المرأة في شعر المعلقات / الجزء الأول
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
............................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
https://twitter.com/abuawwad1982
............................
تمهيد
المرأةُ هي نِصفُ المجتمع . وهذه حقيقة واقعية دون زيادة أو نقصان ، وليست
شعاراً للدفاع عن حقوق المرأة، أو مدحها، أو تطييب خاطرها . فالمجتمعُ هو الرَّجل
والمرأة . وبما أن المجتمع الإنساني على كوكب الأرض هو مجتمع ذُكوري يصنعه
الرَّجلُ ، فمن الطبيعي أن يَبحث الرَّجلُ عن نِصفه الآخر ، ويتعلق بالضفة
المقابِلة لعالَمه .
والمرأةُ في شِعر المعلَّقات ذات حضور مركزي وأساسي . مما يدل على أنها
متمركزة في ذِهن الشاعر ، وذاكرةِ المجتمع . فلا يمكن أن تَظهر المرأةُ على لسان
الشاعر ، إلا إذا كانت موجودةً في قَلبه . وهذه حقيقة عامة تشمل المرأة وغيرها .
والحديثُ عن المرأة واسعٌ ومتشعب . وكلُّ شاعرٍ يَرسم صورةً شِعرية للمرأة
كما يتصورها في ذِهنه، ويَحكم عليها استناداً إلى معرفته الشخصية وخِبرته العملية.
ولا يَخفَى أن الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره.
وهكذا ، فليس من الغريب أن تتعدد العوالم الشعرية التي تمس وجودَ المرأة .
فالمرأةُ _ بالأساس _ هي كائنٌ متعدد له أبعاد كثيرة وعميقة. لذلك ، رأينا
اختلافاً واضحاً بين الشعراء في موضوع المرأة . وكلُّ شاعرٍ يُدلي بِدَلْوه في هذا
السياق اعتماداً على مرجعيته الفكرية والاجتماعية والأخلاقية .
ومن الطبيعي أن نجد شاعراً حريصاً على ذِكر الجانب الشهواني في المرأة من
أجل الاستمتاع واللذةِ . ومن الطبيعي كذلك أن نجدَ شاعراً يَذكر البُعد الروحي
للمرأة ، وما يتعلق به من ذكريات وأحزان . وبالتالي ، سنجد أن الشِّعر يَكشف لنا
الأبعادَ الغريزية والأبعادَ الشعورية في عالَم المرأة ، من وُجهة نظر الشعراء
الذين أعطوا أنفسهم الحقَّ في تشريح المرأة ، واكتشاف عوالمها الواضحة والغامضة ،
والغوصِ في عقلها وجسدها ، والوقوفِ على تفاصيل شهوتها وأحاسيسها .
1_ عشيقات سابقات :
إن الإنسانَ يعودُ إلى
ذكريات الحب الماضي باحثاً فيها عن بارقة أمل أو طوقِ نجاة. إنها العودةُ إلى
ينابيع العشق الأُولى ، والرجوعُ إلى النواة التاريخية الأصلية . وهذه العودةُ إلى
الأصل إنما هي بسبب المعاناة في الحياة اليومية . فالإنسانُ حينما يعاني من حاضره
، لا بد أن يَهرب إلى الماضي ، لعله يجد فيه الخلاصَ ، والدفءَ العاطفي ، وراحةَ
الأعصاب .
وفي حالة الشاعر امرئ
القَيْس ، حدث العكسُ تماماً . فهو يَعود إلى الماضي محترقاً نادباً حظَّه .
وذكرياتُه المتمركزة في عالَم عشيقاته السابقات تزيده لوعةً وحزناً وألماً . ولم
يجد في قصص حُبِّه الماضية سوى حطب جديد لنيران قلبه المحترق .
يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
كَدأْبكَ
مِن أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلها
وجارَتِها أُم الرَّبابِ بمَأْسَــلِ
يخاطبُ نَفْسَه بكل حسرةٍ
وألم ، مقتنعاً أن غرامياته سلسلةٌ متَّصلة من الخسائر والخَيْبات والهزائم . يقول
لنَفْسه : عَادَتُكَ في حُب هذه كعادتكَ من تلك . وبعبارة أخرى ، قِلَّةُ حظِّكَ
من وِصال هذه ومعاناةُ عِشقها ، كقلة حظِّكَ من وِصالهما ومعاناتكَ عِشقهما.
" قَبْلها " أي قَبْل هذه التي شُغفت بها الآن ."مأسَل" اسم
جبل.
إن هزيمة الشاعر في
معركة العشق الحاضرة قد ذَكَّرَتْه بهزائمه الغرامية الماضية . وبالتالي ، فإن
الفشلَ في العِشق ليس جديداً على الشاعر . وهذه المرأةُ _ التي يُعاني الوجدَ بها
ويتعذب بسببها _ قد أعادت له ذكرياتِ العِشقِ المرَّةَ التي مَضَت . وهذه العشيقةُ
الحاليةُ قد ذَكَّرَتْه بأُم الحُوَيْرث وأُم الرَّباب ، وهما عشيقتان سابقتان ،
عانا الشاعرُ معهما أشد المعاناة . إذن ، فالشاعرُ يَملك تاريخاً من الهزائم
الغرامية ، الحالية والماضية ، لذلك نجده غير متفاجئ بخَيْبته وقِلَّةِ حظِّه مع
المعشوقة . فهذه المشاعرُ سبقَ وأن جَرَّبها في الماضي . إنها مغامرةٌ غرامية
خاسرة تُضاف إلى خسائره الغرامية القديمة . وهكذا ، قد تحوَّلت قصصُ العِشق إلى
عذابات متَّصلة مخزَّنة في ذاكرة الشاعر المخدوشة، وأرشيفِ التاريخ المكسور،
وسِجِل الأيام الحزينة . ويبدو أن الشاعرَ قد اعتاد على إخفاقاته مع العشيقات ،
فلم يعد يَشعر بالصدمة ، ولم يَسقط ضحيةً لعنصر المفاجأة القاتل .
2_
عِطر النساء ( المِسك ) :
يَرتبطُ العِطرُ بالمرأة ارتباطاً وثيقاً . فالرائحةُ الطيبةُ إحدى أسلحة
المرأة الفتَّاكة، حيث إنها _ أي الرائحة الطيبة _ تَجذب الرجالَ ، وتصطاد قلوبَهم
. والمرأةُ زِينةٌ في ذاتها، لا تمل من التجمُّل والتعطر ، ولا تسأم من الوقوف
أمام المرآة لمدة طويلة . وكلُّ هذا من أجل جذب أنظار المعجَبين إليها ، وإيقاعهم
في مِصيدتها ، والسيطرةِ على حواسِّهم بشكل كامل .
والتعطرُ جزءٌ من منظومة الإغراء عند المرأة، والإغراءُ هو سلاح المرأة
الفعَّال ، وبدونه سَتَشْعر المرأةُ أنها كائن مسخ بلا هوية ولا كيان ، وسَتَسْقط
في براثن الاكتئاب والشعورِ بالفراغ والعَدَم واللاجَدْوى . وهذا الأمرُ غير
مستغرب إذا عَلِمْنا أن الحُب هو كل شيء في حياة المرأة . وبدون الحُب لا معنى
لأنوثة المرأة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
إذا قَامَتا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُـما نَسيمَ الصَّبا جاءَتْ بِرَيَّا
القَرَنْفُلِ
ما زال عِطرُ العشيقات
عالقاً بذاكرة الشاعر رغم مرور كل هذه السنوات . لقد صار العِطرُ هو البوصلة التي
ترشد الشاعرَ في عَتمة انهياراته الغرامية ، وفي خضم انتكاساته العِشْقِيَّة . قد
حفرَ العِطرُ موقعَه في الذاكرة ، وجلبَ معه وُجوهَ العشيقات . وكأن العِطرَ قد
اختزل جميعَ صفات العشيقات ، وصَهَرَها في بَوْتقته .
إذا قامت العشيقتان ( أُمُّ
الحوَيْرث وأُمُّ الرَّباب ) فاحت رِيحُ المِسك منهما. إنها الرائحةُ الطيبة
المفعمة بالأنوثة والحيوية والعنفوان ، فاحت من هاتَيْن العشيقتَيْن الحريصتَيْن
على التعطر، والظهورِ بأبهى منظر وأجملِ رائحة ، ونيلِ إعجاب الجنس الآخر .
ورائحةُ المِسك التي انطلقت منهما وانتشرت في الأرجاء ، كنسيم الصبا إذا جاء
برائحة القرنفل الطيبة . لقد شبَّه طِيبَ رائحتهما بِطِيبِ نسيمٍ هَبَّ على قرنفل
وأتى برائحته . وهذه الصُّورةُ الشِّعرية العِطرية تَحمل دلالاتِ العِشق ، وتَعْبق
برائحة الذكريات، والأيامِ الجميلة التي مَضَت. وفي هذا السياق ، صار العِطرُ
تاريخاً مكثَّفاً لغراميات الشاعر ، ومُلخَّصاً عاطفياً للماضي الذي لن يَعود .
ويقولُ الشاعرُ الأعشى
الأكبر :
إذا تَقومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرةً والزَّنبقُ الوَرْدُ مِن أَرْدانِها
شَمِلُ
هذه العشيقةُ المتعطرةُ تفوحُ منها الرائحةُ
الطَّيبة التي تأخذ بيد الشاعر إلى عوالم الخيال والشهوة والذكريات . فإذا قامت
يَضوعُ المِسك ، أي : تفوح رائحته في كل الاتجاهات . والأَصْورةُ جَمع صِوار ، وهو
وعاء المِسك أو قطعة المِسك .
إذا قامت هذه العشيقةُ
تفوح منها رائحة المِسك كما تفوح من أوعيته . وكأن هذه المرأة قارورة عِطر متنقلة
، أو وعاء مِسك عابق بالرائحة الزَّكية . وهذا يشيرُ إلى اهتمام المرأة بشخصيتها
ومَظهرها ورائحتها ، فهي حريصةٌ أشد الحرص على الاعتناء بكل تفاصيل كيانها .
كما أن رائحة الزنبق من
أطراف أكمامها ( أردانها ) عامة شاملة ( شَمِل ) . وهذا يعني أنها غارقة في العِطر
حتى شَحمة أُذنَيْها . فالرائحةُ الطَّيبةُ تَخرج مِن كُل مكان في جِسمها .
فرائحةُ الزنبق الأحمر ( الورد ) تنبعث من أطراف أكمامها بصورة شاملة عامة .
والجدير بالذِّكر ، أن الزنبق الورد ( الضارب للحُمرة ) هو أجْود أنواع الزنبق .
مما يدل على أن هذه العشيقة من الطبقة المخملية الراقية .
3_ ذكريات مع النساء :
الذكرياتُ هي وقودُ
الذاكرة ، والزيتُ الذي يُشعِل سراجَ قلوب العشاق. إنهم يعيشون على نار الذكريات
التي تذكِّرهم بالحُبِّ القديم ، والأيامِ الخالية ، والمشاعرِ الماضية ،
والأحلامِ البعيدة . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
ألا رُبَّ يَوْمٍ لكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ ولا سيِّما يَوْمٍ بدارَةِ جُلْجُـلِ
يَرجع الشاعرُ إلى مملكة الذكريات المندثرة
. يتذكرُ لحظاتِ الوِصال التي سَرَقها من الزمن . وبالطبع ، فإن السعادة عبارة عن
لحظات سريعة وخاطفة ، أمَّا الأحزان فتَبدو كسنوات طويلة جداً . والوقتُ الجميل _
دائماً _ يمر بسرعة هائلة .
استطاعَ الشاعرُ أن
يقتنص بعضَ الوقت للاستمتاع مع النساء . وها هُوَ يتذكر تلك اللحظات الماضية،
ويُخلِّدها في شِعره. لقد صارت لحظاتُ سعادته ومتعته مجرَّد ذكريات في عوالم
الماضي السحيق ، وهو يحاول _ جاهداً _ انتشالَ ذكرياته ، وإحضارَها إلى الحاضر .
ولا شكَّ أن الحياة بأكملها ستتحول إلى ذكريات .
يتذكرُ الشاعرُ أحدَ
الأيام ، حيث فاز فيه بوِصال النساء ، وظفرَ بعيشٍ صالح ناعم منهن . وما زالَ ذلك
اليوم عالقاً بذِهنه . إنه يومٌ ليس ككل الأيام ، يومٌ يمثِّل علامةً فارقة في
مسيرته الغرامية ، ويَفيض بالمشاعر والذكريات والعيش الناعم .
وذلك اليوم كان أحسنَ
الأيام وأكملَها . إنه يومُ دارة جُلجل ( غدير بِعَيْنه ) ، حيث يُشكِّل ذِروةَ
أيامه ، وأجملَ يوم في حياته الغرامية . وقد خَصَّ ذلك اليومَ بالتفضيل والذِّكر
والخلود ، لأنه حَظِيَ فيه بوِصال النساء ، ونالَ ما يُريده من المتعة والحياة
الرغيدة معهن ، وحقَّق رغباتِه المكبوتة في قلبه ، وباحَ بمشاعره الدفينة ، وأظهرَ
أحاسيسَه الدافئة دون مشكلات أو منغِّصات. فكان يوماً لا يُنسَى ، استحقَّ التخصيص
والتفضيل والخلود .
4_ اقتحام حياة المرأة :
إن العشقَ مرتبطٌ
بالتهور بشكل كامل . وذلك لأن العشق يسيطر على عقل العاشق ، فيتحكم بحواسه وجوارحه
. وعندئذ يفقدُ العاشقُ القدرةَ على الرؤية والتفكير ، والتفكر في مآلات الأمور .
فالعشقُ أعمى بكل معنى الكلمة . كما أن العشق يُعمي ويُصم . يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
ويومَ دَخلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيـزَةٍ فقالتْ لكَ الوَيلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي
يفتخرُ الشاعرُ
بمغامرته العاطفية ، ويَحرص على تخليدها ، وإظهارِ كل الأبعاد الوجدانية المرتبطة
بها . وهذه المغامرة الوجدانية ( الحادثة التاريخية ) التي يتحدث عنها الشاعرُ،
تَدور حَوْل يَوْمِ دُخوله هَوْدج( خِدْر ) عشيقته، وهي عُنَيزة ابنة عمِّه. وهذا
اليومُ من محاسن أيام الشاعر ، ومن أجمل لحظات حياته ، ومن أسعد أوقاته . وهذا
الوقتُ الذي قضاه مع العشيقة لا يمكن نسيانه ، لأنه كان صَيْداً ثميناً .
ودخولُه إلى هذا المكان الخطير، يَحمل دلالاتِ التهور، ويشير إلى عدم
الاهتمام بالمصير . فالشاعرُ لم يَحْسب حساباً لأي شيء بسبب غرقه في العشق إلى
شَحمة أُذنيه . وبالتالي لم يعبأ بالمخاطر التي قد تنشأ من هذا العمل المتهور (
دخول هَوْدج امرأة لا تَحِل له ) ، ولم يفكِّر في إمكانية انتشار الخبر ، وحصولِ
فضيحة لا أوَّل لها ولا آخِر. وهذا الفِعلُ غير المحسوب يشير إلى أن الشاعرَ يعيش
في غَيْبوبة العشق ، ويتصرف تحت تأثير مخدِّر العشق الذي سَلبه القدرةَ على
التفكير، وخطفَ إحساسه بالأشياء مِن حَوْله ، فصار غائباً عن الوعي ، لا يَرى
أمامه إلا عشيقته ، ولا يفكِّر بشيء سوى الوصول إليها ، والاستمتاع بها بأي شكل .
لقد دخلَ الشاعرُ هَوْدجَ عشيقته ، وصار سجيناً في هذه الزنزانة اللذيذة .
وبالطبع ، فلا بد أن تَصدر ردةُ فعلٍ مِن قِبَل عشيقته . ولم تجد العشيقةُ أفضلَ
من الدعاء عليه ( لكَ الوَيْلاتُ ) . وهذا متوقَّع من امرأة لا تَملك قوةً بدنية
تدافع بها عن نَفْسها. اكتفت باستخدام لسانها ، وذلك بالدعاء عليه ، أو الدعاء له
في معرض الدعاء عليه . وهذا أسلوبٌ عربي شهير ، والعربُ تَفعل ذلك صَرفاً للكمال
عن المدعوِّ عليه ، وغير قاصدة حقيقةً للمعنى الأصلي ، فيقولون : قاتله الله ما
أشجعه ، ولا أُم له، ولا أَب له، وثَكلته أُمُّه ، وما شابه ذلك . والعربُ يقولون
هذه العبارات عند إنكار شيء ، أو استعظامه ، أو الإعجاب به .
ودعاءُ العشيقة له في معرض الدعاء عليه ، يدل على عِشقها الكبير له ، وأنها
تبادله الغرام بالغرام . وفي الواقع ، ما كان للشاعر أن يَتجرأ على دخول هَوْدجها
لولا معرفته اليقينية أنها تبادله نَفْس المشاعر . إذن ، فهو حُب متبادل ، وليس
حُبَّاً من طرف واحد . والعاشقُ لا يمكنه أن يَقتحم عالَم المرأة بهذه الصورة (
دخول هَوْدجها ) لولا أنه آنسَ منها رغبةً جامحة في خوض معركة العشق ، وأدركَ أنها
تشتهيه كما يَشتهيها . ولا رَيْبَ أن المرأة هي صاحبة المبادَرة في موضوع العشق ،
وهي التي تَملك الخطوةَ الأُولى ، وهي صاحبة الرصاصة الأُولى في دنيا العشق .
إذن ، فالدعاء عليه ( لكَ الوَيْلاتُ ) كلامٌ من وراء قلبها ، وظاهره غير
مُراد . إنها خاضعة لعشيقها بكل جوارحها ، وبملء إرادتها ، ودون إكراه ، وسعيدة
بالغرق معه في بحر الحُب ، لكنها تتمنَّع وهي راغبة ، لكي تَحفظ صورةَ أنوثتها ،
وتزيد الأمرَ عشقاً ولَوْعةً . وهذا القناعُ المعنوي الذي ترتديه المرأة يهدف إلى
صَوْن كرامتها ، وحفظِ مشاعرها . فهي لا تُريد أن تبدو متلهفةً على عشيقها ،
لاهثةً وراءه . وإنما تريد أن تضع بينهما حاجزاً وهمياً لكي يَسعى إليها بكل
أعضائه ، ويَلهث وراءها بكل حواسِّه. والمغزى من هذه التمثيلية ( الامتناع مع وجود
الرغبة العارمة ) أن يَركض خَلْفَها، ولا تَركض خَلْفَه . وهذا دَيْدن النساء في
كل العصور.
وبعد الدعاء عليه ( الدعاء له ) ، قالت إِنَّكَ مُرْجِلي ، أي : إِنَّكَ
تجعلني راجلةً أمشي على رِجْليَّ بسبب عَقْركَ ظَهْر بعيري. والعَقرُ هو كَسرُ
قوائم البعير. ويَبدو أن البعير كان ضعيفاً، فخافت عليه أن تَنكسر قوائمه بسبب
ثِقَل الأحمال التي عليه. وإذا خَسرتْ بعيرَها ، فلا بد أن تَسير على قَدَمَيْها ،
فتُصاب بالتعب والإرهاق ، وهذا ما لا تريده .
5_ الالتصاق بالعشيقة :
يبدو أن الشاعرَ غيرُ مُصدِّق أنه بقُرب العشيقة. إنه يعيش أجملَ أيامه،
ويستمتع بأسعد لحظات عُمره ، وذلك بسبب قُربه من العشيقة ، والتصاقه بها . يعيشُ
واقعاً سحرياً أشبه بالخَيال ، لذلك نراه حريصاً على تخليد وقته معها لحظةً بلحظة
، وكأنه في بَث حَي ومباشر. لقد قام الشاعرُ بِذِكر تفاصيل هذه المغامرة بدقة ،
وأدخلَ هذه التفاصيل إلى قلبِ الشِّعر ، وسِجِل التاريخ الإنساني . يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
تقولُ وقد
مالَ الغَبيطُ بنا معــاً عَقَرْتَ بَعيري يا امرأ القَيْس فانزلِ
يَحرص الشاعرُ على تخليد كلام عشيقته ، وكتابته في سِجِل التاريخ الشِّعري
والاجتماعي حرفاً حرفاً . فقد كانت هذه المرأة تقول له_ أثناء إمالة الغبيط (
الهودج أو الرَّحل )_ : قد عقرتَ بعيري فانزل عن البعير .
إن الشاعرَ ملتصقٌ بشدة بعشيقته ، لا يُريد أن يفارقها . فقد اقتنص لحظةَ
سعادةٍ قد لا تتكرر ، ووضعَ يَدَه على صَيْد ثمين ، ويريد أن يتمسك به بالأظافر
والأسنان لئلا يَهرب منه .
وبسبب الحِمْل الثقيل على البعير ( امرؤ القيس وعشيقته والهودج ، وربما أشياء
أخرى ) ، اختلَّ توازنُ البعير ، فمالَ الهودج أو الرَّحل ، وعَرَّضهما للسقوط أو
كسر قوائم البعير ( العَقْر ) . فما كان من العشيقة إلا أن قَرعت جرسَ الإنذار ،
وحذَّرت من كسر قوائم البعير، وطالبت امرأَ القَيْس بالنُّزول ، حفاظاً على البعير
، وصيانةً لها من الوقوع على الأرض .
6_ التقبيل :
يمثِّل التقبيلُ تتويجاً للعلاقة بين الشاعر
وعشيقته . فالقُبُلاتُ تفريغٌ للكبت الجنسي والعاطفي ، وتجسيدٌ لمقدار العشق
والشبق . وهذا الأداءُ الحِسِّي يَعكس قوةَ اندفاعِ الغريزة، وسيطرةَ الشهوة. وهذا
الحبُّ ليس عفيفاً ، أو محصوراً في دائرة المشاعر الرومانسية الحالمة . وإنما هو
حُب نابع من جنون الشهوة ، واندلاعِ نيران الغريزة .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
فقلتُ لها سِيري وأرْخي زِمامَهُ ولا
تُبعديني منْ جَناكِ المُعَلَّلِ
صوَّر الشاعرُ عشيقته كشجرة مثمرة مفعمة
بالحيوية والخصوبة . وما ناله منها مِن عناق وتقبيل هو الثمرة التي جناها ،
وقَطَفَها ، وحصل عليها بعد جهد جهيد .
لم يَنْزل العاشقُ عن
البعير . يريدُ استغلالَ هذه الفرصة حتى القَطرة الأخيرة ، فقد لا تتكرر مرة ثانية
. وهذا الالتصاق بالعشيقة قد يَعقبه فِراقٌ قاتل ، أو ابتعادٌ جارح . إذن ،
فالشاعرُ حريص على التشبث بهذه الفرصة بكل جوارحه ، والقبض على هذه اللحظة الزمنية
بكل حواسِّه . وقد قرَّر أن يَضرب ضَربته ، ويأخذ مبتغاه من عشيقته عاجلاً غير
آجِل ، فهذه الفرصة الثمينة ربما لا تَعود .
قال لعشيقته بعد أمرها
إيَّاه بالنُّزول : سِيري وأرخي زِمامَ البعير .
لقد أهملَ أمرَها
بالنُّزول ، وأمرَها بأن تَسير ، وتُرخي لِجامَ البعير ، لكي تتفرغ له ، وتبادله
العِشقَ والشبقَ والقُبلاتِ. أمرَها بترك البعير على راحته، وعدم التفكير به ،
والاكتفاء بالتفكير بعاشقها ، وكيفية الدخول معه في هذه المغامرة الحسِّية
المشتملة على تفريغ الكبت الجنسي والعاطفي ، وترك المشاعر الغريزية على طبيعتها
دون تقييد . وكأن إرخاءَ لِجام البعير ، يَحمل دلالةً رمزية على إرخاء لِجام
النَّفْس الإنسانية ، وتركها على سجيَّتها دون شرط أو قَيْد .
وأضاف الشاعرُ العاشقُ :
ولا تُبعِديني مما أنالُ مِن عناقكِ وشَمِّكِ وتقبيلكِ ، وهذا معنى الجنى ( اسم
لما يُجتنَى من الشجر ) . فالعناقُ والشَّم والتقبيل هي الثمرات التي قطفها
الشاعرُ عن هذه الشجرة المثمرة ( عشيقته ) . وهذه الثمراتُ هي التي تُلهِي الشاعرَ
أو يُكرِّر قَطْفَها( وهذان المعنيان تدل عليهما كلمة" المُعَلَّل" ).
ولا يخفَى أن العِناق والشَّم والتقبيل ثمراتٌ متجددة لا تنتهي . والشاعرُ يُريد
قطفَ هذه الثمرات بكل قوة ، وبأقصى سُرعة ، والاستمتاع بهذه الشجرة ( العشيقة )
التي تُظلِّل حياته ، وتمدُّه بالثمرات الناضجة اللذيذة التي لا تنتهي ولا تجفُّ .
وَقَعَ الشاعرُ في نار
الشهوة المتأججة ، وانحصر تفكيرُه في نيل مُراده الشهواني ، وتفريغ الشحنة
العاطفية المتفجرة في داخله . وليس العِناقُ والشَّمُّ إلا وسيلةً للوصول إلى
الغاية القُصوى ( التقبيل ) الذي يعني تلاصق الجسدَيْن ، واندماجهما في بَوْتقة
واحدة .
7_ الافتخار بالفُحولة :
يستعرض امرؤ القَيْس
رُجولته وفُحولته أمام عشيقته ، ويقدِّم دليلاً تاريخياً على قوَّته العاطفية ،
ومدى تأثيره في النساء . وهو يَفتخر بسيطرته على عالَم النساء ، بسبب ما يمتلكه من
قوة روحية ومادية ، وما لَدَيْه من مواهب تَجذب الجنسَ الآخر إليه . ويُقدِّم
نَفْسَه كعاشق محترِف له سطوة على النساء ، ولا يَقْدرنَ على الإفلات منه بأي شكل
. يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
فمِثلِكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فَأَلهيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْــوِلِ
يفتخرُ الشاعرُ بِذِكر مغامراته العاطفية،
ولا يَخجل من كشف أوراقه ، وإظهار تفاصيل علاقاته الحميمة مع النساء .
يقولُ : رُبَّ امرأة
حُبلى قد أتيتُها لَيْلاً ، ورُبَّ امرأة ذات رضيع أتيتُها لَيْلاً .
إنه يأتي إلى النساء
لَيلاً ، تحت جُنح الظلام . فالليلُ حِجابُ ساتر يُخفي أسرارَ الناس وتحركاتهم
وخُططهم. وقضيةُ العِشق حساسة للغاية ، لأنها ذات أبعاد غرائزية واجتماعية ،
وتحتاج إلى غطاء كثيف . ولا يوجد أفضل من الليل الذي يُغطِّي أفعالَ الناس،
ويَحميها من الانكشاف والظهور للعَلَن. لذلك ، فالليل هو مملكةُ العشاق ، والمجالُ
الحيوي لحركتهم وخُططهم ، والوعاءُ الحاضن لسلوكهم الغرامي والاجتماعي. لا سِيِّما
وأن القصص الغرامية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخططِ الجهنمية ، والمؤامراتِ
المحبوكة بعناية ، والخياناتِ المستترة البعيدة عن الأنظار .
وفي هذا السياق
الشِّعري، تبرز الخيانةُ الزوجية بكل وضوح . فالشاعرُ العاشقُ يتحدث عن امرأة
حُبلى وامرأة مُرضِع . وبعبارة أخرى ، يَدورُ الحديثُ عن نساء متزوجات ، وهذا يعني
خيانتهن لأزواجهن ، والوقوع في حبائل الشاعر ، أي : تفضيلُ العشيقِ على الزَّوْج ،
وكسرُ رِباط الزوجية المقدَّس من أجل نزوة عابرة مع عابر سبيل، والغرقُ في مستنقع
الخيانة ، ونسيانُ التزاماتِ الحياة الزوجية وطهارتها.
ويواصلُ الشاعرُ سَردَ
تفاصيل مغامرته العاطفية . فهو لم يكتفِ بإتيان المرأة الحُبلى أو المرضِع لَيلاً
، بل أيضاً شَغَلَها عن ولدها الذي عَلَّقت عليه العُوذة ( التميمة)، وقد أتى عليه
حَوْل كامل ( عَام كامل ) ، أو قد حَبِلت أُمُّه بغيره ، فهي تُرضِعه على حَبلها .
وهو يُريدُ أن يقول إنه زِير نساء ، يُفسِدهنَّ ، ويُلهيهنَّ عن الحَملِ والرضاعة
.
وذِكرُ الحُبلى والمرضِع
في هذا السياق الشِّعري ليس عفوياً ، أو مِن قبيل المصادَفة . بل هو ذِكرٌ يَحمل
دلالاتٍ رمزية عميقة ، فالحُبلى والمرضِع هُما أبعد النساء عن الغَزَل ، وأزهدهنَّ
في الرجال ، وأقلهنَّ شَغفاً بهم وحِرصاً عليهم . وهذا ليس غريباً، فالحُبلى
مشغولة بصحتها وحَبَلِها ، وكيفية الحفاظ عليه، وتعاني من الآلام والمشقة، ولا
يعنيها العِشقُ أو الغزلُ أو الجِماعُ ، وكذلك المرضِع فهي مشغولةٌ بنفْسها
ورضيعها ، وتفكِّر فيه ليلاً نهاراً ، وتهتم بقضاء حاجاته ، وتقضي وقتَها في
رعايته . والمعنى الذي يَقصده الشاعرُ : خدعتُ مِثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما ،
فكيف تتخلصين مني أيتها الحبيبة ؟ .
فهاتان المرأتان (
الحُبلى والمرضِع ) مشغولتان بشؤونهما، وزاهدتان في الرِّجال . ولكنَّ امرأَ
القَيْس نجحَ في دغدغة عواطفهما ، وحرقِ أعصابهما ، وإعادةِ الشهوة والشبق إليهما
، فصارتا كتلتَيْن من نار العشق . وهذا يدل على قوة امرئ القَيْس العاطفية ،
وقدراته الخارقة على الحُب والغَزل وإشعال نار الشهوة في النساء . وهذا النجاحُ
الباهر لا يَفعله إلا زِيرُ نساء، خبيرٌ بداء المرأة ودوائها، ويَعرف مِن أين تؤكل
الكتف. وقَوْلُه " فمِثلِكِ " يَحمل تشبيهاً لعلاقته الغرامية مع عُنيزة
ابنة عمِّه . أي : امرأة مثل عُنيزة في مَيل الشاعر إليها وعِشقه لها ، لأن عُنيزة
في هذا الوقت كانت عذراء ، غير حُبلى ولا مُرضِع .
8 _ النصف الأسفل من المرأة :
العاشقُ امرؤ القَيْس
غير معنيٍّ بالحُب العفيف أو الغَزل العُذري أو الرومانسية الحالمة . فهو رَجل
شهواني يَحرص أشد الحرص على الاستمتاع الحسِّي بالعشيقة ، وتفريغِ الكبت الجنسي ،
وإطفاءِ نار الشهوة عبر إقامة علاقة جسدية مع المرأة _ بغض النظر عن نوع هذه
العلاقة أو عُمقها أو دَيْمومتها _ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
إذا ما بَكى مِن خَلْفها انْصَرَفَتْ لهُ بشِقٍّ وتحتي شِقها لم يُحَــــوَّلِ
إذا ما بَكى الطفلُ مِن خَلْف المرضِع،
أشفقتْ عليه ، فقامت بإرضاعه . لقد انصرفت إليه بصدرها ( نصفها الأعلى )
فَأَلْقَمَتْه ثَدْيَها ، وأرضتْه ، فطابت نَفْسُه ، وانقطع بكاؤه ، وهدأت جوارحُه
، وسَكنت حواسُّه . وعلى الرغم مِن كَوْنها أُمَّاً تُرضِع طِفْلَها ، إلا أن هذا
العمل لم يُشغلها عن قصة عِشقها مع الشاعر . فالعشقُ مسيطر على تفكيرها رغم
إرضاعها لطفلها ، والشهوةُ الجنسية تحرق أعضاءها . لذلك ، قَسَمت جسدَها إلى
نصفَيْن ، النصف الأعلى مع رضيعها، والنصف الأسفل مع عشيقها. فقد انصرفت إلى
رضيعها بصدرها ، بينما نصفها الأسفل تحت الشاعر لم تُحوِّله عنه . وهي مستمتعة
بهذا الفِعل إلى الغاية القُصوى ، فلم تحاول إبعادَ عشيقها عن هذه المنطقة
الحسَّاسة ، أو التهرب من رغبته الشهوانية العنيفة .
وهذا المشْهدُ حرصَ
الشاعرُ على ذِكر تفاصيله الدقيقة ، وتخليده إلى الأبد ، من أجل رسم هالة أسطورية
حَوْل شخصيته كزير نساء محترِف . فالوضعُ الطبيعي أن المرضِع مشغولة تماماً
برضيعها ، ولا تفكِّر في أي شيء آخر . إلا أن الشاعرَ قد قلب كلَّ الموازين والأعراف،
فاستطاع بعث نار الشهوة في جسد عشيقته المرضِع ، فسيطرَ عليها عِشقه ، واندلعت
رغبتها في الاستمتاع واللذة الحسِّية الشهوانية.
9_ الهجران :
لا يُوجد عِشقٌ متَّصل
بلا انقطاع ، أو حُبٌّ يَدوم إلى الأبد بلا مشكلاتٍ أو ثغرات . فلا بد من عقبات
تعترض طريقَ العشَّاق ، لأن العاشق إنما هو إنسان يُصيب ويُخطِئ . ولا شكَّ أن
الاحتكاكَ بين العاشقَيْن وشدةَ التلاصق بينهما ، مع اختلاف العقول والطِّباع
والمواهب ، سيؤدي إلى نوع من القطيعة أو الهجران ، مع الاختلاف في درجة الهجران.
هل هو هجران دائم ( قطيعة أبدية ) أم هجران مؤقَّت ( قطيعة آنية زائلة ) ؟ . وهل
سَتَقود هذه القطيعةُ إلى إنهاء العلاقة الغرامية بشكل نهائي وحاسم أم أنها سَتَقْطع
العلاقة ثم تعيد وَصْلها ؟.
يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
وَيَوْماً على ظَهر الكَثيبِ تَعَذَّرَتْ عَليَّ وَآلَتْ حَلفَةً لم
تَحَـــلَّلِ
تعكَّرَ مِزاجُ العشيقة، وساءت عِشرتها
يوماً على ظَهر الكثيب ( الرمل الكثير ). لقد تحوَّل وجهُ العشيقة المشرق إلى وجه
عبوس مظلم ، وتبدَّلت أحوالُها، واختلَّ توازنها العاطفي ، فَقَلبت لعشيقها ظَهْرَ
المِجَن ، فقد كانت تعشقه ، وتبادله الود بالود. أمَّا الآن فقد تغيَّر كلُّ شيء،
وذَهب العِشقُ المتبادَل أدراجَ الرياح. أضفْ إلى هذا أنها حَلفت حَلفاً لم تستثنِ
فيه أنها تُقاطع العاشقَ وتهجره .
وما إقدامُها على الحلف
الخالي من الاستثناء ، إلا مؤشرٌ واضح على صعوبة القضية، وقَسوةِ الموْقف، وشدةِ
الأزمة . إذن ، فالأمورُ قد تعقَّدت بصورة واضحة. وهذا الهجرانُ بمثابة القَطرة
التي أفاضت الكأسَ ، أو القشَّة التي قَصمت ظَهرَ البعير. ومن الواضح أن المشكلات
بين العاشقَيْن قد وَصلت إلى الذروة ، فصار الحلُّ الوحيد هو قطع العلاقة ،
وابتعاد كل طَرف عن الآخر . وفي هذا الفِراق راحةٌ للطرفين من العذاب . وقد يكون
المقصود بالعشيقة عُنيزة أو المرضِع التي وَصفها.
10_ تخفيف الهجران :
يجسِّد الهجرانُ حاجزاً
من الآلام بين العاشقَيْن ، يمتصُّ كلَّ لحظاتِ السعادة والصفاء ، ويُحيل المودةَ
إلى كراهية ، فيتكرَّس التنافرُ ، ويحل محلَّ التجاذب . والعاشقُ الولهان يَشعر أن
الهجران نارٌ تتأجج في صدره ، وعذابٌ في الليل والنهار . وهذه النارُ تأكل
الذكرياتِ القديمة، والأحلامَ الجميلة ، والعُمرَ الدافئَ الذي مضى.
يقولُ الشاعرُ امرؤ
القَيْس :
أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّــــلِ وَإن كنتِ قد أزمعْتِ صَرْمي فأجْمِلي
هناك مشكلاتٌ تَنخر في
علاقة الشاعر بعشيقته، والأمورُ لا تَسيرُ على ما يُرام. لذلك يخاطبها بصوتٍ كَسير
، ونبرةٍ خافتة . وكلماتُه الذابلة تَنبع من قلبٍ جريح غارق في المعاناة . يقول
لها : يا فاطمة ، دَعِي بعضَ دَلالكِ .
وهذه العِبارةُ الحانية
، حروفُها منطفئة بسبب حُرقة القلب، ونارِ الصَّدر، وضغطِ الهموم . إنه يَطلب منها
، أو بالأحرى يَرجوها بكل انكسار أن تَترك بعضَ دلالها . فهذا الدلالُ الأُنثوي هو
سلاح المرأة القاتل ، الذي يستسلم أمامَه أقوى الرجال ، وأشدُّهم شكيمةً .
ومهما تمتَّع العاشقُ
بالصلابة الذهنية ، والقوةِ العقلية ، والبناءِ الجسدي المتماسك ، فهو ضعيف أمام
دلال المرأة ، وضَعفها ، ونعومتها . فالمرأةُ تمتاز بالقوة الناعمة التي تَقهر
قوةَ الرَّجل الخشنةَ . ولا رَيْبَ أن ضَعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها .
يَغرقُ الشاعرُ _ أكثر
فأكثر _ في رجائه الحار ، ويَرجو عشيقته بكلمات مليئة بالانكسار ، وتعجُّ بالمشاعر
الجريحة ، فيقول لها بصوتٍ ذابل : وإن كُنتِ وَطَّنتِ نَفْسكِ على فِراقي ( صَرْمي
) ، فأجملي الهجران .
إِنْ قَرَّرت العشيقةُ
أن تفارقَ الشاعرَ ، فعليها أن تكون معتدلةً في الهجران بلا تفريط . هذه هي نصيحةُ
عاشقها الذابل . لا يُريدها أن تَقتله مرةً واحدة بهذا الهجران ، يُريدها أن
تَقتله على شكل دفعات . يَرجوها أن تَعتدل في هجرانها بلا تطرُّف ولا تفريط ، لكي
يَقْدر على امتصاص الصدمة ، أمَّا القطيعةُ الصادمة ( الهجران المفاجئ مرَّة واحدة
وللأبد ) ، فتمثِّل صدمةً مرعبة لا يَستطيع العاشقُ تحمُّلَها .
والشاعرُ العاشقُ خائفٌ
أن تمتلكَ عشيقته القُدرةَ على سحق مشاعرها ، وقهرِ قَلبها ، وهجرانه دون أن
يَرفَّ لها جَفن ، أو تَشعر بتأنيب الضمير . خائفٌ أن تصلَ الأمورُ إلى نقطة
اللاعَوْدة ، وأن تدوسَ العشيقة على قلبها وذكرياتها ، وتَغرق في اللامبالاة،
وعندئذٍ لا يَنفع رجاءُ العشيقة ، لأنها _ في تلك المرحلة _ ليس لَدَيْها ما
تَخسره . وإذا وصلت العشيقةُ إلى هذه المرحلة فلن تَندم على شيء . وسَتُصبح
الأمورُ _ بالنسبة إليها _ تحصيلَ حاصلٍ ، ووقتاً ضائعاً ، وذكرياتٍ محترقة .
و" فاطمة " :
اسم المرضِع ، واسم عُنيزة . وعُنيزة لقب لها فيما قِيل .
11_
ذُل الحُب :
تَنبع فلسفةُ " ذُل
الحُب " من مبدأ أساسي وهو عدم سيطرة الإنسان على قَلبه، ومشاعرِه ، وأشواقِه
الرُّوحية . ولو كان الإنسانُ مسيطراً على قَلبه لأَدْخلَ فيه مَن يشاء، وأخرجَ
منه مَن يَشاء، أو انتزعَ من قلبه الحُبَّ أو الكراهيةَ . وعندئذ يرتاح ، وينام
قَريرَ العَيْن . فلا امرأةٌ تتحكم في عواطفه وتسيطر على تفكيره ، ولا عذابٌ يُقاسيه
في الليل والنهار . وهذا يدلُّ على أن قوة المشاعر تستمد سَطْوتها من كَوْن
المشاعرُ فِعلاً لاإرادياً، وكَوْن القلبُ خارجاً عن سيطرة الإنسان . ولا يخفَى أن
هذه القضية نسبية تختلف درجتها من إنسان إلى آخر . ومهما يكن من أمر ، فلا يُوجد
إنسان مسيطِر على قلبه بشكل كامل ، كائناً مَن كان. يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس :
أغَرَّكِ منِّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلــي وأنَّكِ مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ
لقد سَيطرت العشيقةُ على الشاعر ،
وحَاصَرَتْه من كل الجهات ، وأَغلقت المداخلَ والمخارجَ، فوجد العاشقُ نَفْسَه محشوراً
في الزاوية، عاجزاً عن فكِّ الحصار.
يقولُ الشاعرُ : قَد
غَرَّكِ مِنِّي كَوْنُ حُبُّكِ قاتلي ، وأن قلبي خاضع لكِ يأتمر بأمركِ ، فمهما
أَمَرْتِه بشيء خضعَ لأمركِ ونفَّذه بسرعة وبلا تردد .
والشاعرُ في هذا البَيْت
لا يَطرح سؤالاً ، وإنما يقرِّر حقيقةً واقعية وملموسة . فألفُ الاستفهام للتقرير
لا الاستفهام .
وهذه الحقيقةُ هي أن
الشاعرَ قَد فَقد السيطرةَ على قلبه ومشاعره ، ورفعَ الرايةَ البيضاء أمام عشيقته
التي بدأت تلعب لُعبتها القاتلة ، وهي حَرق أعصابه ، وتدمير مشاعره ، ونسف قلبه .
فغدا قلبُه منقاداً لها ، يَسمع كلامَها ، ويَستجيب لأمرها بكل سلاسة . لقد خسرَ
الشاعرُ قلبَه لصالح عشيقته ، وكأن هذا القلب المكسور قد خانَ صاحبه ، وتمرَّدَ
عليه ، وارتضى الخضوع للقوة الناعمة ( سِحر العشيقة ) بملء إرادته دون ضغوطات
خارجية . وطَبعاً ، هذه هي ضريبة العِشق الباهظة ، ومن ارتضى الاحتراقَ بنار
العِشق ، فلا بد أن يَدفع الثمنَ من أعصابه ومشاعره .