الطغاة وبلادنا الضائعة
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
..................
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
..................
[1] الحضاراتُ القائمةُ على قَتْلِ البَشَرِ ،
تَظهر فَلْسَفَتُها الْمُتَغَطْرِسَةُ في الآثارِ العُمرانيةِ .
الغرورُ قَبْرُ الإنسانِ وضَريحُ الحضارةِ .
يَهدمونَ الإنسانَ ، ثُمَّ يَبْنُونَ المقابرَ بكل أناقةٍ، وَفْقَ أحدثِ نَظرياتِ
الهندسةِ المعماريةِ . كانَ الطغاةُ حَريصينَ على تشييد قُبورهم . قَضَوا حياتَهم
في التفكيرِ بِمَوْتِهم . وكانت حياتُهم هي فلسفة الموتِ . وُلِدُوا في الموتِ ،
وعاشوا في الموتِ ، وماتوا في الموتِ . فَهَل شَعَروا بالحياةِ ؟ .
[2] عِندَما تُحْشَرُ الحضارةُ في
الزَّاويةِ تَبدأُ بِأَكْلِ نَفْسِها .
لا تَحْشُروا القِطَّ في الزاوية . تَنكمشُ
الحضارةُ في الزَّاويةِ الضَّيقةِ ، وتبدأ بالاضمحلالِ التدريجيِّ . وحِينَ تَغيبُ
الرَّوافدُ ، فإنَّ البُحَيرةَ سَتَجِفُّ . الانفتاحُ هُوَ القُوَّة . سينفتحُ
النَّهرُ على البحر ، ويَنفتِحُ البحرُ على البُحَيرة . قد يُوجَد في النهرِ ما لا
يُوجَد في البَحْرِ . وقَد يَتفوَّقُ التلميذُ على أُستاذه . إنَّ الحركةَ
المستمرةَ هي التي تَمنعُ الدَّراجةَ مِنَ السُّقوطِ .
[3] بِلادُنا
كالطاحونةِ . إِنْ أردتَ ألا تُطْحَنَ ، عَلَيْكَ أن تَكونَ أكبرَ مِنَ الطاحونة .
لا تَلْعَبْ دَوْرَ الضَّحيةِ . لَم
يَخْلُقْكَ اللهُ لِتَكونَ ضَحِيَّةً . لا تَخترِعْ مَظلوميةً وتَغرق فيها . كُن
نِدًّا ، ولا تَمُتْ إلا وأنتَ نِدٌّ . اصنعْ مَجْدَك بِيَدَيْكَ . لا فائدة من
البكاء على الأطلالِ . الدموعُ لَن تُعيد الموتى ، ولن تُرجِع الأشياءَ التي ماتت.
وظيفةُ الصيادِ أن يصطاد السمكةَ ، لا أن يُفكِّر في مشاعر السمكة لحظة اصطيادها .
وظيفةُ السمكة أن تَسْبح وتَهْرب من الصياد ، لا أن تفكر في أبناء الصيادِ الجِياع
.
[4] إِنَّ الذينَ
يَهْتَزُّونَ أمامَ شهواتهم لن يُحرِّروا أوطانهم .
الانكسارُ أمامَ الغَريزةِ هُوَ انكسارٌ
شاملٌ . والانهيارُ يَنسحِبُ على كُلِّ العناصر . المجدُ وَحْدةٌ واحدة ، لا
يتشظَّى ولا يَتجزَّأ . والشخصُ الذي يَخافُ من النظر إلى وجهه في المرآة ، سيخافُ
من كل شيء . وإذا خسر الإنسانُ نَفْسَه ، فسيظل خاسرًا حتَّى لَوْ رَبِحَ العالَمَ
. والقائدُ المهزومُ سيظل غارقًا في الخزي والعارِ، حتى لو وضع على صدره كُلَّ
الأوسمةِ العسكرية .
[5] اسْتَعِدَّ
للحَرْبِ وَاحْفِر الخنادقَ ، ثُمَّ اجْلِسْ عَلى طَاولةِ المفاوَضات .
العالَمُ لا يَعترِفُ إلا بالأقوياء حتى
لَوْ أشفقَ على الضُّعَفاء . كلمةُ القويِّ مَسموعةٌ في هَذا العالَم الظالم ،
وكلمةُ الضعيف تَذهب أدراجَ الرياح . لا تُوجد حرب من أجل الحرب . إنَّ الحربَ من
أجل الحصول على شروط أفضل في اتِّفاقية السلام . والضعيفُ هو الطرف الخاسر الذي
يُوقِّع على معاهدة الاستسلام ، ولا يَستطيع أن يُوقِّع على معاهدة السلام .
السلام للأقوياء والأنداد ، والاستسلام للضعفاء والمهزومين . اسْعَ مِن أجلِ
تَحقيق أعلى رِبْح ، وادْرُس احتمالَ الخسارة ، لِكَيْلا تُصْدَمَ إذا حَدَثَتْ .
لا تَتْرُكْ شَيئًا للصُّدفة أو الاحتماليةِ القاتلة .
[6] المجرمون
عِندَما يَتقاعدون مِن مَناصِبِهم ، يُصبحون مُدافعين عن حُقوقِ الإنسان .
عِندَما يُشاركُ الوزيرُ في الحكومةِ ،
يُصبحُ مُحامِيًا للشَّيطان . يُدافِعُ عن أخطاءِ الحكومةِ وخَطَاياها، لأنها هِيَ
التي تَدفع رَاتبَه الشَّهريَّ . وحِينَ يَخرج من الحكومة ، يُصبِح مُعارِضًا
سياسيًّا، ويبني مشروعه السياسي على فضح ألاعيب الحكومة والدفاع عن حقوق المواطنين
. تمامًا كالقِطِّ الذي يَلتهِم الفِئران أثناء قُوَّته ، وحِينَ يُصبح عَجوزًا
يائسًا ، يُدافِع عن حقوق الفئران في الحياة الكريمة . وفي كل الأحوال ، ستظلُّ
الشعوب هي فئران التجاربِ .
[7] التَّصوراتُ المسبقةُ عَن الشَّيء قَد تُضَيِّعُ حَقيقتَه .
دراسةُ التاريخِ تعني أن نَدْرُسَ ما حَدَثَ
على أرض الواقع ، ولا نَدْرُس الأحداثَ التي تَدُورُ في خَيَالِنا ، ونتمنَّى لَوْ
كانت واقعًا . التاريخُ هو كشف الحقيقة لا كشف الخيال الذي نَتَمَنَّى لَوْ كان
حقيقةً. والتصوراتُ المحيطةُ بالشَّيء قد تَنسف ماهيةَ الشَّيء ، وتُحيله إلى
هُوِيَّة مُخادِعة . فالشَّيْءُ هو الجوهر ، أمَّا تَصَوُّراتُنا المغلوطة عنه ،
فهي أعراضٌ وهمية قاتلة للجوهر . هُناكَ فَرْقٌ بين الهديةِ والورق الذي تُلَفُّ
بِه الهدية . ولا يمكن المقارنة بين اللؤلؤ والصَّدف ، أو القلب والقفص الصدريِّ،
أو البيت والسُّور ، أو الصورة والبرواز . والشخصُ الغنيُّ يَحْمِلُ المالَ الكثيرَ
في كيس تافهٍ لا يُساوي شيئًا . الجسدُ للترابِ والدُّودِ، لأن الجسد هو الحامل .
والعِبرةُ بالمحمولِ . وسَوْفَ تظلُّ رُوحُ الإنسانِ هي الحقيقةَ السَّامِيَة التي
لا يَصِلُ إلَيها الترابُ ولا الدُّود .
[8] في كُلِّ
مَحكمةٍ ظالمة ضَابِطُ مُخَابَرَاتٍ خَلْفَ السِّتارةِ يُمْلِي الأحكامَ عَلى
القُضاةِ .
ماتت الدَّولةُ . فلا معنى لمحكمة أمنِ
الدَّولة . أنتَ محكومٌ بالإعدامِ مُنذُ مِيلادِك ، سَواءٌ صَدَرَ الْحُكْمُ أَم
لَم يَصْدُرْ . وفي الدُّوَل الفاشلة ، لا يُوجَد قضاء مُستقل ونَزيه ، لأنَّ
الفسادَ هُوَ النشيدُ الوطنيُّ . والأُمَم العائشةُ في التَّنظيرِ والشِّعاراتِ ،
هِيَ أُمَمٌ مَيْتَةٌ . والميْتُ لا يَعرف ماهيةَ الحياةِ . ماتَ الحاكمُ
والمحكومُ ، وصَدَرَ حُكْمُ الإعدام بلا مَحكمة . انتهت المحاكَمةُ قبل أن تَبدأ .
ذَهَبَ الرجالُ إلى الموتِ ، وذهبت النساءُ إلى الموتِ . كُلُّ شيء مات ، ولم
يَعُدْ لَدَينا شَيء لِنَخْسَرَهُ .
[9] التَّطرفُ
لَيْسَ فِعْلاً وإِنَّما رَدَّةُ فِعْلٍ . وَرَدَّةُ الفِعْلِ تُنْتِجُ وَهْمًا لا
فِعْلاً .
نَضْرِبُ على السَّطحِ ، ولا نَغوص في
العُمْقِ . نَبحثُ رُدودَ الأفعال ، ونَخافُ مِن دِراسة الأفعال . نَدُورُ حَوْلَ
الماءِ، ونخافُ أن نُلْقِيَ حَجَرًا في الماءِ الرَّاكد. وهكذا، مِنَ الطبيعيِّ أن
تزدادَ مُشكلاتُنا ، وتتكاثرَ أزماتُنا ، لأنَّنا نُخفي النارَ تحت الرماد ولا
نُحاول إخمادَها . كما أنَّنا نُرَحِّلُ الكوارثَ للأجيالِ القادمةِ ، ولا نُحاولُ
إيجاد حُلولٍ لها . بِلادُنا هِيَ النَّعَامَةُ التي تُخفي رَأسَها في التراب
هَرَبًا مِنَ الواقع المؤلِم .
[10] الأنظمةُ
العربيةُ بِدائيةٌ وجاهلةٌ لأنَّها تَظُنُّ أنَّها تستخدمُ أمريكا .
لا أحَدَ يَضحك على أمريكا . السياسةُ
هِيَ فَنُّ الْمُمْكِن ، ولُعبةُ الأغنياء ، ودُبلوماسِيَّةُ الكلامِ المعسولِ ،
ومتاهةُ الأكاذيبِ والشِّعاراتِ . ولا حَقَّ لَكَ في الكلامِ إلا إذا امتلكتَ
رغيفَ الخبزِ . وما دُمْتَ خاضعًا للرَّاتبِ الشَّهريِّ ، وخاضعًا لِرَغيفِ الخبز
، ستظلُّ عَبْدًا يَتلاعبُ بِكَ أسيادُك ، ويتَّخذون القراراتِ بِاسْمِكَ ،
ويُقرِّرون مَصيرَكَ دُون الرُّجوع إلَيك . والعبيدُ لا يَمْلِكُونَ الْجُرْأةَ
على النَّظَرِ في عُيون أسيادهم .
[11] لا يَنهارُ الشَّيْءُ إلا إذا
انهارَ مِنَ الدَّاخلِ .
إذا اقتحمَ اللصُّ بَيْتَك ، فلا تُضَيِّعْ
وَقتك في لَوْمِ اللص . إِنَّكَ تتحمَّلُ المسؤوليةَ لأنَّكَ لَم تُحَصِّنْ
بَيْتَك . ما أساءَ إِلَيَّ أحدٌ وَلُمْتُهُ ، وإنما أَلُوم نفْسي لأني مَنَحْتُهُ
هذه الفُرصة . هُناكَ دُوَلٌ لَدَيها القابلية للاستعمار ، وهناك نساءٌ لَدَيهنَّ
القابلية للتَّحرش الجنسيِّ ، وتَتَمَنَّعُ الواحدةُ مِنْهُنَّ وَهِيَ راغبة . إذا
كانت الجبهةُ الدَّاخليةُ مُحَصَّنةً فلا يُمكِن اختراقُها من الخارج. أمَّا إذا
انهارَ التماسكُ الداخليُّ، سيصبحُ الفردُ والجماعةُ رِيشةً في مَهَبِّ الريح .
وجِسْمُ الإنسانِ يظلُّ متماسكًا ما دَامَ يَمْلِكُ جهازَ المناعة الدَّاخليَّ .
وسُقوطُ جهاز المناعة هُوَ نهايةُ الإنسانِ الحتمية .
[12] في
الدُّوَلِ الفاشلةِ يَكون الحاكمُ مُجْرِمًا ولِصًّا حَتَّى يَفْرِضَ احترامَه على
الآخرين .
يَربطُ العَبيدُ بَيْنَ قَسوةِ الحاكمِ
والاستقرارِ السياسيِّ . وهذا أمرٌ مُتَوَقَّعٌ ، لأنَّ العَبدَ يُقْرَع بالعصا ،
والْحُرُّ تَكفيه الإشارة . وهؤلاء العبيدُ يَعتقدون أنَّ الحاكمَ يجب أن يكون
طاغيةً كَي يُسيطر على مقاليد الْحُكْم ، ولا بُدَّ مِنَ القَبضة الحديدية حتى
يَتحقَّق الأمن والأمان والاستقرار . وهذا وَهْمٌ ، لأنَّ حُبَّ الشعب للحاكم هو
الضمانة الأكيدة للدفاع عن الحاكم ، وهذا لا يَتَأتَّى إلا بمنح الشعب كامل حقوقه
، ورعاية مصالحه . أمَّا سَحْقُ الشعب وحُكْمُه بالحديد والنار ، فَيُحَقِّقان
استقرارًا نِسبيًّا ومُؤقَّتًا . وسَوْفَ يبقى الشعبُ في حالة تَرَبُّص وانتظار من
أجل لحظة الانقضاض . ستظلُّ النارُ تحت الرماد، وقد يَثُورُ البُركان في أيَّة
لحظة . وكَثرةُ الضَّغط تُولِّد الانفجار . والأنظمةُ القمعيةُ لا تُؤْمِنُ
بالتَّداوُل السِّلْمِيِّ للسُّلطة ، لأنَّ سِياسةَ القَمْعِ خاضعةٌ للمنظومةِ
القَبَلِيَّةِ ، حَيْث شَيخ القَبيلة هُوَ الحاكم الْمُطْلَق، وعلى الجميعِ
طاعتُه. وكُلُّ رَأْيٍ مُخَالِفٍ هُوَ خِيانةٌ ، وكُلُّ مُعَارِضٍ لِسِيَاسةِ
الفَسادِ هُوَ عَميلٌ وخائنٌ ومُنْدَس . هذا هُوَ قانونُ القبيلةِ العسكريُّ الذي
يُسيطِر على مَفاصل الدَّولة ، ويَتحكَّم بالهرَمِ السياسيِّ مِنَ الرَّأس حتى
القاعدة . لقد ماتت الدَّولةُ ، وحَلَّت القَبيلةُ مكانَ الدَّولة. وكُلُّ تَغيير
سَيُقَابَلُ بِمُعَارَضَة شديدة مِن قِبَل الْمُرْتَزِقَةِ ( حُرَّاس الوهم )
الذين يهدفون إلى الحفاظ على النظام القمعيِّ ، لأنَّ مصالحهم المادية مُرتبطة بِه
، وإذا زالَ خَسِروا كُلَّ مُكتسباتهم . سَوْفَ يَتمسَّكون بالنظام القمعيِّ
بأسنانهم وأظافرهم ، ولا بُدَّ مِن اسْتِنْزاف الشعب حتى الرَّمَق الأخير .