُ أمر الولد أو
الحيض لكي تستعجل العِدَّةَ ، أو تُبطِل حَقَّ الرَّجعة .
وفي تفسير الطبري ( 2/ 462)
عن قتادة قال : (( وكان أهل الجاهلية ، كان الرَّجل يُطلِّق امرأته
وهي حامل، فتكتم الولدَ وتذهب به إلى غَيْره ، وتكتم مخافة الرَّجعة ، فنهى اللهُ عن
ذلك )) اهـ .
فالمرأةُ في الجاهلية كانت تكتم أمرَ
حَمْلها لئلا يُعيدها زوجها حفاظاً على ابنه القادم . وخطَّتها تقضي بكتمان الولد
للخروج من العِدَّة ، والزواج بِرَجل آخر ، والذهاب بالولد إليه . وهذا يدل على
منهجية التلاعب بالأنساب في المجتمع الجاهلي .
وفي تفسير الطبري ( 2/ 452 ) عن ابن عمر _
رضي الله عنهما _ قال : (( لا يَحِلُّ لها إن كانت حائضاً أن تَكتم حَيْضها
، ولا يَحِلُّ لها إن كانت حاملاً أن تَكتم حَمْلها )){(4)}.
فعلى المرأة إذا كانت حائضاً أن تَكشف هذا
الأمر ولا تُخفيه . وكذلك إن كانت حاملاً ، فينبغي أن تُظهِر حَمْلها. وهذه
القضايا لا مجال للتلاعب بها أو إخفائها ، لأنه يترتب عليها مسائل كثيرة متعلِّقة
بإثبات النَّسَب .
ومن غرائب أهل الجاهلية ، وضِمن فوضى الطلاق
، أن الرَّجل كان يُطلِّق المرأة قبل الزواج ، أي إنهُ يُطلِّق امرأةً لا سُلطة له
عليها . وهذا يُشير إلى مدى الاضطراب في العلاقات الاجتماعية .
وذَكَرَ سِبطُ ابن الجوزي في إيثار الإنصاف ( ص 159) أن الزهري قال : (( كانت
المرأة تُعرَض على الرَّجل في الجاهلية ( فإذا لم تعجبه ) قال: هي طالق ثلاثاً ))
اهـ .
وعن جابر_رضي الله عنه_قال: سمعتُ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا طَلاق لِمَن لم يَمْلك )){(5)}.
فالرَّجلُ الذي يُطلِّق امرأةً وهو غير
متزوج بها ، إنما هو يتصرف فيما لا يَمْلك . فهذه المرأةُ لَيْست في دائرة نفوذه ،
ولا تَرتبط به بأية علاقة ، فكيف يقوم بفك علاقة غير موجودة أصلاً ؟!.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه _ رضي الله
عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا طلاق قَبْل النِّكاح )){(6)}.
إن النكاح عُقدةٌ تُعقَد، والطلاقُ هو حَلٌّ
لهذه العُقدة . فلا يُعقَل أن يتم حَل عُقدة قبل عَقْدها.
وفي فتح الباري ( 9/ 433) : (( وقال
الشافعي : سمعتُ مَن أرضَى من أهل العِلم بالقرآن يقول : كان أهلُ الجاهلية يُطلِّقون
بثلات : الظِّهار ، والإيلاء ، والطلاق ، فأقرَّ اللهُ الطلاقَ طلاقاً ، وحَكَمَ في
الإيلاء والظِّهار بما بَيَّن في القُرآن )) اهـ .
والظِّهارُ مشتق من الظَّهر . وهو أن يقول الرَّجلُ لزوجته : أنتِ عليَّ
كظَهْر أُمِّي .
قال الحافظ في الفتح ( 9/ 432) : (( وإنما
خُصَّ الظَّهْر بذلك دون سائر الأعضاء ، لأنه محل الركوب غالباً، ولذلك سُمِّيَ المركوب
ظَهراً، فَشُبِّهت الزوجةُ بذلك لأنها مَركوب الرَّجل ))اهـ.
والظِّهارُ كان يُعتَبَر في الجاهلية طَلاقاً . أمَّا في الإسلام فله وضعٌ
خاص . فَيَحْرم إتيان الزوجة حتى يُخرِج الرَّجلُ كفَّارة الظِّهار .
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ : (( أن جميلة كانت
امرأة أوس بن الصامت ، وكان أوس امرءاً به لمم ، فإذا اشتد لممه ظَاهرَ من امرأته
، فأنزلَ اللهُ فيه كَفَّارة الظِّهار )){(7)}.
واللممُ هنا بمعنى العصبية أو شِدَّة الغضب
أو الحِدَّة . وهذا يدل على أهمية ضبط الأعصاب في العلاقة الزوجية لأن أيَّ كلمة
غير محسوبة قد يكون لها آثار وخيمة على الزواج ، وقد تؤدي إلى إنهائه . وكَفَّارةُ
الظِّهار هي : تحرير رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ،
وهي على الترتيب لا التخيير. ] فتحريرُ رَقبة مِن قَبْل أن يتماسا ذلكم توعظون بِه واللهُ بما
تعملون خبير (3) فَمَن لم يَجد فصيامُ شهرين متتابعين مِن قَبْل أن يتماسا فَمَن
لم يستطع فإطعامُ سِتين مِسكيناً [
[ سورة المجادِلة ] .
أمَّا الإيلاءُ شَرْعاً فهو حَلف الرَّجل
بالله تعالى ألا يَطأَ زوجته مدة تزيد عن أربعة شهر .
قال اللهُ تعالى : ] للذين يُؤْلُون مِن نسائهم تَرَبُّصُ أربعة أشهر [
[ البقرة : 226] .
الذين يَحلفون على عدم جِماع زوجاتهم . على
الواحد منهم الانتظار أربعة أشهر من حِين الحلف . فإذا مَضَت هذه المدَّة ، فإمَّا
أن يُطلِّق أو يُجامِع زوجته ، فإن رَفض الأمرَيْن معاً ، قام القاضي بالتطليق .
وقد كان الإيلاءُ في الجاهلية طلاقاً . وفي
العجاب في بيان الأسباب ( 1/ 579) : (( عن قتادة : كان أهلُ الجاهلية يَعُدُّون الإيلاء
طلاقاً ، فَحَدَّ لهم أربعة أشهر ، فإن فاء _ رَجَعَ _ فيها كَفَّر يمينه وكانت امرأته
، وإن مضت أربعة أشهر ، ولم يفيء بها فهي تطليقة . وذكر الثعلبي عن سعيد بن المسيب
: كان الإيلاء مِن ضِرار أهل الجاهلية ، كان أحدهم لا يُريد المرأة ، ولا يُحب أن يتزوَّجها
غَيْره فَيَحْلف أن لا يَقْربها أبداً ، فكان يَتركها كذلك ، لا أيِّماً ، ولا ذات
بَعْل )) اهـ .
إن فلسفةَ الإيلاء في الجاهلية مبنيةٌ على
الإضرار بالمرأة وإذلالها وتحطيمها . حيث تُتْرَك مثل الشيء البالي ، أو المتاع
المهْمَل . فَزَوْجها موجود وغير موجود في حياتها . موجودٌ بمعنى أنه زَوْجها
بِحُكم الأعراف والشريعة الجاهلية ، وغير موجود بمعنى أنه لا يقوم بِجِماعها
وإحصانها ، وهذا حق شَرعي للمرأة، وبدونه يَفقد الزواجُ مُبرِّرَ وجوده، وتُصاب
المرأة بأذى نَفْسي وجسدي في آنٍ معاً.
وفي زاد المسير ( 1/ 256) : (( قال ابن عباس
: كان أهل الجاهلية إذا طَلب الرَّجل من امرأته شيئاً فأبت أن تُعْطِيَه حَلَفَ أن
لا يَقْربها السَّنة والسَّنَتَيْن والثلاث )) اهـ .
هذا يدل على أن الإيلاء كان يُسْتَخْدَم
كعقوبة للمرأة ، وسيفٍ مُسلَّط على رقبتها ، وأداةٍ لابتزازها وتهديدها . وعندما
يَحلف الرَّجلُ إلا يُجامِع زوجته لِسَنة أو أكثر ، فهذا يؤدي قَطْعاً إلى مشكلات
أُسرية وأخلاقية لا حَصْرَ لها . والمرأةُ إن لم يُشبِعها زوجها في الفِراش ، فقد
تَبحث عن الإشباع مع رِجال آخرين ، وهكذا يَكون بابُ الخيانة الزوجية قد فُتح على
مِصْرَاعَيْه .
وقد حَدَّدت الشريعةُ الإسلاميةُ الأجلَ
بأربعة أشهر لحماية المرأة من الأذى النَّفْسي والجسدي، ولمعرفة موقف الرَّجل ، هل
يُريد تطليق زوجته أَم العَوْدة إليها ( جِماعها ) .
ونلاحظُ _ في هذا السياق _ أن الإسلامَ قد
هَدَمَ عادة أهل الجاهلية في موضوع الظِّهار والإيلاء ، ووَضَعَ أحكاماً شَرعية
واضحة لا لَبْسَ فيها ، بهدف حماية المرأة ، وصَوْن كرامتها ، والمحافظةِ على
عواطفها ، وحفظِ جسدها ، وتوفير الظروف المناسبة لكي تَقوم بدورها المركزي كأُم
وزوجة ضمن حياة إنسانية كريمة بعيدة عن الكبت العاطفي ، والكبتِ الجنسي ، وضمن
ظروف اجتماعية راقية لا مكان فيها للعُقد النَّفْسية .
وفي تفسير القرطبي ( 3/ 99) : (( وقد
رُوِيَ أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد
:ألا
طَالَ هذا الليلُ واسْوَدَّ جانبه ... وأرَّقني أن لا حبيب أُلاعبــه ... فوالله
لَوْلا الله لا شـيء غَيْـره ... لِزُعْزِع مِن هذا السرير جوانبه ...
مخافة رَبِّي والحياءُ يَكُفُّـــني ... وإِكرام
بَعْلي أن تُنال مراكـبه . فلمَّا كان مِن
الغد استدعى عُمر بتلك المرأة، وقال لها: أين زوجك ؟، فقالت : بَعثتَ به إلى العراق
!، فاستدعى نساء فسألهنَّ عن المرأة : كم مقدار ما تصبر عن زوجها ؟ ، فقلنَ : شهرين
، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد صبرها في أربعة أشهر . فجعل عُمر مُدَّة غزو الرَّجل
أربعة أشهر ، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووَجَّه بقوم آخرين ، وهذا والله أعلم
يُقوِّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر )) اهـ .
ويمكن استخلاص دروس عديدة من هذه القصة :
أ _ إن الحاكم العادل يَحرص على معرفة أخبار شعبه . وهذا لا يعني التجسس
عليهم ، وإنما يعني تفقُّد أحوالهم ، والوقوف على مشكلاتهم ، وإيجاد حلول عملية
لها . أمَّا النومُ في القصور ، ونسيان أحوال الرَّعية ، وعدم السؤال عنهم ، فهذه
صفات الحاكم الظالم .
ب_ إن المرأةَ المتزوِّجة تحتاج إلى إشباع عاطفي، وإشباع جِنسي. وعلى
الزَّوْجِ أن يَنتبه إلى هذا الأمر ، ويَحرص على إشباع زوجته، لكي تستمر الأُسرة
بلا مشكلات. وأيُّ خللٍ في المنظومة العاطفية والحياةِ الجنسية ، فإن المشكلات
ستعصف بالبيت والأُسرة ، وعندئذ يَغرق الأبَوَان مع الأبناء في مستنقع عميق .
ج_ الوَحدةُ قاتلةٌ وتُثير الخواطرَ السَّيئة . وعلى الإنسان أن يَملأ وقتَ
فراغه بالأشياء المفيدة ، لأن الفَراغ مفسدة عظيمة، وفاتحة الشرور . والفراغُ هو
المحطة الأُولى في طريق الانحراف. وبشكل عام ، إن الفراغَ في حياة المرأة
المتزوِّجة سَيَقودها إلى الخيانة الزوجية . فإذا اختفت محبةُ الله من القلب ،
سَكَنَ فيه محبةُ المخلوقين . وفي مدارج السالكين ( 3/ 129 ): (( قال
الشافعي _ رضي الله عنه_: صَحِبْتُ الصُّوفيةَ، فما انتفعتُ مِنهم إلا بكلمتين ، سمعتُهم
يقولون : الوقتُ سَيْفٌ ، فإن قَطَعْتَه وإلا قَطَعَكَ ، ونَفْسُكَ إن لم تشغلها بالحق
وإلا شَغَلَتْكَ بالباطل )) اهـ .
د _ المرأةُ الصالحة تَصون نَفْسَها ، وتَصون شَرفَ زوجها ، ولا تستغل
فترةَ غيابه لخيانته ، وتلطيخ سُمعته من أجل شهوة مؤقَّتة ودنيئة .
هـ _ الحاكمُ العادلُ يُحقِّق في الأمور للوقوف على طبيعتها، ويَسعى إلى
حَل مشكلات رَعِيَّته بكل وسيلة ممكنة ، ولا يُهمِل أيَّةَ مشكلة _ مهما بَدَت
صغيرة أو شخصية _ .
و _ سؤال أهل الخِبرة عن الأُمور . فمثلاً ،
إن النساء أعْلم بشؤون النساء ، لذلك يتم أخذ رأيهنَّ حول القضايا المتعلِّقة
بالمرأة ، خصوصاً القضية الجِنسية .
ز _ المرأةُ كيان من المشاعر والشهوات ، ولَيْست حائطاً. ولها رغبات ينبغي
تحقيقها، خصوصاً الرغبة الجِنسية . فالغريزةُ مُركَّبة في الرَّجل والمرأة ، ويجب
احترامها ، لأنها مخلوقٌ وضعه اللهُ تعالى في الكيان الإنساني من أجل التكاثر
وإعمار الأرض . وهذه الغريزةُ ليست عَيْباً ، أو أمراً قذراً يستدعي الخجلَ ، بل
هي غريزة محترمة يجب وضعها في سياقها الصحيح ( الزواج ) .
ح _ الحرصُ على تمتين العلاقات الاجتماعية ، وذلك بعدم السماح للرجال
بالغياب عن زوجاتهم لفترة طويلة .
ط _ ترجمة الآراء القادمة من أصحاب الخِبرة إلى واقع ملموس ، وتحويل
الأقوال إلى أفعال .
وفي مجمع الأمثال للميداني ( 1/ 444) : (( وكان
الرَّجلُ في الجاهلية إذ قال لامرأته " الظباءَ على البقر " بَانَتْ منه
، وكان عندهم طَلاقاً )) اهـ .
و" الظِّباءَ " منصوبٌ على معنى
اخترتُ . يعني : اخترتُ الظِّباءَ على البقر ، والبقرُ كنايةٌ عن النساء {(8)}.
والمقصودُ هو بقر الوحش لأنها ترعى مع الظباء . وهذه العِبارةُ كانت في الجاهلية
تُعْتَبَر طلاقاً ، مما يدل على الفوضى اللفظية والمعنوية في موضوع الطلاق . فلا
يوجد احترام لكرامة المرأة ، ولا تقدير لمشاعرها ، فهي تُطلَّق لأتفه الأسباب .
وفي الجاهلية ، كان الطلاقُ أُلعوبةً بيد
الرَّجل ، حيث تم التلاعب بالطلاق ، وإدخاله في باب المزاح ، مما يدل على احتقار
المرأة ، واعتبارها شيئاً تافهاً لا وَزْن له .
قال اللهُ تعالى : ] ولا تَتَّخذوا آياتِ الله هُزُواً [ [ البقرة : 231] .
وهذا نهيٌّ صريح عن التلاعب بآيات الله تعالى ، وعدم احترامها ، والإعراض
عنها . فلا يجوز التهاون بأحكام الله تعالى واتخاذها أُلعوبةً، فإنها أحكامٌ شرعية
مُقدَّسة . وقد كان الرَّجلُ في الجاهلية يُطلِّق زوجته ، ثم يقول إنني كنتُ
لاعباً .
قال الواحدي في الوجيز ( 1/ 171) : (( كان
الرَّجلُ يُطلِّق في الجاهلية، ويقول : إنما طَلَّقْتُ وأنا لاعب ، فَيَرْجع فيها
)) اهـ .
وفي هذا دلالةٌ واضحة على اتخاذ الطلاق
لُعبةً،والنظر إلى المرأة على أنها دُمية للتسلية واللعبِ.
وقد وصل هذا الفِعل الجاهلي إلى بعض
المسلمين ، وتأثَّروا به لِقُرب عهدهم بالجاهلية . ففي العُجاب في بيان الأسباب ( 1/ 589 ) : (( أخرج
الطبري بسند صحيح عن الزهري عن سليمان بن أرقم أن الحسن حَدَّثه أن الناس كانوا في
عهد رسول الله يُطلِّق الرَّجلُ أو يُعتِق ، فيقال له : ما صنعتَ، فيقول: كنتُ لاعباً.
قال الحسن:وهو قول الله تعالى: ]
ولا تتخذوا آيات الله هزواً [ )).
واللعبُ في موضوع الطلاق مرفوضٌ جُملةً وتفضيلاً ، لأنه يؤدي إلى إلحاق
الضرر بالزوجة .
ومَن طَلَّقَ زوجته مازحاً أو لاعباً فقد
وَقَعَ الطلاقُ . قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 147 ) : (( ولا
خلاف بين العلماء أنَّ مَن طَلَّق هازلاً أن الطلاق يَلْزمه )) اهـ .
وعن
أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث جِدُّهُنَّ
جِدٌّ ، وهَزْلهنَّ جِدٌّ : النكاح والطلاق والرجعة )){(9)}.
لقد أبطلَ الإسلامُ أمرَ الجاهلية ، حيث كان
الناسُ فيها يتلاعبون بالألفاظ والمعاني ، ويتخذون آيات الله هُزواً ، فيتلاعبون
بموضوع الطلاق وغيره . وقرَّر الإسلامُ بكل وضوح أن النكاح والطلاق والرجعة ،
أمورٌ واقعة سواءٌ كانت بِنِيَّة الجِد أو الهزل ، وأن أحكامَها مُلزِمة مهما كان
السياق الذي قِيل فيها .
.........الحاشية..........................
{(2)} قال القرطبي في تفسيره ( 3/ 150 ) : (( ] تَعْضُلُوهُنَّ [ معناه تحبسوهن . وحكى الخليل : دجاجة معضل: قد احتبس بيضها. وقيل: العضل
التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس )) اهـ . قلتُ : والمعضلة هي المشكلة، ومنه قول الشافعي :
إذا المعضلات تصدين لي كشفت خفاء لها بالنظر
{(4)} حسَّنه الحافظ في الفتح ( 1/ 425) .
{(6)}
رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 222)
برقم ( 2820) ، وصحَّحه الذهبي .