سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

27‏/02‏/2017

المنارة والرمال / قصيدة

المنارة والرمال / قصيدة 

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

.............

   إِنَّهُ يَوْمُ الأَحد / طارق بن زياد يُحوِّل المتوسِّطَ إلى بغداد / كي تُحرِّر الشمسُ الأندلسَ/ حَرْبٌ بَيْنَ الهلالِ والصَّليبِ / تاجُ الأخطبوطِ أُحفورةُ زَبد / يجيءُ القَوَّادون كالفِطْر السَّامِ المحنَّطِ في الشَّفق / ويموتون / فَلْتَعْرِف الحملاتُ الصليبيةُ أن رِتشارد قَلْبَ الفأرِ هُزِمَ/ سَيَّاراتٌ كلاسيكيةٌ تَستبدلُ إطاراتِها سَاخرةً بألفِ جَسَد / والعائدون إلى انتحارهم / لم يَجدوا على صفائح مَوْتهم إلا أرواحهم والطينَ / وبِلالٌ شَقَّ الفضاءَ صَوْتُهُ :      (( أَحَدٌ أَحَدٌ )) / حَديدُ الأقفاصِ أعمى / وابتسامةُ الرِّيح لا تقتني العُميانَ / يا محاكمَ التفتيشِ / إِنَّ رُوحي تَحيا حِينَ تقرأُ سُورةَ الصَّمَدِ / مَدَدٌ مَددٌ / يا رَسولَ اللهِ مَددٌ /

     إنهُ يَوْمُ الأحد / جاك نيكلسون يُزيح عن جوائزِ الأوسكارِ عُرْيَ وَجْهه / يُحيلُ خَشبةَ المسرحِ الجارحةَ إلى قُبورٍ كثيرةِ العَدَد / يَضَعُ أرشيفَ العارِ في السرير / لكي يستيقظَ في الصباحِ قتيلاً / ويَذهبَ إلى التصوير كَامِلَ الغبارِ/ مُفعماً بخرائط الرَّمد / وأطفالُنا يَسْتخرجون البارودَ مِن حناجر السَّمك / مَدَدٌ مَددٌ / يا رَسولَ الله مَددٌ /
     إنهُ يَوْمُ الأحد / أشباهُ رِجالٍ يَضعون زَوْجاتهم على عقارب السَّاعة / ويُقَبِّلون يَدَ الصنم / لَن يَحْمِيَهم القَبْو من الصاعقةِ / لَن يَضْحكوا إلى الأبد / يَذُوبون كالمكانسِ الكهربائيةِ / كالأشباحِ المعدَّلةِ وِراثياً / ماتَ التاريخُ / واحترقُ الأرشيفُ/ وتَبخَّرت غاباتُ البارود / مَدَدٌ مَددٌ / يا رَسولَ الله مَددٌ /

     إنهُ يَوْمُ الأحد/ للانهيارِ أفئدتُهم للبكاءِ عندما لا يَنفعُ البكاءُ / يَحْملون تِيجانهم وجِيَفَهم / وَيَتزوجون الرصاصَ المطاطيَّ / سَأُقاتِلُهم في المقابرِ / في المذابحِ / في المسالخِ / في المسارحِ / على شَاشاتِ التلفازِ / وَفَوْقَ القَمر/طَيْفُهُم حُطَامُ الصحراء/جُرُوحِي سَنَابِلُ اللهبِ/وَبِلالٌ مَلأَ الكَوْنَ صَوْتُه حتى سَمِعه زُحَل:(( أَحَدٌ أَحَدٌ ))/ مَدَدٌ مَدَدٌ / يا رَسولَ اللهِ مَددٌ .

26‏/02‏/2017

اغتيال العصفور تحت نجمات الدمع / قصيدة

اغتيال العصفور تحت نجمات الدمع / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

..........

  الذي وَضَعَ أغاني أدغالِ الدَّم عَلى سَرْجِ حِصانٍ / هو النِّسْيانُ الأخضرُ / أيُّها القلبُ الذي يَتحوَّلُ وَطناً للغُرباءِ وعَابِري السَّبيلِ/ يَصيرُ خَيْمةً للغَجرياتِ / وكَهْفاً للقصائدِ الممنوعةِ / يَنامُ المطرُ على رُموشي / مَسْكونٌ أنا بالطُّوفان/ خَبِّئْني يا أَبي في أكفانكَ / وأَنْجِبني في لُغةِ احتضاركَ / تَحتلُّ دَفاترُ الريحِ وَجَناتِ الأسيراتِ /
     يا وَطناً يَتساقطُ على طَاولاتِ القِمار/ وَدِّع العُشَّاقَ الذين يَصْنعون توابيتَ عَشيقاتهم / مِن خَشبِ طَاولاتِ المطاعم / وَاحْرُسْ جُمجمتي الملقاةَ على أصابعِ العاصفة / وخُذ المشرَّدين مِن حُقولِ البَارودِ إلى سَريرِ التَّعبِ ليرتاحوا !/ لا تُسَلِّمْنِي لثرثرةِ قُضبانِ السِّجنِ / في جِهاتِ جَوْز الهِند / أَعِدْ لِي جُثثَ الأَرانبِ المتعفِّنةَ / كي أَدْفِنَها في الهِضابِ الخارجةِ على قانونِ النَّخاسين /
     أضاعَ الضَّبابُ فُرشاةَ أسنانه / في بَراميلِ البَارودِ / وفي مدائنِ الصَّمتِ بُكاءٌ لَم يَرِثْ عَن أبيه إلا المِنجلَ / لكنَّ الصَّفْصافَ المذبوحَ في أبجديةِ قَوْسِ قُزَحَ / يُشاهدُ رَجلاً يُردِّدُ أناشيدَه في البَرِّيةِ / تَابَعُوا خُطاهُ على القَش المطعون / وَجَّهوا رِماحَهم ذات الرؤوسِ الفِضِّيةِ في عَيْنَيْه/ وأَطْلَقُوها / كانتْ زُجاجاتُ الدَّمْعِ شَاهِدةً على اغتياله / فَكَسَرُوها ! /
     وَلَمَّا اصْطَادَت الفِضَّةُ حَبْلَ مِشْنقتي / قَالت له: (( عَلَيْكَ أن تنتميَ للوطنِ ))/ فقالَ وَالسنابلُ تَجْرحه : (( أين هو الوطنُ حتى أنتميَ إليه ؟! )) / وَطَنَ النوارسِ الذي يَضيعُ في وَرِيدي مَشانقَ ضاحكةً / ومجلاتٍ بلا عناوين / أنتَ زِنزانتي وَحُرِّيتي وطفولتي المقتربةُ مِن جَمرِ العَطَشِ / وَالشَّجرُ يَعْملُ بَعْدَ الظُّهْرِ طَبيبَ أسنان /
     كَيْفَ أَغْرسُ صَنوبرَ الجِراح في مقابر الجرادِ/ وَيَدَاي مُلطَّختان بأشلاءِ الفجر؟!/ اكْتَشِفْني في مَقبرةِ عائلتي/ وأنا أَدُورُ كالطَّيْرِ المذْبوحِ دَمْعاتٍ/ واكْتَشِفْ في الأناشيدِ الميْتةِ زَوْبعةً / عِندما تنامُ البُروقُ على بُرتقالةٍ جَاهِزةٍ للرَّحيلِ / خُذْ أشعاري لِسَقْي حَنجرةِ الصحراء/ ذِئبةٌ مُحَنَّطةٌ في عُلبةِ المِكياجِ / وَدَمِي الباردُ على الثلجِ الساخنِ / سَأَظَلُّ غَامِضاً حَتَّى يُسْقِطَ الموتُ قِناعي / والذِّكرياتُ مَمْلكةُ المنبوذِين /
     يا كُلَّ المخبِرِين العائدين إلى أرضهم الميْتةِ / في صَباحاتِ الخريفِ الدَّمويةِ / أُطردوني مِن جُرحي / تَجِدوني في جِراحِ الآخرين / عَلَّقْنا طُفولتَنا على رُموشِ العواصف / فادْفِنوا ضَحاياكم بَعْدَ أن تُصَلُّوا عليهم / أُمَّهاتهم رَجَعْنَ إلى الصُّوَرِ الذابلةِ في بَراويزِ البُرتقال / وَسَجدتْ حَنجرتي على سَجاجيدِ الجامعِ / تِلْكَ دموعٌ خَضْراءُ في الغُرفِ السِّرية في الدَّيْرِ / والباستيلُ صُورةُ السُّعالِ على الفُؤوس / ألواحُ المسْلَخِ الشَّمعيِّ / والزَّيْزفونُ القتيلُ / والتلالُ الذهبيةُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَّالِ المناجم / والأعاصيرُ لا تَرحمُ بُكاءَ قَهوةِ الأسرى / ما لَوْنُكِ يَا قَلعةَ الأحزان / عندما يُوقظُ شُعاعُ الشمسِ مِدْخنةَ البَيتِ الخالي ؟ /
     كَقَصَبِ السُّكَّر في الضُّحى/ كان شَاهِدُ قَبْري / دَخلتْ نعومةُ الأمطار/ في ثيابِ حفَّارِ القُبور / رَفَضَتْني نِساءُ المزهرياتِ / لأني لا أنامُ إلا مَعَ سَيْفي / هَزمتُ الأكاسرةَ في خَريفِ الظلالِ / وخَسرتُ أمامَ صُورتي في المِرآة / أصابعي بَابُونَجُ الثورة/ وَلْتَنْهَضْ شوارعُنا تُكَنِّس أحطابَنا / المتقمِّصةَ إناثَ الكلابِ /
     زَوْجتي لم تُولَدْ لكني أُحِبُّها / ولا أَعْرفُ مَن سَيَموتُ أوَّلاً أنا أَم اكتئابي/ فيا قَمَري الجريحَ / إن الياقوتَ يَحتسي مِشنقةَ العاشقِ الوَحيدِ / قَتَلوه / نَسَجوا من سُنبلاتِ كَبِده مِعطفاً سميكاً / ولم يَرَوْا وِشاحَ ابنته مُمدَّداً على القناديلِ / قالبُ شوكولاتة في يَدِها / ذَوَّبه وَهَجُ الرَّصاصِ في دَمِها / زُمردةٌ غامضةٌ في مرايا الرَّحيلِ/ تموتُ وتسألُ عَن نجمةِ الشَّتاتِ / والغاباتُ الضَّوْئيةُ التي وُلِدَتْ في دِمَشْق / مَاتتْ في قُرْطُبَة / شَمْسٌ تَطعنُ جَدائلَ الرِّيح / أعلامٌ مُنكَّسةٌ في إعصارٍ / يَبْحثُ عَن عُروش دَمي/ أنا آسِفٌ لأني تألمتُ حِينَ قَتلتموني / أنا آسِفٌ لأنَّ لُعابي لَوَّثَ مَعاطفَ الملكاتِ / وَهُنَّ يَبْلَعْنَ الشَّمبانيا على جُثتي / أنا آسِفٌ لأنَّ رؤيةَ أكفاني عَكَّرَ مِزاجَ الذُّبابِ / أنا آسِفٌ لأنَّ صُداعي أَزعجَ ضُيوفَ القَيْصرِ في رُفاتِ المجازرِ /
     المخْبِرون جَالِسون في جَوْف بِنطالي / بِئرٌ تراودني عَن نَفْسي/ أَهْربُ من المرايا/ واحتضاري مِرْآتي / ضريحي أحجارٌ غَيْرُ كَريمةٍ/ تَكْسِرُ تاجَ الرُّكامِ/ يا تاريخَ الأسماكِ المتكسِّرَ / على بَلاطِ مَعابدِ رُوما/ المعقَّمِ بالرُّؤوسِ المقْطوعةِ / ارْفُض قِناعَ السَّيافِ /
     جُمْجمتي رَايةٌ للغرباءِ / مَنْصوبةٌ في المجموعة الشَّمْسيةِ/ أَكْمِل المِشوارَ يا وَجهي إِن انتقلتْ أعصابي / مِن الصَّحاري إلى الثُّكناتِ العَسكريةِ / الزنابقُ المحترقةُ تَقفزُ على أكتافِ الغيومِ / حَضاراتٌ مُتَّشحةٌ بالمبيدات الحَشريةِ / واليمامُ نَحَتَ خَرائطَ الفحيح على أظافري / والفراشاتُ تُحاوِرُ ظِلالَها بالبُندقية /
     أَعْزِفُ على أشلائي / وخَشبُ البيانو يَحترقُ في شَهيقي / نُخبِّئُ دُموعَ أُمَّهاتنا في الأواني الفخَّارية/ قُتل المغنِّي / عَقَدْنا اتفاقيةَ سَلامٍ بَيْنَ الصَّوْتِ والصَّدى / السِّهامُ تَعرفُ تضاريسَ قلوبنا / لكنَّ الضَّبابَ أضاعَ مِفتاحَ قَفَصي الصَّدْريِّ / والجسورُ الخرساءُ تَعرفُ أحذيةَ الجنودِ/ جُيوشٌ لا تَعْرِفُ غَيْرَ قَصْفِ أغشيةِ البَكارة/ أينَ القُبطانُ الذي أهدى دَفَّةَ السَّفينةِ للسَّائحات ؟ / أين العاشقُ الذي بَصَقَ في بُلعوم النَّار ؟ /
     كانت قوافلُ الغزاةِ المصلوبةُ/ تمشي عَلى رُموش الصخور/ نَحْوَ ضوءِ الإعدام / شَمْعُ الجنونِ تَحْمِلُه بَغايا بَني إِسرائيل / لإِرشادِ زَبائنِ آخِرِ الليلِ / أتى هُولاكو مِن أبراجِ المراقَبةِ في الكنائسِ / مَقاصلُ حَجريةٌ حَفَرَتْها على الأجساد الذابلة أصنامٌ بأسماء مُسْتعارة / دمُ الحيضِ للفتياتِ المغْتَصَباتِ يَختلطُ بالشوارع الوحشيةِ / شُعراءُ يَموتون على أقدامِ الإسكندرِ / والزَّوْبعةُ تُوقِّعُ على وَثيقةِ اغتيالِ الزَّيْتون /

     جِراحُنا عانقتْ صَوتَ الرُّعودِ عِندَ كُهوفِ الرُّعاة / هياكلُ عَظْميةٌ لكلابِ الخليفةِ/ حَطبُ الغروب في سِيناريو المذبحة / والوحلُ النحاسيُّ / والدُّودُ الخارجُ مِن أمعائنا / باحَ المرفأُ بأسراره للسرابِ المتوحش / وجوائزُ الأدب تُمنَح لمهرِّبي البضائع في السوقِ السوداء / يا وَطناً يَفْرُشُ حَدَقاتِ العُمْيانِ على السَّجادِ الأحمرِ/ لاستقبال القاتِلين / اخْرُجْ مِنكَ كي تلمحَني رَسَّامَ أنهارٍ في عُنفوانكَ / يا وطناً يُخفي مجاعةَ خيوله في فناجين عذاباتي / عِشْ خارجَ مِصفاة النفط / كي نلتقيَ في عِشقِ خِيامكَ / قلبي يَنْصِبُ فَخَّاً لناقةِ جَدِّي / عِندَ أطلالِ قلوبِ بَناتِ آوَى / الدلافينُ تنامُ في قميصي الدَّامي / واليانسونُ الغريبُ مَشْرحتي / قَرِفْتُ مِن الرُّومانسيةِ / فاكرهيني أيتها العانِسُ /

     المرفأُ القُرمزيُّ مَسقطُ رأسِ البُكاء / كُلَّما قُتلتُ في أرضِ المعركةِ / وُلِدْتُ في قلبِ امرأةٍ غامضةٍ / فيا أجفاني الموزَّعةَ بين زَيْتونِ المذابح وأبجديةِ المجرَّات / لَسْتُ المتنبي أَرْصف جِلْدي على أعتابِ الخُلفاءِ / لستُ قُبَّعةَ المهرِّجِ في الجهاز التناسليِّ للخوْخِ / البرقُ يَحْصِدُ كلامَ الضفادع في صَمتِ الفلاحين / عِندَ الساعةِ التي تبكي فيها الخُلجانُ اليتيمةُ / يَخْتفون في حُروفنا / لكنهم يَتَحَدَّثون لغةَ النارِ / وُلدوا في أظافرنا / لكنهم يُدافعون عن رُوما / يَنامون على أوسمةِ القائدِ المهزومِ / في انحناءاتِ السِّنديان / عَرَضوا سَوائلهم المنويةَ وأعينَ أُمهاتهم في المتاحفِ / لا تَلعبوا بِكُرياتِ الدَّمِ على سُطوحِ المرايا / عُودوا إلى رُموشكم / خُذوا أسماءكم مِن الشمس /
     يا ذُباباً يَثْقبُ رِئةَ الفَيضانِ في شَمالِ الجِيَفِ / لا تَنكسرْ أمامَ دُموعِ ماري أنطوانيت / لا تنخدعْ إذا تَنَزَّهَ الأباطرةُ في اكتئابِ الحقول / تَغفو إسطبلاتُ الكَهرمانِ في لُغةِ المساميرِ / فاذْكُرْ صُورتي على حائطِ المنفى / وعانِقْ صَوْتي على أثاثِ المجزرةِ / خِيامُ اللاجئين على مِقَصِّ الأظافرِ / والزَّعفرانُ يَمتصُّ رائحةَ الجثثِ في ضَبَابِ المقابرِ / وَكُلَّما رَأيتُ دُموعَ أُمِّي / مَشَيْتُ في طُرقاتِ قُرْطبة /

     يَزرعون في أعصابِ المرجانِ مَاءَ الثَّورةِ / عِندما يَتَّحدُ الاكتئابُ مَعَ الوَسْواسِ القَهْري / جَاؤوا مِن بَنكرياسِ الرِّيح / يَحملون دَمَهم في ضفائرِ أُمَّهاتهم / كَسَروا صَمْتَ أثاثِ المنافي / صَعَدوا إلى لحمهم كَي يَقْذفوه على الطُّغاةِ / رِئتي سَرْوةٌ لا يَقْطِفُها الشَّيطانُ ولا سَبايا الرُّومانِ/ فيا أنهارَ بلادي/ أَطْلقي النارَ على سَقْفِ المعْبَدِ/

     سَارَ الشَّجرُ مَطَراً يَهُزُّنا / يُخرِجُ النيرانَ مِن بَطْنِ أُمِّها / لَم يَعُدْ في حقائبي غَيْرُ الدِّيناميتِ وجُمْجمتي/ نَهْرٌ يُضْرِبُ عَن الطعامِ/وَيَعْملُ سائقَ تاكسي في أزقةِ المجزرة / وعِندما عَرَفْتُ المرايا عَرَفْتُ البُكاءَ/ فلتكنْ أحلامُكَ لُغماً يَخْمِشُ حَوَاسَّ الوثنِ / أنشأَ الصُّبْحُ مَصْنعاً للسياراتِ المفخَّخةِ في بُؤْبُؤ القُرصانِ / قَزَحِيَّتِي كُرةُ ثلجٍ تتدحرجُ على جِباهِ أُمراءِ الحروب / اغْتَصَبَتْني سَمكةٌ غَازَلَتْني حَشرةٌ / فَتَّشُوا أجندةَ الثَّلْجِ لكي يُنقذوني مِن دِمائي الملوَّثةِ بالتِّيجانِ / طُوفانٌ أعزبُ يَموتُ على المسرحِ وحيداً / فَاقْطِف الرَّصيفَ قَبْلَ مَوْعدِ حَصادِ الجماجمِ / إنَّ النَّخاسين يُطفئون سَجائرَهم / في حَلَماتِ زوجاتهم الضائعاتِ في حَنينِ المسافِرين / يُخفون بَراميلَ البارود في أجنحةِ دِيكٍ رُوميٍّ / حُلْمٌ يابسٌ مِثْلُ بُكاءِ التُّوتِ وحيداً / في فُنْدُقٍ مملوءٍ بالنَّملِ ورجالِ الأعمالِ / كيف نأكلُ تَمْرَنا وَهُم يُحاكِمون النخلَ في المحاكمِ العسكرية ؟! / مُلوكُ الحطبِ أجسادُهم خارجَ أجسادهم / أينَ نحاكِمُهم ؟ / فيا ثائرُ / مُدَّ أهدابَكَ أمامَ العواصفِ / خُذْني إِلَيْكَ / خُذ استراحةً في قلب حَمامةٍ / واقْتُل الصدى في أرشيفِ المذابحِ / ولا تَعْشَق أحصنةَ المستحيلِ الدائرةَ مَعَ طَواحينِ البُكاء /

     ضَاعَ الوطنُ وَهُوَ يَبْحَثُ عَنَّا/ هَل نَشكرُ المخبِرِين في مطاعم الوجبات السريعة/ أَم المراهِقاتِ العاشقاتِ في مملكةِ الجماجمِ كافتيريا العُنوسةِ ؟! / الوطنُ ضَاع / أيُّ الموتى أحقُّ بالرِّثاء مَلِكٌ لِصٌّ أَم لِصٌّ مَلِك ؟!/ لَم يَضِع الوطنُ / وَمَا زِلْتَ تُكابِرُ يا نَبْضي ! / تَزرعُ الفَتياتُ أحمرَ الشِّفاهِ / عَلى إِشارةِ المرورِ الحمراءِ في طريقِ المذبحة / ورائحةُ الموْجِ تُعطِّرُ صَنوبرَ المقابر / الأشجارُ البَرمائيةُ تَطفو على عَرَقي / ورِجالُ الأمنِ يُخبِّئون الرواتبَ الشَّهريةَ في دُموعهم القُرمزيةِ /
     تتفجَّرُ أجنحةُ الفراشاتِ في ليالي الخريفِ/والغرباءُ يُعانِقون الغرباءَ في الكُهوفِ/ وأسمنتُ عَمودي الفِقريِّ / يُعِدُّ رِسالةَ دُكتوراة في تاريخ المجاعاتِ / وكُلما لَمستُ إمضاءَ اليمامِ على طُفولةِ التِّلالِ/ نَبعت مِن خُدودي غَيْمةٌ / رُموشي انقلابُ الأُنوثةِ على الأُنوثة / والقَمحُ يَخون رِئتي اليُمنى مَعَ رِئتي اليُسرى /
     أَكتبُ دَمي بالألوانِ الزَّيتية / كَي أَكسرَ زُجاجَ قِطاراتِ أَوْردتي / في صَيْف الإبادةِ الجماعيةِ/ كي تتحوَّلَ أكبادُ شَعْبي إلى جِسْرٍ / تَعْبرُ عَلَيْه شَمسُ اللهِ / أصابعي مكتبةٌ للأحكامِ العُرفيةِ / وأهدابي مَحْكمةُ أمْنِ الدَّوْلةِ بَعْدَ انقراضِ الدَّوْلةِ / غَزَلَ الطِّينُ دَوْلةً مِن الصَّرخاتِ والأجسادِ المحروقةِ / أسواقُ الجماجمِ في أوطانٍ تتَّسعُ للمُرابين/ وفأرةُ الصَّدى الخشبيِّ تُجَهِّزُ للأسرى وَليمةً /
     قَبيلةُ الخاسرين / وضَوْءُ الصنوبر في أقاصي التَّطهيرِ العِرْقيِّ / فَمُدَّ يَدَيْكَ يا نهرَ التوابيتِ / خُذْني إِلَيْكَ طِفلاً يتهجَّى أبجديةَ القَتلِ / الذِّكرياتُ المحروقةُ تَسقطُ في عَصيرِ الليمون / والنوارسُ الجريحةُ تَجرحُ تاريخَ الهديلِ / فَشُكْراً للرَّصاصِ الحَيِّ الذي يُولَدُ في قِرميدِ الأكواخِ المهجورةِ / وَيَموتُ على أجنحةِ الجرادِ /
     اعْشَقْ أجفاني لكي نَقتلَ العِشقَ في بِلادنا / التي لا تَعترفُ إلا بالمومياوات / كُلما بَحثتُ عَنِّي في زِنزانتي وَجدتُ سَجَّاني/ خُدودُ البُحيرةِ حُجْرةٌ للبعوض/ تصبُّ الحيواناتُ بياتها الشَّتويَّ في أوعيتي الدَّمويةِ / وترسمُ الطيورُ هِجرتها على براويز شراييني / خَائفٌ أنا مِن أزهار الدُّموعِ / لكنَّ السنابلَ تركضُ إلى غابات الحِبر / نَقلي البطاطا بِدَمْعِ الصَّبايا السَّاخنِ / والفراشاتُ الملوَّنةُ تَصعدُ مِن بَراميل النفط / اليَمامُ المنقوعُ في الوَحلِ الأزرقِ/ ماتَ وَجْهُكِ يا زَوْجةَ الصقيع / فاكسري عُلبةَ المِكياج/ هذه التلالُ تَخيطُ سُيوفَ القبائلِ فَساتينَ للعرائس / فاكسرْ سَيْفَكَ يا ضَوْءَ الأمواجِ/ خَسِرَ البرتقالُ معركته في رمال القلب/واليَتيماتُ يَمْسَحْنَ بَساطيرَ الجنود/ فَكُنْ يَا شَبَحي شَاعِراً / لِتُنَقِّبَ عَن السنابلِ في قُلوبِ الزَّوْجاتِ الخائناتِ / وَاعْشَقْ نَباتاتِ مَقْبرتي / ولا تَنْظُرْ إِلى كُحْلِ النِّساءِ السَّائراتِ في جِنازتي /
     حَاضِناً طَيْفَ الأمواتِ في مَملكةِ الطحالبِ / جُنودي هَرَبوا / وَبَقِيتُ وَحْدي / لكنَّ البَعُوضَ يَحْرُسُني مِن أصدقائي / أَسْقُطُ في قَهوةِ المساءِ غَريقاً / وصورةُ البحرِ تَخرجُ مِن البِرْوازِ / كُلما تَذَكَّرْتُ انتحرتُ / الذاكرةُ مَذْبَحتي الأبَديةُ / والسَّجَّانةُ تَغسِلُ بَلاطَ الزَّنازينِ بِدَمِ الْحَيْضِ / والنَّوارسُ مَصلوبةٌ على نافذةِ السِّجْنِ / التي تُطِلُّ على البَحْرِ المشلولِ /

     لَو مَعِي عَرَقي لَمَا أبصرتُ شظايايَ تشعُّ في أكواخِ الأراملِ / لَو مَعي سِحْنتي لَمَا ارتقيتُ على دَرجاتِ السلالم في الشَّفق البنفسجيِّ / لَو مَعي قصيدتي الأُولى لَمَا بَكَتْني الشموسُ / وَحَضَنَتْني أقفالُ المحالِّ التجاريةِ / لَو مَعي مَسقطُ رأسي لَمَا نَهبتْ مزهريةُ الجيرانِ لَوْني / لَو مَعي تَرنيمةُ النخلاتِ لَمَا انتظرني الباصُ في صباحِ مَقتلي / لَو مَعي سَطْحُ دَارِي لَمَا استهزأتْ بِي عَذْراواتُ الغِيابِ/ لَو مَعي عِقْدُ أُمِّي الشَّهيدةِ لَمَا أنكرني جَرسُ مَنْزلنا في الصَّهيلِ .

24‏/02‏/2017

الخمر في شعر المعلقات

الخمر في شعر المعلقات

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 24/2/2017

.................

     لا يمكن تجاهل مركزية الخمر في المجتمع الجاهلي إطلاقاً ، فهي متغلغلة في أدق تفاصيل الحياة الوجدانية والاجتماعيةِ ، وتَملك حضوراً أساسياً في الشِّعر والتراثِ .
     لذلك نرى الشُّعراءَ يتسابقون على ذِكرها، وتخليدها في قصائدهم، واستحضار الأجواء المحيطة بها . وبالطبع ، فكلُّ شاعرٍ يَرى الموضوعَ من وُجهة مُعيَّنة . كما أن الخمر ذات علاقة متشابكة مع تفاصيل الحياة، فهي مرتبطة بالحزن والفرح ، وذات ارتباط وثيق بالعلاقات الغرامية ، وتؤثِّر على طبيعة العلاقات الاجتماعية .
     وإننا لنجدُ معانٍ متعددة في شِعر المعلَّقات تدور حول الخمر . وكما أسلفْنا ، فإن كل شاعر يَرى الخمر من منظوره الشخصي ، واستناداً إلى مرجعيته الفكرية ، وخَلْفيته الاجتماعية ، وطبيعته العاطفية .
     فيبرزُ موضوع المسارعة إلى شُرب الخمر ، وكأن هناك سِباقاً مع الزمن . كما تَبرز الطبيعة المادية للخمر ، وكَوْنها تُزيل العطشَ ، وتَروي الإنسانَ . ويتَّضح تأثيرُ الخمر في سَيْر العلاقات الاجتماعية ، وتهديدها للروابط الأُسرية . ولا يمكن نسيان موضوع وصف الخمر ، والافتخار بها ، والتنقيب في ماهِيَّتها المعنوية والمادية .
     وتَظهر تأثيراتُ الخمر في أنساق الحياة . فالخمرُ تُنسي الهمومَ ، وتُزيلَ الأحزانَ، وتُعطي العقلَ إجازةً مفتوحة ، مما يُسبِّب السعادةَ للإنسان ، حتى لو كانت سعادةً خادعةً ووَقْتيةً زائلة . وكما قيل : استراحَ مَن لا عقل له .
     كما أن الخمرَ يتم تقديمها كرمز للكَرَم ، وإنفاقِ المال . وهذا يَنفي عن شاربها صفةَ البُخل والحرص على المال ، ويُلمِّع صورته بين أقرانه ، فَيَظْهر كريماً جَوَاداً ، لا يُقيم للمال وَزناً ، وإنما يَعيش حياته بالطُّول والعَرْض بكل سلاسة ، وبلا عُقد .
     وتبرزُ ثنائية ( الخمر / المدن ) . حيث يَظهر الحرصُ على تخليد الأماكن التي استمتع فيها الشاعرُ وهو يَشرب الخمر ، ويُجيل بصره في تفاصيل الطبيعة .
1_ المسارَعة إلى الشُّرب :

     الشاعرُ في سِباق مع الزمن . إنه يَفِرُّ إلى شُرب الخمر بأقصى سُرعة ممكنة ، ليقبضَ على لحظة اللذة ، ونشوةِ السعادة ، وتوهُّجِ المتعة ، ويُغلِق الطريقَ أمام خصومه ولائميه . لا يريد أن يَترك شيئاً للصُّدفة . كلُّ الحساباتٍ دقيقةٌ ، وكلُّ الطُّرق تؤدي إلى شُرب الخمر .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

فَمِنْهُنَّ سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ          كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ

     إحدى الصفات التي يَحرص عليها الشاعرُ ، أن يَسبق العواذلَ ( اللائمين ) بِشَرْبة من الخمر . إِنهُ يَشرب الخمرَ قبل سماع لَوْم اللائمين ، وعِتابِ الخصوم. وبذلك يَكون قد سَبَقهم، وَسَدَّ الطريقَ عليهم ، وأغلقَ البابَ في وجوههم . وهكذا يُحقِّق رَغبته رغم أنوفهم ، ويَحصل على مُراده رغم معارضتهم ، ويَفرض أسلوبَ حياته عليهم . فلا أحدٌ قادر على مَنعه من تحقيق مُبتغاه، ولا أحد قادر على إيقافه . وهكذا يُعلِن انتصاره عليهم .
     وبعد نجاحه في الوصول إلى حبيبته الخمر رغم أنف العواذل ، يَسْبح في عوالم الخمر ، فيصف الشَّرْبةَ بأنها كُمَيْت اللون ( بين الأسْود والأحمر ) . وهذه الشَّرْبةُ من الخمر عالَم قائم بذاته ، لَوْنها يتوهج كما لو كان ضوءاً في آخر النفق . وهذا السَّوادُ الضارب للحُمرة يمتصُّ قلبَ الشاعرِ وعقلَه ، ويُسيطر عليه بلا رحمة . لونٌ شديد الإغراء ، يَبتلع ذكرياتِ الشاعر ، فيرفع الرايةَ البيضاء مُسْتسلماً لعنفوان اللون الوهَّاج . وهذه الشَّرْبةُ عندما يُصَبُّ الماء عليها تُزبِد ، وتَثور كالبركان الذي كان خامداً ثم انبعثت فيه الحياة . تَقفزُ الفقاعاتُ على السطح الساحر المغرِي ، وتَفور جُزيئات الخمر ، كأنها تنادي على الشاعر ، وتَسحبه إلى الأعماق السحيقة .
     ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :

باكرتُ حاجَتَها الدَّجاجَ بِسُحْرةٍ          لأُعَلَّ مِنها حينَ هَبَّ نِيامُهــا

     الهدفُ هو الخمر. والطريقُ إليها ينبغي قَطْعُه بسرعة فائقة. فالأمرُ لا يَحتمل التأخير مُطْلقاً . واللذةُ لا تَنتظر ، ولا وقت لانتظار الصباح . لذلك ، فالشاعرُ يَشرب الخمرَ قبل صِياح الدِّيك. فهو يَأخذ الأمرَ على مَحْمل الجِد . وعندما تشتعل الشهوةُ في كيانه، يهرع إلى تلبيتها بكل سُرعة بلا إبطاء، لكي يَقتنص لحظةَ المتعة ، ويأسر وَقْتَ الفرح قبل أن يُفلِت من يَدَيْه ، ويَذهب إلى غير رَجعة .
     لم يَقْدر الشاعرُ على مقاومة الرغبة العارمة في شُرب الخمر ، والتي تلحُّ على عقله بكل شراسة، فباكرَ الديوكَ لحاجته الشديدة إلى الخمر. إنهُ يُقاتِل على جَبْهتين، فهو يُسابِق الوقتَ ، ويُسابِق الديوكَ .
     إن الخمرَ تَضغط على أعصابه ، وتَسري مع دمه ، وتَدفعه دَفْعاً إلى شُربها ، فبادرَ إلى الخمر ، وتعاطى شُرْبَها قبل أن يَصيح الدِّيكَ ، وذلك في فترة السَّحَر ( السُّحْرة ) . لقد سَبق الشاعرُ صياحَ الديك لِيَشْربَ من الخمر بصورة متتابعة ( لِيَعُلَّ مِنها ). وهذا الشربُ مرَّة بعد أخرى، يَكشف عن عَطَشه الشديد للخمر ، وإدمانه عليها ، وخضوعه الكُلِّي لإغرائها . وقد بَقِيَ يَعُلُّ مِنها حين استيقظ نِيامُ السَّحر ( هَبَّ نِيامها ). والجدير بالذِّكر أن الدجاج اسم للجنس يَعُمُّ ذُكورَه وإناثه.

2_ الخمرُ تزيل العطش :

     يَغوص الشاعرُ في بؤرة الخمر ، ويَعتبرها خَلاصَه النهائي الحاسم . فهو أرضٌ عَطْشى تَنتظر الرَّي ، والخمرُ _ بالنسبة إليه _ هي المطر الذي سَيُحيي مشاعرَه القاحلة ، ويُنعِش قلبَه الجاف ، ويَسقي مساحاتِ الظمأ في جسده الذابل . وهكذا تُصبح الخمرُ هي طَوْق النجاة ، والفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حيــاته          سَتَعْلمُ إنْ مُتْنا غداً أَيُّنا الصَّدي

     يَعتبر الشاعرُ الخمرَ هي مركز الكَرَم ، وأن شُربها دليل على المنزلة الاجتماعية الرفيعة للشاعر . فهو كريمٌ يُروِّي نَفْسَه في حياته بالخمر . وأيامُه مليئة بالشُّرب والسعادة ، حيث إن الخمرَ تنقله إلى عوالم جديدة ، وتَبعث فيه الفرح والحبور ، وتُزيل عطشَه الملتهب . إنهُ كريمٌ يُنفِق مالَه على شُرب الخمر بلا حساب ، ويَسقي جوارحَه الميتة العطشى بقطرات الخمر ، كما تسقي حَبَّاتُ المطرِ الأرضَ الجدباء .
     ثم يُخاطِبُ خَصْمَه بنبرة واثقة : سَتَعْلم إن مُتنا غداً أيُّنا العطشان ( الصَّدي ) . إنها صيغة التحدي النابعة من القناعة الذاتية ، والثبات على المبدأ . فمبدأُ الشاعر يتمحور حول مركزية الخمر ، ودورها في إزالة الظمأ ، وبَعْثِ الحيوية والنشوة في القلب والأعضاء . والشاعرُ على يقين تام بأن الخمرَ تَمنحه الدفءَ الوجداني ، والخلاصَ في الحياةِ والموتِ ، وهو واثقٌ أنه يَموت ريَّان ، مُنتشياً بقطرات الخمر ، ومُفعماً بالإشراق والحيوية كالأرض الخصبة التي سَقاها المطر ، أمَّا عاذله فيموت عطشان ذابلاً كالصحراء التي لم تَعرف المطرَ .

3_ التأثير الاجتماعي للخمر :

     للخمرِ تأثيرٌ سلبي على العلاقات الاجتماعية ، والروابطِ الأسرية . فهي تُمزِّق النسيجَ المجتمعي،وتُفكِّك الوشائجَ العائلية،وتَحصر الأفرادَ في دائرة الرِّيبة والشُّبهة ، كما أنها عاملٌ أساسي في إضاعة المال الذي يُعتبَر العمودَ الفقري للجسم المجتمعي .
     يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وقالَ ألا ماذا تَرَوْنَ بشارِبٍ          شَديدٍ عَلَيْنا بَغْيُهُ مُتَعَمِّــدِ
     القائلُ هو والد طَرَفة . فهذا الشخصُ قد ضاق ذَرْعاً بتصرفات ابنه الطائشة . وها هُوَ يقول للحاضرين مُستشيراً لهم: ماذا تَرَوْنَ أن نفعل بشارب الخمر ( ابنه السِّكير ) الذي كَثُرت خطاياه ، وازداد ظُلْمه لنا ، واشتدَّ بَغْيُه علينا عن سبق الإصرار والتَّعمُّد ؟ .
     لقد وَصلت الأمورُ إلى نقطة اللاعودة ، وطَفَحَ الكَيْلُ ، وزادت الأشياءُ عن حَدِّها ، مما جعلَ الأبَ في حَيرة من أمره، لذلك لجأ إلى أصحابه واستشارهم في شأن هذا الابن العابث قائلاً : ما هي الوسيلة لمنع هذا السِّكير الذي ألحقَ بنا ضرراً فادحاً ، وأضاعَ أموالنا مُتعمِّداً قاصداً ؟.
     وهذا الضررُ لم يجيء بشكل عَفوي أو بِحُسْن نِيَّة ، وإنما هو ضررٌ نابع مِن نِيَّة مُبَيَّتة ، وإرادةٍ سابقة . وهو فِعْلٌ مقصود لا مكان فيه للعَفوية أو حُسْنِ النوايا .
     لقد أدى شُرب الخمر وإضاعة المال من أجلها إلى تمزيق العائلة ، وتفكيك رابطةَ المودة والرحمة بين الابن وأبيه ، فبرز صراعٌ بين الأجيال مستند إلى اختلاف القيم . فالابنُ ( الشاعر ) يُتلِف المالَ من أجل شهوةٍ عابرة ، ونزوة رخيصة ، ومتعة زائلة ، ولا يَعرف مصلحة نفْسه . أمَّا الأبُ فحريص على ابنه اللامبالي ، ويُريده رَجلاً فعالاً في المجتمع يُشار إليه بالبنان ، يحافظ على اسم العائلة وممتلكاتها .
     ويقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :

وقالَ ذَرُوهُ إنما نَفْعُها لَـــهُ          وإلا تكفُّوا قاصيَ البَرْكِ يَزْدَدِ

     تعبَ الأبُ من سلوك ابنه المنحرف ، وفقدَ الأملَ فيه تماماً ، فاستقرَّ رأيه على ترك ابنه وشأنه . يقول الأبُ لأصحابه : اتركوا طَرَفة ( ذَروه ) ، إنما نفعُ هذه الأموال ( الإبل ) له ، فهو ابني الذي يَرثني بعد مَوْتي ، وإلا تَمنعوا ( تكفُّوا ) هذه الإبل من النُّفور والهروبِ ، يَزْدد طَرَفة مِن نَحرها . والبَرْكُ جماعةُ الإبل الباركة . والقاصي البعيدُ . والمرادُ بقَوْله " قاصي البَرْك " : الإبل التي هَربت ونَدَّت ونَفرت.
     فقدَ الأبُ ثقته بابنه بشكل كامل. فلا يوجد أيُّ احتمال لتغيير سلوكه العابث، ولا يوجد أيُّ أمل لعَوْدة الابن إلى رُشده . لقد عجزَ عن إيجاد حَل لمشكلة ابنه المستعصية ، فاستسلم للأمر الواقع مُكْرَهاً ، ورفعَ الرايةَ البيضاء بكل ألم .
     وقرَّر أن يَترك ابنه لِيُواجِه مصيره المحتوم . فهذه الأموال ( الإبل ) التي يُضيِّعها ابنه للإنفاق على شهواته وملذاته ونزواته، إنما هي _ في نهاية المطاف_ أموال الابن، فهو الوريث الشرعي الذي سَتؤول إليه أموال أبيه بعد وفاته . وبالتالي ، فالشاعرُ يُضيِّع ممتلكاته الشخصية ، ويَقضي على مستقبله بيدَيْه ، ويُدمِّر نَفْسَه بنفْسه .
     والإبلُ في المجتمع العربي ثَروةٌ قَوْمية لا يمكن التفريط بها ، وهي مَصْدر دَخْل مهم للغاية في الحياة الاقتصادية . إنها عَصَب الاقتصاد ، والعمود الفقري للدَّخل القَوْمي ، وتَمْلك تأثيراً بالغاً في تفاصيل الحياة اليومية ، حيث تتزاوج سُلطة المال مع السُّلطة السياسية ( شُيوخ القبائل ) ، والسُّلطةِ الاجتماعية ( القبائل ) .
     ومِن أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، أمرَ الأبُ بِرَدِّ الإبل النافرة لئلا يَقوم ابنه العابثُ بنحرها كما فَعل مِن قَبْل . فقد خضعَ الأبُ لِحُكم الأمر الواقع ، ولم يَعُد يَلوم ابنه على نَحر الإبل ، فالذي مضى قد مضى. لكنه أرادَ إنقاذَ الإبل المتبقِّية لئلا تُواجه نفْس المصير المؤلم .

4_ الوصف المادي للخمر :

     يَسْبح الشاعرُ في عوالم الخمر ، ويَغْرق في وصف هذه المادة المليئة بالأسرار والتناقضات والأحلام الضائعة . يُراقبها الشاعرُ ، ويُحاول اكتشاف كافة تفاصيلها وتحوُّلاتها. إنها تسيطر على عَقله قَبل الشُّرب وبَعْده،وتملأ ذِهْنَه بالأفكار والتأملات.
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

مُشَعْشَعةً كأنَّ الْحُصَّ فيها          إذا ما الماء خالَطَها سَخينا
     يصفُ الشاعرُ الخمرَ في حالة امتزاجها بالماء ( مُشَعْشَعة ) . وهذه الحالة التي أَبْهرت الشاعرَ، إنما تَعكس فلسفةَ المزج بين الأضداد. فهذان العنصران المختلفان الخمر والماء قد اختلطا في لحظة ساحرة _ من منظور الشاعر _ ، فصارت الخمرُ مُشَعْشَعةً ، ولامعةً ، وباهرةً ، استحوذت على رُوح الشاعر ، ونالت إعجابَه ، وسَيْطرت على حواسِّه . وهذه الخمر الممزوجة بالماء كأن الْحُصَّ فيها . والْحُصُّ هو نَبْت له نوار أحمر .
     يَغوصُ الشاعرُ في لحظة الانبهار النابعة من الخمر الممزوجة بالماء ، فيقول : اسقنيها مُشَعْشَعةً ، كأنها مِن شِدَّة احمرارها بعد مَزْجها بالماء ، أُلقي فيها الْحُصُّ .
     لقد استسلمَ الشاعرُ أمام اللون الأحمر المبهِر، وَوَقَعَ فريسةً للدهشة والذهول . إنها الْحُمْرة المتفجرة الوهَّاجة التي يَغوص في أسرارها العاشقون للخمر ، والمدمِنون على مُعاقرتها . وهذه الخمرُ إذا خالطها الماء بكل جنون ، وشربوا منها ، وسَكروا ، جادوا بأموالهم النفيسة وبَعْثروا ممتلكاتهم. وهذا المعنى إذا تَمَّ اعتبار " سَخينا " فِعْلاً.
     أمَّا إذا اعتبرنا "سَخينا" صِفةً، فالمعنى: كأن الخمرَ حال امتزاجها بالماء الساخن، قد نوَّر فيها هذا النبتُ الأحمر ( الحُص ) ، وكأنه قد تفاعلَ مع حرارة الماء ، فاشتعلَ احمراراً وبريقاً . والعربُ كانوا يُسخِّنون الماءَ في الشتاء بسبب شِدَّة البَرْد ، ثم يَمْزجون الخمرَ بالماء الساخن .

5_ الخمر تُنسي الهموم :

     العقلُ هو مركز السيطرة في الإنسان . وإذا زالَ العقلُ فقدَ الإنسانُ توازنه ، وصار يَسْبح في عالَم افتراضي هُلامي ، لا مكان فيه للهموم والأحلام والأفكار . والخمرُ تُوفِّر للإنسان هذه الراحة الخادعة ، والنشوة المؤقَّتة ، والسعادة الوهمية . لكنَّ الإنسانَ سَيُدْرِك حجمَ المأساة عندما يَزول تأثيرُ الخمر ، فيجد نَفْسَه في مستنقع عميق ، وأنه كان عائشاً في الأوهام ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

تَجُورُ بذي اللبانةِ عَن هَواهُ          إذا ما ذاقَها حتى يَلينــا

     يمدحُ الشاعرُ الخمرَ فيقول إنها تُميل صاحبَ الحاجة ( اللبانة ) عن حاجته وهواه ، فتُريحه من تعب البال، وتلاطمِ الأفكار، وكثرةِ الخواطر، وتَزرعه في عوالم النسيان والفرح، فيغدو سعيداً سابحاً في الخيال، قد نسي قَسْوةَ الواقع، وتحرَّر من الالتزامات الحياتية، والقيودِ الاجتماعية ، والصراعاتِ النَّفْسية .
     وإذا ذاقَ الإنسانُ الخمرَ فإنه يَلين ، وترتاح أعصابه ، وتسترخي أعضاؤه ، ويتحرر من الضغوطات الروحية والمادية . وهنا يتَّضح دورُ الخمر الرئيسي في الحياة الاجتماعية_وفق منظور الشاعر_ . فالخمرُ تُنسي الهمومَ ، وتُزيل الأحزانَ ، وتَطرد الأفكارَ السَّيئة . وعندئذ يُفلِت الإنسانُ من سيطرة الحوائج والمتطلباتِ اليومية ، فَيَشْعر أنه متحرر من الجاذبية ، ويَطير في فضاء سِحري مملوء بالمتعة والحيوية . فالخمرُ هي حاضنة أحلام الأشخاص الذين يَهربون من تحمُّل المسؤولية ، ويَبحثون عن المتعة المجرَّدة ، حتى لو كانت متعةً آنيةً وخادعةً وقاتلةً .   

6_ الخمر والكَرَم :

     تقترنُ الخمرُ في الثقافة العربية البدائية بالكَرَم والسَّخاء ، فهي إضاعةٌ للمال بلا حساب ، وهذا يَنفي صفةَ البخل عن الإنسان . فالبخلُ صفةٌ سيئة للغاية ، وإذا ارتبطت بشخص ، فستظل وصمةَ عارٍ في حياته ، وبعد وفاته . لذلك كان العربيُّ في الجاهلية حريصاً أشد الحِرْص على شُرب الخمر ليبدوَ أمام أقرانه كريماً جَواداً لا يُقيم للمال وزناً ، وتبرزَ صورته في المجتمع مرتبطةً بالجودِ والسخاء .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :
تَرى اللحِزَ الشحيحَ إذا أُمِرَّتْ          عَلَيْه لمالِهِ فيها مُهينــــا
     يَمدحُ الشاعرُ الخمرَ ، ويُشِيدُ بدورها المركزي في تجذير الكَرَم ، ونفي البخل . إي إنها تساهم في بث الأخلاق الحميدة في المجتمع ، واستئصال القيم السلبية .
     واللحزُ : الضَّيق الصدر. والشحيحُ: البخيل الحريص.
     وهما صفتان قبيحتان للغاية ، فكيف إذا اجتمعتا في إنسان واحد ؟! . بالطبع ، سَيَكون وَضْعُه مأساوياً ، ويَبعث على الأسى .
     والشاعرُ يُقدِّم عِلاجاً لهذه الحالة الإنسانية الحرجة، وهو شُرب الخمر. فالإنسانُ اللحزُ الشحيحُ إذا أُمِرَّتْ الخمرُ عليه ( أُديرت عليه ) أهانَ مالَه، وأنفقه بلا حساب من أجل نَيْلِ هذه المتعة المغرِية، والوصولِ إلى ذِروة النشوة، والإمساك بقلب اللذة.
     وهكذا ، يتخلص من سوء أخلاقه، ويَكتسب الأخلاقَ الفاضلة، فيُصبِح صَدْرُه مُنشرِحاً ، يَستقبل أيامَه بكل حماس وحيوية وانشراح ، ويتخلص من بُخله الشديد، فيُصبِح كريماً جواداً يُهين مالَه ، ويُبدِّده في كل الاتجاهات دون أن يَعْبأ بشيء . وبالتالي ، يتحول إلى مواطن صالح _ إن جاز التعبير ! _ ، تَرضى عنه القبيلة ، ويَمدحه أقرانه ، ويَذْكره التاريخُ باعتباره كريماً متحرراً من عبودية المال .
     ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

فإذا شَربتُ فإنني مُسْتَهْلِكٌ          مَالي وعِرْضي وَافِرٌ لم يُكْلَمِ

     تستمرُّ الإشادةُ بالخمر ، ويتجذر مديحها بشكل واضح ، فقد تكرَّست كرمز للجود . لقد أَثْبتت الخمرُ صفةَ الكَرَم في المجتمع الجاهلي ، ونَفَت صفةَ البُخل ، فصارت هي الْحَكَمَ والفَيْصلَ بلا مُنازِع ، وهي المحك الحقيقي لتمييز الناس .
     يقولُ : فإذا شَربتُ الخمرَ فإنني أستهلكُ مالي ، وأُهلِكه بِجُودي وكَرَمي .
     وهو يحاول جاهداً تكوين صورة برَّاقة له ، وذلك بتقديم نفْسه كجواد كريم يُنفِق مالَه على الخمر بلا حساب ، وليس بخيلاً يتشبَّث بالمال بأظافره وأسنانه . وهو يَمدحُ الخمرَ لأنها الدليل الواضح على تحلِّيه بصفة الكَرَم لا البُخل .
     وفي نَفْس الوقت ، يؤكِّد الشاعرُ أن عِرْضه تام ، وخالٍ من العيوب، ولم يُجرْح ( لم يُكلَم ) بأي شيء . فهو ذُو عِرْض وافر لم يُدنَّس بصغيرة ولا كبيرة ، أمَّا مالُه فهالكٌ . إنهُ يُنقِص مالَه ويُضيِّعه ، لكنه حريصٌ أشد الحِرص على عِرْضه ، فلم يُلوِّثه بأي نقيصة . وهنا تَبْرز الإشادةُ بالخمر ، والافتخارُ بأن سُكْرَه يَحْمله على مكارم الأخلاق ، ويَمْنعه من العيوبِ .
     ويقولُ الشاعرُ عنترة بن شَدَّاد :

ولقدْ شَرِبْتُ مِن المُدامةِ بَعْدما          رَكَدَ الهَواجِرُ بالمشُوفِ المُعْلَمِ

     يَفتخرُ الشاعرُ بِشُرب الخمر ( المُدامة ). وقد سُمِّيت بهذه الاسم لأنه لا شراب يُستطاع إدامةُ شُرْبه غيرها ، أو لأنها أُديمت في الدَّن ( وعاء ضخم للخمر ) حتى سَكنت . ويَحرص الشاعرُ على تخليد الفترة الزمنية التي شرب فيها الخمرَ. وهي بعدما رَكَدَ الهواجر. والهواجرُ جَمْعُ هاجرة ، وهي أشد الأوقات حَرَّاً .
     يقول : ولقد شَربتُ من الخمر المعتَّقة في أكثر الأوقات حرارةً وقسوةً ، فقد اشتدَّ حَرُّ الهواجر وسَكَنَ ( رَكَدَ ) .
     وما لجوءُ الشاعر إلى الخمر في هذا الجو الصحراوي الحار ، إلا محاولةٌ للترويح عن النَّفْس، والتخفيفِ من قَسْوة المكان، وتلطيفِ الجو، وإشاعةِ البهجة والسرور.
ويَحرص الشاعرُ على رسم هالة الكَرَم حول شخصيته ، فَيَذْكر أنه اشترى الخمرَ بالدينار المشُوف ( المجلوِّ ) ، والذي يَحْمل نقشاً أو علامة ( المُعلَم ) . فهذا الدينارُ المجلوُّ المنقوشُ كان ثمناً للخمر التي اشتراها فشربها لكي يَرتاح من حرارة الطقس.
     واعتناءُ الشاعر بهذه التفاصيل الدقيقة يدل على حرصه الشديد على تخليد الأجواء المحيطة به وهو يَشرب الخمر ، وذِكْره الدينار ( ثمن الخمر ) يَعكس قُوَّته الشرائية ، وأنه لا يُقيم وزناً للمال ، فهو كريمٌ لا بخيل . والعربُ كانت تفتخر بِشُرب الخمر ، لأنه رمزٌ للكَرَمِ والسخاءِ والأخلاقِ الرفيعة .
7_ الخمر والأمكنة :

     يَقترنُ شُربُ الخمر بالأمكنة ارتباطاً وثيقاً . فهذه الأمكنةُ حاضنة للذكريات ، والمشاعرِ، والأحداثِ المصاحِبة لحالة الشُّرب التي تُولِّد النشوةَ، وتَبعث على الفرح، فيَشْعر المرءُ بأنه يُحلِّق في الفضاء. وبشكل عام، إن الذكريات الجميلة ، والأحداث السعيدة ، والإنجازات الهائلة ، ترتبط بالأمكنة ارتباطاً مصيرياً . فاللحظاتُ السعيدة عبارة عن زَمن ، ولا يُوجد زمنٌ يَتحرك بلا مكان ، فالمكانُ هو الوعاءُ الذي تُصَبُّ فيه اللحظات المفْعمة بالسعادة . وبالطبع ، لا توجد حَركة في الفراغ أو العَدَمِ .
     يقولُ الشاعرُ عمرو بن كلثوم :

وكَأسٍ قَد شَرِبْتُ بِبَعْلَبَـكَّ          وأُخرى في دِمَشْقَ وقَاصِرينا


     ذَكَرَ الشاعرُ ثلاث بلدات : بَعْلَبَك ، دِمَشْق ، قَاصِرين . وهذه الأماكنُ كانت شاهدةً على لحظات المتعة التي عاشها برفقة كأس الخمر . لقد خَلَّد أزمنةَ النشوة ، وخَلَّد الأمكنةَ الحاضنة لهذه النشوة . لا يُريد تَركَ شيء للصُّدفة أو الاحتمالات . إنهُ يُعبِّر عن سعادته البالغة بِشُرب الخمر ، كما يُعبِّر عن فَرحه بتواجده في هذه الأماكن التي امتصَّت أيَّامَه ، وأَضْفت على حياته هالةً من السرور المدهِش الذي لا يُوصَف ، وصَبغت عُمرَه بالذكريات الجميلة التي لا تُنسَى .  

21‏/02‏/2017

الرحيل قبل الأخير / قصيدة

الرحيل قبل الأخير / قصيدة

للشاعر / إبراهيم أبو عواد

.....................

    ضَبابٌ يَمْنعُ الشُّموعَ مِن تَقبيلِ العاصفة / وَهِيَ تمزِّقُ بَلاطَ زِنزانتي / يا وَطني القاتِلَ المقتولَ/ اتركْ غزالَ القلق يُوصِل الأضرحةَ المشْوِيَّةَ إلى زوجته المريضة/ قَلَمي يتزوَّجُ البندقيةَ في أعراس الغَيْم / أعصابي يَنْقشها لحمي على دَمْعي /
     ذِكْرياتُ رَاقصاتِ الباليه في حِصارِ ستالينغراد / رِئتي الأُولى تَسْبح في رِئتي الثانيةِ / هل سَيمشي جُنودُ الحطبِ في جِنازتي ؟ / أعناقُ أطفالِنا تَسحقُ الأرصفةَ المفروشةَ سلاسلَ / في أعناقِ الحمَامِ الزَّاجلِ / يَقتحمُ القِرميدُ بُلْعومي ثائراً يَرُجُّني / مَشاعرُ الجِبالِ نيازكُ تَدْفنني وتُصلِّي عليَّ / إِنَّ النَّهرَ يَقتل نَفْسَه / حِين يَغسل الثيابَ الرسمية للقاتِلين / غَنَّت الأسماكُ في وَقتٍ / كَانت فِيه أنانيةُ قُضبانِ السِّجنِ / إعصاراً يَصقل خَنجرَ أَبي / تُنَقِّبُ أسماكُ المقبرةِ عن حُلْمِها في الرَّماد اللامعِ /
     يَعْصِرُ قَلقَ الأدغالِ برتقالٌ ناضجٌ / على أغصان قلبي المفتوحِ للقلوبِ الصِّناعيَّةِ/ هذه الزَّنازينُ الرَّمليةُ تدلُّ على آثارِ اليَمامِ / أنا ناقِلُ الخبز إلى الحِيتان الزرقاء الجائعة / قصائدي تأخذني إلى شاطئ لم يُولَد / رَقْصةُ الفِيَلةِ على سَطح الخرابِ/ وهذه الصاعقةُ استأجرتْ سِكِّيني لِتَقْطعَ مَوْجةً شَريدةً / بعيدةٌ أنتِ يا ثيابَ والدي / بعيدةٌ / قَبَّلَتْني عُصفورةٌ أمامَ البحيرات العوانسِ / دجاجاتي تُحتَضَر في رمالٍ متحركة / في تغريد أمعاء الحجارة / ونحنُ كائناتُ الرفضِ /
     خِصلةَ شَعْرٍ لماعزٍ مسافر في عشبٍ أحمر / كان مِشْطُ الأمواج / والدِّماءُ قَبَضَتْ على العُشب/ نَعيشُ لكي نُزيِّنَ قُبورَنا بالذكرياتِ والبراويزِ/ تلكَ أَشعةُ القمر مَزَّقتْ حِبالَ خَيْمتي/ فسقطتْ يَدِي على أهدابِ الطوفان / كما يَسقطُ حَنينُ المطرِ إِلى ثُقوبِ سَقْفِ كُوخي/ وتاهتْ أَشواكُ القلبِ في جَبهةِ لبؤةٍ عقيم / وأَخشابُ البُحيرةِ التي انضمَّتْ إلى دُروسِ محوِ الأُمِّيةِ / تَنشرُ خواطرَها في وطنٍ مُرصَّعٍ باللصوصِ وأوسمةِ الهزيمةِ / وَالعَبيدُ يَأخذون حِصَّتهم مِن جُثث الملوكِ / وقلاعُ أَجدادي آختْ بَيْني وبينَ القمحِ/ كأَنَّ امرأةً مَذبوحةً تعتني بأيتامها/ في بِئرٍ مُضاءةٍ بأزمنةِ الرَّصاص / ويتدفَّقُ مِن ضُلوعِها حُزْنٌ قابلٌ للاشتعالِ /
     على تُرابهم عاشوا وماتوا / إِنَّهم شُموسُ الغُربةِ/ أَطفأَت الموقدةَ طحالبُ عنيدةٌ/ تقطنُ في قُمصانِ الانكسار/ وساعي البريدِ يُوصِل رَسائلَ الملاجئ / إِلى الإِوَزِّ الهاربِ من الخِدمةِ العسكريةِ / وَلَمَّا وُلِدْتُ كان الموتُ موجوداً / وكانَ تحتَ أظافري سِنجابٌ يَعيشُ وحيداً / مِثْلَ فاكهةٍ شَتويةٍ في الصَّيفِ/ كُلَّما خَطَّتْ يدُ الوادي قصائدَ الحُبِّ انتحر العُشَّاقُ / ونامتْ جثامينُ الطيور/ على بُوصلة المنفى الزُّجاجي / وَتَرقبُ بَنادقُ الصَّيدِ طائراً / يَدورُ حَوْلَ وَجْهِ أُمِّي والسَّحابِ / أَرحلُ إِلى أبجديةِ الأشلاءِ / قَبْلَ أَن يَقتسمَ دمائي جَيشُ الظلالِ /
     إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّي / شمسُ الدَّم تأتينا مِن كُل الجهاتِ / لتنفضَ الإسطبلاتِ عن أجفاننا / تدقُّ المساميرُ صَمتَها على لوحةِ الدماء/ وفي المساء يُشرقُ المطرُ الباكي على جُثة صديقي / غَدِيَ القبرُ / كُلما شَعرتُ كتبتُ نهضتُ/ أكسرُ ظلالَ النُّسور على وَردةِ الجنون/ أتَّحدُ بالموْتِ لِكَيْلا أَموتَ /
     أكتبُ بالسَّيْفِ / وأحياناً تُساعدني المذنَّباتُ / أَنشدت القطاراتُ البخاريةُ في الأنفاق مقطوعاتٍ شِعريةً / للأحجارِ غَيْرِ الكريمةِ / ولم تكد ناطحاتُ الوَهم تَخلط زيتَ الزيتون بدمائي / حتى سَمعتُ هُتافَ الأرض يَطلع مِن رِعشتي / وداعاً يا أشجارَ جِنازتي / خُطواتكِ على ثَوْبي تَدْخُلُ فِيَّ تُوقِظُنِي/ وَهُناكَ / مَاتَ الرَّعدُ مُعانِقاً الغَمام / جَرائدُ مُواليةٌ للحزب الحاكم / تَشُمُّ دَقاتِ قلبي السِّريةَ / مُقابلةٌ صَحفيةٌ مَعَ الطوفان الماحي / أرجوكِ يا فَراشاتِ الضِّياء / ارْحَلي عَن قَبرِ أُمِّي / وقُولِي للفيضانِ / إن البُوسنيات يُرْشِدنَ أمطارَ الرُّوح إلى بَساتين نَعْشي /
     يا لَيْلَ العُشاقِ القتلى / لماذا أَحرقتَ الحِبرَ في مصابيحِ زِنزانتي ؟ / النهرُ الخائفُ يُعلِّقُ على الصَّليبِ نَحْلَةً مَشْلولةً/يَدهنُ الموجُ سَقفَ السِّجنِ بأشلائنا وبقايا صُوَرِنا/ رُفاتٌ غامضٌ في نهاياتِ الخريفِ الدَّامي / سأرجعُ إلى لحمي / كي أَصِفَ ملامحي في غُروبِ الزُّمرد/ الموتُ شَقيقُ طُفولتنا / وأنا ترابٌ فَوقَ التراب/ فَسَجِّلْ يا جليدُ أرقامَ الشَّوارعِ / على توابيتِ الهاربين مِن الحروبِ إلى الحروبِ / أشلاؤُنا تحارِبُ صَدى البراويزِ / والأحزانُ وَشْمُ الحمَامِ الزَّاجل الذي لم يَرْجِعْ / نأكلُ حَواسَّنا على الغَداء / ونُغازِلُ البحيراتِ المذبوحةَ في الحِصار /
     غاباتُ الدَّمعِ البَرِّي تقرأُ عناوينَ سَيْفي / تلالٌ تَرِثُ أغنياتِ الأسرى / ثعلبٌ يُسْتَخْدَم كلبَ صَيْدٍ / تكتبُ الزَّنابقُ اعترافاتها بحبالِ المشانق / فلا تَرمِ ضَحِكاتِ الموْتى على القممِ الثلجية / سَيَبْني الأيتامُ حظيرةَ أبقارٍ في مِصْعدٍ مُعَطَّلٍ / أُصيبت الرَّاقصةُ بسرطانِ الثَّدي / والرِّياحُ قَلبت طَاولةَ الشِّطْرَنج/ التواءٌ في كاحل الشَّفقِ / والصقيعُ حُفرةٌ تهوي فيها وَقاحةُ المنفى / وأطفالُ المخيَّمِ يَسْتقبلون العامَ الدراسي / في السُّجونِ والمنافي / قُرْبَ حُطامِ القلوبِ المكسورةِ /

     لا تَحْزَني يا أُمِّي / سَيَغْسِلُ المطرُ حَبَّاتِ الكَرَزِ المنثورةَ على الْجُثَثِ المجهولةِ / لَمَحْنا شَجرةً مَشْنوقةً / رُموشُها محروقةٌ لكنها لا ترتعشُ/ الصَّيادون في يافا/ يُحرِّضون فُقاعاتِ الماء على القِتال/ الموقدةُ تَبتكرُ مملكةً للمُشَعْوِذين / والمومساتُ المتَّشحاتُ بأثدائهنَّ اليابسةِ / في رَجفةِ الممرِّ الباكي / والصَّوْتُ يَسألُ الصدى / أينَ سَتُعَلِّقُ محاكمُ التفتيشِ قتلاها ؟! . 

19‏/02‏/2017

انتحار الجنرال / قصيدة

انتحار الجنرال / قصيدة

للشاعر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     بَرْقوقُ الشُّموسِ يَخْترقُ أمعاءً مُهَشَّمةً / عَلى أزرارِ البِزَّةِ العَسْكريةِ لِجِنرالِ اليَأْسِ / شَاهِدُ قَبْري يَتحركُ بِاتِّجاهِ ضَوْءِ المِئْذنةِ/ وَكَانَ عُشْبُ القُبورِ يَكْسِرُ مَخَالِبَ القَياصرةِ القِرْمِيديةَ/ يُجْرُون القُرْعةَ عَلى طَاولةِ القِمار / مَن يُشَرِّحُ تَابوتَ عُصْفورٍ واقعٍ في الأَسْرِ ؟ / عَقَدوا عَلى أشلاءِ الإِنسانِ مُؤتمراً لحقوقِ الإِنسانِ ! /
     دَهشةُ الدَّجاجِ الذي يَسُوقُهُ الغَيْمُ إلى الذَّبْحِ / خَبَّأَ نِسيانُ الحِجارةِ رَحيقَه / في رَوابي قَرْيتي المخضَّبةِ بالسُّيوف المكسورةِ / لِلحُطامِ قُبَّعاتُ التَّتارِ / ارتفعَ مَنسوبُ الانهيارِ في دَمِ الأحزانِ المتقاعِدةِ / وَقَّعَ الإمبراطورُ وَثيقةَ الاستسلامِ / وقذائفُ المِدْفعيةِ تُجفِّف ذِكرياتِ الفئرانِ الرَّماديةِ /
     وَبَيْنما كَانت نِساءُ رُوما يَأْكُلْنَ الشَّبابَ المدمِنِين على الأفيون / كَانت عُيونُنا تَقْصِفُ أوروبا مِن الإسكندرية / لِتَحْريرِ الوَهمِ مِن الوَهمِ/ استقالتْ أطرافُ القَيْصرِ مِن العملِ في المذابح بَعْدَ خِبْرةٍ طَويلةٍ ! /
     يَا رِمالاً تَنحِتُ في رِقاب المغولِ صُورتَها / لا تَشْكريني لأنني حَوَّلْتُ أشعةَ حَبْلِ المِشنقة إلى رسائل بَيْنَ الأصدقاءِ/ وَدِّعْ أشكالَ الأواني الفَخَّاريةِ يَا لَوْنَ جِلْدي / ولا تَحْضُر المؤتمرَ الصَّحفيَّ للحطبِ / هؤلاء المذيعاتُ السَّبايا / يَبْحَثْنَ في أشلاءِ الزُّهورِ عَن سَبْقٍ صَحفيٍّ /
     بَيْتي الذي كَانَ طَابَعَ بَريدٍ / نَفاه رِجالُ الأمنِ إلى مُنْحَدَرَاتِ الثلجِ المجروحِ / هَيَّا إِخْوتي رُعاةَ الغَنمِ نَبكي مَعَ أغنامنا / دَمُنا في عُروق الرَّعدِ / فَكُوني يَا أعشابَ القَصْديرِ أكثرَ وَفاءً مِن أُنثى العَنكبوت/يا أجفاني الثَّلجيةَ/ هَل سَمعتِ زَئيرَ الجداولِ يَضْرِبُ رِئةَ الغابةِ ؟/ هل رَأيتِ صَوْلجانَ القَمر يَلتفُّ حَوْلَ مُذكَّراتِ النَّبْعِ السِّريةِ ؟/
     عَلى أيدي القَتَلةِ يَعِيشُ غُبارُ البُحيرات / دُوَيْلاتٌ يَسْتأجرها الرَّمدُ البرونزيُّ / صُوَرُ مُتَسَكِّعين يَذْبحون دِهانَ أقنعتهم في السِّرداب/ جُيوشٌ بلاستيكيةٌ تَقْبِضُ حِصَّتَها مِن الهزيمة/ والموْجُ يَقْتلعُ رَمْلَ الرِّئَتَيْن مِن جُذوره /

     يَا قَلبي المنسِيَّ / انْسَ وُجوهَهم / سَأخْدَعُكَ وأقولُ لَكَ إِنهم مَاتوا / كَي تَرتاحَ مِن عَدْوى المرايا وعَذابِ الذِّكرياتِ/تَجْلِسُ الفَراشةُ على بَلاطِ المطاراتِ بِلا جَوازِ سَفَرٍ/ لا أَحَدٌ يَنتظرُها / ولا تَنتظرُ أحَداً / بَحثتُ عَن الْحُبِّ / وحِينَ وَجَدْتُهُ دَفَنْتُهُ / فيا أيُّها البَحَّارةُ / عَانِقُوا الرُّبَّانَ/ وَدِّعُوا فِئرانَ السَّفينةِ / إِنَّ السَّفينةَ تَغْرَقُ / العِنَاقُ الأخيرُ / والوَداعُ النِّهائِيُّ . 

17‏/02‏/2017

تي إس إليوت والأرض الخراب

تي إس إليوت والأرض الخراب 

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

جريدة رأي اليوم ، لندن ، 17/2/2017

......................

     وُلد توماس ستيرنز إليوت " تي إس إليوت " ( 1888_ 1965) بمدينة سانت لويس في ولاية ميسوري . وهو شاعر وناقد ومسرحي إنجليزي من أصل أمريكي . تخرَّجَ من جامعة واشنطن بمدينة سانت لويس ، ثم التحق بجامعة هارفرد ، وتخرَّجَ مِنها عام 1910 . ثم انتقل إلى باريس ، ودرس الأدب الفرنسي والفلسفة في جامعة السوربون . وعاد بعدها إلى جامعة هارفرد للدراسة العليا في الفلسفة وعلم النفس . ثم التحق بجامعة مابرغ الألمانية عشية الحرب العالمية الأولى ، وسُرعان ما انتقل إلى جامعة أكسفورد لدراسة الفلسفة الإغريقية .
     كانت قصائد إليوت قليلة للغاية ، وهذا لا يتناسب معَ مكانته العالمية . ومن الواضح أنه كان يُركِّز على النَّوعية، فقد بنى شُهرته العالمية على قصائد معدودة، وكان يكتب قصيدتين أو ثلاث في السنة . لكنَّ هذه القصائد كانت مُدهِشة ومُميَّزة ، وكُلُّ واحدة تُعتبَر عالَماً شِعرياً متكاملاً ، ومنظومةً أدبية فريدة بحد ذاتها .
     في عام 1915 ، ظهرت أولى قصائده " أغنية حب ج. ألفريد بروفروك " في مجلة " شِعر " الأمريكية . وفي نفس السنة ، تزوَّج فتاة إنجليزية تُدعى فيفيان هيغ . اشتغلَ سنة بالتعليم ، ثم انتقل إلى العمل في مصرف لويد في لندن عام 1917 . وفي عام 1927أصبح من أتباع الكنيسة الأنكليكانية ، وحصل على الجنسية البريطانية . وفي عام 1932 ، صار أستاذاً للشِّعر في جامعة هارفرد . تُوُفِّيت زوجته عام 1947 ، وبعدها بسنة حصل على وسام الاستحقاق وجائزة نوبل للآداب ( 1948 ) .
     نشر إليوت مجموعته الشعرية الأولى " بروفروك وملاحظات أخرى " عام 1917 . وفي هذه المجموعة تتجلى تأثيرات الرمزية الفرنسية.
     وفي عام 1922 ، نشر إليوت قصيدته " الأرض الخراب " ، وهي تُعَدُّ بإجماع النقاد أعظم أعماله الشعرية على الإطلاق، والقصيدة التي جَلبت له الشهرة العالمية. وقد كُتبت في فترة انهيار زواج إليوت . إنها تُعبِّر عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى ( 1914_1918)، وانهياره الروحي، وانكساره المادي. وتُصوِّر عالَماً كابوسياً مليئاً بالخوف والضياع والموت.
     وفي هذا العالَم المتهاوي الذي ينتظر الخلاصَ، تنتشر الشكوك ، ويغيب اليقين ، وتتساقط المسلَّمات ، ويُصبح الوجود الإنساني على المِحَك . وهي قصيدة حداثية واسعة التأثير ، لَم يُفلِت مِن تأثيرها أيُّ شاعر ، سواءٌ في الشرق أو الغرب . وقد أصبحت علامة فارقة في الأدب الحديث رغم غموضها ، وغرابتها ، وتشاؤمها ، وكثرة رموزها وأساطيرها ، وتعدُّد أساليب بنائها، إِذْ يتغيَّر الساردُ بشكل مفاجئ ، والكلام ينتقل من النبوءة إلى السخرية .
     وتُعتبَر " الأرض الخراب " مِن أهم وأصعب القصائد في تاريخ الأدب الإنجليزي والعالمي ، لِعدة أسباب : 1_ الاعتماد على عشرات الأعمال الأدبية . 2_ وجود إشارات تضمينية إلى عشرات المؤلفين ، أغلبها فوق مستوى ثقافة القُرَّاء . 3_ الحالة النفسية السوداء التي تُسيطر على ألفاظ القصيدة ومعانيها . 4_ تحوُّل الكآبة إلى فلسفة شِعرية قائمة بذاتها . 5_ عدم تقديم حلول لقضية تدهور الحضارة الغربية . 6_ تحتوي على أبيات بعدة لغات ، مِنها : الفرنسية والألمانية والإسبانية والهندية . وكأنَّ الشاعر يَستعرض عضلاته اللغوية ، ويُريد إظهار معرفته بهذه اللغات لإبهار القارئ وصَعقه ، وإحداث صدمة ثقافية في نفْسه .
     اتَّجه إليوت إلى كتابة المسرحيات الشعرية ذات الطابع الكوميدي . وغالباً ، تنتهي مسرحياته بنهايات تصالحية ، حيث لا غالب ولا مغلوب . وكان يشعر بعد كتابة " الأرض الخراب " برغبة في شكل أدبي جديد وأسلوب جديد .
     قَدَّمَ إليوت إسهامات مهمة في مجال النقد الأدبي ، خصوصاً النقد الحديث الذي دعا إليه في كُلِّ كُتبه ومحاضراته . ورغم أنَّه قَلَّلَ من عمله كناقد ، واعتبرَ أعماله النقدية كتابةً على هامش مشروعه الشعري ، إلا أنه يُعتبَر من كبار النُّقاد في القرن العشرين .
     ومشروع إليوت النقدي يقوم على عدة أفكار مركزية تُمثِّل أركان مدرسة النقد الحديث من وجهة نظره.مِن أبرزها:1_ضرورة أن يُفهَم الفن ضمن سياق الأعمال الفنية السابقة.2_ محاكمة الفنان أو الشاعر بمقاييس الماضي . 3_ القصيدة تَعني ما تَقوله لكنها تقترح وجود أحكام أخرى مبنية على تعدد القراءات المختلفة . 4_ احتقار الرومانسيين خصوصاً الشاعر الإنجليزي شيلي ، والتركيز على الكلاسيكية والأفكار الدينية . 5_ إحياء الاهتمام بالشعراء الميتافيزيقيين ، باعتبارهم الأكثر خبرة في عملية دمج الفلسفة مع الأحاسيس. 6_ الاهتمام بمصطلح" المعادِل الموضوعي " ، وهو مصطلح نقدي يُشير إلى الأداة الرمزية المستخدمة للتعبير عن المفاهيم المجرَّدة كالعواطف . 7_ ضرورة أن يصنع الشاعر شخصيته الفريدة من خلال عمله الشعري .

     من أبرز أعماله الشعرية : الأرض الخراب ( 1922) . الرجال الجوف ( 1925) . أربعاء الرماد ( 1930) . ومن أبرز مسرحياته : جريمة في الكاتدرائية ( 1935) . لَم شمل العائلة ( 1939) . حفلة كوكتيل ( 1949) . ومن أبرز كُتبه النقدية : الغابة المقدسة ( 1920) . ملاحظات نحو تعريف الثقافة ( 1948) . في الشعر والشعراء ( 1957) .