التهجد وقيام الليل
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...........................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
...........................
إن التهجد {(1)} وقيام
الليل دليل باهر على صدق العلاقة بين المخلوق والخالق وتماسكها . ويدل على تجذر
الإيمان في نفس العبد الذي استطاع التفوق على شهواته ونزواته ، وضحى براحته في
سبيل نيل رضا خالقه تعالى .
قال الله تعالى : } ومن الليل فتهَجَّدْ
به نافلةً لكَ {[ الإسراء : 79] .
فقد ألزم اللهُ تعالى رسولَه الكريم صلى
الله عليه وسلم بقيام الليل ( شرف المؤمن ) لما في ذلك من مجدٍ ورِفعة للنبي صلى
الله عليه وسلم . فصلاةُ
الليل تفتح آفاقاً جديدة للعبد الذي يبتعد عن ضجيج النهار ، وصخب الناس ،
ويهجر النومَ ، من أجل ملاقاة خالقه تعالى . فالناسُ يغطون في سُبات عميق ، أما هو
فيكسر شهوةَ نفسه ، وينقلها إلى عوالم القُرب من الله تعالى . ولا شك أن قيام
الليل هو قمةُ الإخلاص وإدارة الظهر لمتاع الدنيا الزائل ، وصدقُ التوجه إلى
الخالق العظيم . وكل الصالحين عبر الحقب الزمنية المختلفة كان قيامُ الليل جزءاً
أساسياً من حياتهم ، يُجدِّدون به عهدَهم مع الله تعالى . وقيامُ الليل هو العلاقة
الصافية بين العبد وربِّه ، والتي لا يَمكن أن يخالطها الرياء .
قال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 75 ) : (( أمرٌ
له بقيام الليل بعد المكتوبة ... فإن التهجد ما كان بعد النوم ... واخْتُلِف في معنى
قوله تعالى : } نافلةً لكَ { ، فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب
ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة . رواه العوفي عن ابن عباس وهو
أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي _ رحمه الله _ واختاره ابن جرير . وقيل : إنما
جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص ، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
، وغيره من أمته إنما يُكفِّر عنه صلواته النوافلُ )) اهـ .
إن قيامَ الليل واجبٌ في حق النبي صلى الله
عليه وسلم ، وذلك لكي يبقى على اتصال بخالقه تعالى . ففي الليل يخلو كلُّ حبيبٍ
بحبيبه ، وأعظمُ حُب هو حب الله تعالى . وأُنس العبد بربِّه تعالى لا يتحقق على
الوجه الأكمل إلا في الليل ، لأن النهار وعاء الضجيج والعلاقات الاجتماعية ولهاث
الفرد وراء متطلبات الحياة التي لا تنتهي . أمَّا الليل فهو السَّكينة المطْلقة ،
وفيه تهدأ الجوارحُ وترتاح من صخب الحياة اليومية، فيصبح القلبُ في أعلى درجات
الصفاء ، مستعداً لتلقي التجليات الربانية ، والنفحاتِ الإيمانية. ومَن كان مع
الله تعالى لا يحب أن يكون مع غيره ، ومن أَنِسَ بالخالق تعالى لم يأنس بالمخلوقين
، وشعر بالوحشة منهم . ومما لا شك فيه أن قيامَ الليل دليلٌ باهر على محبة العبد
لخالقه تعالى ، وهروبه من سراب الدنيا وضوضاءِ الحياة الاستهلاكية إلى حقيقة
الإيمان الصافية .
وفي المستطرف للأبشيهي ( 1/ 19 ) : (( وقيل:
أوحى اللهُ تعالى إلى داود _عليه السلام _ : يا داود ، كَذب من ادَّعى محبتي ، وإذا جُنَّ عليه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه ؟ )) اهـ .
ويقول عبد الله بن المبارك _ رحمه الله
تعالى _ :
إذا ما الليل أظلم كابـدوه فيسفر عنهم و هم ركـوع
أطار الخوفُ نومَهم فقامـوا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
فالليلُ هو متعة العابدين الذين يَجدون فيه
سعادتهم ، فهم يملؤونه بالعبادة . وقد مَلَكَ قلوبَهم الخوفُ من الله تعالى فطار
النومُ من عيونهم ، فقاموا الليلَ لعلمهم بأهمية العبادة من أجل النجاة والخلاص .
أمَّا أهلُ الدنيا فهُم غاطسون في غفلتهم وشهواتهم لذلك قضوا حياتهم نائمين . وسوف
يَسْتيقظون عندما يَصعقهم الموتُ ، ويَدفعون ثمنَ تفريطهم . فالناسُ نِيامٌ ، وإذا
ماتوا انتبهوا .
وروى الحاكم في المستدرك ( 4/ 360 ) وصحَّحه
ووافقه الذهبي أن جبريل _عليه السلام _ قال مخاطِباً النبي صلى الله عليه وسلم :
(( يا مُحمَّد ، شَرَفُ المؤمنِ قيامُ الليلِ )) .
إن قيامَ
الليل هو تاريخُ المؤمن وشَرَفه الذي يَعتز به، ولا يسمح بزواله مهما حَدث .
فالشرفُ الحقيقي نابع من الإيمان وليس من العلاقات الاجتماعية . وذلك لأن رابطة
الدِّين أسمى من كل الروابط. وكلما ازداد الإيمانُ في قلب المرء ازداد شرفاً
وسُلطةً _ مهما كانت منزلته الاجتماعية _ أمَّا إذا ابتعد عن الدِّين فقد سَقط في
قاع الذل، ولن ينتفع بماله أو رابطةِ الدمِ أو علاقاتِ المصلحة.
وفي صحيح مسلم ( 2/
821 ): عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل الصلاة
بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل )) .
مما يشير إلى أهمية قيام الليل ، وأن يتوجه
العبدُ إلى خالقه تعالى حيث لا يراه الناس ولا يشعرون به . وهذا يزرع في النفس
الإنسانية الإخلاصَ ، وينقِّيها من أية شائبة رياء . ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا
العباد الصادقون أصحاب الهمة العالية .
فقيامُ الليل يدل على الإخلاص الصافي
المكتمل . فلا يمكن للمرء أن يقوم في جوف الليل فيتوضأ ويصلي ويضحِّي بشهوة النوم
اللذيذة إلا وهو يريد وجهَ الله تعالى ، ولا شيء سواه . وهذا السلوكُ انعكاس
للإيمان الراسخ في القلب ، والتصديق بالحساب يوم القيامة .
قال الله تعالى : } ومن الليل فسَبِّحْه
وأدبارَ السجود {[ ق : 40] .
فالتسبيحُ في الليل وبعد انتهاء الصلاة يزيد
الإيمانَ في القلوب ، ويُبقي القلبَ معلَّقاً بخالقه . فالليلُ هو مركز التأمل
الهادئ والفكر العميق الذي لا تشوبه ضوضاء ، فيكونُ فيه التسبيحُ صافياً نابعاً من
قلب حاضر غير مشغول بحركة الدنيا وتقلبات المعاش . والتسبيحُ بعد الصلاة إكمال
للمسيرة الإيمانية . إذ إن ختم العبادة الجليلة ( الصلاة ) بذكر الله تعالى يدل
على أن العبادات متصلة لا تنفصل . فحياةُ المسلم كلها لله تعالى ، لكنَّ العبادات
تأخذ أشكالاً مختلفة وأزمنةً متباينة لئلا يُصاب القلب بالسآمة أو الملل .
فالصلاةُ عبادةٌ فِعْلية وقَوْلية ، أما
التسبيح فعبادةٌ قَوْلية ، مما يشير إلى تكاملية العبادات ودورها المركزي في إنقاذ
الأفراد والجماعة من أزماتهم الوجودية الخانقة ، وصناعة الكيانات الإنسانية
والمجتمعية بشكل متماسك فعال لا يقيم أدنى قطيعة مع العبادة .
قال الشوكاني في فتح القدير ( 5/ 114) : (( أي
سَبِّحه بعض الليل . وقيل : هي صلاة الليل ، وقيل : ركعتا الفجر، وقيل: صلاة العشاء.
والأول أولى .} وأدبارَ السجود{ أي : وسبِّحه أعقاب الصلوات
)) اهـ .
وهذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم
بالتسبيح في أوقات مخصوصة هو أمرٌ لعموم الأمة ، وذلك يدفع باتجاه تقوية العلاقة
بين العبد وربه تعالى ، فيظل العبدُ على اتصال بخالقه ، يذكره دون ملل ، ويقوم
بمسؤولية العبادة على أكمل وجه .
قال الله تعالى: } كانوا قليلاً من
الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18) {[الذاريات ].
وهاتان الآيتان توضحان صفتَيْن عظيمتين من
صفات المؤمنين الصادقين ، وتشتملان على مدح لهم لتثبيتهم ورفع معنوياتهم وتشجيعهم
على مواصلة العبادة .
فالصفةُ الأولى تشير إلى سهر المؤمنين
الصادقين في طاعة الله تعالى ، وتضحيتهم بساعات نومهم من أجل إعطاء العبادة حقها.
فقد (( كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ...وصفهم بذلك مدحاً لهم ، وأثنى عليهم به فوصفهم
بكثرة العمل ، وسهر الليل ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم )){(2)}.
وقد ورد أكثر من تفسير للآية الشريفة : } كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون {.
فعن أنس _ رضي الله عنه _ قال : (( كانوا يصلون
بين العشاء والمغرب )){(3)}.
أي إنهم حريصون على الصلاة لأنها العلاقة
المقدَّسة بين المخلوق والخالق ، والرابطة الوثيقة بين الأرض والسماء. لذلك هم
يملؤون أوقاتهم بالصلاة، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في اللهو والعبث. فالمؤمنُ وقتُه
ثمين ، ويستغل كلَّ لحظة في طاعة الله تعالى ، ولا يوجد في عُمره وقت فراغ ، لأن
الفراغ أكبر مفسدة . ونَفْسُك إن لم تشغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل . وكما قال
الشاعر :
إِن الشبابَ والفراغَ والجِدَةْ مفسدةٌ للمرءِ أِيُّ مفسـدةْ
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((لا يمر بهم
ليلة ينامون حتى يصبحوا يُصلون فيها)){(4) }.
إن وقتَ المؤمن حلقة متصلة من العبادات ،
وإعمار الأرض ، ونشر الخير . فالليلُ والنهار هما ساحة العبادة. والعبادةُ مفهومٌ
شامل لكل ما يحبُّه الله تعالى ويرضاه. وفي واقع الأمر، لا توجد _ في حياة المؤمن
_ أفعال دنيوية وأفعال دينية ، لأن الدنيا مزرعة الآخرة . فالمؤمنُ فارسٌ في
النهار ، راهبٌ في الليل ، يُحوِّل جميعَ أفعاله إلى عبادات ، وذلك بجعل النيةَ
خالصةً لوجه الله تعالى .
أما الصفة الثانية فهي الاستغفار في الأسحار
( جمع سَحَر ، وهو وقت ما قبل الفجر ) . وهذه الأوقاتُ العظيمة يرجى فيها استجابة
الدعاء . كما تدل على إخلاص المؤمن وحرصه على العبادة في وقت يكون فيه الناس
نائمين ، أما هو فمستيقظ لأداء العبادة المقدَّسة ، متفوِّقاً على شهواته الطينية
، والنزعةِ الإنسانية نحو الراحة . وعلى قَدْر المشقة يكون الأجرُ . كما ينبغي
للمؤمن أن يختار الأوقات المبارَكة والأزمنة الشريفة لأداء عباداته لكي تكون أشد
تأثيراً في النفس البشرية ، وأدعى للقبول .
فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين
يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له )){(5)}.
واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الحركة والانتقال
من مكان إلى مكان . فالمعنى أن الله تعالى قريبٌ من العبد تتنزل رحمته في هذا
الوقت الفضيل . فيقول تعالى : (( من يدعوني فأستجيب له )) وهو غنيٌّ عن العالَمين
. لكنَّ اللهَ تعالى يُذكِّر عبادَه بأهمية الدعاء ، ويعدهم بالاستجابة لهم ، مع
أنه _ سبحانه _ لا يحتاجهم ، بل هم يحتاجونه . فالدعاءُ مخُّ العبادة ، وتتزايد
أهميته في هذا الوقت العظيم آخر الليل. ويقول تعالى : (( من يسألني فأعطيه )) .
فاللهُ تعالى لا تنفد خزائنه ، وهو ينفق في الليل والنهار فلم يُصب بالفقر أو
التعب . والإنسانُ العادي يغضب إذا سألتَه ، أما الخالق العظيم فيغضب إذا لم تسأله
. فلا شيء يُعجزه ، وكلُّ شيء خاضع له ، فيُعطي كلَّ صاحب مسألة مسألته دون أن
يَنقص من مُلْكه شيء. ويقول تعالى : (( من يستغفرني فأغفر له )). فكلُّ الذنوب _
مهما بلغ حجمها وعَظُمَ أمرها _ هي أصغر من الرحمة الإلهية التي وسعت كلَّ شيء .
والكبائرُ مثل الصغائر في المغفرة . فالمغفرةُ الإلهية أعظم من أن تُحصَر في صغيرة
أو كبيرة . فالعفو الإلهي قرارٌ رباني لا يخضع لحجم الإثم . إنه محضُ فضل من
الخالق _ سبحانه _ .
..........الحاشية............
{(1)}
قال ابن منظور في لسان
العرب ( 3/ 431 ) : (( وتَهَجَّدَ القوم استيقظوا
للصلاة أَو غيرها ... الجوهري : هَجَدَ وتهَجَّدَ أَي نام ليلاً ، وهَجَدَ وتَهَجَّدَ
أَي سَهِرَ ، وهو من الأَضدادِ . ومنه قيل لصلاة الليل التَّهَجُّد ، والتهْجِيدُ التَّنْويمُ
... قال الأَزهري : والمعروف في كلام العرب أَن الهاجد هو النائم ، وهَجَدَ هُجوداً
إِذا نام ، وأَما الْمُتَهَجِّدُ فهو القائم إِلى الصلاة من النوم ، وكأَنه قيل له
مُتَهَجِّد لإِلقائه الهُجُود عن نفسه )) .
{(2)} تفسير الطبري ( 11/ 451 ) .
{(3)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 507 ) برقم ( 3737 ) وصححه ،
ووافقه الذهبي .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 507 ) برقم ( 3738 ) وصححه ،
ووافقه الذهبي .
وفي فتح الباري ( 3/ 29 ) : (( زاد
الأصيلي أي ينامون. وقد ذكر الطبري وغيره الخلاف
عن أهل التفسير في ذلك . ونقل عن قتادة ومجاهد
وغيرهما أن معناه : كانوا لا ينامون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون ... عن ابن عباس قال:
معناه لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً ... ورجَّح الأول ، لأن الله تعالى وصفهم بذلك مادحاً
لهم بكثرة العمل. قال ابن التين : وعلى هذا تكون ما زائدة أو مصدرية وهو أبين الأقوال
وأقعدها بكلام أهل اللغة. وعلى الآخر تكون ما نافية )) اهـ .
{(5)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 384 ) برقم ( 1094) ، ومسلم ( 1/ 521 )
برقم ( 758) .
وقال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص 194و196) : ((
وقد روى حديث النزول عشرون صحابياً ، وقد سبق القول أنه يستحيل على الله _ عز وجل
_ الحركة والنُّقْلة والتغير ... والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه ، وامتناع
تجويز النُّقْلة ، وأن النزول الذي هو
انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام : جسم عالٍ، وهو مكان الساكن، وجسم
سافل ، وجسم ينتقل من علو إلى أسفل ، وهذا لا يجوز على الله تعالى قطعاً . فإن قال
العامي : فما الذي أراد بالنزول ؟، قيل: أراد به معنى يليق بجلاله لا يلزمك
التفتيش عنه ، فإن قال : كيف حدَّث بما لا أفهمه ؟ ،قلنا: قد علمتَ أن النازل إليك
قريب منك ، فاقتنع بالقرب ولا تظنه كقرب الأجسام )) اهـ .