الصلاة وصفات المصلين
تأليف: إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
......................
تأليف: إبراهيم أبو عواد
facebook.com/abuawwad1982
......................
إن الصلاة عمود الدِّين ، وهي الصلة الوثيقة
بين العبد وخالقه . فليست حركاتٍ ميكانيكية أو تمارين رياضية لتمضية وقت الفراغ .
بل هي منظومة متكاملة من العمل الإيماني المستند إلى عقيدة راسخة ، كما أنها
الاتصال المقدَّس بين المخلوق والخالق ، حيث الانقطاع عن عوالق الدنيا، والتوجه
بالكلية إلى الله تعالى . مما ينقل الفردَ من طَوْر المادية الشهوانية الترابية
إلى عوالم الطهارة والروح المشرقة التي تُولَد باستمرار من الصلة بين السماء
والأرض . لذلك جاء الحض على الصلاة ، والتشديد على التمسك بها ، والترهيب من تركها
، لأن تاركها يقطع العلاقةَ بينه وبين الله تعالى ، وهذا يقود الإنسانَ إلى
انتكاسة كبرى وتمركز في قاع الوجود البشري . فتركُ الصلاة وأد للروح والجسد معاً ،
لأنه يؤدي إلى إفراغ الكيان البشري من معناه ، وتغييب الجدوى عن الحياة الآدمية
على كوكب الأرض .
قال الله
تعالى : } وأَقِمِ الصلاةَ طَرَفي النهار وزُلفاً من الليل {[ هود : 114]{(1)}.
فإقامةُ
الصلاة تملأ اليومَ كاملاً بالبهجة والسرور والتوفيق . فحينما يبدأ المسلمُ يومَه
بالصلاة وينهيه بالصلاة ، فعندئذ سوف تحل البركةُ في الزمان والمكان ، وترسخ
العلاقةُ بين العبد والمعبود ، ولا تنقطع الصلة بين المخلوق والخالق . وبما أن
الصلاة سَدٌّ منيع يحول دون غرق العبد في الآثام ، فإن اليوم سوف يتحول إلى منبع
للطهارة والأعمال الصالحة وإدارة الظهر للخطايا . وبذلك يصبح الفردُ مسيطراً على
حياته ، يأخذ زمامَ المبادرة في الصالحات ، ولا يترك الدنيا تتلاعب به أو تخطفه
الشهوات الدنيئة وحظوظ النفس الأمَّارة بالسوء . وعندئذ يصبح الزمنُ ذا قيمة سامية
، ويختفي وقتُ الفراغ المفسِد ، فالعمرُ صار مملوءاً بالطاعة والأفعال النافعة
للإنسان ومجتمعه .
أما سبب
نزول الآية فروى البخاري في صحيحه (
4/ 1727 ) : عن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ أن رَجلاً أصاب من امرأة قُبلة
، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكر ذلك له ، فأُنزلت عليه : } وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين { [ هود : 114] . قال الرَّجل
: ألي هذه ؟ ، قال : (( لمن عمل بها من أمتي )) .
فالرَّجلُ
قد ارتكب ذَنْباً ، ووقع تحت تأنيب ضميره الحي . فقد عَصى اللهَ تعالى وأراد أن
يتوب من إثمه الذي اعترف به للنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يرشده إلى طريق التوبة والخلاص. فَنَزَلت
الآيةُ الكريمة التي تأمر بإقامة الصلاةِ لأنها الحبل المتين بين العبد وخالِقِه
تعالى. والحسناتُ تُذهِب السيئاتِ وتقضي عليها بشكل تام ، لذا على الإنسان _ مهما
بَلغت ذنوبه _ أن يُكثِر من الحسناتِ ، ولا يَستسلم لآثامه، أو يَفقد الأملَ في
التوبة. فبابُ التوبةِ مفتوحٌ. ولا كبيرةٌ مع الاستغفار، ولا صَغيرةٌ مع الإصرار .
والحسناتُ تنقيةٌ للقلب ، وتطهيرٌ له من كل الشوائب . فالإنسانُ الذي يواصل فِعلَ
الخيرات يتحول قلبُه إلى مرآة صافية عَصِيَّة على الخدش أو الكسر .
وقال
الشوكاني في فتح القدير ( 2/ 768 ) : (( لما
ذكر اللهُ _ سبحانه _ الاستقامة خَصَّ من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان.
وانتصاب طرفي النهار على الظرفية ، والمراد صلاة الغداة والعشي وهما الفجر والعصر
... ورجَّح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب قال : والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد
الطرفين الصبح فدل على أن الطرف الآخر المغرب )) اهـ .
والمقصود
بقوله تعالى : } وزُلفاً من الليل {هما صلاتا المغرب والعشاء .
وهكذا نرى
أن أوقات المؤمن مليئة بالصلاة في أوقات محددة ، وذلك لكي يبقى على اتصال مع الله
تعالى . فلا وقت للغفلة في حياة المؤمن ، ومع هذا فلن يتم قضاء كل الوقت في الصلاة
، فالصلواتُ هي أركان الحياة الإيمانية التي تحدد معالمَ طريقة عيش المسلم ،
وتجذبه إلى الخير ، وتبعده عن الشر .
قال الله تعالى : } قُل لعباديَ الذين
آمنوا يُقيموا الصلاةَ {[ إبراهيم : 31] .
فالمؤمنُ عليه أن يُقيم الصلاةَ ويحافظ
عليها. فهي الرابطة الإيمانية المقدَّسة بين الأرض والسماء، وإذا انقطعت سَقط
الإنسانُ في هاويةٍ سحيقة . فَمَن حافظ على الصلاة بكل تفاصيلها ، وأخذها على
مَحمل الجِد ، كانت له نوراً يقود حياته إلى القمة ، ومن تركها غرق في الظلام
الدامس .
وقال الطبري في تفسيره(7/456):((قل لهم: فليقيموا
الصلوات الخمس المفروضة عليهم بحدودها)) اهـ.
ففي إقامة الصلاة إقامة لكيان المؤمن وفق
قواعد راسخة تحفظ آدميةَ الإنسان المرتبط بخالقه تعالى ، وكذلك إقامة للمجتمع
الإسلامي القادر على تحمل مسؤولياته بكل كفاءة ، والقادر على إعمار الأرض ، وصناعة
الفرد المؤمن الذي هو خليفة الله في الأرض .
قال الله تعالى على لسان السيد المسيح صلى
الله عليه وسلم : } وأَوصاني بالصلاة {[ مريم : 31] .
وفي هذا إشارة واضحة إلى أهمية الصلاة ، حيث
أوصى اللهُ بها رسولَه عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، أي أمره بها . فعليه أن يحافظ عليها، ويقيم حدودها، ويلتزم
بها طريقاً في الحياة ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر. فالصلاةُ قادرة على
تصحيح مسار الفرد والجماعة، وتوجيه كافة الجهود نحو إصلاح الإنسان والأرض ، وتأسيس
حياة فضلى في ظل الشريعة الإلهية المعصومة .
صفات المصلِّين :
إن الصلاة تحيط المحافظين عليها بصفات
الطهارة والخير والإيجابية ، لأنها تنقِّي الإنسانَ من السلبية الفعلية والقَوْلية
، وتمنحه أفقاً أكثر رحابة وصفاء . مما يؤدي إلى صناعة منهجية الإصلاح وثقافةِ
المصلِحين ، فيغدو الفردُ أداة بناء في المجتمع الإنساني العالمي لا معول هدم .
والمصلِّي ليس فرداً عادياً أو رقماً بين الأرقام . إنه كائن مُميَّز له صفاتٌ
خصوصية ووقارٌ معروف وسَمْتٌ مُعيَّن، وهذا التميز اكتسبه من عبادة الصلاة التي
تنعكس على السلوك الإنساني ، فتجعل من الفرد طاقةً خلاقة إيجابية لا تستسلم
للصعوبات ولا تصاب باليأس والإحباط ، وتجعل من المجتمع خلية نحل دؤوب، قادر على
الحركة البناءة ، وصناعةِ الحراك الاجتماعي الفعال ، وتشييد الحاضر والمستقبل بكل
ثقة وأمان .
قال الله تعالى : } الذين هم في صلاتهم
خاشعون {[ المؤمنون : 2] .
والخشوعُ في الصلاة علامة المؤمن الصادق
البعيد عن النفاق والرياء ، فما كانت أعضاؤه لتخشع لولا خشوع قلبه. وهذا يدل على
ارتباط القلب بالله تعالى، وهو علامة الصلاح والتقوى. أما تصنع الخشوع فهو الرياء
بعينه ، حيث إظهار الصفات الحميدة دون تواجدها في القلب، وذلك لنيل الحظوة عند
الناس ، والمديح ، وتحقيق أغراض شخصية .
وعن
علي بن أبي طالب _ رضي الله عنه _ : أنه سئل عن قوله _ عز وجل _ :} الذين هم في صلاتهم خاشعون {. قال:(( الخشوع في القلب
، وأن تلين كتفك للمرء المسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك )){(2)}.
فالقلبُ هو مَلِك الأعضاء والحاكم عليها،
وما وقر فيه فلا بد أن يظهر على الجوارح بقصد أو بغير قصد . والخشوعُ مكانه في
القلب ( المركز / المنبع / الأساس ) . ويقتضي الخشوعُ التعاملَ مع المسلم بلين
وأدب ، وعدم الالتفات في الصلاة ، لأنه يشتِّت التركيز ، ويؤثر سلباً على حضور
القلب وتماسكِ الأعضاء .
فحينما يستقر الخشوع في القلب ، فإن تغييراً
هائلاً سيطرأ على باقي الأعضاء . فيغدو المسلمُ كائناً متزناً يضع الكلمةَ في
موضعها الصحيح ، لا تأخذه فَوْرة الغضب ، ولا يستسلم للاستفزاز وسفاهة الجهلاء .
فيمشي بسكينة ووقار ، يساعد الآخرين ويأخذ بأيديهم نحو بَر الأمان . فعندئذ يصبح
شعلةَ نشاط ومنارةً تهدي الحيارى وترشد الضائعين . كما أنه سيتعامل مع الناس
باحترام ، فلا يتطاول عليهم ولا يحتقرهم ، ولا ينظر إليهم نظرةً دونية أو يعاملهم
كالشياطين الذين ضلوا عن السبيل . فالخشوعُ أساسٌ للسَّكينة واللين وسهولة التعامل
. فإلانةُ الكتف للمسلم تشير إلى معاملته بالأدب لا الوقاحة ، واحتوائه لا رفضه .
وفي
صحيح البخاري( 1/ 261 ): عن عائشة قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات
في الصلاة ؟ ، فقال : (( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )) .
فالشيطانُ
لا يرتاح إلا حينما يشوِّش على صلاة العبد ويجعلها تغرق في اللاخشوع. والالتفاتُ
في الصلاة عبارة عن سرقة شيطانية بسرعة من الصلاة. وذلك لكي يحرم المصلِّي من أجر
الخشوع، ويبعده عن السكينة الكاملة في الصلاة . وهذا هو طبعُ الشيطان الرجيم الذي
يتركز منهجُه في إفساد العبادات وجعلها خالية من المعنى عبر تشتيت ذهن المصلي ،
وطرحِ القضايا المتشعبة في نفسه لكي ينشغل بها بعيداً عن صلاته ، وهذا يؤثر سلباً
على أجره وشعوره بحقيقة العبادة .
قال الله
تعالى : } والذين هم على صلواتهم يحافظون {[ المؤمنون : 9] .
ومن صفات
المؤمنين الصادقين أنهم يحافظون على أوقات الصلاة، فلا يُضيِّعونها ، ولا ينشغلون
عنها . فهم يحرصون على أدائها بشكل تام لا نقص فيه ولا تهاون ولا تكاسل . فالصلاةُ
على وقتها أعظم قربة إلى الله تعالى. فعن ابن مسعود قال : سألتُ
النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ ، قال : (( الصلاة على وقتها
)){(3)}.
وقال الله تعالى : } والذين في أموالهم حقٌّ معلوم {[ المعارج : 24] .
وتتوالى صفاتُ المصلين الصادقين كما يوضحها
القرآنُ الكريم . فمن صفاتهم الطيبة أنهم يخرجون زكاةَ أموالهم . فالحق المعلوم هو
الزكاة لأنها محددة كمياً وزمنياً . وهذا يدل على أن الصلاة نظام شامل يُساهم في
الالتزام بكل العبادات . فالمسلمُ الحريص على الصلاة سيحرص على الزكاة لأنها
مقترنة بالصلاة لا تنفصلان . مما يشير _ بلا ريب _ إلى شمولية الشريعة الإسلامية
لكل جوانب الحياة بلا تناقض أو فصل بين العبادات . فالإسلامُ نظامٌ كُلِّي لا
يتجزأ ، ومنظومةٌ عامة من العبادات والمعاملات والقواعد الشرعية المفتوحة على عوالم
السياسة والاقتصاد والثقافة .
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 7/ 71
) : (( وقد اختلف السلف في معنى قول الله تعالى : } والذين في أموالهم
حقٌّ معلوم (24) للسائل والمحروم (25) {[ المعارج ] . فقال الجمهور
: المراد به الزكاة وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة ، وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه
الندب ومكارم الأخلاق ... وقال بعضهم : هي منسوخة بالزكاة ، وإن كان لفظه لفظ خبر فمعناه
أمر. قال: وذهب جماعة منهم الشعبي والحسن وطاوس وعطاء ومسروق وغيرهم إلى أنها مُحْكَمة
، وأن في المال حقاً سوى الزكاة من فك الأسير، وإطعام المضطر ، والمواساة في العسرة
، وصلة القرابة )) اهـ .
قال الله تعالى : } والذين يُصَدِّقون
بيوم الدِّين {[ المعارج : 26] .
ومن أهم صفات المصلين أنهم يؤمنون بالبعث
والحساب بعد الموت. وهذه صفة لازمة للمصلي الذي يقوم بعبادة الصلاة على أتم وجه ليحافظ
على صلته بالخالق تعالى . فالمصلي مرتبط بالآخرة ، ومؤمن بالثواب على الطاعة ،
والعقاب على المعصية . لذلك فإن الصلاة هي إصلاح للعبد في الدارين ، وإعلاء لمنزلة
العبد يوم الدين . إنها تجهيز لدار الإنسان الخالدة التي يسكنها بعد الموت .
وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 390 ) : (( تصديقاً
بأعمالهم ، وهو أن يُتعب نفسَه ، ويصرف ماله طمعاً في المثوبة الأُخروية )) اهـ .
وقال الله تعالى : } والذين هم من عذاب ربهم مُشفقون {[ المعارج : 27] .
فمن صفات المصلين الصادقين في صلاتهم أنهم
خائفون من عذاب الله تعالى ، لذلك فهم يتمسكون بأوامره ونواهيه ، ويقيمون
العباداتِ على أكمل وجه دون تقصير . فالمؤمن في حالة خوف من عذاب الله تعالى
وانتقامه الشديدَيْن .
وقال الله تعالى : } والذين هم لفروجهم حافظون {[ المعارج : 29] .
أي إنهم يمنعون فروجَهم من الوصول إلى
الحرام، فيحافظون عليها في وجه كل المغريات والشهوات المحرَّمة، فيبقون أنقياء
أطهاراً ، لا يُلوِّثون أجسامَهم بالحرام .
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده _ رضي الله عنه
_ قال : قلتُ : يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟، قال: (( احفظْ عورتك
إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )) ، قلت : أرايتَ إن كان قوم بعضهم فوق بعض ؟، قال:
(( إن استطعتَ أن لا يراها أحد فلا يَرَيَنَّها )) ، قلت : أرايتَ إن كان خالياً ،
قال : (( فالله أحق أن يستحيي منه )){(4)}.
وهذا يشير إلى قوة منهج الانضباط الأخلاقي
في المجتمع الإسلامي المحروس بقوانين الشريعة التي حالت دون غرق الأفراد في الفوضى
الجنسية، وانتشارِ الفواحش، وشيوعِ الأمراض التناسلية.
فالمجتمع الإسلامي مجتمعٌ نظيف طاهر يضع
الشهواتِ في نصابها الصحيح ، ويغلق كلَّ الذرائع الموصلة إلى الحرام . فحفظُ
العورات هو الأساس لتجنب الانسياق وراء العلاقات المحرَّمة بين الذكر والأنثى ،
والضمانةُ الأكيدة لحماية المجتمع من الكبت الجنسي والفوضى الأخلاقية . وهنا تتجلى
أهمية التوازن والسيرِ على الخط المستقيم ( أقصر مسافة بين نقطتَيْن ) بلا انحراف
أو تحايل .
وقال الله تعالى : } والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون {[ المعارج : 32] .
إن المصلين يردون الأمانات إلى أصحابها ،
ويوفون بعهدهم ، مبتعدين كل البعد عن الخيانة . فهم يتمتعون بالأمانة والإخلاص في
معاملاتهم. فيصبحون _ بذلك _ محل ثقة الآخرين، ويفرضون احترامهم على الجميع ، لأن
الصفات الأخلاقية ملتصقة بالجوارح ، وبالتالي فالناس يحكمون على الأشخاص تبعاً
لأخلاقهم الظاهرة التي لا يمكن إخفاؤها مهما حاول الإنسان التكلف ، وصناعة الصفات
الحسنة . فطبعُ الإنسان يظهر في حركات الإنسان وسكناته . ومن غير الممكن أن يتصنع
الفردُ الصفاتِ الحسنة دائماً . فلا بد أن يُكتشَف أمره _ عاجلاً أو آجلاً _ مهما
كان بارعاً في التمثيل والتحايل ، وسوف يظهر على حقيقته . وكما قال الشاعر :
ومهما
يكن عند امرىء من خليقة وإن
خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ
فعلى الإنسان أن يتحلى
بالصفات الحسنة لأنها تعكس شخصيته وخلفيته ، وتساهم في تحسين العلاقات التواصلية
بين الناس ، ونيل قبولهم ورضاهم . كما أن الصفات الحميدة مضادة تماماً لصفات
المنافقين . فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( آية
المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أُؤتمن خان )){(5)}.
فهذه العلاماتُ الثلاث هي من خصائص
المنافقين وصفاتهم . فالكذبُ في الحديث يؤدي إلى قلب الحق باطلاً، وتحويل الباطل
إلى حق.وهذه الصفةُ القبيحة لها آثار مدمرة في النسيج الاجتماعي لأنها تعمل على
تفتيته، وخلط الأمور بشكل عبثي كارثي يقود إلى تضليل الناس، وإطلاق الأحكام
جُزافاً دون التثبت منها . وهنا تبرز الأوهام في المجتمع ، وتنتشر الإشاعات ،
ويسود الشك بين الناس ، ويختفي اليقين في القيل والقال . ولا يخفى الأبعاد
الكارثية لهذا الانهيار الاجتماعي المرعب.
ومن صفات المنافقين عدم الوفاء بالوعد ،
وهذه الصفة القبيحة تزيل الثقةَ بين الناس ، فيصبح الجميعُ خائفين من بعضهم البعض،
ولا يَثقون بأنفسهم ومجتمعهم . وإذا انتهى التواصل الاجتماعي وتفككت الروابط
الإنسانية فعندئذ تتحول القيم المجتمعية إلى كوابيس ، ويصبح كلُّ فردٍ متربصاً بالآخر
، فيتحول المجتمع الإنساني إلى غابةٍ لا قانون لها سوى القوة والقدرة على
الاستغلال .
أمَّا خيانةُ الأمانة فآيةٌ واضحة من آيات
المنافق. وإذا عجز المرءُ عن حفظ الأمانة وتأديتها على أكمل صورة فهذا مؤشر على
انهيار الإنسان ، وسقوطه في مستنقع الابتزاز والغدر ، والاستحواذ على ممتلكات
الآخرين دون وجه حق. فيصبح المجتمعُ مكاناً للكراهية والحقد والانتقام ، فتعم
الفوضى ، ويزول التكافل الاجتماعي ، فتتمزق الأواصر الإنسانية ، ويتحول الفرد إلى
خنجر غدر في ظَهر أخيه ، ويصير المجتمعُ جُزراً معزولة . الكُلُّ يَكره الكل .
وهنا يفقد المجتمع شرعيةَ وجوده بسبب عجزه عن ترك بصمة مؤثرة في تاريخ الأخلاق
والحضاراتِ، فيزول، ويصبح أثراً إثر عَيْن .
وقال
الله تعالى : } والذين هم بشهاداتهم قائمون {[ المعارج : 33] .
فهم يقومون
بأداء أمانة الشهادة كما هي وعلى أكمل وجه ، فلا يكتمونها ، ولا يُغيِّرون فيها،
فلا زيادة ولا نقصان . وهذا يعكس أمانة إيصال الحق لئلا تضيع حقوق الناس . فيتأسس
المجتمع على قواعد الأخوة المتجذرة ، والتكافلِ الاجتماعي الحقيقي غير المرتبط
بالنفعية المصلحية . فالكيان المجتمعي المبني على أسس الحقيقة والعدالة وحفظ حقوق
الأفراد لا يصل إلى طور التفكك لأن بنيانه ثابت على قواعد راسخة لا تتخلخل. كما أن
شعور الفرد بأنه محمي يمنحه شعوراً بالأمان والثقة والدافعية نحو تعزيز انتمائه
للمجتمع ، والمساهمة في التنمية والإعمار .
وقال الطبري
في تفسيره ( 12/ 239 ) : (( والذين لا يكتمون ما اسْتُشْهِدوا
عليه ، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها غير مُغيَّرة ولا مُبدَّلة )) اهـ .
...........الحاشية..............
{(1)} في فتح القدير للشوكاني ( 2/ 768 ) : (( والزلف
: الساعات القريبة بعضها من بعض . ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة )) اهـ .
{(2)} رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 426 ) برقم ( 3482) وصححه ،
ووافقه الذهبي .
{(3)} متفق
عليه . البخاري ( 1/ 197) برقم ( 504 ) ، ومسلم ( 1/ 89 ) برقم ( 85 ) .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 199) برقم ( 7358 ) وصححه ، ووافقه
الذهبي .
{(5)} متفق عليه . البخاري ( 1/ 21 ) برقم ( 33) ، ومسلم ( 1/ 78 ) برقم (
59 ) .
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 2/ 46و47 ): (( هذا
الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق
الذي ليس فيه شك . وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه
الخصال ، لا يُحكَم عليه بكفر ، ولا هو منافق يخلد في النار ، فإن أخوة يوسف صلى
الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وُجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله .
وهذا الحديث ليس فيه _ بحمد الله تعالى _ إشكال، ولكن اختلف العلماء
فى معناه . فالذي قاله المحققون والأكثرون ، وهو الصحيح المختار ، أن معناه أن هذه
الخصال خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق
هو إظهار ما يبطن خلافه ، وهذا المعنى موجود فى صاحب هذه الخصال ، ويكون نفاقه في حق
من حدَّثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو
يبطن الكفر. ولم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلَّدين
في الدرك الأسفل من النار )) اهـ .