حقيقة القرآن والرد على الجاحدين
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
.....................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
https://www.facebook.com/abuawwad1982
.....................
قال الله تعالى : } أفلا يتدبَّرون
القرآنَ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً { [ النساء : 82] .
فالقرآنُ هو كلام الله، لا يمكن الوقوف على
عظمته إلا بفهم معانيه والغوص في دلالات آياته. ولو كان القرآنُ من تأليف بَشر كما
يزعم الكافرون لوجدوا فيه تناقضاتٍ شديدة ، وخليطاً من الحق والباطل ، وأخباراً
متضاربة . ولكنَّ القرآن _ لأنه من عند الله _ مُنَزَّهٌ عن الخطأ والتناقض
والكذب. كما أن كلام البشر إذا طال سيضعف مستواه اللغوي والفكري ، أما القرآنُ
فليس فيه إلا البلاغة والبيان سواءٌ كانت السورة طويلة أم قصيرة . وكلُّ آياتِ
القرآن يُصَدِّق بعضُها بعضاً ولا يَهدم بعضُها بعضاً . كما أن القرآن خالٍ من
الاختلاف والتعارض .
(( ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسُّوَر
، لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع ، وهذا شأن كلام البشر
، لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع
إلا القليل النادر )) {(1)}.
فالقرآنُ الكريم تختلف سُوره وآياته في
مقدارها والمواضيعِ التي تتحدث عنها ، والأحكامِ الواردة ، وهذا كلُّه لا علاقة له
بالتناقض . إنما هو دليل إعجاز القرآن وتلائمه مع كل زمان ومكان رغم ما فيهما من
متغيرات وأحوالٍ مستجدَّة واختلافِ طبائع الناس وأجناسهم وبيئاتهم . والقرآنُ الذي
قَدَّم الحلولَ النافعة للبشرية لأكثر من أربعة عشر قرناً ، قادرٌ أن يُقدِّم الحلولَ
حتى يوم القيامة . فهو الكتابُ الإلهي الكامل المعصوم المحفوظ الخالي من التناقض
والأخطاء . وإذا اعتمده المسلمون دستوراً حياتياً واقعياً فإن حياتهم ستتغير
للأفضل كما تغيرت حياة أسلافهم ، ولن تَصلح هذه الأُمَّةُ إلا بما صَلح به أوَّلها
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وإنما
نزل كتابُ الله يُصَدِّق بعضُه بعضاً ، فلا تُكذِّبوا بعضَه ببعض، فما علمتُم منه فقولوا
، وما جهلتُم فكلوه إلى عالمه )){(2)}.
وفي صحيح مسلم ( 4/ 2053 ) : أن عبد الله بن
عمرو _ رضي الله عنه _ قال : هَجَّرْتُ _ أي بَكَّرْتُ_ إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوماً . قال : فسمع أصوات رَجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يُعرَف في وجهه الغضب،فقال: (( إنما هَلَكَ مَن كان قبلكم باختلافهم
في الكتاب)).
وهذا الاختلاف المحذور هو الاختلاف في
الأصول التي لا تَقبل النقاش ، ولا تقبل الاجتهادَ بسبب كَوْنها ثوابت غير مطروحة
للحوار ، ويشمل الحظرُ الاختلاف المؤدي إلى الفتن وتشكيكِ الناس في دينهم ،
وتأجيجِ العداوات بينهم . أما الاختلاف في تفسير بعض الآيات ظَنِّية الدلالة فهذا
لا يدخل في باب الاختلاف في الكتاب. فالأفهامُ تتفاوت ولا بد أن تختلف ، ولكن
الاختلاف يكون في استنتاج الفروع من الأصول ، ولا يكون الاختلاف على الأصول .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 218
) : (( وأما الاختلاف في استنباط فروع الدِّين منه _ أي من القرآن _ ، ومناظرة أهل
العلم في ذلك على سبيل الفائدة ، وإظهار الحق واختلافهم في ذلك فليس منهياً عنه ، بل
هو مأمور به وفضيلة ظاهرة . وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن ، والله
أعلم )) اهـ .
وقال الله تعالى : } لو أَنزلنا هذا
القرآنَ على جبلٍ لرأيتَه خاشعاً مُتصدِّعاً من خشية الله { [ الحشْر: 21].
فالقرآنُ العظيم لو أُنزِل على جبل _ رغم
قسوته وضخامة حجمه _ لاهتزَّ وتصدَّع وصار ذليلاً خاضعاً لكلام الله تعالى لما فيه
من الحكمِ البليغة ، والفصاحةِ العظمى ، والبيانِ الجليل ، والبشارةِ الكبرى ،
والإنذارِ المخيف ، وخوفاً من عدم القيام بحق القرآن المتمثل في فهمه وتعظيمه
وتطبيقه. فعلى المرء أن يستوعب هذا المعنى العظيم من أجل تعميق كتاب الله في قلبه
فهماً وحفظاً، ويسعى _ قدر المستطاع _ إلى جعل الآيات القرآنية واقعاً عملياً لا
حِبراً على الورق فحسب ، فالقرآن لم يجيء ليوضع على الرفوف .
وقال الطبري في تفسيره ( 12/ 51) : (( يقول
_ جَلَّ ثناؤه _ : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل وهو حجر لرأيته يا محمد خاشعاً ، يقول
: متذلِّلاً متصدِّعاً من خشية الله على قساوته حذراً من أن لا يؤديَ حَقَّ الله المفترَض
عليه في تعظيم القرآن ، وقد أُنزل على ابن آدم ، وهو بحقه مستخف ، وعنه عما فيه من
العِبر والذِّكر مُعرِض ، كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً )) اهـ .
وقال الله تعالى : } ولقد يَسَّرْنا
القرآنَ للذِّكْر {[ القمر : 17] .
فالقرآنُ تم تيسيره للحفظ والفهم والتطبيق
الواقعي دون تعقيدات . فهو مقروءٌ في الكتب ، ومحفوظٌ في الصدور ، ومنتشرٌ بسهولة
على الألسنة .
وفي الحديث القُدسي الذي رواه مسلم( 4/ 2197
): أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( وأَنزلتُ عليكَ كتاباً لا يغسله الماءُ تقرأه
نائماً ويقظان )) .
والمعنى : إن القرآن الكريم محفوظٌ في
السطور والصدور على مر الأزمنة، لا يمكن إزالته أو استئصاله أو التلاعب به ،
وقراءته مُيَسَّرةٌ وسهلة في كل الأوضاع .
وقال الله تعالى : } نزَّل عَلَيْكَ
الكتابَ بالحق مُصدِّقاً لما بين يَدَيْه وأَنزل التوراةَ والإنجيلَ { [ آل عمران : 3] .
فاللهُ تعالى نزَّل القرآنَ الكريم على
النبي صلى الله عليه وسلم بالحق والعدل والصدق وبالحجج الساطعة مُصَدِّقاً للكتب
السابقة التي أنزلها اللهُ تعالى كالتوراة والإنجيل . وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أن
مصدر الكتب السماوية واحدٌ ، وأن الأنبياء كلهم يدٌ واحدة جاؤوا بالتوحيد بأمر
الله تعالى الذي أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور . كما أن هناك إشارة
بليغة إلى صدق الرسالة المحمَّدية الإسلامية . فلو كان القرآنُ من تأليف إنسان
يسعى لنيل مصالح دنيوية لما ذَكر التوراةَ والإنجيل خوفاً من تفرق أتباعه عنه .
لكن النبي صلى الله عليه وسلم الأمين يُبَلِّغ كلامَ الله تعالى كما أُنزِل دون
زيادة أو نقصان ، فقد جاء مُصَدِّقاً لموسى وعيسى _ عليهما الصلاة والسلام _ ، ولم يطمسهما
أو يتجاهل ذكرهما أو يحاول رفع مكانته عبر الانتقاص منهما، كما يفعل الكثير من المؤلِّفين
الذين يطمحون إلى رفع منازلهم عبر التهجم على منافِسيهم . مما يشير إلى أن القرآن
ليس من كلام المؤلِّفين المتنافِسين على حطام الدنيا ، كما يشير إلى إخلاص النبي
صلى الله عليه وسلم في تبليغ الكلام الإلهي حرفياً .
3_ محاججة المنكِرين
الجاحدين :
إن الله تعالى قد أقام الْحُجَّةَ على خلقه
بإنزاله الكتب السماوية على رُسُله الكرام_عليهم الصلاة والسلام_. والقرآنُ الكريم
هو الكتاب الخاتَم الناسخ لما قبله، وقد وردت فيه آياتٌ كثيرة في محاججة المنكِرين،
والرد عليهم ، ودحضِ باطلهم ، وتفنيدِ شبهاتهم . وهذه الآيات تخاطب العقلَ بما
يَمكن إدراكه. فاللغةُ القرآنية في الرد على المخالِفين لغةٌ راقية تُقَدِّم
الدلائلَ الواضحات، وليست لغةً فلسفية محصورة في عالم الأخيلة والافتراضات
اللامنطقية ، كما أن المنهج القرآني في دحض شبهات المخالِفين ليس سِباباً أو
صراخاً أو جعجعةً بلا طحن . إنه منهجٌ إلهي متكاملٌ يملك الْحُجَّةَ الناصعة ،
ومشتملٌ على معرفة النفس البشرية وما يصلحها وما يفسدها . فاللهُ تعالى مُنْزِلُ
القرآن هو خالق الإنسان وأعلم به منه ، ويعلم _ سبحانه وتعالى _ طريقةَ تفكير
البشر ، وطبيعةَ شهواتهم وشبهاتهم ووساوسهم .
وقد أورد القرآنُ شبهاتِ الخصوم وفَنَّدها ،
وقَدَّم الدلائلَ الباهرة على وحدانية الخالق تعالى وصدقِ الرسالة ، وكل هذا بلغة
قرآنية سامية تعلو ولا يُعلَى عليها .
وقد تحدى اللهُ تعالى المرتابين في القرآن
والشَّاكين فيه أن يأتوا بسورة من مثله ، لكنهم عجزوا عن ذلك . وهذا التحدي مستمرٌ
حتى يوم القيامة .
قال الله تعالى : } وإن كُنتم في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا على عبدنا فأتوا بسورة من
مثله وادعوا شُهداءكم من دون الله إن كُنتم صادقين {[ البقرة : 23] .
وهذا التحدي للمشركين الطاعنين في القرآن الكريم
أن يأتوا بسورة من مثله في حسن النظم ، والفصاحةِ اللغوية ، والبيانِ الباهر ،
ويستعينوا على هذا الأمر بأعوانهم وفصحائهم وآلهتهم من دون الله تعالى .
ولو كان المشركون الطاعنون في القرآن صادقين
في دعواهم لقدَّموا براهينهم التي تَدحض حُجَّةَ القرآن الباهرة . وبما أنهم لم
يَفعلوا ولن يَفعلوا ، فهذا مؤشر على عجزهم ، وانكسارهم أمام البرهان القرآني
الساطع ، وما عليهم إلا التسليم بأن مصدر القرآن هو السماء لو كانوا يريدون الحق
بلا أهواء شخصية .
ولا يخفى أن العرب هُم أهل الفصاحة والبيان
والتبحر في اللغة العربية وأسرارها ، فإن عجزوا عن تحدي القرآن، فغيرهم _
بالتأكيد_ سيكونون أكثر عجزاً . فإذا فشل القويُّ في إتمام عملٍ ما ، فلن ينجح فيه
الضعيف .
وقال الطبري في تفسيره ( 1/ 200) : (( وإن كنتم
أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابَيْن في شك _ وهو الرَّيب _، مما نَزَّلنا
على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان : أنه من عندي
، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ، ولم تصدِّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجَّة
تدفع حُجَّته ، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة : أن يأتيَ
ببرهان يعجز عن أن يأتيَ بمثله جميع الخلق ، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه
، وبرهانه على حقيقة نبوته وأن ما جاء به من عندي ، عجز جميعكم وجميع من تستعينون به
من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله ، وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة
في الفصاحة والبلاغة والذرابة _ حدة اللسان _ فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من
ذلك أعجز )) اهـ .
قال الله تعالى : } ويقول الإنسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخرَج حَيَّاً ( 66) أولا
يذكر الإنسانُ أنَّا خلقناه من قبل ولم يَكُ شيئاً ( 67 ) { [ سورة مريم ] .
ويُقدِّم القرآنُ الْحُجَّةَ الساطعة على
حقيقة البعث. فالإنسان الذي يتساءل مستنكِراً ومستبعِداً أن يُبعَث بعد موته ،
جاءته الْحُجَّةُ الباهرة بأن الذي أوجد الإنسانَ من العَدَم قادرٌ على إعادته .
(( قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق
على إيراد حُجَّة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذ لا شك أن الإعادة
ثانياً أهون من الإيجاد أولاً )) {(3)}.
وفي صحيح البخاري ( 4/ 1903 ) : عن أبي هريرة
_ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( قال اللهُ : كَذَّبَني ابنُ
آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني
كما بدأني ، وليس أولُ الخلق بأهون عليَّ من إعادته ... )) .
فالبعثُ ثابتٌ نقلاً وعقلاً . وقد خاطب
اللهُ تعالى الناسَ بما يَعقلون، فذكر _ سبحانه _ أن البعث أهون وأيسر من بدء
الخلق _ وفق التفكير الإنساني _ . أمَّا اللهُ تعالى فكل شيء عنده هَيِّنٌ فلا
يعجزه شيء ، ولا تتفوق على قدرته _ سبحانه _ أية قدرة . فالبداءةُ والبعثُ أمران
خاضعان لقضاء الله تعالى ومشيئته . } وإذا قَضى أَمراً
فإنما يقول له كُن فَيَكون { .
وقال الله تعالى : } وقالوا لولا أُنزِل
عليه مَلَكٌ ولو أَنزلنا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمرُ ثم لا يُنظَرون { [ الأنعام : 8] .
ويخبر اللهُ تعالى عن عناد المشركين وجهلهم
، فقد اقترحوا _ بكل جحود _ إنزال مَلَك على النبي صلى الله عليه وسلم ليكون معه
نذيراً ومُسانِداً . وهذا مما يتذرع به المشركون ، حيث يخترعون الأشياءَ من بنات
أفكارهم بسبب عجزهم عن مقارعة الْحُجَّة بالْحُجَّة . فينتهجون هذا الأسلوب العقيم
الذي يُنبئ عن جهل وعناد وفكرة مسبقة رافضة للإيمان مهما حصل من معجزات. لذلك
تراهم يبحثون عن أمور غير منطقية ، ويحاولون إلباسها ثوب المنطق ومقارعة الدليل
بالدليل .
لكنَّ الرد الإلهي لا يتأخر في دحض باطلهم ،
فلو أُنزِل مَلَكٌ لما أطاقوا رؤيته لعظمته وهَيْبته ومنظره العظيم، أو أن العذاب
سيأتيهم عاجلاً بلا تأخر ، وعندئذ لا يُمهَلون ، ولا يُمنَحون فرصةً للتوبة .
وفي زاد المسير ( 3/ 8) : (( قال مقاتل : نزلت
_ أي الآية _ في النضر بن الحارث وعبد الله ابن أبي أمية ونوفل بن خويلد . ولولا بمعنى
هَلا أُنزل عليه ملك نصدِّقه ، ولو أنزلنا مَلكاً فعاينوه ولم يؤمنوا لقضي الأمر ،
وفيه ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى لماتوا ولم يُؤخَّروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن
عباس . والثاني : لقامت الساعة ، قاله عكرمة ومجاهد . والثالث : لَعُجِّل لهم العذاب،
قاله قتادة )) اهـ .
ويتواصل الرد على الكافرين . وهذه المرة
يدحض القرآنُ باطلَ أهل الكتاب ، ويُفحِمهم فلا يقدرون على الرد .
قال الله تعالى : } وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فَلِمَ
يُعذِّبكم بذنوبكم { [ المائدة : 18] .
وهذا الرد البليغ على غرور أهل الكتاب (
اليهود والنصارى ) الذين زعموا أنهم أبناء الله تعالى ، أي إنهم عباده المخلَصون
الذين اختارهم وفضَّلهم على الخلق ، وأحبابُه وصفوته من بين الناس . وهذا الزعم
الباطل تهاوى أمام الرد القرآني ، فإن كانوا _ كما يزعمون _ فلماذا أعدَّ اللهُ
لهم نارَ جهنم خالدين فيها جزاء كفرهم وكذبهم ورفضهم للرسالة المحمَّدية الإسلامية
المصدِّقة لما قبلها من الرسالات السماوية ؟ .
وفي الآية معنى لطيفٌ أن الله تعالى لا
يُلقِي حبيبَه في النار ، فلو كان اليهود والنصارى أحباباً لله تعالى لما عَذَّبهم
، بل حماهم من الجحيم ومنحهم الجنةَ .
وفي الدر المنثور للسيوطي ( 3/ 44) : [ أخرج
ابن إسحق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن
عباس قال : (( أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أُبَي، وبحري ابن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلَّمهم
وكلَّموه ، ودعاهم إلى الله ، وحذَّرهم نقمته ، فقالوا : ما تُخوِّفنا يا محمد ، نحن
والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى )) ] ، فأنزل الله فيهم : } وقالت اليهودُ
والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فَلِمَ يُعذِّبكم بذنوبكم { .
إن هذا الغرور والاستعلاء والتحدث بكل
عنجهية وفَوْقية ، كل هذه الأمور تُعتبَر حواجز مانعة لوصول الحق . فالإنسانُ
الصادق في طلب الحق ، ينبغي أن يَطلبه في كل زمانٍ ومكان بأدب واستعداد نَفْسي
لتقبُّله . أمَّا اتخاذ موقف استعلائي مسبق ، فسوف يؤدي قطعاً إلى رفض الحق سواءٌ
ظَهر أم لم يَظهر . وهذا هو دَيْدن اليهود في كل العصور الذين يَنظرون إلى أنفسهم
على أنهم صفوة الله من خَلْقه ، وشعبه المختار ، وأن الآخرين مجرد عبيد ورعاع
وأصحاب منزلة دونية .
وعن أنس_رضي الله عنه_ أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال:(( واللهِ لا يُلقِي اللهُ حبيبَه في النار )){(4)}.
فاللهُ تعالى إذا أحبَّ عبداً حماه من كل
سوء ، ووفَّقه لفعل الخيرات حتى يقبضه طاهراً مُطَهَّراً ، ثم يدخله الجنةَ ، ولا
يجعل النارَ تأكل جسدَه .
وقال الله تعالى في الرد على اليهود أصحابِ
الْحُجَج الواهية : } قُل إن كانت لكم الدارُ الآخِرة عند الله خالصةً من دون الناس
فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين {
[ البقرة : 94] .
وهذه الآية فَضحت اليهودَ وكَشفت عن دواخلهم
الممتلئة بحب الدنيا وكراهية الموت . فإن كان جزاءُ اليهود الجنةَ في الآخرة
فليتمنُّوا الموتَ ، وملاقاةَ الله تعالى لكي يكافئَهم بالنعيم الأبدي ، فيرتاحوا
من عناء الدنيا . لكنهم يعلمون أن مصيرهم إلى العذاب فيهربون من الموت _ حسب
نظرتهم القاصرة _، ويتشبثون بالدنيا بأسنانهم وأظافرهم لعلمهم بما ينتظرهم بعد
الموت من العقوبة الشديدة . وروى أحمد في مسنده ( 1/ 248 ) عن ابن عباس _ رضي الله
عنهما _ قال : (( ... ولو أن اليهود تمنُّوا الموتَ لماتوا ، ورأوا مقاعدهم في النار
)) .
وفي تفسير ابن كثير ( 1/ 178 )وصحَّحه، عن
عكرمة في قوله تعالى: } فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين { قال : قال ابن عباس :
(( لو تَمَنَّى يهودٌ الموتَ لماتوا )) .
والأسلوبُ القرآني في المحاجَجة يتضمن الرد
على الوثنيين المؤمنين بتعدد الآلهة رداً مُفحِماً ينتشل العقلَ من مستنقع الوهم ،
ويزرعه في نور الهداية .
قال الله تعالى : } قُل لو كان معه آلهةٌ كما يقولون إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش
سبيلاً { [ الإسراء : 42] .
فلو كان هناك آلهةٌ _ على حد زعم المشركين _
لقامت هذه الآلهة بمنافسة الله تعالى ، ومحاولةِ انتزاع مُلْكه _ كما يحصل بين
ملوك الأرض _ . أو لقامت هذه الآلهة بالسعي لنيل رضا الله تعالى لأنها دونه . وبما
أنها محتاجة ، إذن، فهي ليست آلهة. وهذا الرد الباهر المفحِم الموجَز يخاطب عقولَ
الناس بشتى مستوياتهم الفكرية ، فهو متوافق مع الفطرة السليمة والعقلِ الطبيعي .
فلم يُقدِّم القرآنُ رداً فلسفياً مُعقَّداً ، ولم يجيء بأنواع الشتائم للمشركين .
وإنما عرض الدليلَ الواضح على وحدانية الله تعالى وبطلانِ فكرة تعدد الآلهة . وهذا
يشير إلى عظمة القرآن ، وقوةِ حُجَّته المضيئة التي لا يمكن مواجهة نورها بأية
وسيلة من الوسائل . فالحق يعلو ، والباطلُ يذهب أدراج الرياح .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير ( 5/ 38 ) :
(( قوله تعالى : } إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً { فيه قولان : أحدهما
لابتغوا سبيلاً إلى ممانعته وإزالة مُلكه ، قاله الحسن وسعيد بن جبير . والثاني : لابتغوا
سبيلاً إلى رضاه لأنهم دونه ، قاله قتادة )) اهـ .
وقال الله تعالى : } لو كان فيهما آلهةٌ
إلا اللهُ لَفَسَدَتَا {[ الأنبياء : 22] .
فلو كان في السماوات والأرض آلهةٌ غير الله
تعالى لفسد نظامُ الكَوْن ، واختلَّ الوجودُ ، وذلك لما يحدث بينها من تنازع وتضاد
ومنافسة . فلا يوجود مَلِكان في دولة واحدة ، ولا يوجد جسدٌ برأسَيْن {(5)}.
وقال البغوي في تفسيره (
1/ 314 ) : (( لخربتا وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين
فأكثر لم يجر على النظام )) اهـ .
........الحاشية.............
{(1)} فتح القدير للشوكاني ( 1/ 741 ) .
{(2)}رواه أحمد في مسنده مرفوعاً (2/ 185)برقم( 6741 )،وحسَّنه العراقي
في تخريج الإحياء( 2/ 285).
{(3)} الفخر الرازي ( 21/ 241 ) نقلاً عن صفوة التفاسير للصابوني (
8/ 48 ) .
{(4)} رواه الحاكم في المستدرك ( 4/ 195) برقم ( 7347 ) وصحَّحه ،
ووافقه الذهبي .
{(5)} قال الصابوني في صفوة التفاسير ( 9/ 7) : (( قال المفسرون : في الآية
دليلٌ على التمانع الذي أورده الأصوليون ، وذلك أنَّا لو فرضنا إلهين فأراد أحدهما
شيئاً وأراد الآخرُ نقيضَه ، فإما أن تُنفَّذ إرادة كل منهما وذلك محال لاستحالة
اجتماع النقيضَيْن ، وإما أن تُنفَّذ إرادة واحد منهما دون الآخر، فيكون الأولُ
الذي تُنفَّذ إرادته هو الإله ، والثاني عاجزٌ فلا يصلح أن يكون إلهاً )) .