الخمر في شعر المعلقات
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة رأي اليوم ، لندن ، 24/2/2017
.................
لا يمكن تجاهل مركزية
الخمر في المجتمع الجاهلي إطلاقاً ، فهي متغلغلة في أدق تفاصيل الحياة الوجدانية
والاجتماعيةِ ، وتَملك حضوراً أساسياً في الشِّعر والتراثِ .
لذلك نرى الشُّعراءَ يتسابقون على ذِكرها، وتخليدها في قصائدهم، واستحضار
الأجواء المحيطة بها . وبالطبع ، فكلُّ شاعرٍ يَرى الموضوعَ من وُجهة مُعيَّنة .
كما أن الخمر ذات علاقة متشابكة مع تفاصيل الحياة، فهي مرتبطة بالحزن والفرح ،
وذات ارتباط وثيق بالعلاقات الغرامية ، وتؤثِّر على طبيعة العلاقات الاجتماعية .
وإننا لنجدُ معانٍ متعددة في شِعر المعلَّقات تدور حول الخمر . وكما
أسلفْنا ، فإن كل شاعر يَرى الخمر من منظوره الشخصي ، واستناداً إلى مرجعيته
الفكرية ، وخَلْفيته الاجتماعية ، وطبيعته العاطفية .
فيبرزُ موضوع المسارعة إلى شُرب الخمر ، وكأن هناك سِباقاً مع الزمن . كما
تَبرز الطبيعة المادية للخمر ، وكَوْنها تُزيل العطشَ ، وتَروي الإنسانَ . ويتَّضح
تأثيرُ الخمر في سَيْر العلاقات الاجتماعية ، وتهديدها للروابط الأُسرية . ولا
يمكن نسيان موضوع وصف الخمر ، والافتخار بها ، والتنقيب في ماهِيَّتها المعنوية
والمادية .
وتَظهر تأثيراتُ الخمر في أنساق الحياة . فالخمرُ تُنسي الهمومَ ، وتُزيلَ
الأحزانَ، وتُعطي العقلَ إجازةً مفتوحة ، مما يُسبِّب السعادةَ للإنسان ، حتى لو
كانت سعادةً خادعةً ووَقْتيةً زائلة . وكما قيل : استراحَ مَن لا عقل له .
كما أن الخمرَ يتم تقديمها كرمز للكَرَم ،
وإنفاقِ المال . وهذا يَنفي عن شاربها صفةَ البُخل والحرص على المال ، ويُلمِّع
صورته بين أقرانه ، فَيَظْهر كريماً جَوَاداً ، لا يُقيم للمال وَزناً ، وإنما
يَعيش حياته بالطُّول والعَرْض بكل سلاسة ، وبلا عُقد .
وتبرزُ ثنائية ( الخمر / المدن ) . حيث يَظهر
الحرصُ على تخليد الأماكن التي استمتع فيها الشاعرُ وهو يَشرب الخمر ، ويُجيل بصره
في تفاصيل الطبيعة .
1_ المسارَعة إلى الشُّرب :
الشاعرُ في سِباق مع الزمن . إنه يَفِرُّ إلى شُرب الخمر بأقصى سُرعة ممكنة
، ليقبضَ على لحظة اللذة ، ونشوةِ السعادة ، وتوهُّجِ المتعة ، ويُغلِق الطريقَ
أمام خصومه ولائميه . لا يريد أن يَترك شيئاً للصُّدفة . كلُّ الحساباتٍ دقيقةٌ ،
وكلُّ الطُّرق تؤدي إلى شُرب الخمر .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد
:
فَمِنْهُنَّ سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
إحدى الصفات التي يَحرص
عليها الشاعرُ ، أن يَسبق العواذلَ ( اللائمين ) بِشَرْبة من الخمر . إِنهُ يَشرب
الخمرَ قبل سماع لَوْم اللائمين ، وعِتابِ الخصوم. وبذلك يَكون قد سَبَقهم،
وَسَدَّ الطريقَ عليهم ، وأغلقَ البابَ في وجوههم . وهكذا يُحقِّق رَغبته رغم
أنوفهم ، ويَحصل على مُراده رغم معارضتهم ، ويَفرض أسلوبَ حياته عليهم . فلا أحدٌ
قادر على مَنعه من تحقيق مُبتغاه، ولا أحد قادر على إيقافه . وهكذا يُعلِن انتصاره
عليهم .
وبعد نجاحه في الوصول إلى
حبيبته الخمر رغم أنف العواذل ، يَسْبح في عوالم الخمر ، فيصف الشَّرْبةَ بأنها
كُمَيْت اللون ( بين الأسْود والأحمر ) . وهذه الشَّرْبةُ من الخمر عالَم قائم
بذاته ، لَوْنها يتوهج كما لو كان ضوءاً في آخر النفق . وهذا السَّوادُ الضارب
للحُمرة يمتصُّ قلبَ الشاعرِ وعقلَه ، ويُسيطر عليه بلا رحمة . لونٌ شديد الإغراء
، يَبتلع ذكرياتِ الشاعر ، فيرفع الرايةَ البيضاء مُسْتسلماً لعنفوان اللون
الوهَّاج . وهذه الشَّرْبةُ عندما يُصَبُّ الماء عليها تُزبِد ، وتَثور كالبركان
الذي كان خامداً ثم انبعثت فيه الحياة . تَقفزُ الفقاعاتُ على السطح الساحر
المغرِي ، وتَفور جُزيئات الخمر ، كأنها تنادي على الشاعر ، وتَسحبه إلى الأعماق
السحيقة .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن
أبي ربيعة :
باكرتُ حاجَتَها الدَّجاجَ بِسُحْرةٍ لأُعَلَّ مِنها حينَ هَبَّ نِيامُهــا
الهدفُ هو الخمر.
والطريقُ إليها ينبغي قَطْعُه بسرعة فائقة. فالأمرُ لا يَحتمل التأخير مُطْلقاً .
واللذةُ لا تَنتظر ، ولا وقت لانتظار الصباح . لذلك ، فالشاعرُ يَشرب الخمرَ قبل
صِياح الدِّيك. فهو يَأخذ الأمرَ على مَحْمل الجِد . وعندما تشتعل الشهوةُ في
كيانه، يهرع إلى تلبيتها بكل سُرعة بلا إبطاء، لكي يَقتنص لحظةَ المتعة ، ويأسر
وَقْتَ الفرح قبل أن يُفلِت من يَدَيْه ، ويَذهب إلى غير رَجعة .
لم يَقْدر الشاعرُ على
مقاومة الرغبة العارمة في شُرب الخمر ، والتي تلحُّ على عقله بكل شراسة، فباكرَ
الديوكَ لحاجته الشديدة إلى الخمر. إنهُ يُقاتِل على جَبْهتين، فهو يُسابِق الوقتَ
، ويُسابِق الديوكَ .
إن الخمرَ تَضغط على
أعصابه ، وتَسري مع دمه ، وتَدفعه دَفْعاً إلى شُربها ، فبادرَ إلى الخمر ، وتعاطى
شُرْبَها قبل أن يَصيح الدِّيكَ ، وذلك في فترة السَّحَر ( السُّحْرة ) . لقد سَبق
الشاعرُ صياحَ الديك لِيَشْربَ من الخمر بصورة متتابعة ( لِيَعُلَّ مِنها ). وهذا
الشربُ مرَّة بعد أخرى، يَكشف عن عَطَشه الشديد للخمر ، وإدمانه عليها ، وخضوعه
الكُلِّي لإغرائها . وقد بَقِيَ يَعُلُّ مِنها حين استيقظ نِيامُ السَّحر ( هَبَّ
نِيامها ). والجدير بالذِّكر أن الدجاج اسم للجنس يَعُمُّ ذُكورَه وإناثه.
2_ الخمرُ تزيل العطش :
يَغوص الشاعرُ في بؤرة
الخمر ، ويَعتبرها خَلاصَه النهائي الحاسم . فهو أرضٌ عَطْشى تَنتظر الرَّي ،
والخمرُ _ بالنسبة إليه _ هي المطر الذي سَيُحيي مشاعرَه القاحلة ، ويُنعِش قلبَه
الجاف ، ويَسقي مساحاتِ الظمأ في جسده الذابل . وهكذا تُصبح الخمرُ هي طَوْق
النجاة ، والفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حيــاته سَتَعْلمُ إنْ مُتْنا غداً أَيُّنا
الصَّدي
يَعتبر الشاعرُ الخمرَ
هي مركز الكَرَم ، وأن شُربها دليل على المنزلة الاجتماعية الرفيعة للشاعر . فهو
كريمٌ يُروِّي نَفْسَه في حياته بالخمر . وأيامُه مليئة بالشُّرب والسعادة ، حيث
إن الخمرَ تنقله إلى عوالم جديدة ، وتَبعث فيه الفرح والحبور ، وتُزيل عطشَه الملتهب
. إنهُ كريمٌ يُنفِق مالَه على شُرب الخمر بلا حساب ، ويَسقي جوارحَه الميتة
العطشى بقطرات الخمر ، كما تسقي حَبَّاتُ المطرِ الأرضَ الجدباء .
ثم يُخاطِبُ خَصْمَه
بنبرة واثقة : سَتَعْلم إن مُتنا غداً أيُّنا العطشان ( الصَّدي ) . إنها صيغة
التحدي النابعة من القناعة الذاتية ، والثبات على المبدأ . فمبدأُ الشاعر يتمحور
حول مركزية الخمر ، ودورها في إزالة الظمأ ، وبَعْثِ الحيوية والنشوة في القلب
والأعضاء . والشاعرُ على يقين تام بأن الخمرَ تَمنحه الدفءَ الوجداني ، والخلاصَ
في الحياةِ والموتِ ، وهو واثقٌ أنه يَموت ريَّان ، مُنتشياً بقطرات الخمر ،
ومُفعماً بالإشراق والحيوية كالأرض الخصبة التي سَقاها المطر ، أمَّا عاذله فيموت
عطشان ذابلاً كالصحراء التي لم تَعرف المطرَ .
3_ التأثير الاجتماعي للخمر :
للخمرِ تأثيرٌ سلبي على
العلاقات الاجتماعية ، والروابطِ الأسرية . فهي تُمزِّق النسيجَ المجتمعي،وتُفكِّك
الوشائجَ العائلية،وتَحصر الأفرادَ في دائرة الرِّيبة والشُّبهة ، كما أنها عاملٌ
أساسي في إضاعة المال الذي يُعتبَر العمودَ الفقري للجسم المجتمعي .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن
العبد :
وقالَ ألا ماذا تَرَوْنَ بشارِبٍ شَديدٍ عَلَيْنا بَغْيُهُ
مُتَعَمِّــدِ
القائلُ هو والد طَرَفة . فهذا الشخصُ قد
ضاق ذَرْعاً بتصرفات ابنه الطائشة . وها هُوَ يقول للحاضرين مُستشيراً لهم: ماذا
تَرَوْنَ أن نفعل بشارب الخمر ( ابنه السِّكير ) الذي كَثُرت خطاياه ، وازداد
ظُلْمه لنا ، واشتدَّ بَغْيُه علينا عن سبق الإصرار والتَّعمُّد ؟ .
لقد وَصلت الأمورُ إلى
نقطة اللاعودة ، وطَفَحَ الكَيْلُ ، وزادت الأشياءُ عن حَدِّها ، مما جعلَ الأبَ
في حَيرة من أمره، لذلك لجأ إلى أصحابه واستشارهم في شأن هذا الابن العابث قائلاً
: ما هي الوسيلة لمنع هذا السِّكير الذي ألحقَ بنا ضرراً فادحاً ، وأضاعَ أموالنا
مُتعمِّداً قاصداً ؟.
وهذا الضررُ لم يجيء
بشكل عَفوي أو بِحُسْن نِيَّة ، وإنما هو ضررٌ نابع مِن نِيَّة مُبَيَّتة ،
وإرادةٍ سابقة . وهو فِعْلٌ مقصود لا مكان فيه للعَفوية أو حُسْنِ النوايا .
لقد أدى شُرب الخمر
وإضاعة المال من أجلها إلى تمزيق العائلة ، وتفكيك رابطةَ المودة والرحمة بين
الابن وأبيه ، فبرز صراعٌ بين الأجيال مستند إلى اختلاف القيم . فالابنُ ( الشاعر
) يُتلِف المالَ من أجل شهوةٍ عابرة ، ونزوة رخيصة ، ومتعة زائلة ، ولا يَعرف
مصلحة نفْسه . أمَّا الأبُ فحريص على ابنه اللامبالي ، ويُريده رَجلاً فعالاً في
المجتمع يُشار إليه بالبنان ، يحافظ على اسم العائلة وممتلكاتها .
ويقولُ الشاعرُ طَرَفة
بن العبد :
وقالَ ذَرُوهُ إنما نَفْعُها لَـــهُ وإلا تكفُّوا قاصيَ البَرْكِ يَزْدَدِ
تعبَ الأبُ من سلوك ابنه
المنحرف ، وفقدَ الأملَ فيه تماماً ، فاستقرَّ رأيه على ترك ابنه وشأنه . يقول
الأبُ لأصحابه : اتركوا طَرَفة ( ذَروه ) ، إنما نفعُ هذه الأموال ( الإبل ) له ،
فهو ابني الذي يَرثني بعد مَوْتي ، وإلا تَمنعوا ( تكفُّوا ) هذه الإبل من
النُّفور والهروبِ ، يَزْدد طَرَفة مِن نَحرها . والبَرْكُ جماعةُ الإبل الباركة .
والقاصي البعيدُ . والمرادُ بقَوْله " قاصي البَرْك " : الإبل التي
هَربت ونَدَّت ونَفرت.
فقدَ الأبُ ثقته بابنه
بشكل كامل. فلا يوجد أيُّ احتمال لتغيير سلوكه العابث، ولا يوجد أيُّ أمل لعَوْدة
الابن إلى رُشده . لقد عجزَ عن إيجاد حَل لمشكلة ابنه المستعصية ، فاستسلم للأمر
الواقع مُكْرَهاً ، ورفعَ الرايةَ البيضاء بكل ألم .
وقرَّر أن يَترك ابنه
لِيُواجِه مصيره المحتوم . فهذه الأموال ( الإبل ) التي يُضيِّعها ابنه للإنفاق
على شهواته وملذاته ونزواته، إنما هي _ في نهاية المطاف_ أموال الابن، فهو الوريث
الشرعي الذي سَتؤول إليه أموال أبيه بعد وفاته . وبالتالي ، فالشاعرُ يُضيِّع
ممتلكاته الشخصية ، ويَقضي على مستقبله بيدَيْه ، ويُدمِّر نَفْسَه بنفْسه .
والإبلُ في المجتمع العربي
ثَروةٌ قَوْمية لا يمكن التفريط بها ، وهي مَصْدر دَخْل مهم للغاية في الحياة
الاقتصادية . إنها عَصَب الاقتصاد ، والعمود الفقري للدَّخل القَوْمي ، وتَمْلك
تأثيراً بالغاً في تفاصيل الحياة اليومية ، حيث تتزاوج سُلطة المال مع السُّلطة
السياسية ( شُيوخ القبائل ) ، والسُّلطةِ الاجتماعية ( القبائل ) .
ومِن أجل إنقاذ ما يمكن
إنقاذه ، أمرَ الأبُ بِرَدِّ الإبل النافرة لئلا يَقوم ابنه العابثُ بنحرها كما
فَعل مِن قَبْل . فقد خضعَ الأبُ لِحُكم الأمر الواقع ، ولم يَعُد يَلوم ابنه على
نَحر الإبل ، فالذي مضى قد مضى. لكنه أرادَ إنقاذَ الإبل المتبقِّية لئلا تُواجه
نفْس المصير المؤلم .
4_ الوصف المادي للخمر :
يَسْبح الشاعرُ في عوالم
الخمر ، ويَغْرق في وصف هذه المادة المليئة بالأسرار والتناقضات والأحلام الضائعة
. يُراقبها الشاعرُ ، ويُحاول اكتشاف كافة تفاصيلها وتحوُّلاتها. إنها تسيطر على
عَقله قَبل الشُّرب وبَعْده،وتملأ ذِهْنَه بالأفكار والتأملات.
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
مُشَعْشَعةً كأنَّ الْحُصَّ فيها إذا ما الماء خالَطَها سَخينا
يصفُ الشاعرُ الخمرَ في حالة امتزاجها
بالماء ( مُشَعْشَعة ) . وهذه الحالة التي أَبْهرت الشاعرَ، إنما تَعكس فلسفةَ
المزج بين الأضداد. فهذان العنصران المختلفان الخمر والماء قد اختلطا في لحظة
ساحرة _ من منظور الشاعر _ ، فصارت الخمرُ مُشَعْشَعةً ، ولامعةً ، وباهرةً ،
استحوذت على رُوح الشاعر ، ونالت إعجابَه ، وسَيْطرت على حواسِّه . وهذه الخمر
الممزوجة بالماء كأن الْحُصَّ فيها . والْحُصُّ هو نَبْت له نوار أحمر .
يَغوصُ الشاعرُ في لحظة
الانبهار النابعة من الخمر الممزوجة بالماء ، فيقول : اسقنيها مُشَعْشَعةً ، كأنها
مِن شِدَّة احمرارها بعد مَزْجها بالماء ، أُلقي فيها الْحُصُّ .
لقد استسلمَ الشاعرُ
أمام اللون الأحمر المبهِر، وَوَقَعَ فريسةً للدهشة والذهول . إنها الْحُمْرة
المتفجرة الوهَّاجة التي يَغوص في أسرارها العاشقون للخمر ، والمدمِنون على
مُعاقرتها . وهذه الخمرُ إذا خالطها الماء بكل جنون ، وشربوا منها ، وسَكروا ،
جادوا بأموالهم النفيسة وبَعْثروا ممتلكاتهم. وهذا المعنى إذا تَمَّ اعتبار "
سَخينا " فِعْلاً.
أمَّا إذا اعتبرنا
"سَخينا" صِفةً، فالمعنى: كأن الخمرَ حال امتزاجها بالماء الساخن، قد
نوَّر فيها هذا النبتُ الأحمر ( الحُص ) ، وكأنه قد تفاعلَ مع حرارة الماء ،
فاشتعلَ احمراراً وبريقاً . والعربُ كانوا يُسخِّنون
الماءَ في الشتاء بسبب شِدَّة البَرْد ، ثم يَمْزجون الخمرَ بالماء الساخن .
5_ الخمر تُنسي الهموم :
العقلُ هو مركز السيطرة في الإنسان . وإذا
زالَ العقلُ فقدَ الإنسانُ توازنه ، وصار يَسْبح في عالَم افتراضي هُلامي ، لا
مكان فيه للهموم والأحلام والأفكار . والخمرُ تُوفِّر للإنسان هذه الراحة الخادعة
، والنشوة المؤقَّتة ، والسعادة الوهمية . لكنَّ الإنسانَ سَيُدْرِك حجمَ المأساة
عندما يَزول تأثيرُ الخمر ، فيجد نَفْسَه في مستنقع عميق ، وأنه كان عائشاً في
الأوهام ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
تَجُورُ بذي اللبانةِ عَن هَواهُ إذا ما ذاقَها حتى يَلينــا
يمدحُ الشاعرُ الخمرَ فيقول إنها تُميل
صاحبَ الحاجة ( اللبانة ) عن حاجته وهواه ، فتُريحه من تعب البال، وتلاطمِ
الأفكار، وكثرةِ الخواطر، وتَزرعه في عوالم النسيان والفرح، فيغدو سعيداً سابحاً
في الخيال، قد نسي قَسْوةَ الواقع، وتحرَّر من الالتزامات الحياتية، والقيودِ
الاجتماعية ، والصراعاتِ النَّفْسية .
وإذا ذاقَ الإنسانُ الخمرَ فإنه يَلين ،
وترتاح أعصابه ، وتسترخي أعضاؤه ، ويتحرر من الضغوطات الروحية والمادية . وهنا
يتَّضح دورُ الخمر الرئيسي في الحياة الاجتماعية_وفق منظور الشاعر_ . فالخمرُ
تُنسي الهمومَ ، وتُزيل الأحزانَ ، وتَطرد الأفكارَ السَّيئة . وعندئذ يُفلِت
الإنسانُ من سيطرة الحوائج والمتطلباتِ اليومية ، فَيَشْعر أنه متحرر من الجاذبية
، ويَطير في فضاء سِحري مملوء بالمتعة والحيوية . فالخمرُ هي حاضنة أحلام الأشخاص
الذين يَهربون من تحمُّل المسؤولية ، ويَبحثون عن المتعة المجرَّدة ، حتى لو كانت
متعةً آنيةً وخادعةً وقاتلةً .
6_ الخمر والكَرَم :
تقترنُ الخمرُ في
الثقافة العربية البدائية بالكَرَم والسَّخاء ، فهي إضاعةٌ للمال بلا حساب ، وهذا
يَنفي صفةَ البخل عن الإنسان . فالبخلُ صفةٌ سيئة للغاية ، وإذا ارتبطت بشخص ،
فستظل وصمةَ عارٍ في حياته ، وبعد وفاته . لذلك كان العربيُّ في الجاهلية حريصاً
أشد الحِرْص على شُرب الخمر ليبدوَ أمام أقرانه كريماً جَواداً لا يُقيم للمال
وزناً ، وتبرزَ صورته في المجتمع مرتبطةً بالجودِ والسخاء .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
تَرى اللحِزَ الشحيحَ إذا أُمِرَّتْ عَلَيْه لمالِهِ فيها مُهينــــا
يَمدحُ الشاعرُ الخمرَ ، ويُشِيدُ بدورها
المركزي في تجذير الكَرَم ، ونفي البخل . إي إنها تساهم في بث الأخلاق الحميدة في
المجتمع ، واستئصال القيم السلبية .
واللحزُ : الضَّيق
الصدر. والشحيحُ: البخيل الحريص.
وهما صفتان قبيحتان
للغاية ، فكيف إذا اجتمعتا في إنسان واحد ؟! . بالطبع ، سَيَكون وَضْعُه مأساوياً
، ويَبعث على الأسى .
والشاعرُ يُقدِّم
عِلاجاً لهذه الحالة الإنسانية الحرجة، وهو شُرب الخمر. فالإنسانُ اللحزُ الشحيحُ
إذا أُمِرَّتْ الخمرُ عليه ( أُديرت عليه ) أهانَ مالَه، وأنفقه بلا حساب من أجل
نَيْلِ هذه المتعة المغرِية، والوصولِ إلى ذِروة النشوة، والإمساك بقلب اللذة.
وهكذا ، يتخلص من سوء
أخلاقه، ويَكتسب الأخلاقَ الفاضلة، فيُصبِح صَدْرُه مُنشرِحاً ، يَستقبل أيامَه
بكل حماس وحيوية وانشراح ، ويتخلص من بُخله الشديد، فيُصبِح كريماً جواداً يُهين
مالَه ، ويُبدِّده في كل الاتجاهات دون أن يَعْبأ بشيء . وبالتالي ، يتحول إلى
مواطن صالح _ إن جاز التعبير ! _ ، تَرضى عنه القبيلة ، ويَمدحه أقرانه ، ويَذْكره
التاريخُ باعتباره كريماً متحرراً من عبودية المال .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن
شَدَّاد :
فإذا شَربتُ فإنني مُسْتَهْلِكٌ مَالي وعِرْضي وَافِرٌ لم يُكْلَمِ
تستمرُّ الإشادةُ بالخمر
، ويتجذر مديحها بشكل واضح ، فقد تكرَّست كرمز للجود . لقد أَثْبتت الخمرُ صفةَ
الكَرَم في المجتمع الجاهلي ، ونَفَت صفةَ البُخل ، فصارت هي الْحَكَمَ والفَيْصلَ
بلا مُنازِع ، وهي المحك الحقيقي لتمييز الناس .
يقولُ : فإذا شَربتُ
الخمرَ فإنني أستهلكُ مالي ، وأُهلِكه بِجُودي وكَرَمي .
وهو يحاول جاهداً تكوين
صورة برَّاقة له ، وذلك بتقديم نفْسه كجواد كريم يُنفِق مالَه على الخمر بلا حساب
، وليس بخيلاً يتشبَّث بالمال بأظافره وأسنانه . وهو يَمدحُ الخمرَ لأنها الدليل
الواضح على تحلِّيه بصفة الكَرَم لا البُخل .
وفي نَفْس الوقت ،
يؤكِّد الشاعرُ أن عِرْضه تام ، وخالٍ من العيوب، ولم يُجرْح ( لم يُكلَم ) بأي
شيء . فهو ذُو عِرْض وافر لم يُدنَّس بصغيرة ولا كبيرة ، أمَّا مالُه فهالكٌ .
إنهُ يُنقِص مالَه ويُضيِّعه ، لكنه حريصٌ أشد الحِرص على عِرْضه ، فلم يُلوِّثه
بأي نقيصة . وهنا تَبْرز الإشادةُ بالخمر ، والافتخارُ بأن سُكْرَه يَحْمله على
مكارم الأخلاق ، ويَمْنعه من العيوبِ .
ويقولُ الشاعرُ عنترة بن
شَدَّاد :
ولقدْ شَرِبْتُ مِن المُدامةِ بَعْدما رَكَدَ الهَواجِرُ بالمشُوفِ المُعْلَمِ
يَفتخرُ الشاعرُ بِشُرب
الخمر ( المُدامة ). وقد سُمِّيت بهذه الاسم لأنه لا شراب يُستطاع إدامةُ شُرْبه
غيرها ، أو لأنها أُديمت في الدَّن ( وعاء ضخم للخمر ) حتى سَكنت . ويَحرص الشاعرُ
على تخليد الفترة الزمنية التي شرب فيها الخمرَ. وهي بعدما رَكَدَ الهواجر.
والهواجرُ جَمْعُ هاجرة ، وهي أشد الأوقات حَرَّاً .
يقول : ولقد شَربتُ من
الخمر المعتَّقة في أكثر الأوقات حرارةً وقسوةً ، فقد اشتدَّ حَرُّ الهواجر
وسَكَنَ ( رَكَدَ ) .
وما لجوءُ الشاعر إلى
الخمر في هذا الجو الصحراوي الحار ، إلا محاولةٌ للترويح عن النَّفْس، والتخفيفِ
من قَسْوة المكان، وتلطيفِ الجو، وإشاعةِ البهجة والسرور.
ويَحرص الشاعرُ على رسم هالة الكَرَم حول شخصيته ، فَيَذْكر أنه
اشترى الخمرَ بالدينار المشُوف ( المجلوِّ ) ، والذي يَحْمل نقشاً أو علامة (
المُعلَم ) . فهذا الدينارُ المجلوُّ المنقوشُ كان ثمناً للخمر التي اشتراها
فشربها لكي يَرتاح من حرارة الطقس.
واعتناءُ الشاعر بهذه
التفاصيل الدقيقة يدل على حرصه الشديد على تخليد الأجواء المحيطة به وهو يَشرب
الخمر ، وذِكْره الدينار ( ثمن الخمر ) يَعكس قُوَّته الشرائية ، وأنه لا يُقيم
وزناً للمال ، فهو كريمٌ لا بخيل . والعربُ كانت تفتخر بِشُرب الخمر ، لأنه رمزٌ
للكَرَمِ والسخاءِ والأخلاقِ الرفيعة .
7_ الخمر
والأمكنة :
يَقترنُ شُربُ الخمر
بالأمكنة ارتباطاً وثيقاً . فهذه الأمكنةُ حاضنة للذكريات ، والمشاعرِ، والأحداثِ
المصاحِبة لحالة الشُّرب التي تُولِّد النشوةَ، وتَبعث على الفرح، فيَشْعر المرءُ
بأنه يُحلِّق في الفضاء. وبشكل عام، إن الذكريات الجميلة ، والأحداث السعيدة ،
والإنجازات الهائلة ، ترتبط بالأمكنة ارتباطاً مصيرياً . فاللحظاتُ السعيدة عبارة
عن زَمن ، ولا يُوجد زمنٌ يَتحرك بلا مكان ، فالمكانُ هو الوعاءُ الذي تُصَبُّ فيه
اللحظات المفْعمة بالسعادة . وبالطبع ، لا توجد حَركة في الفراغ أو العَدَمِ .
يقولُ الشاعرُ عمرو بن
كلثوم :
وكَأسٍ قَد شَرِبْتُ بِبَعْلَبَـكَّ وأُخرى في دِمَشْقَ وقَاصِرينا
ذَكَرَ الشاعرُ ثلاث
بلدات : بَعْلَبَك ، دِمَشْق ، قَاصِرين . وهذه الأماكنُ كانت شاهدةً على لحظات
المتعة التي عاشها برفقة كأس الخمر . لقد خَلَّد أزمنةَ النشوة ، وخَلَّد الأمكنةَ
الحاضنة لهذه النشوة . لا يُريد تَركَ شيء للصُّدفة أو الاحتمالات . إنهُ يُعبِّر
عن سعادته البالغة بِشُرب الخمر ، كما يُعبِّر عن فَرحه بتواجده في هذه الأماكن
التي امتصَّت أيَّامَه ، وأَضْفت على حياته هالةً من السرور المدهِش الذي لا
يُوصَف ، وصَبغت عُمرَه بالذكريات الجميلة التي لا تُنسَى .