سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] الإنسان والعلاقات الاجتماعية [14] بحوث في الفكر الإسلامي [15] التناقض في التوراة والإنجيل [16] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [17] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [18] عقائد العرب في الجاهلية[19]فلسفة المعلقات العشر[20] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [21] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [22] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [23]مشكلات الحضارة الأمريكية [24]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[25] سيناميس (الساكنة في عيوني)[26] خواطر في زمن السراب [27] أشباح الميناء المهجور (رواية)[28]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

21‏/01‏/2016

الحرب في شعر المعلقات

الحرب في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

facebook.com/abuawwad1982

twitter.com/abuawwad1982

............................

تمهيد
     مِن المعلوم أن المجتمع الجاهلي كان يَعتمد على الحرب ( الغزو والغزو المضاد ) كمصدر اقتصادي أساسي . لذا من الطبيعي أن تَدخل الحربُ في أدبيات الحياة الجاهلية ، وتصبح رَقْماً صعباً لا يمكن تجاوزه . ولم يقف الأمرُ عند هذا الحد ، بل أضحت الحربُ ثقافةً قائمة بذاتها ، لها فلسفتها الفكرية ، وتأثيراتها الاجتماعية ، وإفرازاتها السياسية ، وأبعادها الاقتصادية . ولها زعماؤها وشعراؤها ومُنظِّروها .
     وبالتالي ، فليس غريباً أن تَبرز الحربُ والقيمُ المرتبطة بها في قصائد الشعراء . فالشِّعرُ انعكاسٌ للواقع بِقَدْر ما هو خَلْقٌ للواقع . وقد صاغَ شعراءُ المعلَّقات سبيكةً شِعرية من قيم الحرب . وكلُّ قيمة تعكس شخصيةَ صاحبها ومرجعيته الفكرية . فَبَرَزت قيمةُ ذَمِّ الحرب، والتحذير منها، وضرورة إحلال السلام. وفي الجهة المقابِلة بَرز معنى الفخر بالانتصار في الحرب، ورفع مكانة المنتصر، والحط من شأن المهزوم.
     وبين هذين المسارَيْن المتوازيَيْن ، ظَهرت أبعادٌ كثيرة متناقضة ، ومرتبطة بالحرب ارتباطاً وثيقاً ، مثل: القتال حتى الفناء ( القتال حتى آخر رَجل ) ، وقسوة الحرب ، ودورها في حصد الأرواح والممتلكات ، وإعطاء الدِّيَات بعد الحرب ، والفخر بالقتل وسفك الدماء ، وكيفية التعامل مع الغنائم والأسرى والسبايا ، ووجود النساء في الحرب . ولا يَخفى أن النساء والأطفال هُم ضحايا الحروب ، بسبب ضعفهم ، وعجزهم عن حماية حياتهم ، وعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم في وجه الأخطار المتكاثرة حَوْلهم .
     وبدون أدنى شك ، سيظل شِعرُ المعلَّقات حول الحرب وثيقةً أدبية وتاريخية ، يمتزج فيها جَمالُ التصوير بقُبح الحرب ، وتَختلطُ فيها الأبعاد الإنسانية بكل تناقضاتها ، وتلتصق لحظاتُ القوة بلحظات الضعف . وكأن الحِبرَ يُصبح مُعادِلاً للدم _ إن جاز التعبير ! _ .
1_ القتال حتى الفناء :
     لا يوجد حربٌ ناعمة . فالحربُ منبع الوحشية والفناء . إنها مقبرة الرجال ، ومَصْدر الإبادة . وقد عبَّر الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى عن هذه المعنى في قَوْله :
تَداركتُما عَبْساً وذُبيان بَعْدَمـا          تَفانَوْا وَدَقُّوا بينَهم عِطرَ مَنشمِ
     وهو يُخاطب سَيِّدَيْن من سادات العرب ( هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ) ، ويُورِد ذِكْرَهما الضمني في سياق المدح ، ويُخلِّد هذا الذِّكر إلى الأبد بسبب دورهما البارز في إنهاء الحرب الطاحنة بين قَبيلة عَبْس وقبيلة ذُبيان. وهنا يتضح دورُ الشاعر في دعم مسيرة السلام ، ووقف شلال الدم الذي جرفَ الأخضرَ واليابسَ . فهو مِن دُعاة الحوار واللاعنف ، وقد حوَّل رسالته الشِّعرية إلى قضية إنسانية تساهم في إصلاح العلاقات بين القبائل ، وتكوين مجتمع متسامح يحتكم إلى قوة اللغة لا لغة القوة . وفي هذه الحالة يصبح الشِّعرُ رسولَ سلامٍ ، وباعثاً على الأمن والأمان .
     تلافيتما أمر هاتين القبيلتين، وقُمتما بانتشالهما من مستنقع الدماء، ولحقتما بهما في آخر لحظة ( قبل أن تقعا في الهاوية السحيقة ) . فالقتلُ وصلَ إلى مستويات غير مسبوقة ، وقد أفنى القتالُ رجالهما . إنه القتالُ حتى آخر رَجل . تواصلَ مسلسل القتل حتى النهاية . وهذه الحربُ الطاحنة حَصدت أرواحَ الرجال، ورَمَّلت النساءَ، ويتَّمت الأطفالَ ، وقضت على الممتلكات المادية ، وتسبَّبت بكوارث اجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمع العربي. ومن خلال هذا المنظور ، يلتصق معنى الحرب بمعنى الفناء والنهاية المؤلمة .
     وقَوْلُه " دَقُّوا بينَهم عطرَ مَنشم " يَحمل إشارةً بليغة ومؤلمة إلى أن القتال أتى على آخرهم كما أتى على آخر المتعطرين بعطر مَنشم .
     و " مَنشم " امرأةٌ عطارة ، اشترى قومٌ منهم عِطراً ، وتحالفوا على قتال العدو، فقُتلوا عن آخرهم ، فتطيَّر العربُ بعطر مَنشم . وصار رمزاً للتشاؤم لأنه يَحمل في الذاكرة العربية معنى القتل والفَناء .
     وفي هذا السياق يَظهر معنى العلاقات التي كان العربُ يخترعونها ، ويَبنون عليها نسقاً فكرياً واجتماعياً ، ويربطونها بنتائج عقلية ، وتطبيقات واقعية . وهذه العلاقاتُ متأثرة إلى حَد بعيد بالمناخ الوثني ، وإقحام الأصنام بثنائية الأسباب والمسبِّبات . فالمجتمعُ الجاهلي مُلوَّث بالطقوس الخفية ، فيكثر فيه السِّحرُ والشعوذة والكِهانة والتطير ( التشاؤم ) . وهذه القضايا ظهرت ونالت شرعيةً شعبية بسبب الجهل المتفشي في البيئة العربية . فهذه العوالم المستترة هي انعكاس لقلق الفرد الجاهلي وارتباكه الروحي في مجتمع يستمتع بغرقه دون وجود طوق نجاة. ولأن التجمع الجاهلي كان يفتقد المعرفةَ والبُنيةَ الحضارية والثقافةَ التنويرية ، لَجَأَ إلى العوالم الغامضة اللامنظورة ذات الطابع السحري .
     العلاقةُ الأولى تتمحور حول شراء العِطر من قِبَل أشخاص يريدون التعاقد والتحالف ، وجعلهم آية الحِلف هو غمسهم الأيدي في ذلك العِطر . وهذا الطقسُ غريب ، فلا يوجد رابطٌ منطقي بين الحِلف والعِطر . ومع هذا فقد رُبطت آية الحِلف بغمس الأيدي في العِطر ، وهذه العمليةُ تأتي في سياق التأثر بعالَم القرابين والكهانة والتطير .. إلخ .
     العلاقةُ الثانية هي التي بناها العربُ على حادثة عابرة ، وهي مقتل هؤلاء الرِّجال ( الذين تعطَّروا بعِطر منشم ) عن آخرهم . لقد قام العقلُ العربي الجمعي بربط حادثة قتلهم بالعِطر ، وإدخال هذا الأمر ضمن السبب والمسبِّب أو الفعل والنتيجة. وانبثق من هذه العملية فلسفةُ التطير وثقافة التشاؤم. وهكذا صار " عِطر مَنشم " مثلاً شهيراً ، وثقافةً اجتماعية يتناقلها الأجيالُ جيلاً بعد جيل . ودخل هذا التعبير  " عطر منشم " في أشعار العرب، وتراثهم الإنساني، وحياتهم الاجتماعية، وفلسفتهم الروحية ، ومعتقداتهم الدينية .
2_ تجريبُ الحرب :
     الحربُ ليست نزهةً . إنها رَحى طاحنة ، تَطحن كلَّ شيء . تُتلِف الأرواحَ والممتلكاتِ . والعاقلُ لا يتمنى لقاءَ العدو ، لأنه يَعْلم أن الحرب تحصد الأشياءَ حصداً، تُفني الناسَ، وتُدمِّر المنجزاتِ الحضارية ، وتُورِث الشكوكَ والقلقَ والرعبَ في نفوس المقاتِلِين والمتابِعِين ، والإنسانُ لا يَعْرف قلبَه في الحرب ، ولا يَعرف هل سَيَصمد أم سينهار ، هل سيُقاتِل بكل إقدام أم سَيَهرب بكل نذالة .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
وما الحربُ إلا ما عَلِمتم وذُقتم          وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّـمِ
     يُقدِّم الشاعرُ صورةً مقزِّزة للحرب، في محاولة منه لتنفير الناس منها ، وإبعادهم عن فكرة القتل والقتال . وهو لا يُلقي الكلام على عواهنه ، بل يَربط الكلام بالأحداث التاريخية، والتجارب الواقعية. والتاريخُ لسانٌ صادق، والواقعُ لا يَكذب أبداً . وقد ربطَ الشاعرُ كلامَه بالتجربة الواقعية والبرهان العملي ، ليكون كلامُه ذا تأثير في النفوس . تأثير حقيقي يكون بمثابة السُّور الواقي من الحرب . ولا يَخفَى أن ربط القول بالعمل يؤدي إلى ترسيخ المعنى ، وإشاعة الصدق في الأرجاء . 
     يقول : وليست الحربُ إلا ما عهدتموها ، وجَرَّبْتموها ، ومارستم كراهيتها .
     إنه يَنقل المعنى إلى الوقائع العملية . فالحربُ تم تجريبها ، وقد عادت بالويلات على الجميع ، والجميعُ فيها خاسرٌ. وهذا الأمرُ ليس كلاماً في الهواء ، وإنما تمَّ تجريبه ورؤيته بالعين المجرَّدة ولمسه على أرض الواقع . والذين خاضوا الحربَ يَعرفون هذه المعاني تماماً لأنهم جَرَّبوها بأنفسهم ، ورأوها رأيَ العين ، ولم يَسمعوا عنها من الآخرين. والمشاهِد ليس كالسامع. وقد قيل : (( اسألْ مُجرِّباً ولا تسأل حكيماً )). وقيل أيضاً : (( أكبرُ منكَ بيوم أعلمُ منكَ بسنة )). فالخِبرةُ الحياتية تُكسِب الإنسانَ معانٍ عديدة ، لا يُمكِن أن يقرأها في كتاب ، أو يَسمع عنها من الناس .
     ويؤكِّد الشاعرُ كلامَه ، فيقول إن الحديث عن الحرب وويلاتها ليس بحديث مُرَجَّم ( أحكام الظنون )، وإنما هو حديثٌ يَقيني لا ظنِّي، يستند إلى الواقع العملي ، وهذا ما شَهِدت عليه الشواهدُ الصادقة من التجارب .
3_ ذَمُّ الحرب :
     المنطقُ الإنساني يذمُّ الحربَ ولا يَمدحها . فهي سبب الكوارث والدمار ، وهي منبع الحقد والكراهية. والعقلُ الجمعي _ القادرُ على التحسين والتقبيح _ يُدرِك قبحَ الحرب، وآثارها الكارثية على جميع الأصعدة. لذلك، ليس غريباً أن يتم ذَمُّ الحرب ، والتنفير منها ، وإبراز صورتها السَّيئة ، وجوهرها القبيح .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
متى تَبعثوها تَبْعثوها ذَميمـةً          وَتَضْرَ إذا ضَرَيْتُموها فَتَضرَمِ
     إنهم متى يَبعثوا الحربَ يَبعثوها مذمومةً ، أي يُذَمُّون على إثارتها . والناسُ سوفَ تذمُّهم وتَلومهم ، وتُحمِّلهم المسؤوليةَ كاملةً ، فتتلطخ صورتهم بالمعاني السلبية ، وتلتصق بهم وصمة عار أبدية لا يَمحوها شيء ، لأنهم تسبَّبوا بالحرب ، وساهموا في إزهاق الأرواح ، وإتلافِ الممتلكات. ولن يتوقفَ الأمرُ عند إثارة الحرب . فالحربُ مثل النار سيشتدُّ ضَرْمُها واشتعالها إذا تم تزويدها بما يساعد على الاشتعال، وعندئذ تلتهب نيرانُها . وجثثُ المتقاتِلِين هي وقودُ الحرب ، كما أن الحطبَ هو وقود النار.
     والمعنى العام : إنكم إذا أوقدتُم نارَ الحرب وقُمتم بإشعالها ، ذُممتم وصارت سُمعتكم في الحضيض . ومتى قُمتم بإثارة الحرب ثارت ، وتأجَّجت نيرانُها ، ولم يَعُدْ بالإمكان السيطرة عليها . وكلُّ هذه المعاني موضوعة في سياق الحضِّ على التمسك بالصُّلح ، والابتعادِ عن الحرب ، وإظهارِ النهاية المؤلمة لإيقاد نار الحرب .
4_ الحربُ طاحنة :
     الحربُ تَطحن الأرواحَ والممتلكاتِ بلا رحمة . فهي لا تَشبع ولا تَهدأ ، ولا تترك الآخرين يهدأون . وهذا القلقُ المرعب الذي يحصد كلَّ شيء ، يُجسِّد فلسفةَ الطحن في الحرب بكل شراسة .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
فَتَعْرُكُكم عَرْكَ الرَّحى بثِفالها          وَتَلْقَح كِشافاً ثم تُنتِج فَتُتْئِمِ
[ الثِّفال: جِلدة تُبسَط تحت الرَّحى ليقع الطحين / الكِشاف : أن تلقح النعجة في السنة مرتين ] .
     يُقدِّم الشاعرُ صورةً مرعبة للحرب تُعبِّر عن خطورتها وقسوتها . فهذه الحربُ الطاحنةُ تعركُ الناسَ بلا هوادة ولا رحمة. إنها تطحنهم كما تَطحن الرَّحى الْحَبَّ مع ثِفاله . وقد تم تخصيص هذه الحالة ، لأن الثِّفال لا يُبسَط إلا عند الطحن .
     هذا المشهدُ الشِّعريُّ الصارخُ يمثِّل شدةَ الحرب . فالحربُ رَحى طاحنة لا تكفُّ عن الدوران والطحن . إنها تَهْرس أجسادَ البشرِ الغضَّةَ ، وتحوِّلها إلى جثث هامدة . وتُحيل الأحلامَ البشرية إلى غبار متطاير في الهواء . وهكذا تصبح منجزاتُ الحضارةِ الإنسانيةِ كالطحين. فالكلُّ يؤول إلى أجزاء، والجسمُ الواحدُ يؤول إلى شظايا. إنها الحربُ التي لا تَرْحم . تُدمِّر كلَّ شيء ، وتفتِّت كلَّ الكيانات المتماسكة .
     وفي عجزِ البيت، يَربطُ الشاعرُ بين عناصر بيئته الصحراوية وبين الحرب . إنه يستلُّ صورةً من تكاثر الحيوانات ( النعاج ) ، ويُسقِطها على عالَم الحرب القاسي . وها هُوَ يقرِّر أن الحربَ تلقح في السَّنة مَرَّتين وتلد توأمين. وبعبارة أخرى ، إنه يقرِّر ثنائيةَ ( السبب / النتيجة ) أو ( المدْخَلات / المخْرَجات ) .
     وهذه العلاقةُ المركزية تتجسَّد في جعل إفناء الحرب إياهم بمنزلة طحن الرَّحى الْحَب ، وأيضاً جعل أنواع الشر المتولِّدة من الحرب بمنزلة الذُّرية الناشئة من الأمهات . فالحربُ هي الأُمُّ القاسية التي تَلد أولاداً عاقِّين ( أنواع الشَّر والألَمِ ) .
5_ النشأة في ظِل الحروب :
     إن الأشخاص الذين ينشأون في ظِل الحروب ، لا بد أن يُصابوا بالأمراض النفسية . وهذه الأمراضُ بعضُها ظاهرٌ للعيان ، وبعضُها مستتر . وتبرز آثارُ هذه الأمراض على ملامح الإنسان، وتظهر تأثيراتها في السلوكيات الاجتماعية ، وتتَّضح فلسفتها في الكلام ، وفلتاتِ اللسان .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
فتُنتِج لكم غِلْمانَ أشأمَ كُلُّهم          كأحمر عادٍ ثم تُرْضِع فتَفطِـمِ
     إنه جَو الحرب الرهيبة ، حيث يُولَد في أثنائها أبناء مشؤومون ، تشرَّبوا رُوحَ الحرب _ رغم أنوفهم _ ، وعاشوا أجواءها المرعِبة بكل حواسهم . وهؤلاء الأبناءُ وُلدوا في مناخ القتل والكراهية والحقد ، فصاروا رَجْعَ صدى للحرب المتأججة ، وصارت جوارحهم تشخيصاً لحالة القتل والقتال . وكلُّ واحدٍ منهم يضاهي في الشؤم أحمر عاد( وهو أحمر ثمود عاقر الناقة " قُدار بن سالف " ) الذي تسبَّب بهلاك قَوْمه ، فكان شُؤْماً عليهم بعد أن جلبَ لهم العذابَ .
     ثم ترضعهم الحروب وتفطمهم ( تقطعهم ) . وفي هذا دلالةٌ على ولادتهم ونشأتهم في الحروب . إنهم أبناء الحروب ، عاشوا في ظِلالها ، وابتلعوا فلسفتها القاتلة ، وامتصَّت أعضاؤهم الصفاتِ القاسية ، وصارت مَشَاهِدُ القتل وسفك الدماء جزءاً من الذاكرة، وفكرةً أساسية في عقولهم، فأصبحوا مشائيم على آبائهم.
     والإنسانُ هو ابنُ بيئته . فالذي يُولَد في الحرب ، ويَعيش في كنفها ، لا بد أن يتأثر بأجوائها المرعبة مهما كان قوياً أو واثقاً من نَفْسه . وعندئذ يصبح الفردُ ظِلاً للحرب ، يَحمل جيناتها وخصائصها ، متلبِّساً بالقلق والألم والاضطراب الروحي والبدني. وسوفَ يتشاءم الناسُ بهذا الفرد المضطرِب، ويصبُّون عليه جامَ سُخطهم .
6_ الحرب تحرق المال :
     الحروبُ تجارةٌ بأرواح البشر وممتلكاتهم . صحيحٌ أنها تجارة قذرة ، لكنها رائجة إلى حَد بعيد. وعلى الرغم من حَرقها للمال إلا أن هناك قِلةً مستفيدة منها. وهؤلاء هُم أُمراء الحرب الذين يَدفعون بالرجال إلى الموت مستخدمين شعارات الشرف والبطولة ، ويظلُّون مختبئين في جُحورهم يترقَّبون لحظة الانقضاض . ومهما يكن من أمر ، فالحربُ تَحرقُ المالَ ، لأنها مقامَرة مرعِبة تأكلَ الأخضرَ واليابسَ . والأضرارُ التي تأتي بها الحروب أكبر من كل المنافع التي قد يتخيَّلها البعضُ ، أو يُخطِّطون لتحقيقها . إنها دمارٌ شامل . والقِلةُ المستفيدة من الحرب لا وزنَ لها ، لأن النادرَ لا حُكم له .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
فتُغْلِل لكم ما لا تُغِلُّ لأهلهـا         قُرىً بالعراقِ من قَفيزٍ ودِرْهَمِ
     إنه يذمُّ الحروبَ، ويُبيِّن أضرارَها الهائلة. فهذه الحروبُ تغلُّ أنواعاً من الغلات. وهذه الغلات لا تكون لقُرى من العراق التي تغل الدراهم بالقفيزات . والقفيزُ هو مِكيال أهل العراق .
     فالأضرارُ الناتجة من هذه الحروب تزيد على المنافع الناتجة من هذه القُرى . فالأموال التي تُجبَى من القُرى لا تُغطِّي نفقاتِ الحروب التي هي أكبر من كل مصادر الدَّخل . ومهما كانت القُرى غنيةً ، فلا يمكنها أن تموِّل الحروبَ التي تحتاج ميزانيةً ضخمة تَعجز عنها القُرى التي تغل الدراهم بالمكاييل .
     وهذه الصورةُ الاقتصاديةُ القاتمةُ يُقدِّمها الشاعرُ من أجل حَثِّ جميع الأطراف على الالتزام بالصُّلح ، والابتعاد عن إشعال جذوة الحرب . والعاقلُ يَحسب الأمورَ قبل الخوض فيها . وعندما يُؤمِن أن الحربَ صفقةٌ خاسرة ، فلا بد أن يَبتعد عنها.
7_ إعطاء الدِّيَات بعد الحرب :
     كلُّ حربٍ تكون بدايتها مشكلة بسيطة يمكن حَلُّها بالهدوء والعقلانية ، ولكنَّ الجهلَ يَجعل من هذه المشكلة جَبلاً من المشكلات . ومعظمُ النار من مستصغر الشرر . والحربُ العبثيةُ لحظةُ طيشٍ يَقتحمها الجهَّالُ والمغرورون ، ويَتحمل نتائجها الجسيمة العقلاءُ والحكماءُ الذين يَقضون أوقاتهم محاولين إخماد نارها ، وإيجاد نهاية لها. والجهالُ الذين يُشعِلون نارَ الحرب، إنما يُورِّطون العقلاءَ فيها. فالناسُ _ دائماً_ يَنظرون إلى العقلاء وعِلية القوم ، ويحثونهم على إيجاد الحلول النافعة ، ولا أحد يَنتظر حلولاً من الجهال أو العوام .
     يقولُ الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
تُعفَّى الكُلومُ بالمِئينَ فأصْبَحَتْ         يُنَجِّمُها مَن ليسَ فيها بِمُجرِمِ
     فالكُلوم ( الجِراح ) تُمحَى وتُزال بالمئين من الإبل ( الدِّيَات ) . أي إن الآلام والجراح الناتجة عن الحرب ، تُزال عن طريق إعطاء الدِّيَات التي تَجبر القلوبَ الكسيرة ، وتُطيِّب الخواطرَ الملتهبة ، وتُهدِّئ النفوسَ المحترقة .
     والمئين نسبة إلى المئة ، وفي هذا إشارةٌ إلى الأعداد الكبيرة من الإبل التي تُقدَّم إلى أهالي القتلى . فهُم قد فَقدوا أبناءهم وإخوانهم وأحبابهم في الحرب الطاحنة ، وفي أمس الحاجة إلى التعويض المادي. صحيحٌ أن الدِّيَات لن تُعيد القتلى، ولن تُحيِي الذكرياتِ الدافئة ، ولن تُرجِع الأيامَ الجميلة . ولكنها _ أي الدِّيَات _ تمثِّل نوعاً من التعويض المادي لأفراد القبيلة ، والأمهاتِ الثكلى ، والأراملِ المفجوعات ، والأيتامِ الحزانى .
     والمضحكُ المبكي أن الذين يتحمَّلون الدِّيَات ، ويأخذون على عاتقهم إنهاء الحرب الضروس، هُم الذين لا ناقة لهم ولا جَمل في الحرب . وأصبحتْ هذه الإبلُ (الدِّيَات) يعطيها نجوماً مَن هو بريء الساحة بعيد عن الْجُرم في هذه الحروب .
     فالأبرياءُ هُم الذين يُقدِّمون الدِّيَاتِ نجوماً ( متفرِّقات ) ، على الرغم من أنهم لم يتسبَّبوا بإراقة الدماء، ولم يُشعِلوا نارَ الحرب، ولم يَشتركوا في عملية القتل والقتال. وهذا يُشير إلى سخرية الحياة. فالمجرمون الذين تلطَّخت أيديهم بالدماء نَجَوا بفعلتهم، أمَّا الأبرياء فهُم الذين ضَمنوا إعطاء الدِّيَات ، وَوَفُوا بها ، وأخرجوها متفرِّقاتٍ . وهذا يدل على حرصهم على حقن دماء أبناءِ جِلْدتهم، سواءٌ كانوا من قبيلتهم أم القبائل الأخرى . وهذا قَدَرُ العقلاء في كل العصور ، أن يُصلِحوا ما أفسده الجهَّالُ .
8_ النصر في الحرب :
     على الرغم من كَوْن الحرب تجارةً بالأشلاء والضحايا، وصفقةً دموية قذرة ، وفِعلاً مذموماً ضد الإنسانية ، وضد المنجزات الحضارية ، إلا أننا نجد مَن يُمجِّدها ، ويَفتخر بها ، ويَجعل النصرَ فيها هو قمة الحضارة ، وأسمى الأمنيات ، غير عابئ بالتكلفة الثقيلة للحرب التي حَصَدت الأرواحَ والممتلكاتِ .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
بيَوْمِ كَريهةٍ ضَرْباً وَطَعْناً          أَقَرَّ بهِ مَوَاليكِ العُيُونـا
     إنه يُقدِّم البُشرى _ من وجهة نظره _ ، ويَنشر خَبرَ النصر في الحرب بكل سعادة وفخر. والكريهةُ هي الحرب لأن النفوسَ تَكرهها، وتَمقتها، ولا تستسيغها .
     وها هُوَ الشاعر يقول بكل فخر : نخبرك بيومِ حربٍ كَثُرَ فيه الضرب والطعن .
     إنه يَنظر إلى هذا الأمر كبشارة تستحق النشر ، وذلك من أجل جلب الصيت والسُّمعة ، وانتزاع الاحترام والهيبة من نفوس الآخرين ، وردع القبائل المعادِية ، وإخافة الفرسان المنافِسِين .
     وقد أخرجَ الْخَبرَ في سياق البشارة ليُعطيَ انطباعاً بأن قَوْمَه لا يَخافون الحربَ ولا يَجزعون من سفك الدماء . إنهم سعيدون بخوض الحرب ، وإخضاع الأعداء ، وإعلاء راية النصر على جثثهم . وهذا منتهى الشجاعة والإقدام _ وفق رؤية الشاعر _ .
     وهذا اليومُ المشهود ( يوم الحرب ) الذي كَثُرَ فيه الضربُ ، والطعنُ المتبادل ، وتلاطمُ السيوف ، وتطايُرُ الرؤوس ، وتناثُرُ الجثث ، وتمزُّقُ الأشلاء ، وسيلانُ الدماء . هذا اليومُ الدموي جاءَ بالبُشرى ( النصر ) ، فقد أقرَّ بنو أعمامكِ عيونَهم في ذلك اليوم . أي إنهم قد حقَّقوا رغباتهم ، وسَحقوا خصومَهم ، ونالوا مرادَهم ، وفازوا ببغيتهم ، وظَفروا بمناهم من قهر الأعداء .
     والشاعرُ يُقدِّم خطابَ النصر وإعلانَ الفَوْز، لترسيخ مكانة قبيلته بين القبائل . كما أن هذه البُشرى ( إعلان النصر في الحرب ) ، جاءت في سياق مخاطبة الأنثى ، وهذا واضح في كلمة " مَوَاليكِ " . وكأنه يقول إن بني أعمامِكِ قد حَموا شرفَ القبيلة . ولا يَخفَى أن الدفاع عن النساء اللواتي لا حَوْلَ لهنَّ ولا قوة ، يُعتبَر ذِروةَ الشرف والمجد . فالرَّجلُ قادرٌ على الدفاع عن نَفْسه ، وحتى لو تَمَّ أَسْرُه ، فهو رَجل قادر على رعاية شؤونه. أمَّا المرأةُ العاجزة عن حماية نَفْسها، فإنها إذا سُبِيت فهذه وصمة عار في جبين عائلتها وقبيلتها ، ونقطة سوداء في تاريخ القبيلة . لذلك بدا الشاعرُ حريصاً على مخاطبة الأنثى، وكأنه يقول لها إنكِ محاطة برجال أشداء قادرين على حمايةِ حياتكِ ، وصَوْنِ شرفكِ . وهكذا صارت الأنثى رمزاً يَختصر الحضارةَ والقبيلةَ والشرفَ والطهارةَ والنصرَ .
9_ الفخرُ بإراقة الدماء :
     كلُّ الحروبِ متعطشةٌ إلى الدماء . فعمليةُ القتل والقتال تَشرب دماء المتحارِبِين بصورة هستيرية . وكلما شَربت أكثر عَطشت أكثر . والدمُّ هو الوقود المعتمَد في الحروب ، الذي يُدير عجلةَ صناعة القتل والإبادة ، ويُحرِّك طاقةَ الحقد والكراهية في القلوب . وكلما ارتفع منسوبُ الدماء في الحروب ، ارتفعت أهميةُ الحروب في التاريخ . وهذه القاعدةُ المؤلمة منتشرة في كل العصور بلا استثناء . وللأسف ، فالحضارةُ الإنسانية تُكتَب بالدم ، ويُبنَى التاريخُ البشري على الجماجم والجثث .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
بأنَّا نُورِدُ الراياتِ بِيضــاً          وَنُصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
     إنه الفخر الدمويُّ، والافتخار بسفك الدماء وقتل الأعداء. فالراياتُ (الأعلام) _التي هي رمز الشرف والشموخ والسيادة_ تَدخل إلى جَو الحرب، وهي بيضاء اللون . وبسبب كثرة القتل ، وتطايُر الرؤوس ، وتناثُر الأشلاء ، وسيلان الدماء ، فإن هذه الرايات يتحول لونُها من الأبيض إلى الأحمر ( لون الدم ) . فتصبح حُمراً قد ارتوت من دماء الأبطال ، وشَربت الجثثَ حتى الثمالة .
     وهذا المشْهدُ يدل على شراسة الحرب ، وكثرة القتل . كما أنه يَحْمل صورةً سِحريةً دمويةً، يُقصَد منها رفع شأن قبيلة الشاعر ، وتصوير فرسان هذه القبيلة كقادة منتصرين لا يَخافون الموتَ ، ولا يَخْشون لقاءَ الأعداء ، ولا يَهابون تلاطمَ السيوف كأمواج البحر .
     إن عاطفةَ الفخرِ تسيطر على الأجواء . وهذه العاطفة تحتل مكانةً أساسية في التراث الجاهلي ، والحياةِ القَبَلية . ففي جَو الصراع المحتدم بين القبائل ، لا بد أن تنشأ قيم الفخر والحماسة لتحطيم معنويات الأعداء ، ورفع منزلة القبيلة في المنظومة الاجتماعية السائدة . وهذا التنافس المستعر بين الأفراد والجماعات لا بد أن يواكبه تنافس كَلامي . وهذه المهمة اضطلع بها الشعراء الذين كانوا ألسنةَ قبائلهم الحادةَ ، المنافحين عن أمجاد الآباء ، ومكانةِ العائلات والعشائر . وهذا يُفسِّر سببَ الفرح العارم الذي كان يعمُّ القبيلة حين يَبرز فيها شاعرٌ مُجيد ، أو خطيبٌ مُفَوَّه .
10_ النساء في الحرب :
     وضعُ النساءِ في الحرب شديدُ التعقيد . فهنَّ كائنات لطيفة بعيدة عن التوحش والدموية ، وعاجزات عن حماية أنفسهن ، وبحاجةٍ ماسَّةٍ إلى مَن يحميهنَّ ، ويَحفظ شرفهنَّ . والمرأةُ _ بسبب وضعها البيولوجي _ جناحُها مهيض ، يَسهل كسرُها أو تدنيس عفَّتها. وإذا حدثَ أمرٌ من هذا القبيل، فإن وصمةَ عارٍ أبدية سَتَلْحق بعائلتها وقبيلتها. وهذا الوضعُ الحساس للمرأة ( الأنثى ) يَجعلها محاطةً بالحماية والحراسة ، فهي موضعُ شهوة الرَّجل . وفي الحروب يتم اللجوء إلى السَّبي ( قديماً) أو الاغتصاب ( حديثاً ) لكسر شَوْكة الأعداء ، وتحطيم معنوياتهم ، وتلطيخ صورتهم بالخزي والعار . وستظل المرأةُ هي الحلقةَ الأضعف في الحرب ، والضَّحيةَ الأُولى للنِّزاعات المسلَّحة .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
على آثارِنا بِيضٌ حِسـانٌ          نُحاذِرُ أنْ تُقَسَّمَ أوْ تَهُونا
     يَصِفُ نساءَ قبيلته بأنهنَّ بِيض حِسان . وهذا مدحٌ لهنَّ يشتمل على معاني صفاء الروح، ونقاءِ الجسد، وجمالِ الوجه. ولا شكَّ أن جَمال النساء يَمنح القبيلةَ مكانةً سامية فيُشار إليها بالبنان ، ويتسابق الرجالُ من أجل النَّسَب والمصاهَرة ، وتَدخل القبيلةُ في قصائد الشعراء ، ويَأتيها المدحُ من كل الجهات .  
     يقولُ : على آثارنا في الحروب نساء بِيض حِسان ، نحاذر عليهن من السَّبي ، فيتم تقسيمهن ، وإهانتهن .
     إذن، هذا الأمرُ خَط أحمر ، فلا يمكن السماح للأعداء أن يَسبوا النساءَ . فهذه إهانةٌ عظمى للنساء وأهلهن والقبيلة بأكملها، ووصمة عار لا يَغسلها ماءُ البحر. ووفق هذه الرؤية ، لا بد أن يكون القتالُ حتى آخر رَجل ، وذلك من أجل الدفاع عن النساء اللواتي هنَّ شَرف الرجال ، وشرف القبيلة ، فلا مجال للاستسلام أو التقاعس . وأيُّ محاولةٍ للهروب أو التقاعس ، ستشكِّل خطراً بالغاً على النساء ، وتزداد فرصةُ تعرضهنَّ للسَّبي . وهذه كارثةٌ كُبرى لا يَقْدر أحدٌ على تحمُّلها .
     والعربُ كانوا يُحضِرون نساءهم معهم إلى الحروب ، فتَشْهد النساءُ وقائعَ القتل والقتال . وكان العربُ يُقيمون النساءَ خلف الرجال لِيُقاتِل الرِّجالُ دِفاعاً عن أعراضهم وشَرَفِهم . وهذا الأمرُ يَدفع الرجالَ إلى القتال بكل شجاعة وإقدام ، وبدون أدنى تردد أو تفكيرٍ بالهرب ، لأنهم يَعْلمون أن نساءهم وراءهم ، فلا بد من القتال حتى النهاية دفاعاً عن الشرف ، والقيمِ العائلية ، والتقاليدِ العشائرية . وهكذا يصبح الموتُ دون العِرض متعةً عُظمى ، فالموتُ أرحم من سبي النساء الذي يَجلب العارَ الأبدي .
     ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
أَخَذْنَ على بُعُولَتِهِنَّ عَهْداً          إذا لاقَوْا كَتائِبَ مُعْلِمِينـا
     وهؤلاء النساءُ لهنَّ دورٌ فاعل في مسار الحرب . وحضورهنَّ ليس هامشياً أو لتجميل منظر الحرب . إنهنَّ يَقُمْنَ بمهمة مركزية ، وهي أخذ العهد على أزواجهنَّ بالثبات في الحرب ، والقتال بكل بسالة ، دون خوف أو تردد .
     قد عاهدنَ بعولتهن ( أزواجهن ) إذا قاتلوا كتائب من الأعداء مُعلِّمين أنفسهم بعلامات يُعرَفون بها في الحروب ، أن يَثبتوا في معمعة القتال ، ولا يفرُّوا .
     وهذا العهدُ بمثابة حِمْل ثقيل على أكتاف الرجال ، وهو مسؤولية كبيرة أثقل من الجبال ، لأنها متعلقة بالدفاع عن النساء ( العِرْض ) ، وصَوْنِ شرف القبيلة ، وحمايةِ سُمعتها ، وتلميعِ اسمها في عالَم الأفراد والجماعات . وثمنُ أيِّ تخاذلٍ ليس مالاً أو أنعاماً . إن الثمنَ هو الشرفُ ، والعِرْضُ ، والسَّبايا ، والنقطةُ السوداء الأبدية في تاريخ القبيلة. وهذا الأمرُ يُؤْخذ على محمل الجِد ، ولا يمكن التلاعب به.
     ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
يَقُتْنَ جِيادَنا وَيَقُلْنَ لَسْتُم           بُعُولَتَنا إذا لم تَمْنَعُونــا
     لا يتوقف دورُ النساء عند تقديم الدعم المعنوي للمقاتِلِين ، وتشجيعهم على القتال . فالنساءُ _ أيضاً _ يقمنَ بتقديم خدمات ملموسة على أرض الواقع . فهنَّ يَعلفنَ خَيلَ المقاتِلِين الجِيادَ ، حتى تدبَّ فيها القوةُ ، فَتَقْدر على حمل الفُرسان ، والصمود في أرض المعركة ، فلا تُصاب بالإعياء ، ولا تَسقط من التعب . ولا شكَّ أن الخيلَ في المعركة ذات أهمية بالغة . ومن هنا ، وَجبَ الاعتناء بها ، ورعايتها أشد الرعاية ، لأنها تمثِّل البُنية التحتية للمعركة _ إن جاز التعبير ! _ . وأيُّ خللٍ في هذه المنظومة الحاملة لشجاعة الفرسان ، سوفَ يَقود _ حتماً _ إلى الهزيمة .
     وبعد قيام النساء بعلف الخيل الجِياد، أخذنَ يَرفعنَ معنويات أزواجهن المقاتِلِين، فيقلنَ : لستُم أزواجنا إذا لم تمنعونا من سبي الأعداء إِيَّانا . إنها البراءةُ التامة من رابطة الزَّوْجية إذا لم يتم حماية النساء من السَّبي. وفي واقع الأمر ، إن الزوجَ يستمدُّ رجولته من قُدرته على حماية امرأته ، فإن عجزَ عن ذلك فقد خسرَ رجولته ، ولا جَدوى لوجوده في حياة زوجته. وهذه الحقيقةُ تدركها المرأة تماماً، فهي بحاجة إلى زوجٍ يَحميها ، ويدافع عنها ، ويَصون شرفَها وأنوثتها . وإذا فشلَ الزوجُ في تحقيق هذه المهمة المقدَّسة، فعليه الانسحاب من حياة زوجته، وتركها لِرَجل آخر يتزوجها ويدافع عنها .
     وللنساء دورٌ آخر في المعركة عبَّر عنه الشاعرُ الأعشى الأكبر في قَوْله :
حتى يَظَلَّ عَميدُ القَوْمِ مُرْتَفِقاً          يَدْفعُ بالرَّاحِ عَنْهُ نِسْوَةٌ عُجُلُ
     إن النساءَ في هذا المشْهد يقمنَ بدور حيوي في حماية الرجال ، وليس العكس . فهنَّ في أرض المعركة ، يُحِطْنَ جثثَ الرجالِ بسياج من الحنان والأمان ، ويَدفعنَ عنها خطرَ السحق تحت سنابك الخيل .
     وهذا المشْهدُ الذي رسمه الشاعرُ يُعبِّر عن شراسة الحرب ، وانتشارِ الجثث ، وارتماءِ القتلى على أرض المعركة . والشاعرُ يتغنَّى بهذا الانتصار الساحق الذي يَحمل دلالاتِ قهر الأعداء ، وإهانة الرجال المهزومين. فلم يظل إلا النساء . وهذا قمةُ الخزي والعار . لقد هُزم الرجال ، وبقيت النساءُ يحاولنَ إنقاذ ما يمكن إنقاذه . إنهنَّ يَدفعنَ ثمنَ هزيمة رجال القبيلة .
     وها هُوَ عميدُ القوم ( السَّيد المطاع ) مُرْتَفِق ، أي إنه يتَّكل على غَيْره ولا يتكل على نَفْسه ، وهذا منتهى العجز والضعف . لقد خسرَ هذا السَّيدُ مكانته الاجتماعية ، وفقدَ قدرته على القتال ، فصارَ يُعوِّل على غَيره من أجل حمايته . والغريقُ يتعلق بحبال الهواء . وبعد موتِ الرجال المحارِبِين ، تقوم النساءُ باستخدام أكفهنَّ ( الرَّاح ) لدفع المخاطر عن الفُرسان القتلى ، أي حماية جثثهم من السحق .
     يقولُ الشاعرُ مخاطباً الأعداء بكل ثقة وحماس : لن تنتهوا عن ضلالكم وعجرفتكم حتى نترك ساداتكم في ساحة الحرب ، تدفع عنهم النساءُ الثكالى ( العُجُل ) اللواتي فَقدنَ أحبتهنَّ ، لئلا يُداسوا بعد القتل .
     هذه الصورةُ الصادمة تحمل إشاراتِ القسوة والوحشية والفخر بسفك الدماء.وفيها دلالاتٌ رمزية عميقة. فالقتلى ليسوا أُناساً عاديين . إنهم السادات ( رؤوس الناس وأعمدة القوم ) الذين يُفزَع إليهم في الشدائد وعظائم الأمور . وإذا سقطَ الرأسُ سَقط الجسمُ كلُّه . وهذا هو الدمارُ الشامل الذي أصاب الأعداءَ ، والكارثةُ الكُبرى التي حَلَّت على الخصوم. وفي هذه الصورةِ إعلاء لشأن المنتصرين ، وتعظيمٌ لقدرتهم على القتل والبطش، والوصولِ إلى رؤوس القوم الذين يُفترَض أنهم محميُّون ومحاطون بحراسة مكثَّفة . 
     والمصائبُ لا تأتي فُرادَى . والمصيبةُ الثانية هي اضطلاع النساء بدور حماية السادة من السحق بعد القتل . وهذا يعكس انقلاباً في الموازين والعادات . فالمنطقُ يقول إن الرجال يُدافعون عن النساء، أمَّا أن تدافع النساءُ عن الرجال . فهذا يُشير إلى حجمِ الهزيمة الساحقة ، وموتِ رجال القبيلة ، وانكسارِ قيمِ الشرفِ والْحَمِيَّةِ وصَوْنِ العِرْض ، وهذا منتهى الإهانة والعار ، اللذين نتجا عن الهزيمة النكراء .
11_ رفض الغنائم :
     يُقدِّم الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد صورةً جديدة في عالَم الحروب . وها هِيَ قيمةُ الفخر تأخذ بعداً جديداً يتمثَّل في رفض الغنائم ، فقد تمَّ اعتبارها أمراً دونياً يتعارض مع فروسية الشاعر وعلوِّ همَّته . إنه يُقدِّم نَفْسه كفارس مغوار يَقتحم المعارك والحروب ليس من أجل الغنيمة ، بل من أجل إثبات رجولته ، وشجاعته ، ونشرِ صِيته في المجتمع . وكأنه يقول : لستُ مُحارِباً من المرتزقة يَسعى إلى نيل مكاسب مادية ، بل أنا فارس مِقدام ، أقتحم الحروبَ لإثبات وجودي ومنزلتي الاجتماعية . فالحروبُ جزءٌ من حياتي ، وإحدى أبعاد شخصيتي ، وليستْ منفعةً مادية دونية .
     يقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :
يُخْبِركِ مَن شَهدَ الوَقيعةَ أنـني          أغْشَى الوَغَى وأعفُّ عِندَ المغْنَمِ
     يخاطبُ الشاعرُ المرأةَ التي يَحرص على إثبات رجولته وفروسيته أمامها ، ويريد نيلَ إعجابها. فلم يجد أفضل من الافتخار بأدائه في عالَم الحرب التي تعكس طبيعةَ شخصيته الفحولية الحاملة لقيم الفروسية والشجاعة .
     إنه يُعطيها مفتاحَ شخصيته ، وطريقةَ معرفة صفاته . وذلك بقوله : إن سألتِ الفرسان عن حالي في الحرب يُخبرك مَن حضر الحربَ ( الوقيعة ) بأني فارس شجاع عالي الهمَّة، أقتحم الحربَ بلا خوف ، وأعف عن اغتنام الأموال .
     والشاعرُ يَطلب منها أن تسأل الفرسان عن حاله ، ولكنْ بطريقة غير مباشرة . إنه يُرشدها إلى الطريقة التي يمكن بواسطتها أن تكتشف صفاته ، وتَعرف أفعالَه .
     وهذه الطريقةُ هي طرح الأسئلة على الفرسان الذين يخوضون الحربَ ، ويشاهدون شجاعةَ عنترة بأُم أعينهم ، فهُم شهود عيان . وليس مَن يَرى كمن يَسمع . وهذه الأسئلةُ ينبغي أن تتمحور حول دور عنترة في الحرب ، وإسهاماته . ولا شكَّ أن الحرب تَكشف عن معادن الرجال . ففي مَعمعةِ القتلِ والقتالِ ، يَظهر الفُرسان الحقيقيون ( أصحاب الأفعال ) ، ويَسقط الفُرسان المزيَّفون ( بائعو الكلامِ والشعاراتِ الرنانة ) .
     ولم يُرِد الشاعرُ _ في هذا السياق _ أن يَمدح نَفْسَه . وإنما أرادَ أن يأتيَ مدحُه من الآخرين ، فهذا أشد تأثيراً ، وأكثر مصداقيةً .
     وكأنه يقول : لا أُريد أن أمدحَ نَفْسي لئلا تعتقدي أني أُبالِغ ، أو أتصنَّع البطولاتِ ، أو أخترع الأمجادَ الوهمية . ولكنَّ الفرسان الذين يُشاهدونني في الحرب هُم الذين سيمدحونني بما فِيَّ ، ويُخبرونك _ إن قمتِ بسؤالهم عن حالي _ بأني أغشى الوغى ( آتي الحربَ )، وأترفع عن مَدِّ يدي للغنائم لأني كريم ذو همَّة عالية ، أَصون نَفْسي عن هذه المكاسب المادية الوضيعة .
12_ السَّبايا والأسرى :
     يَرتبط موضوعُ السبايا والأسرى بالحرب ارتباطاً وثيقاً . وهذا الموضوعُ الحساس يَحمل رموزاً تدل على القهر والانتصار ، كما تدل على الهزيمة والضياع .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
فآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا          وأُبْنا بالملوكِ مُصَفَّدِينا
     هذا البيتُ الثوريُّ يختزل معاني الحماسة والفخر والأنفة . وفي ذات الوقت يَحمل معنى التهكم والسخرية بالأعداء. فالأعداءُ ( بنو بكر ) قد رَجعوا بالغنائم   ( آبوا بالنهاب ) وبالسبايا . أمَّا قومُ الشاعرِ فكانوا أصحاب همَّة عالية ، لم يَرضوا بالغنائم والسبايا ، لأن طموحَهم أعلى من ذلك بكثير ، فَرجعوا بالملوك مقيَّدين     ( مُصفَّدين ) .
     والشاعرُ لا يتحدث عن حرب بين قَوْمه وبين بني بكر . وإنما يتحدث عن أُسلوبَيْن مختلفَيْن في الحروب . فحروبُ بني بكر مع أعدائهم تنتهي بأخذهم الغنائم والسبايا، أمَّا قومُ الشاعر فعندما يَخوضون حروبَهم فإنهم يَعودون بالملوك مأسورين.
     وهنا تبرز مقارنة غاية في الأهمية ، تهدف إلى رفع مكانة قوم الشاعر ، وتحطيم صورة الخصوم. فالأعداءُ ( بنو بكر ) كانوا أصحابَ همم متواضعة ، وطموح متدني يدل على مكانتهم الوضيعة ، إذ إنهم يَحرصون على المنافع المادية ( الغنائم ) ، وسبي النساء. أمَّا قومُ الشاعر فلم يَرضوا بأقل من الملوك ( رؤوس الناس وقادتهم )، وهذا يشير إلى عُلو هِممهم ، ومكانتهم السامية ، ومجدهم الرفيع .
     لقد اغتنم الأعداءُ الأموالَ ورضوا بذلك، أمَّا قومُ الشاعر فأسَروا الملوكَ . ولا رَيْبَ أن الأموال يمكن تعويضها ، أمَّا الملوك فلا يمكن تعويضهم أبداً. وإذا سقطَ الملوكُ ( أصحاب أعلى سُلطة ) فقد سقطَ كلُّ شيء . وإذا زالَ الرأسُ وقعَ الجسمُ إلى الأبد ، فلا يمكن النهوضُ من جديد ، ولا توجد أيةُ فرصة للتعويض .
     ويقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
لَيَسْتَلِبُنَّ أفراساً وَبِيضـاً          وأسْرَى في الحديدِ مُقَرَّنينا
     إن هذا البيت الشعري يمثِّلُ منظومةً من الفخر وإعلاء شأن القبيلة ، ويجسِّدُ نظاماً حماسياً معتمداً على الشموخ والاستعلاء والحَمِيَّة الجاهلية ، ويشيرُ إلى المكانة الرفيعة لقبيلة الشاعر المنتصرة ، والمنزلةِ الدونية للأعداء المهزومين .
     يقولُ:ليستلب خيلُنا أفراسَ الأعداء وبِيضهم وأسرى منهم قد قُرنوا في الحديد.
     والاستلابُ يدل على سرعة الأخذ والخطف. فهذه الخيلُ التي يَمدحها الشاعر _ لأنها خيلُ قَوْمه _ ستخطف أفراسَ الأعداء وبِيضهم بسرعة شديدة . مما يدل على قوتها الشديدة، كما يدل على شراسة الحرب ، وكثرة القتل ، وارتفاع وتيرة القتال . فهذا النمطُ السريع في الحرب المتكون من الفعل ورد الفعل ، يشيرُ إلى صعوبة الموقف ، وشدةِ القتال . وبالتالي ، ليس غريباً أن يَكثر القتلى والأسرى ، وتكثر الخسائرُ ، وتزداد أعدادُ الضحايا . ويَكشف البيتُ الشِّعري عن صورة الأسرى الذين قُرنوا في الحديد. إنهم مُقيَّدون بأغلال حديدية قاسية، تشل حركتَهم، وتجعل منهم كائناتٍ عاجزة لا حَوْل لها ولا قوة . وهذه هي الضريبةُ القاسية التي يجب دفعُها في الحرب .
     ويقولُ الشاعرُ الحارث بن حِلِّزَة :
ثُمَّ مِلْنا على تميمٍ فأحْرَمْنا          وَفِينا بَناتُ قَوْمٍ إمَــاءُ
     إن موضوعَ السبايا ( الإماء ) ذو أهمية بالغة في الفكر الحربي ، لأنه تجسيد للغَلَبة والقهر والانتصار . كما يدل على إهانة الأعداء ، ووصمهم بالعار الأبدي . فالمرأةُ هي شرفُ العائلة، وطهارةُ القبيلة، وإذا سُبِيت فإنه أمجاد القبيلة ستتهاوى ، وتَسقط سُمعتها في الوحل . وعندئذ تُحشَر القبيلةُ في زاوية الخزي والعار والهزيمة .
     يتناول الشاعرُ موضوعَ الإغارة على الأعداء ( بني تميم ). إنه يَفتخر بمهاجمتهم وغَزْوهم. لقد أخذوا رُوحَ المبادَرة فهاجَموا الأعداءَ، وهُم بذلك قد صَنعوا الفعلَ ، ولم يَصنعوا ردةَ الفعل. ثم أحرَموا ( دخلوا في الشهر الحرام ) . ومعروفٌ أن الشهر الحرام له مكانة سامية في الجاهلية والإسلام على حَدٍّ سَواء ، فَيَحْرم فيه القتال . وعربُ الجاهلية كانوا ملتزمين بِحُرمة الأشهر الْحُرُم ، لأنها عقيدة دينية ، وجزء من تراثهم الاجتماعي التاريخي . ودخولُ الشهر الحرام كان حَدَّاً فاصلاً بين مرحلَتَيْن   ( غزو الأعداء / إيقاف عملية الغزو ) . 
     إذن ، لقد أوقفَ الشهرُ الحرامُ عمليةَ الإغارة . وكان عند قوم الشاعر سبايا القبائل قد استخدموهنَّ . وبناتُ الذين أغاروا عليهم صِرْنَ إِماء ( سبايا ) .
13_ خيل الحرب :
     لا يمكن تجاهلُ أهمية الخيل في الحرب . فالخيلُ هي الركيزةُ الأساسية في عملية القتال ، والقوةُ الدافعة التي تَبعث الحيويةَ في نفوس المقاتِلين . وبدونها ، سَتنهار شجاعةُ المقاتِلِين، ويصبحون أشخاصاً عاجزين، لا قوة تسندهم، وسيجدون أنفسهم مشلولين في الحرب ، يَغرقون في مستنقع الهزيمة العميق .
     يقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :
والخيْلُ تقتحمُ الخَبارَ عَوَابساً         من بينِ شَيظَمَةٍ وآخَرَ شَيْظَمِ
     يصفُ الشاعرُ الخيلَ في هذه الحرب المشتعلة. إنها تقتحمُ الخبارَ( الأرض اللينة)، وتجري بصورة جنونية . وهذا يُنبِئ عن شراسة الحرب ، وأن القتال على أَشُدِّه . وهذه الخيلُ التي تَعدو في الأرض اللينة لا بد أن تَغوص قوائمها في الأرض بصورة شديدة، وبالغة الصعوبة . فالأرضُ اللينة عاجزة عن حمل قوائم الخيل الجارية بسرعة هائلة . وعندما تغوص قوائمُ الخيل في الأرض ، فلا بد أن تَشعر بالتعب وعدم الراحة ، وهذه المشاعرُ القاسية ستنعكس على وجوهها ، فتصبح عابسةً لِمَا نالها من الإرهاق الشديد. فالتعبُ الذي يُصيب الأعضاء لا بد أن تنعكس آثارُه على الوجه.

     ويَحرص الشاعرُ على إضافة وصف جديد للخيل لتكتمل صورتها المعبِّرة ، وترسخ خصائصها في النفوس . وهذا الوصفُ هو ( الشيظم ) ، ويعني الطويل من الخيل . وهي لا تَخلو من فرس طويل أو طويلة ، أي كلها طويلة .