فلسفة الحياة في شعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
....................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
....................
إن الحياةَ في منظومة شِعر المعلَّقات تتمحور
حول مرورِ السنوات ، وتفجُّرِ الذكريات . لذلك تَبدو الحياةُ في هذا السياق
الشِّعري مجرد سراب . وهذا يدل على سرعة دوران عجلة الحياة. وما إن تَبدأ الحياةُ
حتى تنتهيَ . إنها سحابةُ صيفٍ ، أو حُلم سريع ، أو وهم مكتمل الأركان . وهذه
المعاني عبَّر عنها أصحابُ المعلَّقات بكثير من الفلسفة والحسرة والضياع .
لقد بَرزت معاني السآمة
من الحياة ، والضجر من العيش ، والشكوى من الزمان ، وهذه المظاهرُ لها إفرازات
متعددة ، وتطبيقات مختلفة . فنجد أن السآمة تنبعث من شدة تكاليف الحياة ، وانقلاب
الزمان على أهله ، وتقلب الأحوال . ولا شك أن دوامَ الحالِ من المُحال . كما تتضح
فكرة أن الحياةَ أملٌ كاذب، وخُدعة بصرية، ووهمٌ سَمعي، دائمة التقلب والتغير ، لا
الصديقُ يبقى صَديقاً ، ولا العدوُّ يظل عدواً . ومَن تأمَّلَ في الحياة وجدها
أكذوبةً كبرى ، مثل الضباب الذي يمزِّقه نورُ الشمس ، ومثل أوراق الشجر التي
تتساقط في الخريف . وتَظهر الشكوى من الحياة كقيمة معرفية أساسية. وهذه الشكوى لها
جناحان : الأول _ الحياة كذبة ، والثاني : الحياة عذاب. وهذا العذابُ نابعٌ من
كَوْن الحياة مجبولة بالتعب والمشقة والكدر
والمنغِّصات. فمتعتها زائلة وغير صافية، ولحظات السعادة قليلة . والأوقاتُ الجميلة
تمر بسرعة هائلة ، أمَّا الأوقاتُ المؤلمة فتمر بطيئةً جداً . ومن المواضيع
الراسخة في شِعر المعلَّقات ، مرورُ الزمن وعبور السنوات. وهذا الأمرُ يُهيِّج
الذكرياتِ ، فتصبح الذكرياتُ وحشاً يُطارد الإنسانَ ، ويُغرقه في مستنقع الحزن
والألم والفِراق . فموضوعُ الذكريات مرتبط ارتباطاً حتمياً بمراتع الصِّبا ، والحب
القديم ، وفِراق الأحبة . وتبقى الحياةُ عِبرةً لمن يَعتبر ، ويظل الدهرُ ناطقاً
بلسان الحال ، يَدعو الناسَ إلى الاتعاظ وأخذ العِبَر . والعاقلُ مَن اتَّعظ بغيره
، والجاهلُ مَن اتعظ بِنَفْسه .
1_
السآمة من الحياة :
الحياةُ مصبوغةٌ بالتعب والملل والأحزان .
وإذا صار الشخصُ من المعمَّرين ، فلا بد أن يُصاب بنوع من الكآبة أو السآمة بسبب
رحيل نضارة الشباب بلا عودة، واختفاءِ الإشراق والنشاط ، وكثرةِ المشكلات الصحية ،
وازديادِ صعوبات الحياة . وهذه الانتكاسةُ قد وَصل إليها الشاعرُ زُهير بن أبي
سُلمى ، وهذا ما دَفعه للقول :
سَئمتُ تكاليفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكِ يَسْــأمِ
لقد بَلغ هذه المرحلة القاسية ( الطَّوْر الأخير من حياته ) . لذلك نراه
مكتئباً ، ومصاباً بالسآمة والملل . فيقولُ : مللتُ مشاقَ الحياة وشدائدها ، ومَن
عاش ثمانين سنة مَلَّ الكِبَرَ لا محالة . وعبارة " لا أبا لَكِ " كلمة جافية لا يراد بها الجفاء ، بل التنبيه والإعلام .
والسآمةُ مسيطرة على الشاعر بسبب كثرة السنوات التي عاشها . وقد مَلَّ
متاعبَ الحياة ، وتفاصيلَها المرهِقة ، والمصائبَ المتكاثرة فيها . وهو يَعتقد أن
الذي يعيش ثمانين سنة سيُصاب بالملل والسآمة لا محالة .
والشخصُ الذي يَصل إلى هذا العُمر ، يَقضي حياته في حالة انتظار قاسية ،
انتظارِ الموت . وهذا الانتظارُ يُولِّد صعوباتٍ جمة في نَفْسِ الشخص ، ويُدخِله
في هواجس لا حَصْرَ لها . وهذه الهواجسُ تُتعِب الروحَ والبدنَ معاً .
2_ الحياة كِذبة وعذاب :
الحياةُ سرابٌ خادع .
وعلى الرغم من معرفة الناس بهذه الحقيقة الظاهرة ، إلا أنهم يَلهثون وراءه بصورة
هستيرية . والحياةُ كذبةٌ كبرى يَنخدع الناسُ بها ، أو يَخدعون أنفسهم
فيُصدِّقونها .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :
فَكُلُّ ذي نِعْمةٍ مَخْلوسٌ وكلُّ ذي أَملٍ مَكْذوبُ
كلُّ صاحبِ نِعمةٍ لا بد
أن يَفْقدها. فالحياةُ الدنيا تَدور، ولا تستقر على حال . ودوامُ الحال من
المُحال. والنِّعمُ تزيد وتَنقص، تأتي وتَذهب، وهذه قاعدة أساسية في الحياة ،
وليست سِراً .
والصِّغارُ والكِبارُ
يُدرِكون هذه الحقيقة لأنهم يَرَوْنها رَأي العَيْن. إذن، كلُّ صاحبٍ نِعمةٍ مخلوس
( مسلوب ). وبالتالي، على المرء أن يتوقع أن تُسلَب النِّعم من يَدَيْه في أي
وقتٍ. وهذا الأمرُ يتلاءم تماماً مع طبيعة الحياة الدنيا المتقلبة. وَكَم مِن
عزيزٍ قَد ذَلَّ ! ، وَكَم مِن غني قَد افتقر ! ، وَكَم مِن مَلِكٍ قَد خُلع ! .
وكلُّ صاحبِ أملٍ مكذوبٌ
، أي : لا يَنال ما يَأمل . فالحياةُ أكذوبةٌ عُظمى لا يمكن أن تقدِّم الحقائقَ
للناس ، لأن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . كما أن الحياةَ كومةٌ من الآمال الكاذبة ذات
اللمعان المبهِر، ولكنه لمعان مُزيَّف كلمعان السراب في الصحراء ، يَراه الظمآنُ
ماءاً حتى إذا جاءه لم يَجده شيئاً. فلا ينبغي الاغترار بلمعان عناصر الحياة، فليس
كلُّ ما يَلْمع ذهباً .
إن الحياةَ مِصْيدةٌ
قاتلة ، آمالها كاذبةٌ ، وأحلامُها خادعة ، ولذتها زائلة . يظل الإنسانُ لاهثاً
وراءها ولا يَنال بُغيته . ويظلُّ يَشرب من مائها لكنه يزداد عطشاً ، تماماً كالذي
يَشرب من ماء البحر ، كلما شربَ أكثر عطشَ أكثر . لذلك فصاحبُ الأملِ عليه أن يَضع
هامشاً للخسارة لئلا يُصاب بالصدمة عند ضياع أمله وأُمنيته . وَكَم مِن شخصٍ
حَتْفه في أُمنيته ! . وهكذا ، تبرز أهميةُ النظر إلى ما وراء الأمور للوقوف على
حقيقتها . والعاقلُ لا ينخدع بالبهرج الفتَّان ، ولا تنطلي عليه الحيلُ الساذجة ،
ولا يغتر بالمذاق الحلو . ففي أحيان كثيرة يكونُ السُّمُّ القاتلُ ذا طَعمٍ لذيذ
ورائحةٍ ذكية .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن
الأبرَص :
والمرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ طُولُ الحياةِ لهُ تَعْذيــبُ
إن الحياةَ كذبٌ واضح،
فمهما عاشَ الإنسانُ فلا بد أن يَموت. والحياةُ خيالٌ ، يأتي إليها الإنسانُ
ويَذهب كأن شيئاً لم يكن . فالحياةُ نومٌ ، والموتُ يقظةٌ . والناسُ نيامٌ فإذا
ماتوا انتبهوا .
وما طُولُ حياة الإنسان إلا تعذيبٌ له لِمَا
يلاقي في الشيخوخة من آلام الحياة، وصعوبةِ العيش ، وفقدانِ الأحبة ، وتذكُّرِ
الماضي ، واستحضارِ الذكريات ، والحسرةِ على ما فات بسبب ضياع الفرص والأوقاتِ
والامتيازات .
ومن يمتد عمرُه يُصبح ضعيفاً عاجزاً على عكس
ما كان عليه أيام الصبا من القوة والحيوية . فمن طال عمرُه نُكس خَلْقه ، فصار
ضعيفاً بعد القوة، وشيخاً هَرِماً بعد الشباب . وفي واقع الأمر، إن الإنسان يَصعد
نحو الهاوية ، ويتقدم نحو الموت ، ويزداد تألقاً في طريق الانطفاء .
3_
مرور السنوات :
تمرُّ السنواتُ بسرعةٍ
هائلة ، كأنها لم تكن أصلاً . وهذه السنواتُ ليست حركةً ميكانيكية غاطسة في الفراغ
، بل هي كتلةٌ متحركة من الأفراح والأحزان والذكريات المتحركة في الزمان والمكان .
إنه عُمرٌ معاشٌ بكل تفاصيله مضى بلا عودة ، مُخلِّفاً لوعةً جارفة ، وحَسرةً
حارقة .
يقول الشاعرُ زُهير بن
أبي سُلمى :
وَقفتُ بها من بعد عشرين حِجَّةً فلأياً عَرفتُ الدارَ بَعدَ تَوَهُّـمِ
يَختلطُ الزمنُ
الراحلُ مع ذكرياتِ الحبيبة في المكان الغريب. مضى الزمانُ ، واختفت الحبيبةُ ،
وتغيَّر المكان . كلُّ شيء سارَ نحو الانطفاء القاتل .
قد وقفَ الشاعرُ بدار الحبيبة بعد مضي عشرين سنة مِن فراقها . إنها العودةُ
إلى النبع الأول . يعودُ الشاعرُ إلى الأصل ( النواة الأولية ) ، لعله يستعيد
ذكرياتِه التي خطفها الزمنُ ، أو يُعيد تجميع أحلامه القديمة التي تبخَّرت في هواء
المكان . ولا شكَّ أن فِرَاقاً عمره عشرون سنة يَحمل في طيَّاته معانٍ كثيرة
مؤلمة، وأوجاعاً عميقة في النَّفْس، وجروحاً غائرة في القلب .
وما مرورُ السنوات إلا خنجرٌ مغروس في الوجدان . وكلما مَرَّت سِنةٌ انتزعت
حُلماً من رُوح الشاعر . ولا بد أن عشرين سنة قد انتزعت أحلاماً كثيرة من الشاعر،
واقتطعت من مشاعره مساحاتٍ شاسعة. ولا يمكن تجاهل تأثيرُ مرور السنوات على النفس
البشرية العائشة في الحب ودفءِ الأحاسيس . فمرورُ السنوات يُحوِّل الإنسانَ
المُحِب إلى كتلة محترقة في مدار لانهائي . فالحبُّ يزداد اشتعالاً مع مرور الوقت،
تماماً كالنار، إذا لم يتم إطفاؤها مُبكِّراً ، فإنها ستتحول إلى جحيم مرعب مع
مرور الوقت .
وما الذي حصلَ بعد وقوف الشاعر بعد مضي كل هذه السنوات ؟ . لقد عرفَ دارَها
بعد التوهم بجهد ومشقة ( اللأي ) . إنها معاناة مُزدَوجة . المعاناةُ الأُولى
تتمثل في الذكريات التي تَخدش قلبَ الشاعرِ المكسورَ ، كما تتمثل في استعادة أحزان
الفِراق . ولا رَيْبَ أن فِراقَ المحبِّين مؤلم للغاية ، وذو تأثير سلبي على
الطرفين . والمعاناةُ الثانية تتمثل في عدم معرفة دار الحبيبة إلا بعد جهد ومشقة ،
وذلك لبُعد العهد ، واندثارِ معالمها .
تحوَّل صخبُ المحبِّين إلى صمتٍ رهيب ، واللقاءُ الدافئ إلى فِراق أبدي ،
والحركةُ في الدار إلى سكون مخيف . لقد فَعلت الأيامُ فعلتها، وأدَّى مرورُ
السنوات إلى هدمِ القلوب ، وهدمِ الحجارة .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي
ربيعة :
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهدِ أنيسهـا حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرَامُها
مرَّت السنواتُ كالطَّيْف، وتَركت تأثيرها
الواضح على الدِّمن ( آثار الديار ) . والتجرم هو التكمل. فآثارُ ديارٍ قد تَمَّت
وكملت وانقطعت بعد عهد سكانها بها . فهذه الديارُ كانت معمورةً ، ولكن مع مرور
الوقت تحوَّلت إلى مكان كئيب مهجور ، وصارت أثراً إثر عَيْن . وكأن السنوات قد
اقتلعت الحركةَ والنشاطَ ، وخَطفت سكانَ الديار، فصار المكان خالياً من الأنيس ،
تَنبع منه الوحشةُ والكآبة ، وتفوح منه رائحة الفراغ والعَدَم . وهنا ، يتجلى تأثيرُ
مرور السنوات على البشر والحَجر. فلا توجد قوةٌ في الطبيعة قادرة على مقاومة الزمن
. إنه طوفان يَجرف كلَّ شيء .
سنواتٌ مَضت ( حِججٌ
خَلَوْنَ ) . مضت أشهرُ الحِل وأشهرُ الْحُرُم من السنين. نَعَم ، لقد مضت بعد
ارتحال السكان سنوات بكمالها . والسَّنةُ لا تعدو عن أشهر الحِل وأشهر الحُرم .
وإذا مضت هذه الأشهرُ فإن السَّنةَ بأكملها تكون قد مَضت . إذ إن ذهابَ الأجزاء
يَعني ذهابَ الكُل .
4_
الحياة عِبرة :
إن الناظرَ بعَيْن البصيرة في أحوال الحياة لا بد أن يأخذ العِبر. فهي
حياةٌ قصيرة. ومهما امتدت فإن نهايتها إلى الموت الحتمي الذي لا مَهْرب منه .
ولطالما رَفعت الحقيرَ فوق الشريف ، وجَعلت الجاهلَ فوق العالِم . ومهما امتلك
الإنسانُ من الأموال ، وحقَّق الإنجازاتِ العظيمة ، وبلغَ أرفع المناصب ، ووصل إلى
ذِروة الاستمتاع بالشهوات المختلفة ، فلا بد أن يَترك كلَّ شيء ، ويُوضَع في حُفرة
ضيقة منسية . وعندئذ يَقتسمُ ورثته أمواله ، وتَبحث أرملته عن زَوْجٍ جديد ... إلخ
.
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن
الأبرَص :
لا يَعِظُ الناسُ مَن لا يَعِظُ الدَّهرُ ولا يَنفعُ التَّلبيبُ
إن الحياةَ عِبْرةٌ ،
ولكنَّ خطورتها كامنة في زِينتها المخادِعة . ولا بد من أخذ الدروس والعِبر من
الدَّهر وتقلباته . فالعاقلُ يَستفيد من حركة الزمان والمكان ، ويتأمل في تعاقب
الليل والنهار ، ويَدرس السلوكَ البشري المتغير، واختلافَ الطِّباع والعادات ،
واندثارَ الأمكنة ، وتقلباتِ الزمان . ولكل زمانٍ دولةٌ ورجال .
يقول الشاعرُ : لا
يَنفعُ وَعظُ الناسِ لمن لا يَعظه الدهرُ بقوارعه ونوائبه . إذن ، فالحياةُ أكبر
واعظٍ، ومصائبها وتقلباتها أكبر موعظة . ومَن لم يستفد من هذه الموعظة ، فلن
يَنفعه وعظُ الناس وتذكيرهم . فالدهرُ أعظم الوعاظ بلاغةً وتأثيراً . ومَن لم
يستفد من نور الشمس ، فلن يَنفعه ضوءُ الشمعة .
و"التلبيب" هو
تكلف اللب _ أي العقل _ من غير طباع ولا غريزة. والمعنى : أن الإنسان لا يَنفعه
تكلفه أن يكون عاقلاً إذا لم يكن العقلُ فِطرةً قد فُطر عليها.
فلا فائدة من تمثيل دور
العاقل ، أو ارتداء الجهَّال لِزِيِّ العلماء . فالعقلُ ينبغي أن يكون فِطرةً لا
قناعاً وهمياً .
أمَّا تصنُّع العبقرية ،
ومحاولة الظهور بمظهر صاحب العقل ، وتصدُّر المجالس دون وجه حَق . كلُّ هذه الأمور
محاولة مكشوفة لذر الرماد في العيون ، وحِيلة ساذجة لا تَنطلي إلا على السُّذج .
فالعقلُ يجب أن يكون
غريزةً ثابتة ، وجوهراً دائماً لا عَرَضاً مؤقَّتاً . وسِوى ذلك فإن الإنسان
سَيُهِين نَفْسَه، ويَحشرها في مأزق خطير ، ويُصبح مثاراً للسخرية والاستهزاء .
ففي النهاية ، لا يَصِحُّ إلا الصحيح . وكلامُ الليلِ يمحوه النهارُ ، وما تأتي به
الرياحُ تأخذه الزوابع .