القِبلة والمساجد
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...........................
قال الله تعالى : } ومِن حيثُ خرجتَ فَوَلِّ وجهكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما
كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه {[ البقرة : 150] .
وهذا أمرٌ إلهي باستقبال المسجد الحرام في
الصلاة( التوجه شَطْره أي قِبَله ). وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم توَّاقاً
لاستقبال المسجد الحرام ، إذ إن هذا المسجد العظيم ( أول مَسجد على كوكب الأرض )
له مكانة عظيمة في نَفْس النبي صلى الله عليه وسلم، ونفوسِ المؤمنين. ولا يمكن
الإفلات من حبِّه والشوق إليه .
وقد حقَّق اللهُ تعالى رغبةَ النبي صلى الله
عليه وسلم . كما أن كل أصحاب دِين لهم قِبلة يتَّجهون إليها ويُقدِّسونها وتهفو
قلوبُهم إليها . والمسلمون أَوْلى الناس بوجود قِبلة ، لأنهم _ وَحْدَهم _ على
الحق . وأيضاً تُجسِّد القِبلةُ معاني الوَحدة الإسلامية، والترابط الإيماني
العميق، وتبث الرعبَ في قلوب الكافرين ، وتمزِّق شَمْلَهم ، وتدحض شبهاتهم وحُججهم
الواهية .
وقد (( كرَّر [ اللهُ تعالى ] هذا الحكم لتعدد
علله ، فإنه تعالى ذَكر للتحويل ثلاث علل : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء
مرضاته ، وجري العادة الإلهية على أن يولِّيَ أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها
ويتميز بها ، ودفع حجج المخالفين )){(1)}.
فقِبلة المسلمين هي المسجد الحرام المحتوي
على الكعبة المقدَّسة . ووجودُ مكان يتوجه إليه كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم
وتنوع أعراقهم ولغاتهم عامل توحيد ، وضمانة أساسية لتجذير الأمة الإسلامية كوحدة
جمعية متجانسة ومتماسكة . وهذا عامل قوة يعزز الثقة بقدرات المسلمين ، ويبث الرعب
في صدور أعدائهم الطامحين إلى تفريقهم .
وحينما يستشعر المؤمنون وَحدةَ القِبلة فهم
يترفعون عن كل خلافاتهم المذهبية أو الضغائن المزروعة بينهم ، لأنهم سيُدركون _
حينئذ _ أنهم أُمَّة واحدة تتوجَّه إلى إله واحد ، وذات رسالة واحدة . وهذه
الجماعةُ البشرية العظيمة المتوحِّدة تمضي وفق الصراط المستقيم الذي لا يتعدد .
وبالتالي فلا مكان لهذه الخلافات ، وسوف تتساقط الشحناء ، ويختفي الحقدُ والتربصُ
بالآخرين ، ومحاولة الانقضاض عليهم ، لأن الجسد الواحد لا يمكن أن يحارب نفسَه
مهما أصابه من أمراض .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: (( أول
ما نُسخ من القرآن فيما ذُكر لنا شأن القِبلة، قال الله : } وللهِ المشرقُ والمغرب فأينما تُوَلُّوا فثمَّ وجهُ الله {[ البقرة : 115] . فاستقبل
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيتَ العتيق ، فقال الله
تعالى : } سيقول السفهاءُ من الناس ما ولاهم عن قِبلتهم التي كانوا عليها {[ البقرة : 142] . يعنون
بيت المقدس ، فنسختها ، وصرفه الله إلى البيت العتيق، فقال الله تعالى : } ومِن حيثُ خرجتَ فَوَلِّ وجهكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما
كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه { [
البقرة : 150] )){(2)}.
وحادثةُ تحويل القِبلة ثابتةٌ في القرآن
الكريم بحيث إن منكرها يَكْفر لتكذيبه كلام الله تعالى ، أي تكذيب نَص قطعي الثبوت
وقطعي الدلالة . فقد تم تحويل القِبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام لحِكَم
إلهية عديدة وجليلة . منها أن اللهَ تعالى أراد تحقيق رغبة نبيِّه صلى الله عليه
وسلم في التوجه إلى البيت الحرام . واللهُ تعالى قادر على جعل البيت الحرام هو
القِبلة الأولى دون عملية تحويل ، لكنه أراد الربط بين المسجد الأقصى والمسجد
الحرام بحيث لا ينفصلان في عقيدة المؤمن ، كما أن حادثة تحويل القِبلة كانت
اختباراً حقيقياً لعقائد الناس ، بحيث أظهرت الثابتين على الإسلام، وأظهرت أصحاب
العقيدة المضطربة الضعيفة ، وأبرزت ما في قلوب أعداء الأمة الذين يريدون أية حادثة
لكي يزعزعوا عقائد المؤمنين ، ويشكِّكوا فيها ، في محاولة يائسة منهم لصرف الناس
عن الإسلام . ولا يَخفى أن الامتحان هو الكاشف عن عقائد الناس ، وسلوكهم ، وصمودهم
أو انهيارهم .
قال القرطبي في تفسيره ( 2/ 144 ) : (( أعلم
اللهُ تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة : } ما ولاهم {. وسيقول بمعنى قال . جعل
المستقبلَ موضع الماضي دلالة على استدامة ذلك ، وأنهم يستمرون على ذلك القول . وخص
بقوله : } من الناس{ لأن السفه
يكون في جمادات وحيوانات . والمراد من السفهاء جميع من قال : } ما ولاهم {، والسفهاء جمع. واحده
سفيه ، وهو الخفيف العقل )) اهـ .
والردُّ القرآني يجيء حاسماً لكل المسائل ،
وقاطعاً لكيد أعداء الإسلام ، وفاضحاً لهم . إذ إن ترك المنحرفين ينشرون باطلَهم
دون إيقافهم عند حدهم من شأنه تدمير المجتمع الإنساني ، وسيادة الفسقة والكافرين على
الناس، وقيادتهم للأمور الحياتية ، وهذا سيؤدي إلى اجتثاث الخير ، وتفشي الشر .
فالقرآنُ يؤسس منهجَ الرد على المخالِفين ، وفضح انحرافهم ، وإقامة الحجَّة عليهم
، ورد كيدهم في نحورهم .
والمراد بالسفهاء هم اليهود {(3)} الذين
حاولوا نشر باطلهم وصرف الناس عن الحق عبر إيراد حادثة تحويل القِبلة لتشكيك
المؤمنين بإيمانهم ، وإثارة التساؤلات الخبيثة المغرضة حول هذا الأمر .
وفي فتح الباري ( 8/ 171 ) : (( ورُوِيَ من طريق
السدي قال : هم المنافقون ، والمراد بالسفهاء الكفار وأهل النفاق واليهود . أما الكفار
فقالوا _ لما حُوِّلت القِبلة _ : رجع محمد إلى قِبلتنا وسيرجع إلى ديننا فإنه علم
أنَّا على الحق . وأما أهل النفاق فقالوا : إن كان أولاً على الحق فالذي انتقل إليه
باطل وكذلك بالعكس . وأما اليهود فقالوا : خالف قِبلة الأنبياء ولو كان نبياً لما خالف
)) اهـ .
إن الكفار قد اعتبروا تحويلَ القِبلة رجوعاً
إلى قِبلتهم . وفي الحقيقة إن الكعبةَ المشرَّفة قِبْلة المسلمين ، أمَّا العرب
الوثنيون فقد استحوذوا عليها ، ودنَّسوها بالأصنام المضادة لعقيدة التوحيد التي
أمر بها اللهُ تعالى ( ربُّ الكعبة ) . فاللهُ تعالى أراد أن تكون الكعبةُ قِبْلةَ
المسلمين الذين يجتمعون على توحيد الخالق وعدم الإشراك به. والكعبةُ هي تجسيد باهر
لمعنى توحيد الله تعالى ، كما أن تمثِّل معنى وَحدة المسلمين واجتماع كلمتهم
.
أمَّا المنافقون فقد اخترعوا حُجَّةً للطعن
في الإسلام ، وتمسَّكوا بشُبهة تتلاعب بعقولهم ، فقالوا إن كان التوجه لبيت المقدس
هو الحق، فإن التوجه إلى الكعبة باطل ، وكذلك العكس . وهذا وهمٌ مُطْبق لأن فِعْلَ
الشيء لا يَنْفي ما عداه. ويمكن أن نعطيَ أمثلةً على هذه القاعدة من الحياة اليومية.
فالمرءُ إذا ترك مَسقط رأسه، ورحل إلى مكان آخر ، فهذا لا يعني أنه انتقل من
الباطل إلى الحق أو العكس . وإذا ترك الإنسانُ شرب الشاي ، وراح يشرب القهوةَ ،
فهذا لا يعني أنه انتقل من الخطأ إلى الصواب أو العكس .
ولو عُدنا إلى بحثنا لوجدنا أن تحويل
القِبلة كانت اختباراً لإيمان الناس ، ولا تَحمل معنى بطلان القِبلة الأُولى أو
الثانية . فاللهُ تعالى هو مَالِكٌ للجهات كلها ، يتصرف في مُلْكه كيفما يشاء .
ولو سألنا هؤلاء المنافقين : لماذا ترتدون هذه الثياب ؟ ، أو لماذا تضعون في
بيوتكم كذا وكذا ؟ ، لقالوا إننا أحرار نتصرف في ممتلكاتنا ، ولا يحق لأحد أن يسألنا
عن هذه الأمور . وللهِ المثلُ الأعلى ، فهو _ سبحانه _ مَالِكُ كلِّ شيء ، لا يحق
لأحد أن يسأله عمَّا يَفعل ، فهو يتصرف في مُلكه ، وكلُّ ما سوى الله تعالى هو
مُلْكٌ له . ومَن يَرفض هذا الكلام ، عليه أن يَخرج من مُلْكِ الله تعالى ويقيم له
مُلْكاً خاصاً ، وهذا محال _ نقلاً وعقلاً _ . والمسجد الحرام والمسجد الأقصى هما
أوَّل مسجدَيْن وُضِعا في الأرض، فلا عَجب أن يحصل الربطُ بينهما للتنبيه على
أنهما وُجهة المؤْمِن ، فلا يجوز التنازل عنهما ، أو عن أحدهما .
وأمَّا اليهود فقد اعتبروا حادثةَ تحويل
القِبلة مخالفةً لقِبلة الأنبياء وخروجاً على شَرْعهم ، ووفق رأي اليهود: لو كان
محمَّد نبياً لَمَا خالف قِبلةَ الأنبياء .
والعجيبُ أن هذا الكلام يَصدر عن اليهود .
فالذي يَسمعه يعتقد أن اليهود حريصون على قِبلة الأنبياء ، ومتمسكون بمنهج
الأنبياء ، مع أنهم قَتلوا الأنبياءَ ، وحَاكوا ضِدَّهم المؤامراتِ . فلماذا لم
يتمسكوا بِدِين الأنبياء ويدافعوا عن قِبلتهم ؟!. وكما قال المثل: رَمَتْني بدائها
وانسلَّت . ولا يَخفى أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى كلاهما حاضنة للأنبياء
ومأوى لهم .
ودَيْدَنُ أعداء الحق في كل زمان ومكان هو
محاولة الاصطياد في الماء العكر ، وبث الأراجيف والإشاعات لإبعاد الناس عن الإيمان
، وإيصالهم إلى الشك والكفر . وهم بذلك يستخدمون كل الوسائل الخبيثة الدنيئة
لتحقيق غايتهم غير الشريفة . فيتعاملون مع الحق من منظور مصالحهم الشخصية الضيقة ،
ووفق أهوائهم الذاتية المشوَّشة . وهذا أدى إلى إصابتهم بانتكاسات متوالية قادت
إلى طردهم من حظيرة الإيمان لأنهم لم يقوموا بتنظيف قلوبهم لاستقبال الحق ، فخسروا
الدارين معاً .
والجديرُ بالذكر أن حادثة تحويل القِبلة قد
حصلت في السنة الثانية للهجرة ، حيث أمر اللهُ تعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم
بالتوجه من بيت المقدس إلى البيت الحرام .
المساجد :
إن المساجد بيوت الله تعالى له مكانتها
السامية وحُرْمتها الجليلة ، فلا يأوي إليها إلا مؤمن صادق ، ولا يبتعد عنها إلا
ضال . وتعظيمُها يدل على تعظيم العبد للشريعة الإلهية ، وتدميرُها _ معنوياً أو
مادياً _ إشارة واضحة إلى انحراف العبد عن الصراط المستقيم، كما أنه يُعرِّض نفسَه
للانتقام الإلهي الشديد. فالمسجدُ بيت الله تعالى ، لا أحد يستطيع دخوله إلا بإذن
صاحبه ، وكم من شخص يمر من أمام باب المسجد ولا يدخله ، فمَلِكُ الملوك لا أحد
يدخل بيتَه رغماً عنه . والقلوبُ المؤمنة تأوي إلى المسجد لأن فيه راحتها وخلاصها
، أما القلوبُ المريضة فتعتبره سجنَها لذلك تفر منه .
قال الله تعالى : } وأقيموا وجوهَكم عند
كل مسجد {[ الأعراف : 29] .
أي توجَّهوا نحو الكعبة ( القِبلة ) أينما
كنتم . فهي قِبلة المسلمين التي توحِّدهم على كلمة واحدة ، وتجمع قلوبهم نحو هدف
واحد ، بحيث تتوحد الأمة ، وتتماسك كلمتها أمام التحديات . إنه التوجه السامي ،
والتركيز في العبادة ، دون تشتيت الجهود أو الجهات .
وقد ذكر ابن الجوزي في زاد المسير ( 3/ 185
) أربعة أقوال في تفسير الآية : (( أحدها : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه
ولا يقولن أحدكم أُصلي في مسجدي ، قاله ابن عباس والضحاك واختاره ابن قتيبة . والثاني
: توجَّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، قاله مجاهد والسدي وابن زيد . والثالث
: اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون غيره ، قاله الربيع ابن أنس . والرابع : اقصدوا
المسجد في وقت كل صلاة أمراً بالجماعة لها ، ذكره الماوردي )) .
وإذا حَضرت الصلاةُ فينبغي على المسْلم أن
يُصلِّيَ في المسجد ، ولا يؤخر الصلاةَ أو ينتظر العودة إلى مسجده الذي تعوَّد
الصلاةَ فيه . فخيرُ البِر عاجلُه . وفي كل الحالات سوف يتم التوجه إلى الكعبة
المقدَّسة ( قِبلة المؤمنين ) التي
تُوحِّدهم، وتجمع شَمْلهم ، وتجعلهم على قلبِ رَجلٍ واحد. والصلاةُ الحقيقية لا
مكان فيها للرياء أو السُّمعة. فجميعُ الحركاتِ والسكنات منذ تكبيرة الإحرام حتى التسليم
هي لله تعالى، خالصةً له دون غيره. وعلى المؤمن أن يَحرص على أداء صلاة الجماعة،
ولا يَكتفي بالصلاة في بيته . فالمسْلمُ قوي بإخوانه ، والذئبُ يأكل الغنمَ
القاصية ، فمن ابتعد عن الجماعة فإن فرصة الشيطان ستكون كبيرة في السيطرة عليه
والاستفراد به . والرِّفعةُ كامنة في الجماعة لأنها تجميعٌ لنقاط القوة ، وتقليص
لنقاط الضعف .
وقال الله تعالى : } يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد {[ الأعراف : 31] .
فهذه الآية توضح ضرورة أن يكون المؤمن في
أحسن هيئة ، وأن يتزين بأجمل الثياب عند الصلاة أو الطواف. فالزينةُ له أثرٌ بالغ
في بعث الراحة النفسية. كما أنها توفِّر الاستعدادَ الضروري للدخول في العبادة بكل
ثقة وطمأنينة وراحة . وإذا كان المرءُ يتزين بأبهى حُلَّة حين يذهب لمقابلة مسؤول
كبير أو شخصية مهمة ، فما بالك حين يذهب للصلاة ويقف بين يدي ملك الملوك ؟! . فعليه
أن يكون في أجمل صورة وأبهى زينة . فلكل جوهر نقي مظهر صافٍ ، كما أن فساد الصورة
يشير إلى فساد المضمون .
وقال القرطبي في تفسيره ( 7/ 167 ) : (( هو خطاب
لجميع العالَم وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عرياناً ، فإنه عام
في كل مسجد للصلاة ، لأن العِبرة للعموم لا للسبب . ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد
به الطواف لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد،والذي يعم كل مسجد هو الصلاة، وهذا
قول من خُفي عليه مقاصد الشريعة )) اهـ .
فالمؤمنُ يتزينُ لربِّه تعالى مَلِكِ الملوك
. وقد كان العربُ في الجاهلية يَطوفون بالبيت عُراةً ، وهذا منافٍ للفِطرة
السليمة، والأدب مع الله تعالى، واحترامِ المساجد ، وسترِ العورات . ويتعارض
بالكلية مع الحضارة البشرية ، ومدنية الإنسان .
فالعُري إجراء بدائي يتصادم مع نضوج الفكر
البشري ، والتقدمِ الإنساني . والمؤمنُ ينبغي أن يأتيَ إلى المسجد في أبهى حُلة .
رائحته طيبة ، وثيابه نظيفة . فهو كائنٌ متميز يستمد شَرفه من شَرف المكان الذي
يتوجه إليه ( المسجد ) .
ولا بد أن يكون في هيئة حسنة لأنه سيقف بين
يَدَي الله تعالى بكل انضباط وخشوع . وهذا لا يتأتى إلا إذا جهَّز نَفْسه وفق أعلى
مستوى .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 2320 ) : عن ابن عباس _
رضي الله عنهما _ قال : )) كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول من يعيرني تطوافاً {(4)} ؟،
تجعله على فَرْجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أُحِلُّه .
فنزلت هذه الآية } خذوا زينتكم عند كل
مسجد {)) .
قال الحافظ في الفتح ( 1/ 465 ) : (( ونقل ابن
حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة )) .
وهكذا نجد أن أهل الجاهلية كانوا يرتعون في
مأزق العري وكشف العورات ، خصوصاً في البيت الحرام. وهذا يدل على جهلهم بالله
تعالى، وفسادِ عقائدهم المختلطة بالهوى والجهل والكفر. فأراد اللهُ تعالى أن
يرشدهم إلى الأخلاق العالية ، وستر العورات ، والالتزام بالهيئة الحسنة البعيدة كل
البعد عن العري ، والانحراف الأخلاقي . فالحرص على الزينة عند الصلاة والطواف من
شأنه أن يرتقيَ بإنسانية الإنسان ، وينتشلها من مستنقع الرذيلة والتعري .
فإيمان العبدُ يتحدد وفق قربه من المساجد .
فإن كان بعيداً عنها معادياً لها فقد عرَّض نفسَه للهلاك ، وإن كان محباً لها فهو
على خير عظيم .
قال الله تعالى : } ومَن أظلم ممن منع
مساجدَ الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا
خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم {[ البقرة : 114] .
وهؤلاء الذين يناصبون مساجدَ الله العداء
يكون المسجدُ _ بالنسبة لهم _ سجناً يريدون أن لا يدخلوه ، وإذا دخلوه فسيبقون
خائفين غير مرتاحين نفسياً ، لأنهم يفتقدون إلى الطمأنينة ولا يشعرون بهدوء
الأعصاب ، ويريدون الهروب منه بأسرع وقت ممكن .
فمنعُ المساجد من ذكر الله تعالى دليلٌ واضح
على حجم الانتكاسة التي وصل إليها الفرد الطامح إلى محاربة الشريعة عبر خنق
المساجد وتحجيمها ومحاصرتها . فالمسجدُ ذو مركزية عظيمة في المجتمع الإسلامي ،
وإذا تم إبعاده عن صناعة القرار ، فإن المجتمع سيفقد بوصلته ، ويتحول إلى كيان مسخ
بلا هوية ولا وُجهة . وهذا ما يطمح إليه أعداء الشريعة في كل زمان ومكان _ مهما
اختلفت أسماؤهم أو أديانهم _ . كما أن السعي في خراب المساجد يرمي إلى إطفاء جذوة
الإيمان ، وجعل المجتمع بلا منارة هداية ، وتجريد الأفرادمن الضوء الهادي الذي
يرشدهم إلى الطريق . فالمسجدُ ليس بناءً محصوراً في رقعة جغرافية ، إنه نظام حياة
كاملٌ تنتشر أفكارُه في صميم المجتمع الإنساني لإنقاذ الفرد والجماعة ، وإعادة
بناء المصطلحات الاجتماعية وفق منظور إيماني راسخ ، وعلاج الأزمات التي تعصف
بوجدان الإنسان ، وتطهير الجماعة البشرية من أمراضها ، وانتشالها من متاهاتها
المتكاثرة .
قال الشوكاني في فتح القدير ( 1/ 204 ) : ((
هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه ، وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه
سائر أنواع الظلم : أي لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ... } أن يُذكر فيها اسمه {... والمراد بمنع المساجد
أن يُذكر فيها اسم الله ، منع من يأتي إليها للصلاة والتلاوة والذكر وتعليمه . والمراد
بالسعي في خرابها : هو السعي في هدمها ... ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات
التي وُضعت لها )) اهـ .
إن منع مساجد الله تعالى هو أعظم الظلم ،
لأنه إعلان حرب على الخالق سبحانه ، وذلك بمحاربة دِينه وبيوته التي تقام فيها
شعائره _ عزَّ وجَل _ . فمن أعاق بناءَ المساجد ، أو منعَ ذِكر الله تعالى فيها ،
أو حاربَ تلاوةَ القرآن ، أو منعَ حلقاتِ التعلم والتعليم ، فهو محارِبٌ لله تعالى
، عَدُوٌّ لمساجده. ومن أحبَّ خَرابَ المساجد وتمنى زوالها ، أو هجرة المصلين لها ،
أو اختفاء العبادات منها ، فهو عدو لله تعالى لأنه ساعٍ في خراب بيوت الله بكل ما
أُوتيَ من قوة ومال .
قال القرطبي في تفسيره ( 2/ 74 ) : (( إذا استولى
عليها المسلمون _ أي المساجد _ وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها،
فإن دخلوها فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم
وتأديبهم على دخولها . وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد )) اهـ.
وقد حاول البعض أن يحوِّلوا المسجد إلى أداة
تفريق وهدم في المجتمع ، معتقدين أن بإمكانهم إخفاء مشاريعهم السيئة خلف قداسة
المسجد في الإسلام . وهذه محاولة يائسة لن تثمر إلا مزيداً من اليأس في نفوس
أصحابها الهادفين إلى تقويض دعائم المجتمع الإيماني . وهنا تبرز حادثة مسجد الضرار
، والتي وضَّحها اللهُ تعالى في كتابه العزيز لكي يكون المؤمنون على حذر من ألاعيب
المغرِضين الذين يُخفون مكرَهم خلف المقدَّسات ، ويستعملونها كستار لأعمالهم
الخبيثة .
قال الله تعالى : } والذين اتخذوا مسجداً
ضِراراً وكُفْراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لِمن حارب اللهَ ورسولَه من
قَبْل {[ التوبة : 107] .
(( سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة
قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب
. وكان قد تنصَّر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله
شرف في الخزرج كبير . فلما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة
واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر ، شَرِق اللعين
أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش
يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب،
وقدموا عام أُحد فكان من أمر المسلمين ما كان . ... لما فرغ الناس من أُحد ورأى أمرَ
الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي
صلى الله عليه وسلم فوعده ومنَّاه وأقام عنده . وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار
من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنِّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من
يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء
مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَ إليهم فيُصلِّيَ
في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ... نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار
وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أُسِّس
من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه
قبل مقدمه المدينة )){(5)}.
إن العلم _ بحد ذاته _ لا ينفع ما دام لم
يرتبط بالعمل الصالح . والعِبرةُ لا تتجلى في العقل وإنما تتجلى في الهداية
الربانية . فكم من عبقري أوردته عبقريته المهالك بسبب غياب التوفيق .
وأبو عامر الراهب كان رَجلاً ذا علم، شريفاً
في قومه، لكنَّ علمه لم يرشده إلى الحق بسبب غياب الهداية . فلما ظهر أمرُ النبي
صلى الله عليه وسلم كالشمس في رابعة النهار ، دَبَّ الحقد والغَيرة في نفس أبي عامر
، فأخذ على عاتقه محاربة الدعوة بكل ما أُوتيَ من قوة . فبدلاً من التسليم للأمر
النبوي ، والانخراطِ في جماعة المسلمين ، وإنقاذ نفسه ، وتقديم مواهبه لخدمة
الإسلام والمسلمين لكي يصبح عنصراً مهماً وفاعلاً في صناعة الحضارة الإنسانية ،
اختار طريقَ الكفر وحرب الدعوة بكل الأشكال . وبالطبع فسوف يذهب إلى الحاضنة
الاجتماعية للانحراف العَقَدي ( مشركي قُريش ) لكي يحتضنوه ويُقدِّموا له كل
مساعدة يحتاجها في سبيل تنفيذ مخططه البائس. فالطيورُ على أشكالها تقع . ثم ذهب
إلى هرقل ملك الروم لتأليبه على الإسلام والمسلمين. ونحن نلاحظ أن أبا عامر كان
لديه مخطط يشتمل على الجهات التي يتوجه إليها . إذ إنه يعلم مسبقاً عداوة مشركي
قُريش والرُّوم للدعوة الإسلامية مما جعله يعتقد أنهم هم الوُجهة الصحيحة القادرة
على حرب الدعوة الإسلامية، وتوفير كل مساعدة له لإنجاح خطته المتهاوية . وبعد أن استقر
به المقام في معقل الكفر ، راح يتصل بأعوانه في الداخل يُشجِّعهم ويُمنِّيهم أنه
سيُحارب النبيَّ صلى الله عليه وسلم بجيش لا يُقهَر . ولا بد أن يكون له مركز
قيادة ، فكان مسجدُ الضِّرار هو مركز قيادة العمليات . وهذا الاختيارُ لم يجيء
عبثاً . فاختيارُ المسجد سوف يُبعد كل الشبهات عنهم ، فصورةُ المسجد في أذهان
الناس أنه مكان للصلاة ونشر الخير . وبالتالي يستطيع أهلُ الضلال التحرك علانيةً
أمام الأنظار دون أن يُثيروا الشبهاتِ أو الشكوك . وأرادوا أن يحصلوا على الشرعية
، فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلِّيَ فيه لكي تكون صلاتُه حُجَّةً
لهم ، وشهادةَ حسن سيرة وسلوك . والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيبَ ، بل
يُجري الأمورَ على الظاهر . لكنَّ الوحي أخبره بأنه هذا المسجد لم يُبْنَ لرفع
كلمة الله تعالى ، بل لنشر الضلال . فهُدم المسجد لاستئصال هذا الباطل من جذوره ،
وتجنيب المسلمين الانشقاق والتفرق ، وبالتالي حماية الدعوة من الانكسار أو السقوط
.
وقد قال اللهُ_ عز وجل _ : } لا تَقُمْ فيه أبداً لمسجدٌ أُسِّس على التقوى من أوَّل يَوْم أحق
أن تقوم فيه { [ التوبة : 108] .
إن أعداء الدين لا يتورعون أن يستخدموا
الرموزَ الدينية المقدَّسة لتنفيذ مشروعاتهم الهدامة . فهم يختبئون وراء طهارة
المقدَّسات لكي يحصلوا على الشرعية ، فيصبغوا بها باطلَهم وانحرافاتهم العقائدية .
فهم يريدون هدم الإسلام من الداخل . أي محاربة الدعوة الإسلامية بنفس أسلحة الدعوة
. وهذه الخطةُ الفاسدة منتشرة عبر العصور . فكثيرٌ من أهل الضلال يحاربون القرآن
بالقرآن ، أي إنهم يسعون إلى لوي أعناق النصوص ، وتأويلها بشكل يتعارض مع دلالات
اللغة ، وذلك للقضاء على قُدسية القرآن وتشكيك المؤمنين به . وتراهم يحارِبون
الإسلام بالإسلام ، فنجد أشخاصاً يحملون أسماءً إسلامية مثل عبد الله ، عبد الرحمن
، محمد ، ... . لكنهم يحملون عقائدية كفرية يطمحون إلى نشرها داخل الجماعة المسلمة
، وذلك للقضاء على الإسلام من الداخل
_ كما يتخيلون _ . فهم يعتقدون أن هذا الأسلوب سيُبعد عنهم الشبهاتِ
والشكوك والاتهامات، ويُصوِّرهم في زي العلماء الذين لديهم اجتهادات مُعتبَرة ،
ويمارسون دورَهم في التنوير وإعمال العقل وممارسة الاجتهاد، وينتمون للحضارة
الإسلامية ، ويدينون بالولاء للكتاب والسُّنة. وهذا الأسلوبُ العقيم لم يعد خافياً
على أحد . وإن حضاراتٍ عظمى عبر التاريخ حاولت استئصالَ الإسلام لكنها دَخلت في
الإسلام ورَفعت لواءه وقامت بنشره مثل المغول والتتار _ على سبيل الذكر لا الحصر _
. فالشريعةُ المحمَّدية الإسلامية موجودة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ، ولو
استطاع أهلُ الضلال أن يستأصلوها لقاموا بذلك منذ قرون . لكنَّ نورَ الله لا يمكن
اجتثاثه .
كناطحٍ
صخرةً يوماً ليوهِنَهـا فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوَعِلُ
وصدق الله تعالى إذ يقول : } ما كان للمشركين أن يَعْمروا مساجدَ الله شاهدين على أنفسهم
بالكفر { [
التوبة : 17] .
فالمشركون سواءٌ كانوا وثنيين أو كتابيين لا
يمكن أن يساهموا في إعمار مساجد الله تعالى ، لأن قلوبهم خالية من الإيمان
والتصديق بوعد الله ووعيده . فدائرةُ عقائدهم الباطلة محصورة في نطاق دنيوي محصور
لا يفيدهم يوم القيامة. فإعمارُ المساجد يعتمد على إيمان راسخ في القلوب ، وصدقٍ
تطبيقي مرتبط بالجوارح ، وتضحية في سبيل الله تعالى ، وإخلاص النية بحيث تكون
نقيةً لا شائبة رياء فيها . وقد قال الله تعالى : } إنما يَعْمر مساجدَ
الله مَن آمن بالله واليومِ الآخر وأقام الصلاةَ وآتى الزكاةَ ولم يَخْشَ إلا الله
{[ التوبة : 18] .
.........الحاشية..............
{(1)} تفسير البيضاوي ( 1/ 426 ) .
{(2)}رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 294 ) برقم ( 3060 ) وصححه ،
ووافقه الذهبي .
{(3)}
قال الحافظ في الفتح ( 8/
171 ) : (( واختلف في المراد بالسفهاء. فقال البراء ...
وابن عباس ومجاهد : هم اليهود . وأخرج ذلك الطبري عنهم بأسانيد صحيحة )) اهـ .
{(4)} قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 18/ 162 ):((وهو
ثوب تلبسه المرأة تطوف به )).
{(5)} تفسير ابن كثير ( 2/ 510 ) .