سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/10‏/2015

الحج والعمرة

الحج والعمرة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

................................

1 _ الحج : 
     إن الحج من أعظم العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى . فهو من أركان الإسلام الخمسة ، كما أنه رحلة نورانية من الظلام إلى التألق ، ومن الذنوب إلى التوبة ، ومن الشهوانية المادية إلى الروحانية المستقيمة .
     فالعبدُ يرحل إلى خالقه تعالى راجياً القبول ونيل المغفرة . كما أن شعائر الحج تذكِّر العبدَ بأحداث ما بعد الموت ، مثل البعث والنشور . مما يترك في النفس البشرية بالغَ الأثر الطيب الذي يدفع باتجاه خلع الذنوب والتزام التوبة .
     والحج من الفرائض الثابتة في القرآن والسنة، بحيث إن منكره يخرج من الملة . وحريٌّ بالذكر أن الحج يجب على العبد مرةً واحدة في العمر ، وهذا أمرٌ مُجمَع عليه بلا خلاف .
     ولا يتسع هذا المقام لبيان شعائر الحج تفصيلاً ، أو ذكر الأدلة الشرعية بكل جوانبها . لكننا نسعى إلى تسليط الضوء على موضوع الحج بشكل عام شديد الإيجاز لنعطيَ فكرةً شمولية واضحة وسريعة حول مركزية هذه العبادة ودورِها في بناء الفرد، وتحريكِ المجتمعات نحو العمل الدؤوب ، وإلغاء اليأس من القلوب ، وبعث الأمل المتجدد في قلوب العباد لكي يواصلوا رحلتهم إلى الله تعالى . وكلما سَقطوا وقفوا من جديد ، واستمروا في المشي بكل ثبات رغم كل العوائق .
     قال الله تعالى : } وللهِ على الناس حِجُّ البَيْت من استطاع إليه سبيلاً  {[ آل عمران : 97] .
     فالحجُّ عبادةٌ خالصة لله تعالى لها حُرمتها الجليلة ومكانتها المجيدة . وهي تقوم على أُسس ثابتة كصحة البدن وتوفر المال . وقد اقترن الحجُّ بالقدرة الإنسانية تخفيفاً عن الناس ، وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون . مع العلم أن كل عبادة فيها قَدْرٌ من المشقة والتعب ، إلا أن الله تعالى يُعين العبادَ على أداء ما افترضه عليهم ، ولا يُحمِّلهم فوق طاقتهم .
     وعبادةُ الحج مُيسَّرةٌ رغم ما فيها أحكام دقيقة وشعائر متعددة وانتقال عبر أماكن مختلفة . وبالطبع فلن يكون دخولُ الجنة مجاناً . وكل امتحان لا يمكن تجاوزه إلا ببذل الجهد والوقت والمثابرة. والجدير بالذِّكر أن المشقة في العبادات مقدورٌ عليها ، وفي دائرة قُدرة الإنسان ، وليست مشقةً تعجيزية . ولا يخلو أمرٌ دنيوي أو أُخروي من قَدْر من التعب ، والسهر ، وبذل الجهد .
فهذه طبيعة الامتحان الرامية إلى التمييز بين الناس ، وفصل الصالح عن الطالح .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 547 ) : (( اللام في قوله } للهِ  {هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام. ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف } على {فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل لفلان عليَّ كذا ، فذكر الله _ سبحانه _ الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته. وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصَّصه الدليل كالصبي والعبد )) اهـ.
     وتتجلى حكمةُ الله تعالى في ربط الحج بالاستطاعة . لذلك قال تعالى : } من استطاع إليه سبيلاً  {. وتتحقق الاستطاعة بأن يكون الشخصُ صحيح البدن ، والطريق آمن ، ومالكاً للزاد والراحلة .
     وعن أنس _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله _ تبارك وتعالى _ : } وللهِ على الناس حِجُّ البَيْت من استطاع إليه سبيلاً  {. قال: قيل: يا رسول الله، ما السبيل ؟.قال: (( الزاد والراحلة )) {(1)} .
2 _ مكة المكرمة :
     قال الله تعالى : } أَوَلَمْ يَرَوْا أنَّا جعلنا حَرَماً آمناً ويُتخطَّف الناسُ من حَوْلهم  {[ العنكبوت : 67] .
     والخطابُ موجَّهٌ إلى الكفار . ألم ينظروا كيف جعلنا مكة المكرمة حرماً يتمتع بالأمن والإيمان ، فيأمن الإنسان على نفسه وماله وعِرْضه دون حدوث أي اعتداء عليه ، في حين أن جرائم القتل والنهب تصيب من حولهم . وفي هذا إشارة واضحة وبليغة إلى نعمة الله العظيمة بأن جعل مكة المكرمة حرماً مصوناً محمياً له حُرْمة جليلة لا ينتهكها إلا ضال .
     كما أن حُرْمة مكة تبث في النفس المؤمنة مزيداً من الإيمان والطمأنينة ، فهي البلد الآمن الأمين. فقد قال الله تعالى : } وهذا البلد الأمين  {[ التين : 3] . ولا يخفى أن مكة المكرمة هي أعظم بقعة على كوكب الأرض على الإطلاق. فهي مدينة الله ذات الثقل العالمي الذي لا يُجارَى . وهي مأوى أفئدة المؤمنين يهربون إليها ، فيشعرون بالأمن والإيمان . فما دام المرءُ متواجداً فيها ، فهو في حصن حصين لا يتسلل إليه الخوف ولا الوهن . إنها محطُّ أنظار العالَم بأسره . فهي مدينةُ مَلِك الملوك ، ولا أحد يدخلها إلا بإذنه وتوفيقه .
     وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخاطِباً مكة المكرمة ، مدينته العزيزة المحببة إلى نفسه الشَّريفة :       (( واللهِ إنكِ لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ )){(2)}.
     وكل هذه الدلائل تشير _ بلا شك _ إلى مكانة مكة الدينية والحضارية والتاريخية والجغرافية، ومركزيتها العظيمة ذات القداسة في الأرض والسماء ، وأهميةِ الوطن في حياة الإنسان .
     وفي صحيح مسلم ( 2/ 989 ) : عن جابر _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح )) .
     مما يدل على الأهمية الخاصة لمكة المكرمة حَرَمِ الله الآمن . فالإنسان لا حاجة له بحمل السلاح فهو يتمتع بالأمان بكل جوانبه . لكن الضرورات تبيح المحظورات. فإن ظهرت حاجة طارئة تضطر المؤمنَ لحمل السلاح فلا شيء عليه .
     قال السيوطي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 402 ) : (( قال الجمهور هذا النهي إذا لم تكن حاجة ، فإن كانت جاز )) اهـ .
     وقال الله تعالى : } وإذ قال إبراهيمُ ربِّ اجعلْ هذا بلداً آمناً وارزُقْ أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليومِ الآخر  {[ البقرة : 126] .
     وهذه دعوة نبوية جليلة من إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم بأن يجعل مكة المكرمة بلداً يتمتع بالأمن، وأن يرزق أهله المؤمنين بالثمرات . وكما هو معلوم فإن دعاء الأنبياء مستجاب لا يُرَد . وكل هذه المؤشرات تدل على تفرُّد مكة بالرتبة السامية . فلا يمكن للنبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لبلدٍ ما بالخير إلا إذا كان عالِماً بمكانة هذا البلد، ودورِه المركزي في تاريخ الحضارة البشرية على كوكبنا. فأفعالُ الأنبياء وأقوالهم لا تَخصع للصُّدف أو الارتجال العبثي . إنهم يَعلمون ما يقولون ويفعلون ، فهم حملةُ الرسالة الإلهية على هذه المعمورة ، ولا يتخلى اللهُ تعالى عن مبعوثيه . فمكةُ ليست مدينةً عادية ، وليست بقعةً جغرافية محصورة في الزمان والمكان . إنها منبع الطهارة ، وقلبُ النور ، وصانعةُ الزمان والمكان .
     وقد اختلف العلماء في مكة ، هل صارت حَرَماً آمناً بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو كانت قبله . فالذي نعتمده هو أنها حَرَمٌ يوم خلق اللهُ السماواتِ والأرض .
     فقد قال الله تعالى :} إنما أُمرتُ أن أعبد ربَّ هذه البلدة الذي حرَّمها  {[ النمل : 91] .
     فتحريمها تحريمٌ إلهي لا بشري. فلا يُسفَك فيها دم، ولا يُظلَم فيها أحد ، ولا يُصاد فيها صيد ، ولا يُعضَد فيها شجر .
     وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : (( إن هذا البلد حرَّمه اللهُ يومَ خلق السماواتِ والأرض ، فهو حرام بحُرْمة الله إلى يوم القيامة )){(3)}.
     وهذه الحُرمة الإلهية سابقة على وجود الأنبياء كلهم . فمكةُ المكرَّمة هي حَرَمُ الله تعالى ، وهي محروسة من الطغاة والكوارث الطبيعية كالزلازل وغيرها . كما أن لها هَيْبة جليلة في النفوس لا تضارعها هَيْبة أخرى . ومَن دخلها كان آمناً في حماية الخالق تعالى ، فتطمئن روحه ، ويَخشع قلبُه، وتسكن جوارحه .
     وفي تفسير القرطبي ( 2/ 117 ) أن العلماء قالوا عن مكة المكرمة: (( لم تزل حَرَماً من الجبابرة المسلَّطين ، ومن الخسوف والزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد. وجُعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى . ولقد جعل فيها _ سبحانه _ من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ، ولا ينفر منه ، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب . وإنما سأل إبراهيم أن يجعلها      _ بلداً _ آمناً من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات. لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل . فإن ذلك يبعد كونه مقصوداً لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال : طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم . هذا بعيد جداً )) اهـ .
     ومكةُ المكرمة هي الحاضنة للكعبة المشرَّفة قِبْلةِ المسلمين التي توحِّدهم على اختلاف مذاهبهم وبلادهم وأجناسهم ولغاتهم . وهذه المدينة هي قلبُ العالم الإسلامي النابض ، وسيدة مدن كوكب الأرض . إنها مدينة الله وحَرَمه الآمن ، من دخلها فهو في كنف الله تعالى ، يتمتع بالأجواء الإيمانية الصافية ، ويخلو قلبُه من المخلوقات ، ويتوجَّه بالكلية إلى خالقه تعالى . إنها المركزُ الحضاري والمركزيةُ الشرعية العالمية . من آوى إليها آوَتْه ، ومن قصدها بسوء قَصَمَتْه ، ومن دخلها بقلبٍ مشتاق للإيمان فإن الفتوحات الربانية ستهبط عليه ، وتكتنفه الفيوضات الإلهية المجيدة .
     قال الله _ عز وجل_: } إنَّ أوَّل بَيْت وُضع للناس للذي بِبَكَّة مُبارَكاً وهدىً للعالَمِين  {  [ آل عمران : 96]{(4)}.
     فالكعبةُ هي أول بيت وُضع للناس . وهذه المنزلة المقدَّسة ليست لغيرها . مما يدل على عظمتها الفائقة ، ومكانتها الكَوْنية التي لا يضارعها شيء . فهي مركزُ القداسة والطهارة والبركة والهدى . من رآها لان قلبُه وخضع لله تعالى . ومن رفضها قَضَتْ عليه فعاد منتكساً يجر أذيال الخيبة والظلمة .
     ولا شك أن كَوْنها أول بَيْت لعبادة الله تعالى يُعطيها أفضلية على غَيْرها ، فلها شَرَف الأولية والسَّبق ، وكلُّ بيوت العبادة من بعدها تابعةٌ لها .
     قال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 546 ) : (( هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل. وذلك أنهم قالوا: إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة . فرد الله ذلك عليهم بقوله } إنَّ أوَّل بَيْت وُضع للناس  {[ آل عمران : 96] ... فنَبَّه تعالى _ بكونه أول مُتَعَبَّد _ على أنه أفضل من غيره . وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم . ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ثم جدَّده آدم ثم إبراهيم )) اهـ .
     واليهودُ يحاولون على الدوام الانتقاص من دِين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهُم يُقدِّمون أنفسهم حُرَّاساً للشريعة ، وحُماةً للأماكن المقدَّسة ، ومُدافِعين عن الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ . وهُم يُظهِرون التمسك ببيت المقْدِس لكي يَطعنوا في الكعبة . وهُم يَزعمون الإيمان بأنبياء بني إسرائيل لكي يطعنوا في مُحمَّد صلى الله عليه وسلم . وهذا مما تضحك منه الثكلى .
     ولو كانوا مؤمنين حقاً لما قَتلوا الأنبياءَ ، وحَرَّفوا التوراةَ . فمنهجُ الأنبياء واحد ، والكتبُ السماوية مصدرها واحد ، ولو كانوا مؤمنين حقاً بموسى صلى الله عليه وسلم لاتَّبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم . ولو التزموا بالتوراة لاهتدوا إلى الإيمان بالقرآن ، لكن التحايل على النصوص الشرعية ، والالتفاف على الشريعة ، والتلاعب بالكلام خضوعاً للهوى والمنافع الشخصية ، وتقديم الحجج الواهية ، كل هذه الأمور أبعدتهم عن حظيرة الحق .
     وعن أبي ذر _ رضي الله عنه _ قال : قلتُ : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ . قال : (( المسجد الحرام )) . قال : قلتُ : ثم أي ؟ ، قال : (( المسجد الأقصى )) . قلتُ: كم كان بينهما ؟، قال : (( أربعون سنة )){(5)}.
     ويتضح الاقترانُ الأبدي ، والترابطُ العقائدي المصيري ، والصلةُ الوثيقة الحاسمة بين المسجد الحرام ( أول مسجد وُضع في الأرض / القِبلة الثانية ) ، والمسجد الأقصى ( ثاني مسجد وُضع في الأرض / القِبلة الأولى ) . فالمدةُ الزمنية بينهما قريبة جداً ، وهنا تتجلى الرابطة المشتركة بينهما . كما أن حادثة الإسراء قد وحَّدت بينهما بشكل متماسك على الصعيد العقائدي والتاريخي والجغرافي . فقد قال الله تعالى : } سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير {   [ الإسراء :1] .
     ومن أسماء مكة المكرمة الثابتة ( أم القرى ) . وهذه التسمية الجليلة تعكس أصالة مكة ومركزيتها بالنسبة لباقي القرى فهي أُمُّها . وهذا المعنى يحمل صفات الأصل والحاضنة . فمكةُ هي أشرف البلاد قاطبةً . وقد تناولنا الأدلة الشرعية التي تؤسس هذا المعنى بشكل واضح لا لبس فيه. فتقدمُ مكة على سائر البلدان أمرٌ متفق عليه بلا معارضة .
     إنها أم القرى ، أي أساس القرى ومنبعها . فهي الشمسُ الساطعة ، وباقي القرى تدور في فَلَكها .
     قال الله تعالى : } وكذلك أوحَيْنا إليكَ قُرْآناً عربياً لتنذرَ أُمَّ القُرى ومن حَوْلها { [الشورى : 7].
     فالقرآنُ الكريم الذي هو بلسان عربي مبين جاء لإنذار أهل مكة ( أم القرى ) ومن حَوْلها ، مشتملاً على الترغيب والترهيب. فلكل مقامٍ مقال. وتخصيص أم القرى( مكة ) بالذكر دليلٌ على مركزيتها الأصيلة ، ومن حَوْلها أطراف . فهي كالأم التي أبناؤها يحيطون بها لأنها الشجرة وهم الأغصان .
     قال الله تعالى : } لا أُقْسِمُ بهذا البلد  {[ البلد : 1] .
     وهذا قسمٌ إلهي جليل بمكة المكرمة يشير إلى مكانتها المقدَّسة . فاللهُ تعالى يُقسِم بما شاء من مخلوقاته، وليس للإنسان أن يحلف بغير الله تعالى . وكما هو معلوم فإن الله تعالى لا يُقسِم إلا بشيء عظيم ذي رتبة سامية . وقَوْله تعالى : } لا أُقْسِمُ  {أشد من القَسَم ، وفيه تأكيد بليغ . وهذا مشهور في لغة العرب .
     والقَسَمُ يَلفت انتباهَ السامع ، ويجذبه من أجل التركيز في اللفظ والمعنى . فالقَسَمُ يُعطي أهميةً جليلة للكلام. وعندما يُقسِم اللهُ تعالى بمكة، فهذا مؤشر باهر على أنها بَلَدٌ يتمتع بخصوصية معيَّنة، ولها قُدسية عظيمة، ولا يماثلها أي بلد آخر .
     قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 20/ 62 ): (( زيادة } لا  {لتأكيد الكلام،وهو مستفيض في كلام العرب . } لا أُقْسِمُ بهذا البلد  { أي : أُقسم بهذا البلد ، وفائدتها تأكيد القَسَم كقولك : لا والله ما ذاك ، كما تقول : أي والله . قال امرؤ القيس : (( لا وأبيك ابنة العامري )) )) .
3 _ الكعبة المشرَّفة {(6)} :
     إن الكعبة المشرَّفة هي بيت الله الحرام ، وهي قِبلة المسلمين في أنحاء العالم التي تجمع كلمتهم ، وتوحِّد شملَهم على اختلافهم . ومنزلتها الساميةُ لا يمكن الوصول إليها .
     قال الله تعالى : } وإذْ جعلنا البيتَ مثابةً للناس وأمناً  {[ البقرة : 125] .
     أي إن الله تعالى جعل الكعبة المشرفة مرجعاً للناس يثوبون ( يرجعون ) إليها من كل الجهات ، فهل مركز التقائهم ، ونقطة تجميع شملهم . فهي القوة الجاذبة التي تستقطبهم لتبث فيهم المعاني
الإيمانية الراقية ، ويجدون عندها الطمأنينة ، ويستشعرون معاني الوحدة والقوة .
     وقال الله تعالى : } جعل اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرام قِياماً للناس  {[ المائدة : 97] .
     فقد جعل اللهُ تعالى الكعبة صلاحاً ومعاشاً لأمن الناس.وهي سبب صلاحهم في الدنيا والآخرة. حيث الخائف يشعر بالأمان ، والضعيفُ يحصل على القوة ، والمضطربُ ينال السكينة . والجميعُ يأمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم .
     وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 369 ) : (( } قِياماً للناس  {انتعاشاً لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ، ويتوجه إليه الحجاج والعُمَّار ، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم )) اهـ .
4_ العُمرة :
     قال الله تعالى : } وأتِمُّوا الحجَّ والعُمرةَ لله  {[ البقرة : 196] .
     وقد سبق توضيح مكانة الحج وفضله . وبقي توضيح مكانة العُمرة وفضلها . ففي الآية أمرٌ بإتمام الحج والعُمرة. وقد قرنهما الله تعالى معاً للتشديد على أهميتهما القصوى ، وارتباطهما الوثيق، إذ إنهما رحلتان نحو الخالق تعالى ، تشتملان على إلقاء الدنيا وراء الظهر ، والسعي نحو الآخرة .
     فالمؤمنُ يُلقي أعباء الدنيا عن كاهله ، ويسافر في هذه العوالم الجديدة التي لا تَبلى ، فيكتشف إنسانيته ، ويُجدِّد العهدَ مع خالقه ، ويسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته _ رضي الله عنهم _ .
     قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 312 ) : (( فأمر بإتمام الحج والعمرة . وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ... ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعُمرة مُلزم ، سواءٌ قيل بوجوب العُمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء )) اهـ .
     وفي الحديث أن رَجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف تأمرني أن أصنع في عُمرتي ؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اخلعْ عنكَ الجبة ، واغسلْ أثرَ الخلوق عنكَ ، وأنق الصفرة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك )){(7)}.
     لذلك فالواجبُ إتمام شعائر الحج والعُمرة بضوابطهما لكي ينال المؤمنُ رضا الله تعالى في هذه الرحلة المقدَّسة المقترنة معاً ( الحج والعُمرة ) ، حيث يخلع الدنيا ، ويسعى نحو خالقه تعالى ، ناظراً بعين قلبه إلى ما وراء الموت . حيث النعيم الأبدي أو الشقاء الأبدي .
.........الحاشية................
{(1)} رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 609 ) برقم ( 1613 ) وصحَّحه . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 2/ 221) : ((قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلاً ... وسنده صحيح إلى الحسن...وقد قال عبد الحق : إن طرقه كلها ضعيفة . وقال أبو بكر بن المنذر : لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً . والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة )) اهـ .
{(2)} رواه الحاكم ( 3/ 8 ) برقم ( 4270 ) وصحَّحه، ووافقه الذهبي . وقال الهيثمي في المجمع ( 3/ 283) : (( رواه أبو يعلى ، ورجاله ثقات )) اهـ .
{(3)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1164 ) برقم ( 3017 )، ومسلم ( 2/ 986 ) برقم ( 1353 ). وقال الحافظ في الفتح ( 4/ 47 ) : (( وقيل : الحُرْمة الحق . أي حرام بالحق المانع من تحليله. واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم . فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها . وخُصَّ الخلاف بمن قَتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم . وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي )) اهـ .
{(4)} قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 508 ): (( بَكَّة من أسماء مكة على المشهور. قيل: سُمِّيَتْ بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها. وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون )) اهـ . وفي مفردات القرآن ( 1/ 1378 ) : (( اشتقاق مكة من : تمككت العظم : أخرجتُ مخه . وامتك الفصيلُ ما في ضرع أمه.وعبّر عن الاستقصاء بالتمكك...وتسميتها بذلك لأنها كانت تمك من ظلم بها. أي:تدقه وتهلكه)) اهـ . وقيل : سُمِّيَتْ بذلك لقلة مائها .
{(5)} متفق عليه. البخاري ( 3/ 1231 ) برقم ( 3186 )، ومسلم ( 1/ 370 ) برقم ( 520 ). قلتُ : وقد يظهر لدى البعض إشكال . فالنبي سليمان صلى الله عليه وسلم بنى بيتَ المقدس كما ورد في سنن النسائي ( 2/ 34 ) بسند صحَّحه الحافظ في الفتح ( 6/ 408 ) . والنبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى الكعبةَ . فقد قال الله تعالى : } وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البَيْت  {[ البقرة : 127] . وبين إبراهيم وسليمان      _ عليهما الصلاة والسلام _ مدة زمنية طويلة . فقد قال أهل التواريخ : أكثر من ألف سنة [ تفسير القرطبي 4/ 134] . قلتُ : قد قيل _ لإزالة هذا اللبس في الأذهان _ إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جدَّدا ما كان أسَّسه غيرهما . وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 408 ) : (( وليس إبراهيم أول من بنى الكعبةَ ، ولا سليمان أول من بنى بيتَ المقدس . فقد روينا أن أول من بنى الكعبةَ آدم ، ثم انتشر ولده في الأرض ، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيتَ المقدس ، ثم بنى إبراهيمُ الكعبةَ بنص القرآن )) .
{(6)} قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 302 ) : (( وقد سُمِّيَت الكعبة كعبة لأنها مربعة ، وأكثر بيوت العرب مُدَوَّرة . وقيل : إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها ، فكل ناتئ بارز كعب ، مستديراً كان أو غير مستدير . ومنه كعب القدم ، وكعوب القناة ، وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها . والبيتُ سُمِّيَ بذلك ، لأنها ذات سقف وجدار وهي حقيقة البَيْتية وإن لم يكن بها ساكن )) .
{(7)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 634 )برقم ( 1697 ).ومسلم( 2/ 836 ) برقم ( 1180). الجبة : ثوب واسع يلبس فوق الثياب / الخلوق : نوع من الطِّيب /  صفرة : من أثر الطيب . 

24‏/10‏/2015

الزكاة والصدقات

الزكاة والصدقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

...........................

     إن المنهج الاقتصادي الإسلامي عالج قضايا المجتمع بصورة واقعية بعيدة عن المثالية النظرية الجوفاء . فقد وضع أنظمةً تطبيقية فعالة لتجذير العدالة الاجتماعية عبر محاربة الشطط الطبقي واحتكارِ الثروة من قبل فئة محدودة .
     فعبر تشريع الزكاة نقل الإسلامُ المجتمعَ من الحقد إلى الأخوة ، ومن الظلم إلى العدل . فالزكاةُ تعني مساعدة الأغنياء لإخوانهم الفقراء ، الأمر الذي ينزع الحسدَ والغل من صدور الفقراء تجاه  مجتمعهم وأغنيائه ، ويعمل على تقوية الروابط المجتمعية وتثبيتها كوحدة جَمْعية متماسكة ، ويتيح فرصةً كبيرة لتداول المال بين أبناء المجتمع الواحد دون تركز الثروة في أيدي أناس معدودين .
     كما أن المنهج الاقتصادي الإسلامي أسَّس لمبدأ الصدقة ، حيث يساعد الأغنياءُ الفقراءَ بما يرونه مناسباً في أي وقت شاؤوا ، إيماناً بالشريعة الإلهية، والأجرِ الأخروي يوم القيامة ، ومساعدةً للطبقات المتدنية في المجتمع .
     قال الله تعالى : } إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابنِ السبيل فريضةً من الله واللهُ عليم حكيم  {[ التوبة : 60] .
     وهذه القِسمةُ تجسيد للعدالة الربانية ، فهي قِسمةٌ إلهية ، ولم تنبع من اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم.
فاللهُ تعالى هو الذي حَكَم فيها وتولاها بنفسه . لذلك لا يمكن الاعتراض عليها . وكما قال الشاعر :

فاقْنَع بما قَسَمَ الْمَليكُ فإنما          قَسَمَ الخلائِقَ بَيْننا عَلَّامُها

     قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) : (( لما ذَكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبيَّن حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يَكِل قسمها إلى أحد غيره فجزَّأها لهؤلاء المذكورين )) اهـ .
     وقد بيَّنت الآيةُ الكريمة مصارف الزكاة ( الأصناف المستحقة لها ) وهي ثمانية أصناف :
     1_ 2_ الفقراء والمساكين : (( وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ، ويقابلهم الأغنياء المكفيون ما يحتاجون إليه )). فهؤلاء المحتاجون في أمس الحاجة إلى المساعدة المالية من قبل إخوانهم الأغنياء . فتأتي الزكاةُ لردم أي ثغرة في المجتمع من أجل تحويل الأفراد إلى عناصر إيجابية بناءة لا هدامة ، تملك كفايتها ولا تمد الأيدي إلى الناس، أو تلجأ إلى وسائل الكسب الحرام .
     فعن عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة قوي )){(1)}.
     إن منهج الصدقات قائم على مساعدة الفقراء والضعفاء ، والطبقاتِ المتدنية . أمَّا الأغنياء والأقوياء فهُم قادرون على الكسب ، ولا يَحتاجون إلى مساعدة الآخرين . لذا لا حَظ لهم في الزكاة التي شُرعت لتقوية الضعفاء وإخراجهم من ذُل الحاجة ، ومساعدةِ الفقراء وجعلهم أغنياء لا يَنتظرون أحداً يمد لهم يَدَ العون .
     وعن عبيد الله بن عدي حدَّثه أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلَّب فيهما البصر ، ورآهما جَلْدَيْن ، فقال : (( إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب )){(2)}.
     وهكذا نجد أن الأغنياء والأقوياء القادرين على العمل والكسب لا يجوز إعطاؤهم شيئاً من الزكاة ، لأنهم قادرون على توفير مصادر دخل كريمة لأنفسهم وأُسرهم ، فهم لا يحتاجون إلى مساعدة مالية من أي نوع .
     والمساكين هم صنفٌ مخصوص من المحتاجين ، لذلك جعلتهم الآيةُ صنفاً مستقلاً بذاته ، لتمييزهم عن الفقراء .
     فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن به فيُتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس )){(3)}.
     والمسكينُ له وضعيةٌ خاصة ، فهو مخفيٌّ عن الأنظار ، لا يُظهِر الحاجة والسؤال . فهو لا يجد غنىً يُغنيه فيسد حاجته ويخرجه من دائرة العوز ، ولا ينتبه الناسُ إليه فيتصدقون عليه لأن وضعه مستتر لا تُدرَك حقيقته إلا للقريبين منه المطلعين على أسراره . وهو _كذلك_ لا يمد يدَه للآخرين بسبب عزة نفسه ، وتعففه ، فلا يَقبل أن يسأل الناسَ ويطلب منهم المالَ .
     3_ العاملون عليها : وهم الذين يعملون على جمع الزكاة من الأغنياء وحفظها والقيام بشؤونها . وقد    (( اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاة المتولون لقبض الصدقة )){(4)} . (( ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة ، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب )){(5)}.
     ففي صحيح مسلم ( 2/ 756 ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس )) .
     والصدقةُ هي تنقيةٌ لأموال الناس ، وتنظيفٌ لذواتهم ، وكأنها غَسْلٌ لأوساخ الناس ، وجَبْرٌ لتقصيرهم .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 179 ) : (( ومعنى أوساخ الناس : أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم ... هي كغسالة الأوساخ )) اهـ .
     لذلك فأخذ الصدقة منزلة ضعيفة ومتدنية تمس الكرامةَ الإنسانية ، والأنبياءُ أصحاب المكانة السامية أرفع من أن يمدوا أيديهم لمن هم دونهم . واللهُ تعالى أَغنى الأنبياءَ من فضله العميم ، وجعلهم لا يمدون أيديهم إلا إليه سبحانه ، ومَن كان اللهُ سَيِّدَه ، لا يَبحث عن مساعدة سَيِّد آخر.
     وفي فتح الباري ( 5/ 204 ) : (( قال ابن بطال : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة ، لأنها أوساخ الناس . ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة ، والأنبياءُ مُنَزَّهون عن ذلك ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى :} ووجدك عائلاً فأغنى { [ الضحى : 8 ]. والصدقة لا تحل للأغنياء ، وهذا بخلاف الهدية ، فإن العادة جارية بالإثابة عليها )) اهـ .
     4_ المؤلَّفة قلوبهم : من التأليف ( التجميع ) . وهم جماعة من الناس يُهدف إلى تأليف قلوبهم واستمالتهم . وهم أصناف. فمنهم من يُعطَى ليُسلم . فالأموال التي تُعطَى لهم تهدف إلى إبراز وجه الإسلام المشرق الذي يحتوي أبناءه ويغنيهم من فضل الله تعالى ، ولا يتركهم فقراء معوزين . كما أن البعض قد يفقد أموالَه في حال اعتناقه للإسلام . فالأسرة أو القبيلة قد تمارس ضغطاً هائلاً على الفرد الذي يريد اعتناقَ الإسلام ، فيُصادِرون أمواله وممتلكاته لكي يردوه عن الإيمان . لذلك يُعطَى من المال لكي ينفتح قلبُه على الإيمان دون وجود عوائق مادية ، أو حواجز نفسية ، أو إشكاليات من أي نوع تؤثر سلباً على مسار الدعوة .
     ففي صحيح مسلم ( 4/ 1806 ): عن ابن شهاب قال : (( غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فتح مكة . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين ، فاقتتلوا _ أي مع الكفار _ بحُنَيْن ، فنصر اللهُ دينه والمسلمين ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة )) . وعن سعيد بن المسيب أن صفوان قال : (( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلَيَّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلَيَّ )) .
     فالإسلامُ يُقدِّم حوافز للآخرين ، ولا يتركهم ضحيةً لهواجسهم ومخاوفهم . فإعطاءُ المال لصفوان بن أمية أظهر محاسنَ الإسلام ، وفتح قلبَه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النفوس مجبولة على حب مَن أحسن إليها  . فليست هذه رشوةً لتغيير عقائد الناس ، أو شراء ولائهم ، أو خداعهم . وليست _ كذلك _ وصفةً تجميلية للدِّين . فالإسلامُ جميلٌ لا يحتاج إلى وصفات ولا يحتاج إلى الآخرين ، فهم الذين يحتاجونه لكي ينالوا الخلاصَ الأبدي .
     لكنَّ منح المال يُدخِل الطمأنينة والأمان إلى النفس البشرية المجبولة على حب المال ، وهذا يؤدي إلى انشراح الصدر لسماع الحق واعتناقه دون الانشغال بالأمور المادية ، أو حصر التفكير بطرق جمع المال لتأمين المستقبل وتوفير الحماية من المجهول ، كما يفعل الكثيرون . فالمرءُ حينما يتحرر من ضغط الاحتياجات المعيشية فإنه يتفرغ للتفكير بمعالم الحق واعتناقه .
     ومنهم من يُعطَى ليحسن إسلامُه ويثبت على الحق : فهؤلاء يُعْطَوْن ليزدادوا طمأنينة وثباتاً على الإسلام ، ويبتعدوا عن التأثيرات السلبية للمال ، ويركِّزوا في تدعيم أركان إيمانهم دون تأثيرات مادية ضاغطة على عقائدهم قد تؤدي إلى إعادتهم إلى الكفر بفعل الضغوط الاقتصادية ، لأن الفقر والكفر وجهان لعملة واحدة .
     فعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : ((  بعث علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _  إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل )){(6)}.
     (( ومنهم مَن يُعطَى لما يُرجَى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يُعطَى ليجبيَ الصدقاتِ ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضررَ من أطراف البلاد . ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم )){(7)}.
     5_ الرِّقاب: وهُم الْمُكَاتَبون يُعْطَوْن من الزكاة لفك رقابهم من الرِّق فيتخلصون من العبودية، ويصبحون أحراراً . ولا يخفى أن المنهج الإسلامي واضح ومتماسك في إعتاق الرقاب، والحث عليه ، ونقلِ الناس من الرق إلى الحرية ، لكنه منهج تدريجي عبر مراحل منطقية لضمان عدم حدوث خلل في المجتمع ، أو فوضى عارمة لا يمكن إصلاحها . فهؤلاء الأرقاء السابقون بحاجة إلى وقت كي يدخلوا في السياق الفكري الحياتي للمجتمع، إذ إنهم ينتقلون من وضع نفسي واجتماعي إلى وضع آخر ذي طبيعة مختلفة ، كما أن المجتمع بحاجة إلى وقت كي يستوعبهم ، ويضعهم في مكانتهم اللائقة ، ويقود الأفرادَ للتعامل معهم بأسلوب صحيح . ومن هنا نفهم منهجية التدرج في تعامل الإسلام مع مسألة الرق . إذ إن إقحام الرق في الحرية مباشرةً دون مقدمات من شأنه تفتيت الأواصر الاجتماعية ، وإحداث اضطراب هائل في المجتمع الذي سيعجز عن استيعابهم وإعطائهم أدواراً اجتماعية لتحريك عجلة المجتمع ، وصناعة التقدم ، والقيام بعملية الإعمار والتعمير . مما يؤدي إلى انتكاسة كبرى في النسق الحضاري، وتراجع مرعب في التنمية، وانكسار حلم المشروعات الضخمة، لأنه _ عندئذ _سيكون جزءاً كبيراً من المجتمع مشلولاً وعبئاً على الآخرين، وهذا الوضعي غير الصحي سيعود بالضرر الشامل على الفرد والجماعة . فليست القضيةُ مسألة شعارات ولافتات تحرر وتحرير وجعجعة بلا طحن . إنه قضية أمن قومي لها تماس مباشر مع كل تفاصيل المجتمع ومفاصل الدولة . وبالطبع فإن كل عملية إصلاح بحاجة إلى وقت للتخطيط ورسم السياسات وتطبيقها على أرض الواقع ، وليست فعلاً ارتجالياً أو خُطبةً عصماء ثم ينتهي الأمر .
     وعن البراء بن عازب _ رضي الله عنه _ قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علِّمْني عملاً يُدخلني الجنة . فقال : (( أعْتِق النَّسَمةَ وفُكَّ الرَّقبةَ )) ، فقال : يا رسول الله ، أوَ لَيْستا بواحدة ؟، قال: (( لا، إن عِتْقَ النَّسَمة أن تفرَّد بعِتقها، وفَكَّ الرَّقبة أن تُعين في عِتقها )){(8)}.
     فهذا التوجه النبوي لنشر عبادة عِتق الرِّقاب في المجتمع ، وتوجيه انتباه الناس إلى هذه القضية الحساسة التي كانت مهملةً قبل الإسلام، يدل على المنهج الإسلامي في تخليص الناس من ذل الرِّق، وجعلهم أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية ، وعلى قَدم المساواة مع الآخرين دون شعور بالدونية أو اللاجدوى . فالعبيدُ والجواري في المجتمع الجاهلي كانوا جزءاً من الأثاث لا يُعبَأ بهم ، فيُعامَلون كالدواب أو أقل . فلمَّا جاء الإسلامُ رفع من مكانتهم وسَلَّط الضوء على معاناتهم ، ووضع تشريعات لتخليصهم من أوضاعهم البائسة. وإننا لنجد آياتٍ قرآنية عديدة تتحدث عنهم، وهذا الشرفُ ما كانوا ليحصلوا عليه لولا الإسلام .
     6_ الغارمون : وهم الأشخاص الخاضعين لدَيْن لا يقدرون على سداده. فهؤلاء يُعْطَوْن من الزكاة لسداد ديونهم ، وتفريجِ كرباتهم ، وقضاءِ حاجاتهم . فالشخصُ الخاضع للدَّيْن تجده محاصَراً وواقعاً تحت الضغط ، فتأتي الزكاة لتعيده إلى الوضع الطبيعي المتحرر من ثقل الحياة الاجتماعية بكل أبعادها النفسية والمادية .
     ففي صحيح مسلم ( 2/ 722 ) : عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملتُ حمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : (( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )) .
     فهذا الرَّجلُ الذي عليه دَيْنٌ أدرك أن الشريعةَ الإسلامية لن تتركه يغرق ، ولن تُغلق الأبوابَ في وجهه . فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً العَوْن، فقرَّر النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه من الزكاة حينما تأتيه. وهذا تجسيدٌ فعلي لا شعاراتي للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم الذي يحضن أبناءه ولا يُميِّز بينهم . فالمسلمُ يعلم أن له دولةً تؤويه وتدافع عنه ، وإذا وقع فإنها ستُقيل عثرته ، وتنتشله من مأزقه . مما يبعث الطمأنينة في نفوس الرَّعية ، ويزيد من انتمائهم لمجتمعهم الإيماني ، ويُقوِّي الروابط بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكوم والتعاليم الشرعية . فالمجتمعُ الإيماني الحامل للفكرة الإسلامية نظريةً وتطبيقاً لا يمكن أن يكون طارداً لأبنائه ، أو عبئاً عليهم ، أو يُضيِّق عليهم في طرق معيشتهم ، فهذا المجتمعُ المحكوم بالشَّريعة ينطلق من مبدأ تحقيق مصالح الناس وحماية مكتسباتهم ، وتخفيف الضغوط الحياتية عن كاهلهم ، وهذا ليس بمستغرب إذا علمنا أن الشريعة جاءت لرفع الحرج ، وأن الأمر كلما ضاق اتَّسع .
     قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 133) : (( قوله ( تحملتُ حَمالةً ) ... وهي المال الذي يتحمله الانسان ، أي يستدينه ، ويدفعه في إصلاح ذات البين ، كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك . وإنما تحل له المسألة ويُعطَى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية )) .
     7_ في سبيل الله : والمقصود به هو الغزو . فهؤلاء المجاهِدون يمارسون دوراً محورياً في الدفاع عن الإسلام، والذَّوْد عن حِياض الأمة . إنهم يضعون أرواحهم على أيديهم ، ويُضحُّون بأوقات راحتهم وسعادتهم في أحضان نسائهم وأبنائهم من أجل رفع كلمة الله تعالى . وهم يعلمون أن ذهابهم قد يكون بلا عَوْدة . ومع هذا فهم يواصلون عملَهم دون تردد أو إجبار من أحد ، لأنهم ينطلقون من قناعاتهم الداخلية المستمدة من قوة الإيمان ، ورباطةِ الجأش ، وشرفِ الجهاد .
     وقال القرطبي في تفسيره ( 8/ 166) : (( وهم الغزاة وموضع الرباط ، يُعْطَوْن ما ينفقون في غزوهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وهذا قول أكثر العلماء )) .
     وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغازٍ في سبيل الله ، أو لعاملٍ عليها ، أو لغارمٍ ، أو لرَجلٍ كان له جار مسكين فتصدَّق على المسكين فأهدى المسكينُ الغني )){(9)}.
     والمجاهِدون يُعْطَوْن من الزكاة للإنفاق على متطلبات الجهاد الذي يتكلف أموالاً كثيرة، وذلك للدفاع عن الإسلام وأهله وأراضيه . ومن أجل قهر الأعداء وتحجيمهم ، وردهم خاسرين يجرون أذيال الهزيمة ، ويرفعون رايةَ الاستسلام .
     8_ ابن السبيل : وهو المسافر الذي انقطع عن أهله ، وانقطعت به السُّبل . فيتم إعطاؤه من مال الزكاة لكي يتجاوز عثرته ، ويتخلص من غربته . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 281 ) : (( وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ، فيُعطَى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيُعطَى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف )) .
     فنجد أن الأصناف الثمانية ( مصارف الزكاة ) التي تم تحديدها في القرآن الكريم لم تجيء عبثاً أو مصادفة . بل هي من علم الله تعالى المحيط بكل شيء ، فاللهُ الذي خلق الإنسانَ ، يعرف ما يصلحه وما يفسده . كما أن القرآنَ الكريم يجذِّر القناعةَ في النفوس بأن كل كلمة إلهية لها معنى دقيق ، ودلالة محددة ، وتؤسس لمجتمع الخير المنشود على أرض الواقع . فليس القرآن شعاراتٍ خيالية حول مكافحة الفقر ، وإنشاءِ مجتمع العدالة . بل هو منهاج متكامل قابل للتطبيق على أرض الواقع لسعادة الإنسان في الدارَيْن . والمنهجية الاقتصادية متكاملة في القرآن الكريم ، وهي ترمي إلى اجتثاث الفقر من جذوره ، وتأسيس العدالة الاجتماعية ، ومجتمع الأخوة البشرية الحقيقي بعيداً عن الطبقية المرَضية، والشططِ الطبقي المخزي الذي ينذر بتفكيك المجتمع إلى كيانات متناحرة .
     قال الله تعالى : } لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون  {[ آل عمران : 92] .
     أي لن تنالوا أيها المؤمنون الخير والعطاء الجزيل من الله تعالى والجنة حتى تنفقوا من الأشياء التي تحبونها ، والتي هي قريبة من قلوبكم وعقولكم . فالتخلي عن الأشياء التي يعشقها القلبُ هو قمة الصدق والتضحية .
     وعن أنس بن مالك _ رضي الله عنه _ قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طَيِّب . قال أنس : فلما أُنزلت هذه الآية: } لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون { . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول : } لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون { . وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بَخٍ _ كلمة تقال عند الرضا _ ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين )) . فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه{(10)}.
     إن أبا طلحة _ رضي الله عنه _ لم تشغله أمواله عن طاعة الله تعالى ، ومضاعفة عبادته . وقد كان رضا الله تعالى مسيطراً على قلبه وعقله . والآيةُ الكريمة : } لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبُّون { فيها دلالة واضحة على أن مرتبة البِر لا يمكن الحصول عليها إلا بالإنفاق من الأشياء المحبَّبة للنَّفْس . وهذا هو أعلى درجات البذل والعطاء والتضحية . فمن السهل أن يُقدِّم الإنسانُ شيئاً يَكرهه فيتخلص منه ، ويرتاح من رؤيته . أمَّا المحك الحقيقي فهو تقديم ما يحبه الإنسانُ رخيصاً في سبيل الله تعالى . وفي هذا الأمر قهرٌ للنَّفْس العاشقة للامتلاك والسيطرة من أجل نيل الرضا الإلهي . وهذا ما فعله أبو طلحة الذي قَدَّم بُستانه الأثير صدقةً لله تعالى . وقد وجَّهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى وضعها في الأقربين، وذلك تطييباً لنفوسهم ، وتعميقاً للتكافل الاجتماعي ، والتماسك العائلي ، فلا يصبح في القلوب مكانٌ للحسد أو الغَيرة أو الحقد. وهذا يساهم في تقوية الروابط الاجتماعية، ونشر قيم الحق والتضحية التي تُعتبَر من أُسس المجتمع الفاضل .
     وهكذا كان الصحابةُ _ رضي الله عنهم _ هم الجيل الذهبي الذين فهموا النصوصَ الشرعية ، وقاموا بتطبيقها على أرض الواقع دون تأخير أو تكاسل . فالتطبيق العملي للإنفاق من الممتلكات المحببة للنفس خضوعاً للآية القرآنية قد تم واقعاً ملموساً . فينبغي على المسلم أن يبذل أحبَّ الأشياء لنيل رضى الله تعالى . وهذا إن دل على شيء فيدل على علو الهمة التي تدفع المؤمن إلى التخلي عن أحب ممتلكاته من أجل وجه الله تعالى دون النظر إلى مديح الناس ، أو نيل الحظوة عندهم . وهذا هو الإخلاص الصافي الذي لا تشوبه شائبة ، وأعلى درجات التضحية .
.........الحاشية.................
{(1)}رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 565 ) برقم ( 1478 ) وصحَّحه . وحسَّنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 108 ) .
{(2)} رواه أحمد ( 4/ 224) برقم ( 18001) ، وأبو داود ( 1/ 513 ) برقم ( 1633) ، والنسائي ( 5/ 99) برقم          ( 2598) . وقوَّى إسنادَه ابنُ كثير في تفسيره ( 2/ 479 ) .
{(3)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 538 )برقم ( 1409).ومسلم( 2/ 719 ) برقم ( 1039).
{(4)} نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 3/ 365و366) عن ابن بطال .
{(5)} فقه السنة للسيد سابق ( 1/ 365 ) .
{(6)} متفق عليه. البخاري ( 4/ 1581 ) برقم ( 4094 )، ومسلم ( 2/ 741 ) برقم ( 1064 ). وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 162) : (( قال العلماء: ذكر عامر هنا غلط ظاهر ، لأنه توفى قبل هذا بسنين ، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة )) اهـ . قلتُ : أما قوله " بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها " فيعني : ذهبٌ مدبوغ بالقرظ ( نوع من الشجر ) لم تخلص من تراب المعدن .
{(7)} تفسير ابن كثير ( 2/ 479 ) .
{(8)} رواه أحمد ( 4/ 299 ) برقم ( 18670 )، وابن حبان في صحيحه( 2/ 97 ) برقم ( 374) ، والحاكم في مستدركه    ( 2/ 236 ) برقم ( 2861 ) وصححه، ووافقه الذهبي . وصحَّحه الحافظ في الفتح   ( 5/ 146 ) .
{(9)} رواه الحاكم في المستدرك ( 1/ 566) برقم ( 1480 ) وصححه ، وأبو داود ( 1/ 514) برقم ( 1635) ، وابن ماجة ( 1/ 590 ) برقم ( 1841 ) . قال ابن حجر في تلخيص الحبير ( 3/ 111) :  (( وصحَّحه جماعة )) .

{(10)} متفق عليه.واللفظ للبخاري( 2/ 530 ) برقم( 1392 ).ومسلم ( 2/ 693 ) برقم ( 998).