فشل السياسة المحصورة بين الرهائن والغنائم
للمفكر/ إبراهيم أبو عواد
.................
الفكرُ الاجتماعي لا يَنفصل عن منظومة
المشاعر الفردية ، ولا ينفصل عن الإطار العملي للرموز المعرفية ، ومراحلِ تاريخ
العقل الجمعي . وهذا الترابط المركزي المصيري يُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى
وعاء حاضن لأحلام الناس وآمالهم ، مِمَّا يدل على أن الأنساق الاجتماعية تُمثِّل
رُموزًا فكرية ذات مرجعيات نفسية عميقة،وضاربة جُذورها في كيان الفرد وبُنية
المجتمع. ولا يُمكن اعتبار الأنساق الاجتماعية مُجرَّد تحوُّلات في بُنية التاريخ
، أو تغيُّرات في طبيعة الجُغرافيا ، لأن المجتمع لا يتحرَّك في الإطار المادي
فَحَسْب ، بَل أيضًا يتحرَّك في الفضاء المعنوي غَير المَحسوس ، والذي يقوم على
إفرازات الظواهر النفسية الداخلية المتجذرة في وَعْي الفرد وإحساسه بذاته ،
وشُعوره بالعَالَم المُحيط به. وكُل فرد أثناء رحلته في الحياة يبتكر منهجه الخاص
في التعامل مع الظواهر النفسية والحقائق الاجتماعية ، وهذا يَدفع باتِّجاه توليد
تصوُّرات خُصوصية عن الأشياء والقِيَم والرموز والعلاقات التي تنتشر في المجتمع
الإنساني ، وتتحكَّم باتِّجاه حركته ، وماهية أفكاره، وهُوِيَّة مساره، وشخصيته
الاعتبارية . وتعدُّدُ التَّصَوُّرات واختلاف الأحكام ، لا يدل على تشظِّي المجتمع
الإنساني وانفصام شخصيته وانكسار أحلامه ، وإنما يدل على تعدُّد زوايا الرؤية ،
واختلاف وجهات النظر المُرتكز إلى اختلاف قُدرات الأفراد . لذلك تتعدَّد الأحكامُ
حول الحقيقة الواحدة ، لأن كُل فرد يَراها بعَيْنه ، ويَحكم عليها وَفْق تصوُّره الشخصي
. وكما أن المِرْآة واحدة ، والصُّوَر فيها مُختلفة تَبَعًا لاختلاف الأفراد
الواقفين أمامها ، كذلك المجتمع الإنساني واحد ، ووجهات النظر مُتباينة بسبب
تبايُن القُدرات العقلية للأفراد . وإذا لم تكن الصورةُ في المِرْآة جميلةً ، فإن
المُشكلة في شخصية الفرد، ولَيست في طبيعة المِرآة .
2
العلاقةُ الوثيقةُ بين أبعاد الوجود
الإنساني ( الشُّعور ، الرَّمْز ، التاريخ ، الجُغرافيا ) هي الضمانة الأكيدة
للحفاظ على إحساس الأفراد بالحقائق المعرفية والبُنى الاجتماعية ، ومَنع التعارض
بين المُعطيات النفسية والعلاقات الاجتماعية . وكُلَّما اتَّجَهَ الشُّعورُ
الإنساني إلى الرَّمْز الاجتماعي ، اتَّضَحَ منهج تفسير مصادر المعرفة في المجتمع
الإنساني ، لأن الشُّعور والرَّمْز عابران للتَّجنيس ، ولا يَخضعان لعملية الأدلجة
، لذلك كانت القيم الأخلاقية المُطْلقَة _ التي تقوم على ثنائية الشُّعور
والرَّمْز _ واحدةً في كُل المجتمعات ، رغم اختلاف العقائد والثقافات . فمثلًا ،
إن الصِّدق والإخلاص والأمانة والاحترام ... إلخ ، قيم ثابتة في كل المجتمعات ،
وتتمتَّع بسُلطة أخلاقية اعتبارية نابعة من العقل الجمعي ، ومُعْتَرَف بها في كُل
الأوساط دُون الحاجة إلى عمليات أدلجة ، أو ضغط نفْسي ، أو إرهاب فكري . وهذه
القيمُ مفروضة في أنساق المجتمعات بحُكم قُوَّتها الذاتية وماهيتها المُطْلَقة ،
وليس بقرارات سياسية أو أحكام سُلطوية عُليا . وأكبرُ خطر يُهدِّد المنظومةَ
الفكرية المُتكوِّنة مِن الشُّعور والرمز والقيم الأخلاق المُطْلَقة ، هو المصالح
الشخصية الضَّيقة والنَّزوات الذاتية والرغبات الأنانية، لأنها تُحوِّل القيمَ
المُطْلَقة إلى مُكوِّنات نِسبية ، وتُحوِّل العقائدَ الدينية إلى أيديولوجيات
سياسية نفعية لحشد الناس واستغلالهم والسيطرة عليهم . وخطورةُ هذه العملية تتجلَّى
في جَعْلِ اختلاف الآراء الفكرية صراعًا اجتماعيًّا دمويًّا ، وتحويلِ تعدُّد
وجهات النظر إلى صِدَام دِيني مُرتكز إلى التناحر المذهبي والعصبية القَبَلِيَّة
والعُنصرية العشائرية . وبعضُ الزُّعماء يرسم مُستقبله السياسي اعتمادًا على
طائفته وقاعدته الانتخابية، دُون اعتبار لمركزية الوطن والشعب بكافة مُكوِّناته
وشرائحه. وهذا يستلزم بالضرورة ترسيخ سياسة التَّحشيد والأدلجة ، وأخذ الطوائف
رهائن لتوجُّهات بعض السياسيين ومصالحهم الشخصية . لذلك ، يُصبح الوطنُ مُجرَّد
فندق للإقامة المُؤقَّتة بدون انتماء حقيقي . مِمَّا يُسبِّب اضطرابات اجتماعية ،
وتفكُّكًا في النسيج الوطني، وانهيارًا شاملًا في مؤسسات الدَّولة. وفي ظل هذا
السُّقوط المُريع،يَبرز تُجَّار الحروب، وزُعماء الطوائف ، وسماسرة الكوارث .
وبعضُ السياسيين مُستعد للتَّضحية بطائفته كاملةً مُقابل الحفاظ على منصبه
وامتيازاته ومُكتسباته الذاتية ومصالحه الشخصية ومنافعه المادية . وهكذا ، يختفي
معنى الوطن، ويغيب من الأذهان، وتَحُل مكانه الحِزبية والطائفية والمذهبية .
والسياسةُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ هي وسيلة منطقية وأداة فكرية لتغيير الواقع إلى
الأفضل ، وتسهيل حياة الناس ، وتحقيق أحلامهم . وكُل مجتمع يَنظر إلى السياسة مِن
هذه الزاوية ، سيتقدَّم إلى الأمام ، ويَصهر المراحل في الطريق نحو الازدهار
والرخاء الشامل . ولَيست السياسةُ أخذَ الطوائف رهائن للحصول على الغنائم ، وتحقيق
منافع شخصية ، والمُتاجرة بأحلام الناس وآلامهم ومُعاناتهم ، كما يَفعل بعض
السياسيين ، الذين يَدفعون بلادَهم إلى الهاوية ، وأبناءَ شعبهم إلى اليأس .
3
كُل أيديولوجية سياسية تُوظِّف الدِّينَ
لتمزيق المجتمع ، وتقطيع أوصاله ، والتمييز ضِد أبنائه، مصيرها الفشل الحتمي
والسُّقوط المُدوِّي . ومهما كان تُجَّارُ السياسة ماهرين في التَّوظيف السياسي
للدِّين لتحقيق أهداف شخصية، والتلاعب بمشاعر الناس المذهبية ، ودَغْدغة عواطفهم
الإيمانية ، إلا أنهم سيقعون في شر أعمالهم ، وينقلب السِّحْر على الساحر ، ومَن
يَلعب بالنار تَحرِق أصابعَه ، كما أن دفن النار تحت الرماد ليس حَلًّا لعلاج
الأزمات ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجارَ . وحتى لو بدا البُركانُ خامدًا ، فلا
أحد يَعرِف موعد ثَورانه . وإذا ثَارَ سيحرق الأخضر واليابس. لذلك ، ينبغي إطفاء
حِقد القُلوب بالعدل والمُساواة ، وإخماد الفِتَن النائمة نهائيًّا بإطلاق قطار التنمية
الحقيقية الذي يتَّسع لجميع الناس ، وإشراكهم في مسيرة التَّقَدُّم والازدهار ،
كَي يَنشغلوا بالتَّعمير لا التَّدمير ، والبناءِ لا الهدم . ونَفْسُكَ إن لم
تَشْغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل .